عصر الغيبة

القول بتعطيل الأحكام في عصر الغيبة وفساده / آية الله جوادي الآملي

الاجتهاد: حاول بعض الباحثين ردّ الدليل الدال على ولاية الفقهاء والنواب المنصوبين بالنصب العامّ من قبل إمام العصر“عليه السلام” في عصر الغيبة؛ متوهّماً أن الحكومة لا تكون إلا بيد المعصوم “عليه السلام”، فلا يليق بغيره وإن كان فقيهاً عادلاً صادقاً أن يكون واجداً لشروط الولاية والحكومة.

ولا يخفى أن مثله يعتبر أن هدف الأئمة المعصومين “عليه السلام” من الحكومة ليس إدارة البلاد أو استلام السلطة بنحو غير مشروع، بل يرى أن الغرض من حاكميّة العترة الطيّبة “عليهم السلام” ليس إلاّ تنفيذ الأحكام الإلهية وتبليغ التعاليم السماوية.

ومن الواضح أن عدم استمرار هذه الحاكميّة في عصر غيبة إمام العصر “عليه السلام” يلزم منه توقّف وتعطيل تنفيذ الأحكام والتعاليم في غير واحدٍ من الموارد والظروف التاريخية (وهو ما حدث فعلاً)؛ لوضوح أنّ العديد من أحكام الحدود والديات والمباني الحقوقيّة ونحوها لا يمكن إجراؤها في غياب الحكومة الإسلامية التي لا ترى النور إلا في ظل الإمام المعصوم أو نوّابه الخاصين أو العامّين.

هذا مع أنه لايمكن لنا أن نترقّب من الحكومة غير الدينيّة أن تطبّق الأحكام والقوانين من قبيل القصاص والحدود و أمثالها.

وفي ضوء ما ذكر آنفاً إمّا أن نقول بتعطيل عدد غير قليل من الأحكام الإلهية، وإمّا أن نلتزم في عصر الغيبة بتسليم زمام ولاية الأمور إلى النواب العامين لصاحب العصر “عليه السلام” والفقهاء العدول الورعين لتدبير أمور المسلمين على أساس الأحكام الإلهية.

إن صلاحية دين الإسلام للبقاء والدوام إلى يوم القيامة أمر مفروغ عنه، فلا مجال لإبطاله أو ادعاء الضعف والنقص فيه: « لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ.) (1) كما أن تعطيل الأحكام الباعثة على الحياة في عصر الغيبة وعدم تنفيذ الحدود الإلهية لايعني إلّا سدّ طريق الله، مع أنه يلزم منه القول بعدم خلود الإسلام في سائر شؤونه، لاسيما في العقائد والأخلاق والأعمال. ومنه ظهر: آنه لايُعقل نفي الزعامة الدينية وتعطيل الحدود الإلهية في زمن الغيبة.

ثم إنه لا شك أن تنفيذ الأحكام والحدود الإلهية والدفاع عن كيان الدين وحمايته من حملات المهاجمين أمر مطلوب، بل هو من ضروريات تأسيس النظام الإسلامي.

والمجتمع الإسلامي في زماننا الحاضر وإن كان محروما من إدراك حضور و شهود صاحب العصر “عليه السلام” إلا أن هتك النواميس الإلهية والبشرية وإضلال الناس وتعطيل أحكام الإسلام مما لايقع مورد رضا الحق تعالى شأنه.

وعلى هذا الأساس فمن وظائف النواب الخاصين والعامين في عصر غيبة إمام الزمان “عليه السلام” القيام بجملة من الوظائف المختلفة التي تؤمّن الأهداف المذكورة وتحقق دوام إجراء الأحكام والتعاليم الإسلامية الباعثة على الحياة.

