أتباع أهل البيت

المنهج السائد لأتباع أهل البيت”عليهم السلام” في تلقي التعاليم الشرعية

الاجتهاد: قد استقر المنهج العام لأتباع أهل البيت”عليهم السلام” – كغيرهم من المسلمين – على الركون إلى الفقهاء العدول؛ جرياً على مقتضيات ارتکازاتهم وفطرتهم من رجوع غير المتخصص في المواضيع التخصصية إلى أهل التخصص الموثوق بهم، كما يفعلون ذلك في سائر شؤون حياتهم.

وقد أدى هذا المنهج إلى تولد المراكز العلمية، وهي جامعات علمية يتدرج فيها الطلاب في المستوى العلمي من المبادئ التمهيدية للعلم بالشريعة ثم الارتقاء مرحلة فمرحلة حتى بلوغ مرتبة الفضل والاجتهاد، ثم ممارسة الاجتهاد الفعلي في مختلف الأبواب لبلوغ درجة وافية من الإحاطة والاستيعاب.

كما يتدرّج الطلاب في المستوى الأخلاقي من السلامة الأوّليّة إلى مستويات عالية من العدالة بالثبات على الموازين الشرعية في خضم الأمور والأحداث والوقائع.

فكان هذا النظام – وفق المنهج الذي استقر عليه الأمر في العصور الأخيرة في المجتمع الإمامي – نظاماً واقياً من ترؤس الفاقدين للأهلية في العلم و العدالة إلى حد كبير، إذ كان تعويل الناس في التعاليم الشرعية على الأماثل ممّن يتخرّج من هذه المعاهد، ممّن تدرّج في مراتب العلم والعدالة والتقوى طوال عشرات السنين مراهقاً وشاباً وكهلًا، وشهد المجتمع الحوزوي من أهل الفضل والورع مستواه وورعه خلالها، فكان ذلك خير اختبار في تمييز المتثبّت عن المتسرّع، والمتورّع عن المقتحم قبل أن يرجع إليه الناس في أمور دينهم.

فعلى هذا المنوال تصدي العلماء العدول البارزون في طيّ القرون السابقة( كالشيخ الأنصاري، والسيد أبو الحسن الأصفهاني، والسيد محسن الحكيم، والسيد الخوئي، وغيرهم من الأعلام الماضين (رحمهم الله جميعا برحمته)، فهؤلاء هم قوم ثبتوا على الجهد الجهيد في العلم، وعلى الاستقامة في الأخلاق والسلوك، لعقود من الزمن بين ظهراني أهل العلم، حتى كانوا محل إذعان في الحوزة، ورجع إليهم الناس في أمر دينهم “

ظاهرة الإخلال بالمنهج السائد وأدواتها

ولكن مع ذلك لم يخل الحال من أناس يدّعون العلم والالتزام والمعرفة، من غير أن يتدرّجوا في مراحلها، ويُختبروا في مزالقها فيكونوا موضع ثقة من خلال ما تشهد لهم به سيرتهم من الصبر والثبات والأناة في تحصيل العلم، والاستقامة في السلوك، والإعراض عن كسب الجاه والمكانة بين العامّة.

وقد سلك بعضهم سبلًا غير موضوعيّة متعسّفة في إقناع الناس.

ومنها سبيلان ..

١- تشكيك الناس في المسائل الحساسة حتى وإن كانت بديهية وواضحة في التلقي العام والخاص، بإلقاء الشك فيها، وإيقاع التصادم بينها وبين الأمور الاعتقادية؛ لأجل زعزعة القناعة العامة.

۲- مخاطبة عامة الناس في المسائل النظرية والتخصصية، وإبداء المخالفة فيها للموقف المشهور أو المتبنّى من قبل بعض مشاهير العلماء، وتحدي كبار العلماء بطلب المناظرة والمناقشة العلنية أمام الجمهور؛ وذلك من أجل كسب ثقة الناس بعلمهم بدلا عن الآلية المعتمدة في الحوزات من التدرج في مراتب العلم والفضيلة ومخاطبة أهل العلم والفضل.

ولعل من الغريب أن يتفق مثل ذلك في عصر أصبح من البديهيات الواضحة أن لكل تخصص أهله، ولكسب كلّ تخصّص طرقه، وأن إثبات التخصص لا يكون بالوسائل الإعلامية والإثارات الاجتماعية ومخاطبة غير المتخصّصين.

كما أن تحصيل التخصّص لن يكون بمحض اطلاع الهواة وإثارة الجدل في الوسط العامّ، وإنما يكون بالتدرج في مراتب الفضيلة، كما تجري على ذلك سيرة العقلاء كافة في العلوم الأخرى في الجامعات والمعاهد العلمية.

هذا، وقد كان في نظام الحوزات العلمية صيانة عن مثل هذه المحاذير؛ لما تجري عليه من التثبّت عن علم الشخص في داخل الأروقة العلمية، وبين ظهراني العلماء والفضلاء والنابهين، ثم الموازنة الدقيقة بين مراتب أهل الفضل ودرجاتهم وتشخيص المتميزين من بينهم، إلا أنّ توفّر الأموال والأدوات الإعلامية أدّى إلى بروز بعض الثغرات في هذا النظام.

إن تهوین تحصيل الفقاهة – فضلاً عن الخطأ الواضح فيه من المنظور العلميّ – يؤدي إلى تيسر ادعاء الفقه والعلم لكل من راجع النصوص وأنس بها بعض الشيء، كما تعارف ذلك في المذهب السلفي، حيث أصبح كل داعية يحفظ القرآن الكريم وبعض كتب الحديث – كصحيح البخاري – يتصدى للإفتاء في شأن أمور المسلمين الاجتماعية والسياسية وغيرها، فيكفر من يشاء، ويوجب الجهاد حيث يشاء

ولو تیسر تغيير نظام الترقي في الحوزات العلمية إلى هذا الأسلوب لابتُلي المجتمع الإمامي بعد حين بكثرة الرؤوس والفتن على مثال الآخرين، فيؤدي ذلك إلى انتشار أدعياء للعلم في كل جهة، وكان جُلّ التعويل في أمر علوم الدين على الأعمال الإعلامية والمثيرة، فيُهجر بذلك أهل العلم المثابرون عليه ممّن يتّسمون بالوقار والسكينة ويتجنبون استعمال مثل هذه الأساليب.

وإنما الواقي عن الوقوع في هذه المحاذير هو نظام الحوزة؛ لما يجري فيه من الاختبارات الشديدة والطويلة، والمقارنة بين المراتب العالية، حتى يكون المعتمد للفتيا والرجوع هو الأمثل فالأمثل في مراتب التخصص والاستقامة.

التشكيك في شرعية التقليد

وأيّاً كان فإن من جملة المسائل التي وقع التشكيك فيها بغير إنصاف هو رجوع غير المتخصص في الفقه الإسلامي إلى المتخصصين من الفقهاء، رغم أن هذا المبدأ – بجنب ما هو عليه من الموافقة لسيرة سائر العقلاء من علماء ومتعلمين – يمثّل بديهة كبرى في داخل الأديان، جرت عليها سيرة المتدينين منذ العصر الأول، حتى لو أن مؤرّخاً – ولو لم يكن مسلما ولا إمامية – أراد أن يصف سيرة أهل الأديان عامّةً، و المسلمين والإمامية خاصة في التعلم والتعليم الديني منطلقا في ذلك من المؤشرات التاريخية العامة – بعيدا عن أدوات الإثبات الخاصة بعلم الرجال – لاستوضح الجري على هذا المبدأ في أوساطهم جميعاً.

وماذا عسى أن يكون البديل من الرجوع لأماثل العلماء الذين بذلوا أعمارهم لعقود من الزمن على العلم والعمل، واختبروا وفق المقاييس الحوزوية الدقيقة؟!

فالواقع: أن رجوع غير المتخصص إلى المتخصص من جملة المسائل البديهية التي يبني عليها الناس بارتكازهم، كما يجرون عليها في سائر أمور حياتهم ومعاشهم، ولم يغيّر الشارع طريقة التوصل إلى الأحكام الشرعية، فكانت طريقة الوقوف عليها شرعا هي نفس الطريقة المعوَّل عليها في شأن سائر المعلومات المتوقفة على الخبرة التخصّصيّة.

وإن من الواجب على جميع أهل الدين الرجوع إلى المراكز العلمية الموثوقة في تلقي معالم الدين والشريعة، وتحري الأمثل فالأمثل في العلم والعدالة والورع من رجالاتها، فإن ذلك أقرب إلى إصابة الحق، وأبعد من الوقوع في الشبهة، وإن فيها رجالاً يتّصفون بالعلم والاستقامة، لن تؤدي بهم الأهواء إلى تحريف تعاليم الدين وتغيير الشرع المبين، نسأل الله سبحانه دوام ذلك واستمراره حتى ظهور الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف).

 

المصدر: كتاب بحث حول التقليد دراسة ميسرة في بيان مشروعية التقليد ونقد الشبهات حولها

تحميل الكتاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky