الاجتهاد: إنّ هذا البحث[1] يرمي ـ کما هو واضح من عنوانه ـ إلى استعراض ودراسة ما جاء في مذکرات الأجانب حول مراسيم العزاء الحسيني في إيران بالخصوص، أيّام شهر محرّم الحرام.
وبطبيعة الحال، لا يمكننا في هذا المختصر الوجيز بيان کلّ ما جاء في مذکراتهم ورحلاتهم حول مراسم العزاء الحسيني في شهر محرّم؛ لأنّ ذلك يستدعي منّا تأليف موسوعة مستقلّة، وهو خارج عن هذا المختصر الذي نحن بصدد بيانه، وفي هذا الضوء سيختصّ بحثنا بنقل ودراسة بعض الرؤى والتصورات في هذا المجال، وربما تخطّينا ذلك وأوردنا جانباً ممّا وقعوا فيه من الأخطاء.
ومن الجدير بالالتفات هو عدم خلوّ معظم تلك المذكّرات والرحلات من ذكر مراسم العزاء الحسيني في شهر محرّم، والسبب في ذلك أنّ هذه المراسم كانت غالباً ما تبعث على دهشتهم واستغرابهم؛ لما تحويه من مفاهيم وجوانب وأبعاد متنوّعة ـ سواء من جهة الشكل والصورة، أو من جهة المضمون والمحتوى ـ خصوصاً وأنّ أغلب هذه المذکّرات قد کُتب في العصر الأوربي الحديث، وهو ما يتزامن مع العهد الصفوي وما بعده؛ ولذا تأثّرت بشکل کبير بالفکر الأوربي الحديث، المتأثّر بالنهضة الغربية وفلسفتها الحديثة، التي تنظر إلى العادات والأعراف ـ بل إلى الفکر ومعتقدات سائر الأُمم ـ بنظرة مختلفة، تتفاوت عن تصورات العهود الماضية.
وكذا ينبغي الالتفات إلى ضعف إدراك كُتّاب هذه المذكّرات للثقافة والأعراف الإسلاميّة والإيرانيّة؛ فإنّ أغلب هؤلاء هم من السُوّاح والرُّحل الذين لا يمکثون في البلدان إلاّ أشهراً معدودة، أو على الأكثر لا يتجاوز بقاؤهم السنة أو السنتين، أو أکثر من ذلك بقليل، فيتعلّمون في أثناء هذه الفترة القليلة شيئاً من اللغة الفارسية؛ ما أدّى إلى عدم اطّلاعهم على واقع الأُمور بشكل صحيح، فكان ذلك سبباً لوقوعهم في الأخطاء والاشتباهات الفاحشة حينما يُقيِّمون ما يشاهدونه، ولا نستبعد التعمّد في ذکر بعض القضايا بشکل مقلوب ومشوّش.
وسوف نستعرض فيما يلي بعض تلك الأخطاء والاشتباهات، سواء فيما يرتبط بشهر محرّم الحرام، أو بعموم المسائل الدينية الأُخرى؛ لتکون شاهداً ومؤيداً لما قلناه، من عدم وعيهم وقلّة فهمهم:
1ـ ما ذکره هاردينغ السفير البريطاني في عهد الملك الإيراني مظفر الدين شاه؛ حيث يكتب في مذكراته ـ ولمرتين ـ أنّ زوجة علي عليه السلام هي بنت يزدجرد آخر ملوك الساسانيين في إيران[2]، وهو نفسه وبهذه الرؤية قد تكلّم كثيراً وفي صفحات متتالية عن مراسم الشيعة، بل وتطرّق لبيان فِرَقِهم ومنظماتهم.
2ـ ما ذكره دروويل ـ وهو من المؤرِّخين المعروفين ـ عندما لاحظ منارة أحد المساجد قد تهدَّمت، فکتب: ((أمّا منارة المساجد التي تعتبر وسيلة وعلامة لجلب أنظار القريب والبعيد، قد أُهملت وتُرکت ليطالها الهدم والانهيار؛ بسبب حقد الإيرانيين وحسدهم!))[3].
3 ـ ويقول هذا المؤرِّخ نفسه في موضع آخر: ((إنّ الشيعة في إيران قبل الصفوية لا يتجاوز عددهم الثلاث آلاف عائلة!))[4].
4 ـ کذلك عندما يتعرّض لذکر صلاة الشيعة ـ مع أنّه کان يمكنه أن يشاهد ذلك من أيّ مكان ـ يقول: ((إنّ الإيرانيين وخلافاً للأتراك ـ إشارة إلى أهل السنّة في العهد العثماني ـ کانت صلاتهم من وقوف، وبشکل هادئ وبطيء، ولا يضعون رؤوسهم على الأرض إلاّ ثلاث مرات))[5].
5 ـ كما أنّه قد تطرّق إلى بعض الأحكام الشرعية ـ ما يظهر جهله أكثر فأكثر ـ فقال: ((إنّ النساء بعد انقضاء العادة الشهرية عند وقت الظهر وبعد الغسل يصلّين ما فاتهن من الصلوات من جلوس))[6].
ثمّ لا يخفى أنّ دروويل کان يدّعي أنّه الأكثر دقّة وموضوعية من الآخرين في نقل الوقائع والمعلومات، وکان ينتقد سائر الکتابات الأُخرى في هذا المجال، فيقول: ((لکن مع الأسف الشديد في کثير من هذه الموارد کان الاعتماد على الظنّ، والحدْس، والوهم والتقارير الفارغة، أکثر من لحاظ الحقيقة))[7].
ولكنّ هذه المذکّرات مع احتوائها على اشتباهات وأغلاط، لا تخلو من الفائدة، بل إنّ فيها مطالب فريدة من نوعها، خصوصاً فيما نقلته لنا من وصف مراسم العزاء في عهد الصفويين؛ حيث وصفت لنا صوراً مفصّلة وجميلة عن مراسم العزاء الحسيني، من قبيل ذكر الحشود والمجاميع الكبيرة التي تخرج للعزاء، وبيان الهيئة والحال التي هم عليها، وما يُصنع من تمثيلالشبيه في ذلك الزمان، ممّا قد لا نجده في زمان ومکان آخر. ونحن اليوم بحاجة لمثل هذه المصادر، خصوصاً لمن يريد التحقيق والتدقيق في مثل هذه القضايا.
وکما أسلفنا سابقاً، فإنّ البحث يتمحوّر حول بعض نقولات وكتابات هؤلاء الأجانب والسوّاح، ومن زوايا خاصّة، نستعرضها في إطار العناوين التالية:
السخرية الناتجة عن سوء الفهم
إنّ الرحّالة وأصحاب المذکّرات ـ مع أنّهم کانوا بمرأى ومسمع ممّا يُقام في مراسم العزاء كما أسلفنا ـ لم يستطيعوا وفي موارد كثيرة إدراك عمق بعض تلك الأحداث، فيُعبِّرون أحياناً عن هذه المراسم بأنّها نوع من اللعب والتسلية، وفي أحيانٍ أُخرى يعبِّرون عنها بأنّها سبب للصراع والجدال.
وعلى سبيل المثال، يكتب دلاواله وهو شخص إيطالي کان يعيش في إيران في عهد الملك شاه عباس الأول، وکان مشغولاً بالتبشير المسيحي، وکان مهتمَّاً بالجانب الديني للمجتمع الإيراني، يکتب في مذکّراته حول الملك شاه عباس، فيقول: ((إنّ الملك عباس ـ سواء بلحاظ أُموره الشخصية أو الحکومية ـ کان مسلماً حقيقياً وراسخ المعتقَد، ولا يمکن أن يتخلّى عن دينه ويعتقد بدين المسيح، إلاّ بنزول معجزة من السماء، وأنا أعلم أنّه ثابت ومتعصّب لدينه، ويبذل کل جهوده، وکلّ قواه وما يملك لأجل إعلاء کلمة الإسلام، ولا يتوانى عن ذلك، ولا يُلام على تعصبه؛ لأنّه معتقِد بأنّه يعمل بوظيفته الدينيّة الشرعية الملقاة على عاتقه، وأتمنّى على ملوکنا أن تكون لهم مثل هذه الشدّة والتعصب في تقوية إيمان العيسويين وعقيدتهم، وأتمنّى أن يتأسّوا ويقتدوا بهذا الرجل))[8].
وقد کتب دلاواله عن مراسم العزاء الحسيني في محرّم، ودور الملك شاه عباس فيها، فقال: ((إنّ وزير أصفهان وأمين خزانة الدولة ـ مع مجموعة من الخيّالة ـ يتقدَّمون أمام الجمهور على جانبَي ساحة العزاء؛ ليفتحوا الطريق لعبور المجموعات المُعزّية، کي لا تقع بعض المصادمات بين المعزّين التي قد تؤدّي إلى الجرح والموت أحياناً، کما حدث ذلك في أکثر من مرّة سابقاً.
ومع هذا؛ فإنّ الملك شاه عباس في بعض الأحيان، ولأجل النزهة والفرجة يدخل بين المجاميع المعزّية، ويخلق بينهم الشجار والصدام، ثمّ ينسلّ سريعاً وبکلّ مهارة إلى خارج المکان الساحة ويقف إلى نافذة منزلٍ من المنازل ينظر متفرجاً لما يحدث، ولما تؤول إليه هذه المصادمات من نتائج سيئة!))[9].
إنّ صحّة هكذا فهم من قِبل دلاواله محل شك وتأمّل كبيرين، فربما تکون مشاهدته قد صادفت حضور الملك في ذلك اليوم الذي قد وقع فيه صِدام ونزاع بين المعزّين، وإلاّ فإنّ إيقاع الشجار والصدام بين المعزّين ـ وبواسطة الملك نفسه ـ لا معنى له، ويبقى محلاً للشك والترديد.
ويقول في مکان آخر عند مقارنته بين عزاء الإمام علي عليه السلام في أيام شهر رمضان وعزاء الإمام الحسين عليه السلام في أيام شهر محرّم: ((نعم، لا فرق من ناحية الشکل والمضمون بين مراسم العزاء التي تُقام للحسين، وما يُقام للإمام علي عليه السلام ، إلاّ أنّ المراسم في عاشوراء أکثر تفصيلاً، وأنّ المجاميع التي تخرج للعزاء تکون أکبر وأعظم، وأكثر حرارةً وإثارة، وعواطف الناس فيها تشتدّ أكثر، ويكون شوقه ـ شاه عباس ـ إلى الحرب والعِراك والخشبة والعصا[10] أشدّ وأكثر))[11].
وقد زار إيران شخص آخر يسمى آنطونيو دوغوه آ في عام 1011هـ، وهو قسّ إسباني، وقد أظهر فهمه المغلوط عن مراسم العزاء الحسيني ـ أيضاًـ عندما کتب:
( إنّ لدى الإيرانيين مراسم تُسمى مراسم عاشوراء، أو مراسم شاه ملك حسين، وهو الحسين بن علي، وتمتدّ هذه المراسم إلى عشرة أيام، وخلال هذه الفترة يترکون کل أعمالهم اليومية، لکن لم يتّضح لي أنّ هذه العشرة أيام هل هي عيد أم عزاء؟! لأنّ قسماً من الناس يضحکون ويغنّون ويرقصون، وقسماً آخر يبکون ويأنّون… وفي النهار يجولون في الأزقّة مولولين صارخين، ويقرأون الرثاء مع العزف الموسيقي، وبعض مسلح، والبعض الآخر بلا سلاح، وقسم کبير من الناس يحملون بأيديهم العصي، التي قد يصل طولها إلى خمسة أو ستّة أقدام وبألوان مختلفة، وفي الأغلب ينقسمون إلى مجموعتين، وبتلك العصي يبدؤون بالعِراك والضرب الشديد المؤدّي في بعض الأحيان إلى موت عدد منهم)[12].
العطش في كربلاء وصنع خزانات المياه
إنّ لعطش شهداء كربلاء مكانة خاصّة في مراسم العزاء عند الشيعة، ويختصّ جانب كبير منها بذکر هذه القضية؛ لما لها من الأثر الروحي الواضح في إثارة العواطف والمشاعر ضد الجيش الأُموي، لکن الأجنبي عندما يشاهد هذا الجانب من المراسم، فإنّه ينظر إليه من جهة أُخرى جديرة بالتأمّل، يكتب أحدهم حول هذه النقطة، قائلاً:
((واحدة من العلل الأساسية لصناعة خزانات المياه وسقاية الناس ـ التي هي من الأُمور الخيريّة عند الإيرانيين ـ هي اهتمامهم بقضية عطش الحسين وأصحابه في هذه الواقعة))[13]. ومثل هذا الاستنتاج قريب من الواقع؛ فإنّه بالتفاتة بسيطة، ومع ملاحظة ما يوجد على أرصفة الطُرق من مخازن المياه والبرّادات، وما کُتب عليها من عبارات، وما يرتبط بهذا الموضوع ممّا هو متداوَل في الثقافة العامّة عند الناس، يتّضح وبشكل جلي دور العطش في كربلاء وأثره في انتشار ظاهرة تقديم المياه للحشود المعزّية.
مراسم العزاء الحسيني والجنبة العاطفية
إنّ إقامة العزاء على الإمام الحسين عليه السلام من الأُمور الأساسية التي نفذت وتجذّرت في أعماق نفوس عموم الناس، وكان لها الأثر الکبير في إيجاد التحوّل والتغيّر في نفوس الشيعة؛ ومن ثَمَّ نجد أنّ تلك المذکّرات تؤکّد على تفاعل الناس الشديد مع هذه المراسم، وأنّ ذلك نابع من قلوبهم الحَرَّى، فكانوا يبكون بشدّة على شهداء كربلاء وعلى رأسهم الإمام الحسين عليه السلام ، وقد كتب السفير الإسباني في رحلته بهذا الصدد:
(إنّ كلام الوعّاظ والخطباء له تأثير كبير بحيث يجعل النساء تبكي بشدّة، ويضربن على وجوههن وصدورهن بأيديهن… وفي أيام العزاء تعلو أصوات البکاء، بحيث يُسمع ذلك في كلّ غرفة من غرف بيت السفير ودهاليزه)[14].
إنّ بعض هؤلاء السائحين ـ کما ذکرنا سابقاًـ قد يصعب عليه إدراك هذا التفاعل الکبير من قِبَل الناس، وما يمارسونه من مراسم للعزاء والبكاء والنحيب، من أجل حادثةٍ مضى عليها أكثر من ألف عام، وهي قد تبدو في نظر أولئك السوّاح حادثة صغيرة، فيدهشهم ما يرونه من الناس من بکاء ونحيب، وبشکل جاد وواقعي؛ ولذا جاء في واحدة من هذه المذکّرات والرحلات:
(وفي مثل هذه الأماكن يرقى الخطيبُ المنبرَ، وفي کلّ يوم يتعرّض لذکر شيء من وقائع كربلاء أو ما يرتبط بها، ثمّ يوضِّحها ويعلّق عليها، ثمّ يردد الصوت الحسن مع الاهتزاز والحرکة الكثيرة، وفي الواقع هذا نوع من أداء الکلمات باللحن الموسيقي. وعندما يصل إلى المواضع الحساسة والمؤثّرة، يبدأ بالإثارة لنفسه وللحضور، إلى أن يصل للذروة، فيبدأ بالبکاء مع الحاضرين ـ حقيقةً أو تظاهراً ـ وتعلوهم حالة الکآبة والحزن)[15].
إنّ تعبيره عن بكاء الخطيب والحضور بـحقيقةً أو تظاهراً تعبير غير منصف، أو هو نوع من الفهم المغلوط، وقد يکون ناتجاً من عدم تصديقهم وإدراكهم لمثل هذه القضايا؛ فإنّ هذا النوع من مراسم العزاء للإمام الحسين بن علي عليهما السلام لم يکن له ما يُماثله فيما يتعلَّق بعيسى المسيح عليه السلام ، الذي صُلِبَ وحيداً غريباً، حسب اعتقادهم الذي لا يقبله المسلمون.
من هنا؛ يکتب أحد القساوسة ممّن حضر إحدى المجالس التي أُقيمت للإمام علي عليه السلام ، في وصف هذا النوع من المجالس والبکاء والنحيب: ((…إنّ الخطيب إذا ارتقى الکرسي المرتفع [المنبر]، وأخذ يلف رداءه ويجمعه، وبعد أن يخيِّم السكوت والترقُّب على الحاضرين، يبدأ بالوعظ والإرشاد، وقد كان الإنصات والانتباه من قِبل الحاضرين بنحوٍ کنت أتمنّى أن يستمع الحاضرون والمجتمعون في الكنيسة إلى كلامي ووعظي كما ينصت ويصغي هؤلاء لما يقوله الخطيب.
والمسألة المحيِّرة في موعظة هذا الخطيب هي استرساله بالکلام، فقد تکلَّم خمسين دقيقة کاملة وبتواصل، وفي تمام هذه المدّة لم يراجع ورقة أو کتاباً أبداً، ومن اللطيف أنّ حاله كان يوحي بأنّه مستعدّ للاستمرار في الکلام… وفي أثناء الوعظ، وعندما كان يشير إلى بعض القضايا المؤلمة من الواقعة ـ شهادة الإمام علي عليه السلام ـ يصل هيجان الناس إلى أوجه، وتسيل الدموع من أعيُن الجميع بغزارة… وعندما شاهدت هذا الحال، سألت نفسي: حقّاً كم مرّة بكيت لمصيبة وعذاب المسيح؟ وبعد أن استذكرت الماضي وما سبق من ذكريات، فلم أجد ما يدلّ على أنّي قد أقمت العزاء على عيسى المسيح كما يقيمه هؤلاء))[16].
وعندما يصلهذا القسّ إلى العزاء والبكاء على الإمام الحسين عليه السلام ، يقول: ((عند استماعي لكلمة الخطيب ذکَّرني بما تحمّله عيسى المسيح من الآلام والتعذيب لأجل الحرية، وسألت نفسي: هل يجب علينا نحن أتباع المسيح في يوم الجمعة المباركة أن نقيم مراسم نظير المراسم التي يقيمها المسلمون للحسين؟ ولا شک في أنّ الفارق بين موت الحسين وموت المسيح شاسع جداً، بحيث نحن المسيحيون لا بدّ أن نقول: نعم يا عيسى، ها نحن ذا الذين قتلناك…)).
وعلى أيّ حالٍ، فإنّ المسيحيين لم يعهدوا مشاهدة مثل هذه المراسم للعزاء، وبهذه السعة، بل لم يُعهد مثل هذا الأمر عند سائر الشعوب والملل، والسبب في ذلك هو أنّ ثقافة الشيعة تكوّنت في ظل ظروف المقاومة والشهادة والإباء؛ ما جعل كلّ شيعي يتفاعل ويتعاطف مع شهداء كربلاء بكلّ وجوده وكيانه، ويقول: ليتني كنت مع الإمام الحسين عليه السلام فأنال الشهادةَ والفوز العظيم!
ويكتب أحد القساوسة أيضاً في وصف هذا العزاء والبكاء الشديد ـ بعد أن أُصِيب بالدهشة والتعجّب ممّا شاهده ـ: ((في بداية الأمر يتراءى لنا أنّنا ننظر إلى أُناس قد أُركسوا في أعماق ظلمة الحزن والأسى، لکن سرعان ما تنجلي هذه الرؤية، وتنکشف لنا الحقيقة وتتّضح لنا المبالغة الشديدة التي غمرتنا… وإلى جانب المعزّين القريبين منّا يوجد أُناس لا يعيرون أيَّ أهمّية لما يقع أمامهم، وکنّا نرى أُناساً قد سال الدمع على خدودهم، وقد احمرّت صدورهم، بل أُدمِيَت من الضرب واللطم،
ثمّ بعد ذلك کانوا يتنحّون جانباً ويشترکون ويتكلّمون مع المحيطين بهم بنشاط وحيوية، ويشربون الشاي معاً، وربما تعاملوا على بيع أو شراء قبضة من المکسَّرات، وکأنّ العزاء لم يکن، وعند رؤية هذه الأُمور يميل حكمنا على هذه التعزية والبكاء إلى التطرُّف، بأن نقول: إنّ إقامة هذا العزاء ما هو إلاّ أمر شكلي خالص، وقد تکون هذه الرؤية المتطرِّفة خاطئة كما كانت عليه الرؤية الأُولى))[17].
وقد وردت تعابير عديدة ومتنوِّعة حول مراسم العزاء التي يقيمها الشيعة، ولا يتيسّر لنا نقل جميعها في هذا المختصر، فنقتصر على الإشارة لبعضها بإيجاز:
فمن تلك التعابير الواردة في هذا المجال: ((… إنّ فصاحة وبلاغة هؤلاء الخطباء تؤثِّر في المستمعين وتبكيهم إلى حدٍ كبير، بحيث لا يمکن لكلام أيِّ فنان حقيقي من فناني مسرحنا الحزين أن يصل إليه))[18].
ومنها القول: ((إنّ أکثر هؤلاء المعزّين يقرحون جباههم ويجرحون أذرعهم وصدورهم بالخناجر، بقلب طاهر وإيمان صادق))[19].
وقد وردت في تلك المذكّرات زوايا وجوانب كثيرة حول عروض التمثيل لواقعة عاشوراء الشبيه، فاعتبرها بعضُهم مجرّد عرض ليس إلاّ، وعدّها البعضُ الآخر من الآثار الفنّية الفاخرة التي لا تبتعد كثيراً عن الواقع الحقيقي؛ ولذا نرى دروويل بعد أن شاهد إحدى تلك العروض يكتب: ((… إنّ رؤية هذا المشهد المثير ـ الذي لا يقلّ عن الواقعة الحقيقية بشيء ـ قد أدهشني، والذي زاد تعجُّبي وحيرتي أنّه بعد انتهاء العرض والتمثيل، رأيت الأربعة آلاف فارس الذين اشتركوا في المراسم ـ وبدون رعاية النظم والاحتياط، وبعدما جرى بينهم من المبارزة ـ بکامل الصحّة والسلامة ولم يُجرح أحدٌ منهم قط))[20].
خلود الحسين بن علي عليهما السلام
إنّ مفهوم العزّة في الإسلام له قيمته ومكانته الخاصّة، والذين ينطبق عليهم مفهوم العزّة هم المؤمنون، الذين نذروا أنفسهم للأهداف والمبادئ الدينيّة، وفي ظل جهود هؤلاء نالت الأُمّة الإسلامية العزّة والكرامة، ولا شك في أنّ العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين.
ثمّ إنّه وبعد مرور أكثر من ألف سنة على شهادة الحسين بن علي عليهما السلام ، لم تستطع تلك السنين أن تسلب العزّة من الحسين عليه السلام في هذه الدنيا، ولو أن شخصاً تأمّل فيما يراه أيام محرّم، لعرف سرَّ تلك العزّة؛ لما يراه في قلوب الناس من المعرفة والمحبّة لسيد الشهداء عليه السلام ،
ومن المناسب أن ننقل في هذا المضمون ما سطَّره السائح غرترودبل، حيث قال: ((بعد الظهيرة بقليل ترتفع أصوات المعزّين وتملأ فضاء القرية، حيث يجتمع سكّانها ويشكلون المجاميع، ثمّ يخرجون إلى الشوارع، فيجتازون منطقة خالية متصحِّرة إلى أن يصلوا إلى الشارع الرئيسي، ويصور لنا الألم والحزن ـ الذي خيَّم على هؤلاء المعزّين ـ شدّة الاحترام لبطلِهم الشجاع، الذي يرقد في وادي كربلاء منذ اثني عشر قرناً من الزمن، وقد کان احتراماً من نوع خاصّ.
ثمّ إنّ هناك الكثير من الأبطال والشجعان الذين تألّموا وعُذِّبوا بأشدّ ألوان العذاب، وقد تحمَّلوه بکلّ رجولة وبطولة، ولکن لم يخلد منهم إلاّ القليل النادر. وإذا کان الحسين يتمنّى أن يبقى ذكره إلى الأبد ـ وهي الأُمنية التي يحملها کلّ شخص قد شارف اسمه على الاندثار ـ فإنّ موته وبهذا الشکل المفجع، وما أصابه من السهام والنبال في أماكن عديدة من جسده، لم يکن عبثاً، وإذا کانت مراسم دفنه قبل اثني عشر قرناً قد تمّت بشكل متواضع ومختصر، فإنّ أصداءها لا زالت مدويةً عِبرَ القرون وإلى يومنا هذا))[21].
ثمّ إنّ هناك كلاماً آخر حول مراسم العزاء ذكره أحد المؤرِّخين البريطانيين المعاصرين، وهو يصف ما شاهده قبل الثورة الإسلامية، وكان قد كتبه بعد انتصارها، فقال:
((… إنّ ما شاهدته خلال ذلك اليوم قد أدهشني، وکنت مستغرباً أيّما استغراب، وأنا أرى مصيبة الحسين وشهادته، قد سرت إلى هذا الحدّ في شرايين الإيرانيين وتجذَّرت في أعماق نفوسهم، والناس تعتقد بأنّ لمصيبة الحسين ـ والآلام التي عاناها قبل الموت ـ قوّة وقدرة أعلى وأکبر من قوّة السلاح، والکلّ موقن بأنّ شهادة الحسين أثبتت أنّ قوّة الحقّ والحقيقة قادرة على مواجهة الباطل والانتصار على قواه العسكرية، وباعتقادي أنّ من المحال أن نجد أحداً قد شاهد مراسم العزاء في ذلك اليوم وفي سوق أصفهان الکبير بالتحديد، ثمّ يتعجّب کيف حدثت ثورة في إيران وبهذا الحجم، قد هزّت وزلزلت العالم بأسره؟! الثورة التي أثبتت أنّ الشهادة والتضحية بالدماء تمهد للانتصار))[22].
صور ومشاهد حول كيفيّة إقامة مراسم العزاء الحسيني
إنّ السائح الإيطالي دلاواله الذي زار إيران في عهد الملك شاه عباس الأول، كتب حول مراسم عزاء عاشوراء، قائلاً:
( إنّ کيفيّة مراسم العزاء في عاشوراء تكون بالنحو التالي: يبدو على الجميع حالة من الغمّ والحزن، وقد ارتدوا ملابس العزاء، ذات اللون الأسود، وهو لون الملابس التي لا تلبس إلاّ في مثل هذه المناسبات، وفي مثل هذه الأيام لا يحلقون شعر رؤوسهم ولا لحاهم ولا يذهبون إلى الحمام، بالإضافة إلى هذا، فإنّهم ليس فقط لا يرتكبون المعاصي والذنوب، وإنّما يمنعون أنفسهم من کلّ ألوان الفرح والتسلية،
وکثير من المتسوِّلين الدراويش في أزقّة المدينة المزدحمة يدخلون أنفسهم في الجرار التي صنعت من الطين المفخور ودُفنت في الأرض، فيُدخلون بدنهم في داخلها بالكامل، بل وبعض رؤوسهم أيضاً، حتى يخيّل للناظر عندما يراهم بأنّهم قد دُفنوا تحت الأرض، ويستمرون على هذه الحالة من طلوع الشمس إلى غروبها، بل وإلى منتصف الليل…
وهناك مجموعة أُخرى تخرج في الساحات والأزقّة وأمام بيوت الناس، وهم عُراة إلاّ من قطعة قماش صغيرة سوداء أو کيس غامق اللون يسترون به العورة، وقد طُليت أجسامهم من الرأس إلى القدم بمادّة سوداء لامعة ـ وهي نظير ما نستعمله في طلاء غمد السيف أو المعادن الأُخرى ـ کلّ ذلك لإبراز الحزن وحجم المصيبة وشدّة الألم في عزاء الحسين، ومعهم أيضاً جماعة عراة ـ كهيئتهم ـ وقد طُليت أجسامهم باللون الأحمر، وهو ما يُعَبِّر عن الدماء التي أُريقت في كربلاء،
وعن الأعمال القبيحة التي ارتُكبت في حقّ الحسين، والکلّ يردد الألحان الحزينة في رثاء الحسين وفي ذکر المصائب التي جرت عليه، ويحملون بأيديهم قطعتين من الخشب أو العظام ويضربون الواحدة بالأُخرى، فيرتفع منها الصوت الحزين مع شيء من الحرکة والاهتزاز للرأس والجسم، والتي تُعبِّر عن الحزن والألم الدائم، وإن كانت تشبه الرقص كثيراً.
وفي هذه الحالة والهيئة يحملون بأيديهم أوعية صغيرة، تُقدَّم أمام الجماهير المحتشدة والمحيطة بساحة العرض، يضع فيها الناس النقود بعنوان الصدقة. وعند الظهيرة وفي وسط الساحة التي تجمهر فيها الناس يرتقي المنبر شخصٌ، وفي الأغلب يکون هذا الشخص والخطيب من ذرية محمد، ويلقب في إيران بالسيد آقا وعلامته أن يضع على رأسه عمامة خضراء ـ ويُلقّب هؤلاء الأشخاص في ترکيا بالأمير، وفي مصر بالشريف،
ومن الملاحظ أنّ ذراري محمد في ترکيا دائماً يلبسون العِمّة الخضراء، وهذا بخلاف ما رأيته في إيران، فإنّهم لا يلبسونها إلاّ في هذا المورد ـ وقد کان المنبر مُطلاً على جميع الحضور من النساء والرجال، والحضور بين واقف وجالس على الأرض، والبعض اتّخذ له مقعداً صغيراً يجلس عليه، ثمّ يبدأ الخطيب بذکر وصف الحسين، وتفصيل ما جرى عليه من القتل والسبي، والمهم أنّه يبذل کلّ ما بوسعه لإبکاء الحضور.
إنّ هذه المراسم تُقام عند النهار في المساجد، وأمّا في الليل فإنّها تُقام في الأماكن العامّة وبعض البيوت التي أُنيرت بالأضواء الكثيرة، مع وضع علامات العزاء والأعلام السوداء، وتستمرّ هذه التعازي وذکر المصائب بکلّ قوّة وشدّة، والحضور يبکون بأصوات مرتفعة، خاصّة النساء اللائي يضربن صدورهن، وفي آخر فقرات الرثاء يردد الجميع هذه الکلمات: آه يا حسين… شاه ملك حسين…
ثمّ في اليوم الأخير، وهو اليوم العاشر من محرّم، الذي قُتل فيه الحسين وأصحابه وقد صادف هذا اليوم في هذه السنة الثامن من شهر يناير يجتمع الناس من كافّة أحياء أصفهان والقرى المجاورة لها ـ بالشکل الذي ذکرته مسبقاً في مناسبة استشهاد الإمام علي ـ ويشکّلون عدّة مجاميع، ثمّ يسيرون رافعين معهم الرايات والأعلام، وعلى الخيل تُحمل الأسلحة والعمائم المختلفة، ويُخرجون معهم النوق التي وضع عليها الصناديقالهوادج، وفي کلّ واحد من هذه الصناديق ثلاثة من الصِبْيَة وتارةً أربعة،
وهذا الأمر يرمز إلى سبي أطفال الحسين الشهيد، إضافة إلى ذلك، فإنّ كلّ مجموعة من تلك المجموعات تحمل نعشاً رمزياً، وقد لُفّ هذا النعش بقطعة من المخمل الأسود، ويوضع على النعش عادة عمامة خضراء وسيف، وفي أطراف التابوت توضع أنواع الأسلحة ـ کما ذکرت نحو ذلك سابقاً ـ وکلّ هذا يُحمل على أطباق تُحمل على الرؤوس، وعندما يبدأ الملحِّن أو العازف بالعزف، يبدأ هؤلاء بالحرکة مع القفز والوثوب والدوران، وبالتبع فکلّ تلك الأطباق تدور معهم، وذلك يخلق منظراً مثيراً))[23].
وكذا يکتب تاورنيه ـ وهو أحد السوّاح الأجانب في العهد الصفوي ـ قائلاً:
((والآن نتحدث حول أکبر المراسم الدينيّة لدى الإيرانيين، المتعلّقة بالحسن والحسين ابني علي: قبل ذلك اليوم الخاصّ عاشوراء بثمانية أو عشر أيام يبدأ المتحمِّسون من الشيعة بِطَلْي أجسامهم باللون الأسود، بعد ما يخلعون جميع ما يلبسون إلاّ قطعة من القماش صغيرة يسترون بها عوراتهم، ويحملون في كلّ يد حجراً كبيرة، ويجولون في الأزقّة والطرق ويضربون تلك الأحجار بعضها بالبعض الآخر، وقد عبست وتوتّرت وجوههم وأجسامهم، ويصرخون باستمرار: حسن حسين، حسن حسين، ويکررون هذا العمل إلى أن تتعب أفواههم، بحيث تخرج منها الرغوة، ويبقون على هذه الحالة إلى غروب الشمس. وأمّا في الليل، فهناك أُناس مقدَّسون يأتون بهم إلى دورهم وبيوتهم ويطعمونهم أفضل الطعام.
وفي هذه الأيام وحينما تغرب الشمس تُنصب المنابر في أغلب الأزقّة والساحات، ويشتغل الوعّاظ بالنصح والإرشاد وتهيئة الناس لذلك اليوم المخصوص… وأنا أكتب تلك المراسم کما رأيتها رأي العين عام 1667م في الثلاثين من شهر يوليو، وكان قد عيَّن لنا المشرف العامّ ورئيس البلاط الملکي في ذلك اليوم مکاناً جيداً في ساحة العرض، تقابل القاعة الملکية، وأنا وبعض الهولنديين ذهبنا إلى هناك للمشاهدة، وعند الساعة السابعة صباحاً جلس الملك صفي الثاني ـ الذي قد غيَّر اسمه إلى الملك سليمان ـ مع کبار البلاط، على سرير قد وُضع وسط القاعة الملکية، وقد کان جميع الأشراف واقفين، وبعد أن جلس الملك على ذلك السرير خرج من الجانب الآخر بيگلربيگي[24]،
وقد رکب حصاناً جميلاً مع مجموعة فتيان من أولاد الأشراف والنجباء، وبدأوا بترتيب الناس المتجمهرة… ثمّ أخذ البيگلربيگي بإدخال المجاميع المعزّية، وكانت کلّ واحدة من تلك المجاميع تحمل معها نعشاً يرفعه ثمان إلى عشرة منهم، وقد زُيِّن هذا النعش بأنواع الرسوم کالورود والأغصان والشُّجيرات الصغيرة، وجعلوا على کلّ نعش تابوتاً صغيراً ملفوفاً بالقماش الأصفر. وعند دخول المجموعة الأُولى تدخل أمامها ثلاثة من الخيول مزيّنة بالسروج والأحزمة الفاخرة، وتعلو هذه الأحصنة القسي والنبال والسيوف والدروع والخناجر.
ولمّا اقتربوا من الملك هرولوا وهم يقفزون ومعهم النعش والتابوت يهتز ويتحرّك بحرکتهم کأنّه في حالة من الرقص، والبعض منهم يرمي بقبعته أو حزامه إلى السماء، ثمّ يعود إليه فيمسکه، وآخرون يجعلون أصابعهم في أفواههم للصفير، وکما ذکرنا سابقاً فإنّ مجموعة أُخرى عُراة يرکضون ويقفزون إلى السماء ويضربون تلك الأحجار بعضها بالبعض، وهم يصرخون: حسن حسين، حسن حسين إلى حدّ يکررون هذا العمل حتى أن تتعب أفواههم؛ بحيث تخرج منها الرغوة.
ثمّ إنّ هذه المجموعة بعد أن تدور في الساحة مرتين أو ثلاث، تأتي مجموعة أُخرى وتصنع کما صنعت المجموعة الأُولى من الحرکات والقفز، ويتقدَّمها أيضاً ثلاثة من الخيول، وهي تمثّل الخيل التي يركبها الشهداء عند ذهابهم إلى الحرب، وعند دخول المجموعة الجديدة من المعزّين تتنحّى المجموعة الأُولى إلى جانب؛ لينفتح الطريق أمام المجموعة الجديدة، وفي بعض تلك التوابيت التي تحملها المجاميع تمثال طفل راقد، والناس من حوله يبکون ويتصارخون، وهؤلاء الأطفال تمثّل طفلَي الحسين، الذين قبض عليهما وقتلهما خليفةُ بغداد يزيد بعد شهادة الحسين[25].
والنساء ـ اللاتي حضرن ذلک المکان بأعداد كبيرة من أجل مشاهدة تلك المراسم ـ عند رؤيتهن الأطفال يصحنَ ويبکينَ بأجمعهن في آن واحد، وهنّ يعتقدن أنّ هذه الدموع توجب غفران ذنوبهن جميعاً…
وکان إلى جانب قاعة الملك سرير خشبي عالٍ، في أسفل القاعة بخمسة أو ستّة أقدام، وقد وُضعت عليه سجّادة، وعلى ذلك السرير کرسي ذو مقبضين، وعليه قماش أسود وقد ارتقاه خطيبٌ، وحوله ستّة آخرون، وقد تعرّض الخطيب إلى ذکر مصيبة وشهادة الحسن والحسين بمقدار نصف ساعة،
وفور انتهائه من الخطبة أهدى الملك إليه حُلّة، وکذلك لأولئك الستّة من الخطباء، لکن حلّة الخطيب المتکلِّم کانت أفضل وأفخر من تلك الحُلل، وبعد أن لبسوا تلك الحُلل الملکية، عاد الخطيب مرّة أُخرى وجلس على الكرسي، وأخذ يدعو لسلامة الملك وطول عمره.
وقد استغرقت هذه المراسم خمس ساعات، من الصباح حتى الظهر، ثمّ انصرف الملك بعدها ورجع إلى القصر، أمّا الناس والمجاميع المعزّية فقد خرجوا من الساحة وهم يحملون معهم تلك النعوش، يطوفون بها شوارع وأزقّة المدينة…)).
ويكتب فيغوئروا في مذكراته:
((كان البيت الذي يُقيم فيه السفير بجوار مسجد أصفهان الکبير، وهذا الموقع أتاح لنا الفرصة لمشاهدة المراسم ومجالس الوعظ والعزاء التي تُقام في هذه الأيام المقدّسة ـ وهي عشرة إلى اثني عشر يوماًـ في کلّ المساجد والأسواق والأماكن العامّة الأُخرى، والتي يشترك فيها النساء والرجال والشيوخ والشباب، وإنّ خطباء ووعّاظ هذه المجالس هم من علماء الشريعة… وهم يرتقون المنابر العالية في تلك التجمعات ويتکلَّمون بکلّ حُرقة وحماس ويبيّنون خصوصيات ووصف موت أو شهادة الحسين، إمامهم الکبير…
وجميع النساء من کلّ الأصناف والطبقات، يستمعن بكلّ دقّة وإنصات إلى المجالس التي تقام في المسجد كلّ يوم، والتي يتصدّى لها أفضل وأحسن الخطباء العلماء والفقهاء. وإنّ هؤلاء الخطباء يرتقون منابر عالية شبيهة بما يُرى في الکنائس في مکان الإنشاد؛
بمعنى أنّ هؤلاء الخطباء كأصحاب الوعظ في أوربا، فبعد ارتقائهم ستّ أو سبع مراقٍ من المنبر والجلوس على قمته، يبدأون بوعظ الناس بکلّ شوق وحماس، مستخدمين حركات اليدين والوجه والسواعد وبأشكال مختلفة. وجميع الخطباء يلبسون في هذه الأيام ملابس أكثر احتراماً من ملابسهم في بقية الأيام العادية، فيضعون على الکتفين وعلى الظهر والبطن قطعة کبيرة من القماش الأسود، ويتدلَّى شريط منها إلى القدمين عرضه شبر، ويضعون على العِمّة قطعة قماش سوداء تُغطي کلّ العِمّة تقريباً.
والخطيب في نهاية خطابته يعرج على المصيبة ويذکر القضايا الحزينة، وعمدة تلك القضايا هو الذمّ واللعن لمن غصب الخلافة))[26].
وقد فصّل الكلامَ حول مراسم محرّم وعاشوراء السفيرُ الفرنسي في إيران يوجن أوبن والذي کان سفيراً لفرنسا في عامي 1906ـ 1907، ونحن نذكر خلاصة نقولاته وتحليلاته:
((وإنّ أيام القتل عند الشيعة أيام مهمّة وحساسة للغاية، وهي الأيام العشرة الأُولى من شهر محرّم، واليوم العاشر منه الذي يصادف فيه شهادة الإمام الحسين، ويوم العشرين من صفر وهو يوم أربعين الإمام الحسين، فإنّ هذه الأيام من أهمّ أيام العزاء، ويضاف إلى ذلك أيام السابع والعشرين والثامن والعشرين والتاسع والعشرين من شهر صفر، لما فيها من ذکرى وفاة الإمام الرضا والإمام الحسن والنبي؛ لأجل ذلك فإنّ شهرَي محرّم وصفر أشهُر الحزن والألم من أوّلها إلى آخرها، ولا تُقام خلال هذين الشهرين أيّ مراسم للفرح والسرور… والجنود يحملون بنادقهم بالمقلوب، والسادة يلبسون الملابس السوداء، وفي هذه الأيام تُکسى جدران المساجد بالحلل السوداء، وفي أغلبها يصعد الخطباء والوعّاظ المنابرَ لذِکر أحداث واقعة کربلاء.
والجدير بالذکر أنّ الخطباء والوعّاظ يصنَّفون من علماء الشيعة وروحانييهم، وهم أعلى من طبقة قرّاء المصائب والسير؛ فإنّ هؤلاء القرّاء في الحقيقة هم رواة للأحداث والوقائع فقط، ويقرأونها على الناس بلحن خاصّ، وأمّا الخطباء والوعّاظ فهم من سلك العلماء المتبحِّرين في الدراسة وتفسير القرآن والحديث والتاريخ، ولهم الباع الطويل في فن الخطابة والوعظ، وباستطاعتهم التحدُّث في الأُمور الدينيّة والأخلاقية، وأحياناً في السياسة أيضاً؛
ولهذا تجتمع المجاميع الغفيرة للاستماع إليهم، وقد انحصر وجود مثل هؤلاء الخطباء في المدن الکبيرة، والبعض منهم قد وصل إلى ذروة الشهرة بين الناس… ولا يخفى أنّ الخطباء المشهورين لهم القدرة ـ کقرّاء المصائب والسيرـ على إبکاء الناس ولا يغفلون عن ذلك. ومهما کان الکلام، فإنّه مجرّد الإشارة إلى صعيد كربلاء يكفي لأن تعلو أصوات الإيرانيين بالبکاء والنحيب.
والخطيب ـ حسب ما يقتضيه المقام ـ ينتخب آية من القرآن ويتلوها، ثمّ يترجم کلماتها إلى الفارسية، وبعد ذلك يشرع في تفسير الآية، وفي النهاية يختم الکلام بذکر شيء من كتب المقاتل التي تختصّ بذكر تفاصيل وجزئيات حياة الشهداء وتاريخهم، فينتخب واقعة ـ حسب مناسبة اليوم ـ ويتلوها على الحضور، وأكثر هذه الوقائع يرتبط ببيان حياة وشهادة الأئمة الثلاث الأوائل: علي والحسن والحسين. وبالطبع عندما يتعرّض لذِکر الإمام الأول والثاني لا بدّ أن يعرج إلى الإمام الثالث.
إن ّمجالس العزاء طوال أشهُر الحزن والعزاء تقام بكثرة في كلّ مكان، خصوصاً في العشرة الأُولى من شهر محرّم، وفي اليوم العاشر ترى الجميع ينفجرون بالبکاء والنحيب، وتلتهب جموع الشيعة في ذلك اليوم حماسة وحرارة.
وفي الأيام العشرة الأُولى من شهر محرّم تفتح جميعُ الحسينيات أبوابَها أمام المعزّين بجميع أطيافهم وأصنافهم، حتى ينالوا الثواب بالبكاء وذرف الدموع، وتناول الغداء أو العشاء.
وقبل اليوم العاشر بأيام تهيئ مجاميع العزاء نفسها للخروج في التظاهرات والمسيرات الكبيرة في يوم عاشوراء، ذكرى شهادة الإمام الحسين، ولکلّ حي ومسجد وصنف من الناس موکبُ عزاء يختصّ به، ويتولّى إدارته أحد الأشخاص، وکلّ موکب يعرف باسم خاصّ، وأمّا نفقات ومصاريف هذه المواكب فإنّها تُوفَّر بواسطة سکنة الأحياء ومساعدة الأثرياء. ويُهيأ مکان خاصّ لإيداع ما يحتاجه الموكب من السجاد والمصابيح والمرايا والأعلام وغيرها من الأمتعة. وتكون حركة هذه المواكب في المدن في أيام الشهادات، وفي الليالي العشرة الأُولى من شهر محرّم…
عاشوراء أکبر وأعظم أيام الحِداد والعزاء، ففي الصباح الباكر من هذا اليوم تتشکّل المجاميع المعزّية في الجهات الأربع من المدينة، وتبدأ بالتدفّق إلى السوق، وقبل التجمع في سوق الخُضار يذهبون ـ حسب العادّة ـ إلى زيارة زيد أحد أولاد الأئمة. وعند بزوغ الفجر يملأون الساحة وأسطح الدور المجاورة لها، ويعلون الجدران،
ثمّ تبدأ المجاميع المعزّية والمواكب بالوصول إلى ساحة السوق من خلال الطرق والأزقّة المؤدّية إليها… ولکلّ مجموعة علامة ورمز يختصّ بها، من قبيل کفّ العباس، والأعلام الخضراء والسوداء التي يُشدّ بعضها ببعض، أو البيارق والکتل العجيبة والغريبة التي عليها الريش والشفار الحديدية… إنّ اللاطمين على الصدور يتحرّكون في صفوف منتظمة وبصدور مكشوفة، ومع لحن منتظم يضربون على صدورهم، فتحمرّ صدورهم.
وأمّا البربرية فإنّهم يضربون على أکتافهم بالسلاسل. وأمّا اللر وأهل بروجرد ـ الذين طلوا رؤوسهم بالطين ـ فإنّهم يرفعون أيديهم كالرياضيين ويهزّونها بشدّة ويضربون بها على صدورهم المکشوفة، وتتکرر هذه الحرکة مع صراخ خاصّ من قِبَل أعضاء المجاميع. ومجموعة تنادي شاه [ملك] حسين وتجيبها مجموعة أُخرى حسين، حسين، والبعض الآخر يردّد الأشعار والرثاء مع النائح الرادود، ثمّ يتمتم الکلّ بأنين ونحيب فيقولون: فداءً للشفاه العطشى، اسقوا مولاي قليلاً من الماء، أو التراب على رؤوسنا؛ فإنّ الحسين لم يلفّ في کفن، أو اليوم يوم عاشوراء، يا ليتنا کنّا في کربلاء.
وفي کلّ عام تجتمع تلك المجاميع المعزّية في المکان المعهود وتُقيم المراسم، والأکثر شهرة من تلك المجاميع والمواکب هو موکب تجّار الأقمشة، وحي الميرزا محمد رضا. ولا يکتفي الشيعة بالاستماع إلى المجالس والنوح والبکاء على الأئمة، بل إضافة إلى ذلك يقيمون مراسم التمثيل والشبيه التي تجسِّد مصائب قادتهم، حتى يمكنهم دركها ولمسها بشكل محسوس.
إنّ مراسم التمثيل الشبيه ـ والتي تعود جذورها إلى العهد الصفوي في إيران ـ قد اتّسعت وانتشرت بشکل کبير في القرن الأخير، بحيث قد أُعدّ لها في القرى والمدن أماكن خاصّة مزيّنة بالأقمشة السوداء والسجّاد والمرايا والمصابيح الخاصّة، ثمّ تُقام فيها تلك المراسم التي تجسّد الوقائع المؤلمة التي وقعت في كربلاء.
وإنّي قد رأيت بأُمّ عيني في مدينة قم ممثّلون يؤدّون كيفيّة شهادة الأئمة. وفي طهران يوجد في کلّ حي مکان خاصّ لإقامة العزاء، کالحسينية يسمى تکية وتُأمّن تکاليفه من الأوقاف أو من تبرعات سکنة الحي، وإنّ الشخصيات المعروفة، لهم الرغبةُ الکبيرة بأن تکون لهم تکية في بيوتهم الشخصية، تقام فيها المراسم في کلّ ليلة وبشکل مستمرّ، بما يرتبط بتلك الليلة في محرّم من مراسم وتشابيه خاصّة بها، وإنّ أعظم وأفخم مراسم الشبيه في الأيام العشرة الأُولى من المحرّم تقام في تکية الدولة أو التکية الملکية، والحضور للمشاهدة متاح للجميع.
تبدأ المراسم في تکية الدولة عند الظهر بقراءة المصيبة، ثمّ في الساعة الثالثة والساعة السابعة عصراً تقام المراسم الدينية ومراسم التمثيل. وإنّ الفعاليات التي تقام في النهار تكون دينيّة أخلاقية خالصة، ويخصص القسم الخلفي من التکية أو ساحة التمثيل لمكان النساء.
معين البکاء: وهو الشخص الذي يدير التمثيلية، وهو شخص کبير السنّ له لحية بيضاء، يبدأ أولاً بتعريف نفسه للحضّار، وقد ارتدى ملابس طويلة ماسکاً بيده خشبة، وفي حزام ظهره لفائف من الورق تحتوي على أدوار ممثلي مراسم الشبيه، وهذا الشخص له سبع وثلاثون سنة من الخبرة في إدارة مراسم الشبيه الملکية، وکان لأبيه هذا الدور من قبله، وهذا الراوي وأبوه هما اللذان ساهما في إيصال هذه المراسم التي تقام إلى ما هي عليه اليوم.
ويقتبس موضوع التمثيل من سيرة الشهداء أو من بعض الحكايات الإيرانية. وإنّ معين البکاء في انتخابه للقصّة ونوع التمثيل الذي يقام فيتکية الدولة، تابع لأوامر الملك مطلقاً.
برامج السنة الحالية کالتالي:
1ـ اليوم الأول من المحرّم: وفاة النبي.
2ـ وفاة فاطمة.
3ـ وداع المدينة؛ لأنّ الإمام الحسين قبل الرحيل إلى كربلاء وللمرّة الأخيرة زار قبر النبي وودّعه، وإنّه قبل هذا قد بعث ابن عمّه مسلم بن عقيل إلى الکوفة.
4ـ شهادة مسلم بن عقيل وطفليه البريئين.
5ـ وصول الإمام الحسين إلى كربلاء وشهادة الحرّ.
6ـ شهادة العباس، وهو أخو الإمام الحسين.
7ـ شهادة علي الأكبر، وهو ابن الإمام الحسين.
8ـ شهادة القاسم بن الإمام الحسن.
9ـ أخذ أهل بيت الحسين سبايا إلى قصر يزيد في دمشق.
10ـ شهادة الإمام الحسين، سيد الشهداء.
ولأجل تلطُّفهم عليَّ، استطعت أن أُشاهد ثلاثة عروض من البرامج المتقدِّمة، وهي مراسم اليوم الثاني واليوم الثالث واليوم الخامس من شهر محرَّم، وکذلك عرض المساء في اليوم السابع؛ وذلك لما هو المألوف في السنوات السابقة من إرسال الدولة الدعوة الرسمية إلى ممثلي الدول الأجنبية المقيمين في إيران للحضور والمشاركة في برنامج المساء لهذا اليوم، وقد شاهدته بمعية زملائي.
إنّ هذه العروض الدينيّة عندما تُعرض في الساحة المسرح؛ فإنّها تؤدّي إلى أن تتعالى أصوات جميع الحاضرين بالصياح والصراخ والبكاء والنحيب. والنساء اللاتي حضرن في الجانب الآخر من ساحة العرض قد علت أصوات نحيبهن؛ بحيث ترى لهن اهتزازاً من کثرة البکاء.
وفي المقصورة التي کنتُ جالساً فيها کان المسنّون من الرجال لا ينقطعون عن البکاء لحظة واحدة؛ بحيث کانت المناديل التي يمسحون بها الدموع مبتلّة، ولا تفارق أعينهم أبداً، وفي مثل هذه الحالات يکون الحسّ والشعور الوطني له الأثر الأكبر والغلبة على الحسّ الديني؛ لأنّه لا يمکن إنکار موضوع التغيير التاريخي في إيران، وإنّ سببه هو التأثّر بأحداث الطفّ وواقعة كربلاء، والأثر المباشر الذي تؤدّيه تلك المراسم التي تُقام لآل علي؛ بحيث أوجدت التظاهرات والاحتجاجات الوطنية الخالصة))[27].
وقد ذكرت السيدة ليدي شيل بعض الأُمور حول مراسم العزاء في محرَّم في العهد القاجاري، ننقل خلاصتها:
((يصادف شهر ديسمبر من هذا العامّ شهر محرَّم، فترة المآتم والحزن والنياحة للإيرانيين… وفي هذا الشهر يقيم الشيعة مراسم بعنوان الذکرى السنوية لمصيبة الإمام الحسين وأهل بيته في صعيد كربلاء، ولهذه الواقعة أثر کبير في نفوس الإيرانيين؛ بحيث يحيونها بشکل عرض وتمثيل مسرحي، وهذا يشبه ما کان يُقام من الطقوس الدينيّة في بريطانيا وبقية الأماكن في العهود السابقة…
وتسمع أصوات الحنين والأنين وبشکل مستمرّ من کلّ جانب ومکان، مع اللعن والسبّ والشتم لمستحقيه الذين ارتکبوا هذه الجريمة الکبرى في حقّ سبط النبي وأهل بيته. وعندما تلتهب عواطف الناس من الألم ـ في بعض الأحيان ـ تصل الحالة بهم إلى شتم وسبّ مَن يقوم بتمثيل دور الشمر، ويكون من الصعب أن يخلص نفسه من شرّ نظرات الناس الغاضبة، وخصوصاً من ضربات النساء بأيديهن وأرجلهن.
وفي إحدى برامج هذه الأيام العشرة يعرض مشهد بعنوان المندوب الأقصى وهو يحکي أحد السفراء الخياليين لإحدى الدول الأوربية ـ يحتمل أن تکون تلك الدولة المعنية هي اليونان ـ في قصر يزيد، وقد كان حاضراً عندما يؤتى برأس الحسين إلى يزيد، وعند مشاهدته هذا المنظر يعترض على هذه المجزرة الوحشية؛ ولأجل هذا الاعتراض ينال الشهادة في آخر الأمر.
وأمّا ما يُرتدى من الألبسة في مراسم التمثيل الشبيه، فكانت تناسب أزياء تلك الأزمنة في النوعيّة والکيفيّة، فتشابه ما کان يرتديه الإمام الحسين وأصحابه وأهل بيته، ثمّ يبدأ العرض ابتداءً بمسيرهم إلى الکوفة، ولتصوير الموقف بشکل أفضل تُساق الإبل والخيول المدرّعة بأنواع الدروع، وعليها الهوادج المکلَّلة،
وفي الوقت نفسه تسمع أصوات الطبول والأبواق عن قُرب وبُعد، وبعد مدّة وجيزة يظهر جيش يزيد، ثمّ يخطب قائد الجيش خطبة، وبعدها يبرز إليه الإمام الحسين وهو يتكلَّم على شكل نياحة، وبعد لحظات يرجع إلى وسط الساحة وقد امتلأ جسمه وفرسه بالسهام الخشبية، ثمّ يُمنع عنه ماء نهر الفرات؛ فتشتدّ النياحة نتيجة ذلك، ويبدأ القتال، ثمّ بعد قليل يأتي الشمر غاضباً برفقة الخيّالة المدرّعة، فيخطب بهم، ثمّ يجيبه الإمام الحسين بكلّ وقار مع ما به من حزن على مصيبة عياله، ثمّ يخرج أبناء الإمام الحسين ـ علي الأكبر وعلي الأصغر ـ للقتال، وبعد فترة وجيزة يأتون بجسديهما إلى الداخل، وفي النهاية يستعرضون مقتل سكينة ورقية ـ ابنتي الإمام الحسين الصغيرتين ـ ممّا يجعل صراخ الحاضرين يصل إلى أوجه، إلى أن ينزل جبرائيل من السماء إلى الأرض مع جميع الملائكة ـ والذين لهم أجنحة ذات بهرجة ولمعان ـ مستنکرين ومتنفِّرين من هذا العمل البشع بحقّ أولاد النبي، وقد حضر أيضاً ملك الجنّ مع جيشه.
وبعد ذلك يحضر ثلاثة من الأنبياء موسى وعيسى ومحمد حزينين متألّمين لهذه المصيبة الکبرى. وفي نهاية العرض يقوم الشمر بفعلته الشنيعة وسط شدّة غيظ الحاضرين وحزنهم، وفي اليوم التالي ـ اليوم الأخير من مراسم العزاء ـ تقام مراسم الدفن لجسد الإمام الحسين وأجساد أهل بيته في كربلاء.
وقد كنت مستغربة ومندهشة جداً وأنا أحضر مثل هذا المجلس الذي يحضره آلاف الناس من الذين يغمرهم الحزن والألم العميق، وللإيرانيين حالات خاصّة في البکاء والعويل؛ لما يظهرون من الأصوات العجيبة في أثناء البکاء، حتى إنّه في بعض الأحيان تُسمَع أصواتٌ تشبه الضحك والقهقهة، وعندما يبدأ أحد الحضور بالبکاء يبکي معه البقية أُسوة به، وفجأة يعمّ البكاءُ الجميعَ، بل في بعض الأحيان أشعر ـ أنا ـ بأنّ دموعي تريد أن تتدفّق وتسيل لما أسمعه من كثرة البكاء والعويل. وکنت أُشارك النساء الإيرانيات المحيطة بي في مراسم العزاء، وکان هذا الأمر باعثاً على سرورهن.
ولا بدّ أن أعترف وأُذعن بأنّ بعض تلك المشاهد کانت تُؤدّى بشكل دقيق وحسّاس؛ بحيث كانت غاية في التأثير))[28].
ويكتب السائح کارري ـ المعاصر للعهد الصفوي ـ في رحلته:
((في يوم الإثنين المصادف الثالث والعشرين من شهر أغسطس وفي غرّة الشهر الجديد، بدأت مراسم حزينة جداً، وإنّ الإيرانيين يقيمون هذه المراسم في کلّ عامّ بمناسبة وفاة اثنين من أئمتهم، وهما الحسن والحسين أبناء علي، وإنّ هذين الإمامين قد قُتلا قرب بغداد على يد عمر بن سعد، وتستمرّ هذه المراسم لمدّة عشرة أيام، وطوال هذه الفترة ـ وفي جميع الساحات والطرق العامّة والأزقّة ـ توضع المصابيح، وتُنشر الأعلام السوداء، وتُنصب المقاعد عند مداخل الأزقّة، يجلس عليها الخطباء، وفي فترات متفرِّقة يذكرون مناقب القتلى ومصائبهم، ويحضر سکّان الأحياء جميعهم تلك المراسم، وهم بين مَن يرتدي الثياب الغامقة والحمراء بعنوان أنّها لباس للعزاء))[29].
وتكتب أيضاً السائحة مادام کار لاسرنا في مذکراتها التي طبعت تحت عنوان الناس والطقوس في إيران:
((تقام المراسم الدينيّة الخاصّة في الذکرى السنوية لوفاة أهل بيت علي، وإنّ شهر محرَّم عند الشيعة يُشبه الأسبوع المقدّس عند المسيحيين، وتقام مراسم التمثيل الشبيه في هذا الشهر، وتُعرض فيها مصائب أولاد الإمام وأصحابه)).
التكية واقامة مراسم العزاء[30]
ثمّ تتابع مادام کار لاسرنا، فتقول: ((إنّ ما يُستعمل في تزيين وتجميل التکية ـ الديکورـ في مراسم التمثيل يبعث على الدهشة في حدّ ذاته؛ لما فيه من السجّاد والأقمشة الملوّنة المعلّقة على الجدران، وأنواع الحرير والورود الاصطناعية والمرايا، وأماكن الشموع ذوات الفروع المتعددة، وأنواع الثريّات التي تزيد المكان بهجةً وجمالاً، وقد رُسمت على الجدران رسومٌ عجيبة غريبة ملوّنة بألوان مختلفة، وتُحاط المنصّات الخاصّة بالأقمشة المطرَّزة الجميلة، ويُحيط بها سور لطيف من القماش في وسط باحة التکية لائق بها، وهذا السور المُشبَّك هو ستارة توضع لکي لا يُرى ما خلفه ممَّن حضر في تلك المنصّة الخاصّة…
إنّ الوضع داخل التکية فريد من نوعه، ولا يُشبه ما هو موجود في داخل المسرح الأوربي، وفي وسط جموع الناس سُقاة يحملون على أکتافهم جراراً مملوءةً بالماء وبأيديهم الأقداح يسقون الحضور؛ تخليداً لذكر عطاشى أهل بيت علي، ويرى بينهم في بعض الأحيان فتيان من الأُسر المعروفة والکبيرة وقد ارتدوا الملابس الجميلة؛ لأنّ القيام بأيّ عمل في التکية يُعدّ نوعاً من الفرائض والواجبات الدينيّة.
تبدأ مراسم التمثيل الشبيه في وقت قريب من الظهر، وتنتهي عند الغروب، ولا يترك الملكُ وزوجاته والمحيطون به التکيةَ إلى أن تنتهي المراسم…
وبعض من قُرّاء المصائب يضربون صدورهم ويرتفع صوت عالٍ من ضرباتهم المتناسقة على صدورهم العارية، وفي نهاية کلّ فقرة من المصيبة يعلو صوت حسين، حسن، وعند سماع هذه الأسماء يشتدّ الضرب على الصدر والرأس، وترافق صوت قارئ المراثي أصوات الطبول والآلات.
وعند كلّ فقرة من فقرات الرثاء يضربون جميعاً على صدورهم، ثمّ بعد ذلك تصدر من بعضهم حركات بشكل جماعي، تارة من الرِّجْل اليمنى وأُخرى من اليسرى تماثل حرکات الرقص، وفي الوقت نفسه يلطمون بيدٍ ويضربون الطبول أو الآلات باليد الأُخرى، ثمّ يهمهمون همهمة حزينة مؤلمة، ويرددون في ختامها کلمة إمام، ومع تکرار هذه الکلمة، ومع تذکر الآلام والمصائب التي قد تحمَّلها الإمام، ترتفع أصوات آلاف الحاضرين بالبکاء والنحيب، وتلتقي مع أصوات بکاء المؤدّين للأدوار ونحيبهم، ومع توحيد صوت النياحة واللطم وضرب الأقدام على الأرض ـ شيئاً فشيئاً ـ يشتدّ تأثّر المشاهدين وتجيش عواطفهم.
إنّ الأشخاص الذين لا يستطيعون أن يتحمّلوا تكاليف تلك المراسم تکية كاملة بمفردهم، يقبلون من غيرهم جانباً من تلك التكاليف، وفي بعض الأحيان تشترك جماعة في شراء الأرض أو استئجارها لمدّة شهر محرّم، ويُعدّ وقف الأموال أو إهداء الهدايا ـ كالأقمشة أو السجّاد أو غير ذلك ـ إلى التکية عملاً حسناً يُحمد عليه، وإنّ الأشياء الموقوفة أو المُهداة تُعدّ وديعة مقدّسة، وعادةً ما تودع عند أحد العلماء،
وعند حلول شهر العزاء يطلب صاحب محل إقامة العزاء التکية من أهالي الحي أن يجعلوا ما عندهم من وسائل الزينة تحت تصرُّفه لتجهيز ذلك المحل، وهو طلب لا يُردّ أبداً، كما أنّ أصحاب المحال التجارية يساهم كلّ منهم في تهيئة بعض المستلزمات، ويزيّنون ساحة العرض بأنواع وسائل الزينة؛ وذلك لأجل التعصُّب الديني، ولأجل لفت انتباه الزبائن، كما أنّهم يتکفّلون أيضاً بکل نفقات تزيين ساحة العرض المسرح التابعة لشخصيات معروفة.
إنّ تأثّر الشيعة وحزنهم في اليوم العاشر ـ وهو ذکرى استشهاد الإمام الحسين ـ أكثر من بقية الأيام؛ فإنّه في هذا اليوم تخرج مجموعات من الناس وهي تنادي: واحسيناه واحسيناه، ويشجّون رؤوسهم بالسيوف، ويهرولون حول المدينة بعويلهم ودمائهم، ويهرول هؤلاء المتشدّدون في الشوارع، برؤوس مكشوفة وثياب بيضاء طويلة من الرأس إلى القدم ملطخة بالدم، إلى أن يُغمى عليهم من شدّة التعب، وعند غروب الشمس يوزّع عليهم طعام العشاء من قِبَل أعضاء مجموعتهم، أو من قِبَل المؤمنين الذين أعدّوا طعاماً وفاءً لنذرهم.
إنّ التاريخ والسيرة المؤلمة لآل علي، والمصائب والمحن التي جرت عليهم هي الموضوع الرئيس لهذه المراسم الدينية الشبيه، وأحياناً قبل عرض هذه المراسم تُعرض مراسم ترتبط بقصص وأساطير دينية أُخرى)).
دخول السبايا إلى الشام
وهنا ننقل مشهداً من مشاهد مراسم الشبيه التي وصفته السائحة کارلاسرنا:
((إنّ الخليفة عند سماعه خبر دخول السبايا إلى الشام قد استرّ کثيراً، وفي اللحظة نفسها أهدى لقائده حُلّة ثمينة، إلاّ أنّ هذا الخبر ـ وهو وصول السبايا إلى بوابة الشام ـ قد أغضب الحاضرين بشدّة، وفي هذا الوقت علت أصوات النساء بالبکاء والعويل من كلّ جانب، والرجال يضربون على رؤوسهم وصدورهم، وحتى الممثِّل باعتباره مسلماً مؤمناً يبكي مع الحاضرين ويذرف الدمع باستمرار، ما يمنعه من أداء دوره بشكل جيد.
ثمّ بعد ذلك يُعرض مشهد جديد على المسرح، يؤدّي فيه أحدهم دور قائد شامي مع علمه وعلم الجماهير المشاهِدة ببشاعة هذا الدور والتنفُّر منه، ثمّ تدخل قافلة الأسرى والسبايا ـ المتكوّنة من نساء وأطفال عائلة الإمام الحسين ـ الساحةَ، ويُدار بهم في شوارع وأزقّة الشام لفترة من الزمن، وبعض الناس الوضيعين ترميهم بالحجارة، ثمّ ينزل الأسرى من المحامل ويُظهرون على منصّة العرض، وهم مقيّدون بالسلاسل والأغلال، فيشتدّ غضب المشاهِدين في هذا الوقت مرّة أُخرى، ثمّ يضعون على رؤوس الشهداء الرمل والتبن،
ثمّ يقذفهم قائد جيش يزيد بأنواع الشتائم والسباب، ويحمل جنوده رأس الإمام ورؤوس أصحابه، وقد وضعوها في أوعية من الفضة وهي مُغطَّاة بقماش أحمر رقيق.
وإنّ الخليفة وقائد جيشه سُكارى فرحين بهذا النصر، لکنّ المشاهِدين لتأثّرهم وحزنهم تسيل دموعهم بشدّة ويصرخون حسين حسن ! حسين حسن، كما أنّ بقية الممثّلين قد نسوا أدوارهم وراحوا فقط يبكون مع بقية المشاهدين، وفي الأثناء يقع حادث جديد يغيِّر هذا الوضع، وهو دخول السفير الفرنسي وهو يرتدي الملابس الرسمية الموحدّة في اللون، وهو جالس في العربة وأمامه وخلفه حشد من الخدم والحشم، ثمّ مجموعة من الفرسان الذين يرتدون الثياب الفاخرة مع مجموعة من الغلمان والسُّعاة يحملون معهم أواني مملوءة بالفواكه والحلويات وأنواع الهدايا، ويتقدَّم الجميع لاستقبال السفير))[31].
ويكتب أورسل عن مراسم التمثيل الشبيه في شهر محرَّم أيضاً:
((يدخل الممثّلون ـ الذين لهم مهارة کبيرة في أداء أدوارهم ـ المسرحَ، والکلّ يحمل معه الأوراق التي کُتبت فيها نصوص الأدوار، وقد ارتدوا الملابس العربية، ولا يوجد أيّ ديكور أو منظر مفتعل.
وعند البدء بالتمثيل ترتفع الأصوات من جميع أنحاء ساحة العرض التکية بلعن معاوية وأصحابه، مصحوباً بالبکاء والنحيب المؤلم مع الصراخ حسين، حسين، ويتبعه العويل من کلّ جانب ومکان، وحتى الممثِّلين أنفسهم تسيل مدامعهم.
وکان يجلس إلى جانبي أُستاذ مع كونه من المشككين، إلاّ أنّه كان يبکي بکلّ صدق وحُرقة.
وقد وصل الحزن والأسى ـ الذي خيَّم على جميع الحاضرين ـ إلى أوجه عند إجراء بقية المشاهد… وباعتقادي أنّه لا يستطيع أحد في هذا العالم أن يصفَ حالة الغضب والبؤس والشفقة في قلوب أولئك الناس، وقد امتلأ فضاء العرض التکية بلعن يزيد والشمر بغضب شديد، مع الاستغاثة بالأئمة. وقد تدفَّقت أصوات البكاء الغاضبة من الصدور الملتهبة بکلّ صدق واعتزاز: حسن حسين.
ولا شك أنّ مثل هذا الحزن والألم لم يکن فيه تصنُّع، بل هو ألم يجيش في الصدور، وتأثّر صادق لأُمّة تذرف الدموع إيماناً منها بشهادة أئمتها، وإبداءً لغضبها واشمئزازها ممَّن ارتكب هذه الجريمة. وإنّي لم ارَ في أيّ مکان مثل هذا العرض العجيب؛ بحيث أرى جمعاً غفيراً من الناس وهم في حالة من الغشيان والإغماء، ووضعهم النفسي يتغيّر شيئا ًفشيئاً من غضب وحشي إلى يأس شديد، ومن حزن بلا نهاية إلى غضب عارم))[32].
وكتب کنت دوغوبينو الفرنسي حول مراسم العزاء في محرَّم في مذکّراته التي عنونها باسم ثلاث سنوات في آسيا:
((إنّ أشهر هذه العروض التمثيلية هي ما يُعرض في شهر محرّم، وموضوعها هو قتل ابن عليّ وأهل بيته في صحراء كربلاء، وإنّ هذا العرض والذي يُسمى بالعزاء يستمرّ عشرة أيام، وفي كلّ يوم يستغرق العرض ثلاث ساعات إلى أربع…
إنّ الأشعار التي تُلقى عند العرض غالباً ما تكون جميلة جداً وحزينة، وتُقرأ بشكل متتابع وبحماس ونشاط، ولا يوجد أيّ إشكال من إطالة هذه المراسم؛ لأنّ الإيرانيين لا يسأمون ولا يتعبون من الاستماع إلى ذکر المصائب والمتاعب، والقلق والخوف والغربة التي جرت على مقدَّسيهم ومحبوبيهم، ويبكي الحضور من صميم قلوبهم وترتفع أصواتهم بالنحيب.
إنّ هذا التفاعل والتأثُّر حقيقي وواقعي لكثير من الناس؛ لأنّه لا يمكن أن لا يتأثَّر الشخص عند مشاهدة هذا العرض، وإنّي قد رأيت بعض الأوربيين قد اعتراهم الحزن والألم، وهناك قليل من الناس كان تأثُّرهم ظاهرياً، وهم أولئك الذين طغت أصوات بکائهم وعويلهم على الآخرين.
وفي بعض الأحيان يرتقي المنبر عالم ديني ويُمسك بسياق الحديث بانسيابية تامّة، حتى يبيّن للمجتمعين كثرة المصائب التي مرت على الأئمة، ثمّ يدخل في ذکر تفاصيل وجزئيات مصائبهم وأحزانهم، فيشرح الوقائع ويلعن الخلفاء الظلمة، ثمّ يقرأ الأشعار، وفي هذه اللحظات يبدأ الجمهور ـ وبالأخصّ النساء ـ بضرب صدورهم بشدّة وبانسجام تامّ وبصوت واحد، وبكل حماس يرددون: حسين، حسين، ثمّ بعد ذلك يُعطى وقت للاستراحة))[33].
وكتب ريتشاردز ـ الذي خصص فصلاً کاملاً من مذكراته لشهر محرَّم ـ: ((أنّ مراسم شهر محرّم تُقام في مدينة يزد بشکل حماسي ومفجع، حتى أنّها تتحوّل في بعض الأحيان إلى نوع من الجنون الديني، وفي الساحة التي تقع في مقابل المدخل الرئيس للسوق أُعدّت سقالة کبيرة ـ وهي عبارة عن نوع من التابوت الضخم ـ وتُسمى نخل، وفي کلّ عام تُغطّى بالأقمشة والأحزمة وتُوضع عليها أنواع المرايا، ثمّ يُحمل هذا الشيء الضخم والعجيب على أکتاف المئات من الرجال ويُدار به في الساحة المرکزية أمام السوق…
وقبل أن تبدأ هذه المراسم، يقرأ رجال الدين نوعاً خاصاً من الأناشيد، ومجاميع من الناس تضرب على صدورها، وأُخرى تضرب على متونها بالسلاسل، وهؤلاء الذين يضربون على متونهم بالسلاسل قد لبسوا سراويل سوداء عريضة وقمصاناً روسية عريضة مکشوفة الکتفين، ويوثقونها بأحزمة من الجلد…
إنّ هؤلاء الرجال والصِّبْية يضربون ظهورهم المكشوفة بالسلاسل حتى تسودّ وتُجرح، ومجموعة أُخرى مع أنغام خاصّة يضربون بالأيدي على صدورهم المکشوفة حتى تحمرّ، فيرتفع في الأثناء صوت عجيب وغريب متكوّن من ضرب الأيدي على تلك الصدور الجوفاء…
وفي تمام الوقت الذي تُعرض فيه هذه المراسم المؤلمة والمفجعة، تجلس النساء والأطفال على قارعة الطرق ـ مندهشة ممّا ترى ـ مع البكاء والعويل، مُعَبِّرةً عن حزنها وتعاطفها مع شهداء هذه الواقعة.
إنّ التعاطف والشعور الديني في مدينة يزد أشدّ ممّا هو عليه في بقية مدن إيران، وقبل شهر محرّم تنعقد في الأسواق مجالس الوعظ وقراءة المصائب، وفي مدّة إجراء هذه المراسم يُمنع دخول الأجانب الغربيين لبعض الأماكن الخاصّة.
إنّ مجالس الوعظ والعزاء تحرِّك مشاعر الناس الدينيّة، وتوجب التفاعل معها بشدّة؛ بحيث يتوجّب ذلك أن يضربوا أنفسهم بالسلاسل))[34].
ويكتب دروويل في مذکّراته: ((في ذکرى ألم وموت تلك الجماعة الفريدة وإمامها المقدَّس، تحزن أيران بأسرها، وذلك الرجل القدِّيس الذي تحمّل الجوع والعطش، وهو الواسطة بين الخلق والخالق، لم يَرَ أيَّ رحمة من الناس، وهو الذي رأى وقوع أبنائه تحت رماح الأعداء. وعندما سقط على التراب صار جسمه ميداناً للأعداء، وأخذوا رأسه إلى الخليفة دلالة على النصر.
وقد شغلت هذه القصّة الحزينة أذهان نصف العالم الإسلامي، ولم يمحِ أثرَ هذه الواقعة الأليمة تمادي القرون الكثيرة التي مُلئت بالفجائع والمصائب، بل ولم تخفف تلك القرون ذلك الإحساس والتأثّر الذي تثيره تلك الواقعة؛ والسبب في ذلك أنّ الأبحاث الدينية تزيل غبار الأزمنة عن وجه تلك الواقعة من جهة، ومن جهة أُخرى الأحداث المُرّة لتلك الواقعة، والشجاعة المتجلّية فيها، كل ذلك يبيّن سبب خلودها. بل حتى أعداء الحسين تأثَّروا وتألّموا لما شاهدوه من مقاومته وصبره، وتفاني أصحابه وتضحيتهم، وشدّة عواطف نسائه.
إنّ ما سجَّله التاريخ في ذلك اليوم الفظيع، يوم العاشر من المحرّم مليء بالمشاعر والعواطف الإنسانية التي تهزّ الناس، وتنقل تأثُّرَهم من جيل إلى جيل.
وليس من الضروري أن يکون الإنسان معتقداً بما تعتقده الشيعة حتى يتّخذ موقفاً من تلك الحرب التي لا أمل فيها، وتحت تلك الشمس الحارقة، أو يتصوّر ذلك الموقف الفظيع، وهو جلوس الإمام أمام الخيمة محتضناً طفله المذبوح، أو يتصوّر رفع إناء صغير من الماء لتلك الشفاه التي أصابها النَّبل…
في واحدة من نصوص مراسم العزاء يقول الحسين: القوم يسيرون والمنايا تسير معهم، في ذلك المسير الليلي وفي تلك الصحراء، وجنباً إلى جنب جيش الحرّ، والخليفة ذهب لاستقبال قدره الذي خلَّف وراءه ذكرى أبدية))[35].
الهوامش
[1] قامت هيئة التحرير في مجلّة الإصلاح الحسيني بإجراء بعض التغييرات على الترجمة بما يناسب طريقة وأُسلوب المقال باللغة العربية.
[2] السير أرثر هاردينغ، خاطرات سياسي (فارسي): ص80.
[3] رحلة دروويل (فارسي)، ترجمة جواد محبی، طهران، گوتنبرگ،1337: ص74.
[4] المصدر السابق: ص116.
[5] المصدر السابق: ص126.
[6] المصدر السابق: ص127.
[7] المصدر السابق: ص5.
[8] رحلة ( دلاواله): ج5، ص224.
[9] المصدر السابق: ج3، ص42.
[10] (الخشبة والعصا) کناية عن حبّه المفرط فی ضرب الناس ومن دون أي سبب.
[11] المصدر السابق: ص130ـ 136، نقلاً عن نصر الله فلسفي (زندگانی شاه عباس أول): ج3، ص7ـ 8.
[12] رحلة (آنتونيو دوغوهآ): ص75 ـ 76، نقلاً عن (زنذگاني شاه عباس أول): ج3، ص9ـ10.
[13] (دينغار سيا دسيلوا فيغوئروا) سفير فرنسا في إيران في عهد الملک شاه عباس الأول، ترجمة غلام رضا سهيلي (إلى الفارسية)، طهران نشر نور، 1363: ص311.
[14] رحلة (فيغوئرا): ص311.
[15] رحلة (فريزر)، ترجمة منوشهر أميری(إلی الفارسية) طهران، طوس: ص241.
[16] القساوسة الإنجليز فی عهد الثورة الإسلامية (فارسي) بال هنت: ص78.
[17] مشاهدات من إيران، (غرترودبل)، ترجمة بزرگ مهر رياحي (إلى الفارسية): ص46.
[18] المنازل، الناس والمناظر في إيران: ص193.
[19] المصدر السابق: ص194.
[20] رحلة (دروويل): ص141.
[21] مشاهدات من إيران، (غرترودبل)، ترجمة بزرغ مهر رياحي (إلى الفارسية): ص43.
[22] القساوسة الإنجليز فی عهد الثورة الإسلامية: ص107.
[23] رحلة (بيتر دلاواله) ترجمة شجاع الدين شفا (إلى الفارسية) مؤسسة الترجمة والنشر، 1348: ص123ـ 126.
[24] يطلق على قائد القوات المسلحة أو أمير الأُمراء.
[25] يقصد طفلَي مسلم بن عقيل عليه السلام .
[26] رحلة (فيغوئرا): ص207 ـ210.
[27] إيران اليوم، يوجين أوبن: ص181 ـ 193.
[28] مذکرات (ليدی شيل): ص66 ـ 71.
[29] رحلة (کارري): ص125.
[30] المراد من ال (تکية) ـ کما مرّ سابقاً ـ هو مکان خاص يُقام فيه العزاء، کالحسينية.
[31] الناس والطقوس في إيران (رحلة مادام کارلاسرنا): ص161 ـ 179.
[32] رحلة (أرنست أورسل) ترجمة علي أصغر سعيدي (إلى الفارسية) انتشارات زوار، طهران، 1353: ص302 ـ 304.
[33] ثلاث سنوات في آسيا، رحلة (کنت دوغوبينو)، ترجمة عبد الرضا هوشنگ مهدوي (إلى الفارسية) کتاب سرا، 1364: ص431.
[34] رحلة (ريشاردز) ترجمة مهين دخت صبا (إلى الفارسية)، بنگاه ترجمه ونشر کتاب، طهران، 1343: ص171 ـ 177.
[35] رحلة (دروويل): ص41 ـ 42.
المصدر: مؤسسة وارث الأنبياء