أضف إلى ذلك أنه لا يمكن دراسة أحكام الإسلام السياسيّة – الاجتماعية من دون زعامة الفقيه الجامع للشرائط، كما أن العقل يحكم بأن الله تعالى لا يترك الإسلام والمجتمع الإسلامي في زمن غيبة الإمام المعصوم من دون والٍ وقائدٍ، وعليه تكون ولاية الفقهاء العدول النائبين عن المعصوم ممضاةً من قبله.

و قد أدرك الفقهاء والأعلام الذين أحاطوا بحكمة الفقه ضرورة وجود حاكم عادلٍ عالمٍ بالدين. ويمكن الإشارة على سبيل المثال لا الحصر إلى الفقيه الكبير الشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهر “رحمه الله” الذي كان مثال الفقيه الحاذق الماهر.

لقد أفاد الشيخ محمد حسن في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من كتابه الشريف الجواهر – بعد أن تعرض إلى مسألة الحرب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – قائلاً:
بأن الضرورة قاضية بذلك… ممّا يظهر بأدنى تأمّل في النصوص وملاحظتهم حال الشيعة، وخصوصاً علمائهم في زمن الغيبة، وكفى بالتوقيع الذي جاء للمفيد من الناحية المقدسة(2) وما اشتمل عليه من التبجيل والتعظيم، بل لولا عموم الولاية لبقي كثير من الأمور المتعلقة بشيعتهم معطلة. فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك، بل كأنّه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً.(3)

ويُلاحظ تأكيد هذا الفقيه العظيم على مسألة عقلية أيضاً. فبعد تعمّقه في جملة من الأحكام الإسلامية في مختلف أوجه الحياة البشرية، وصل إلى نتيجة حاصلها أن هناك عددا من الأحكام الإسلامية التي تحتاج قطعا إلى من يتولّى الإشراف على تنفيذها، وإلّا اختلت حياة الشيعة في عصر غيبة صاحب العصر “عليه السلام” وأصابها الشلل، بل لولاها لانتهى بنا الأمر إلى التعطيل.

وفي السياق نفسه أفاد بأن وسوسة البعض في حدود ولاية الفقيه تكشف عن أنّ هؤلاء كأنهم لم يذوقوا طعم الفقه، ولم يدركوا السر الوجودي من الدين وأحكامه. وانتهى أخيراً إلى القول بأنه يبعد أن لا يكون للفقيه الجامع للشرائط حق الجهاد الابتدائي.(4)

تنبيه
إن لم تكن الحدود الإلهية في عصر الغيبة قابلة للإجراء والتنفيذ، لزم منه تعطیل جملة من المعاني القرآنية والروائية أيضاً، وبالتالي تعطيل الأحكام الفقهية والحقوقية في الإسلام.

والوجه فيه:أنه قد وردت آيات وأخبار كثيرة في كيفية القضاء وطرق ثبوت الجريمة التي تستوجب حدوداً خاصة، كما حررها الفقهاء وصنفوا فيه آثارة قيّمة بعد جهود علمية كبيرة، فبتعطيل الحدود لن يبقى لهذه الآيات والأخبار قيمة ودور في حياة المسلمين، ولعله يضيع التدبر العميق فيها.

والسر فيه: أن الإحاطة بقضايا الجرائم التي تستتبع دراية في العقوبات المترتبة عليها ونحوها ممّا يمس حقوق الإنسان تتطلب ملاكات خاصة، ولا يمكن تطبيق المسائل الحقوقية والقضائية على العقوبات والتعزیرات وفق معيار محدد. (يرجى التأمل في هذه النقطة).

الهوامش

1- سورة فصّلت ، الآية: 42.

2- راجع الاحتجاج 2 : 596 – 600، ذكر طرف ممّا خرج أيضا عن صاحب الزمان “عليه السلام”. وبحار الأنوار 53 : 174 – 176، كتاب الغية، الباب ۳۱.

3. جواهر الكلام 21 : 397، کتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

4. جواهر الكلام 21 : 397، کتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

المصدر: الإمام المهدي الموجود الموعود ؛ لآية الله الشيخ عبد الله جوادي الآملي حفظه الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky