القواعد الفقهية.. النشأة والتطوّر والآفاق

القواعد الفقهية.. النشأة والتطوّر والآفاق / حوار مع سماحة السيد ياسر قطيش

الاجتهاد: القواعد الفقهية هي كمثيلتها القواعد الأصوليّة لها دورٌ واضحٌ في تقدّم مباحث الفقه وتذليل عمليّة الاستنباط وإن كانت أقلّ منها حضوراً في الأوساط العلميّة الحوزويّة من حيث الكمّ والتركيز؛ فبالرغم من قدم نشوئها ومرورها بمراحل من التطوّر إلا أنها لا زالت تذكر في الغالب في طيّات المباحث الفقهيّة ولم تحض بالاستقلال والعناية الخاصّة من حيث الدرس والتدريس والتأليف على غرار ما في الأصول الذي يعدّ علماً لوحده،

وهذا ما يحفّزنا لدراسة أبعاد هذه المسألة والوقوف على آخر المستجدّات التي وصل إليها واقع القواعد الفقهيّة اليوم وما هو المأمول أن تبلغه في المستقبل، وذلك ضمن حوارٍ علميّ نلتقي فيه مع سماحة السيد ياسر قطيش الذي أجاب الدعوة مشكوراً. 

في البداية يسرّنا أن نرحّب بكم سماحة السيد ويشرّفنا أن تتحفونا بإجاباتكم حول هذا الموضوع القيّم. ما المقصود من القواعد الفقهيّة؟ وهل لها استقلاليّة عن علم الفقه بحيث تدرج كعلم قائمٍ بذاته؟

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين. في البداية أتوجه بجزيل الشكر إلى مجلة رسالة القلم وجميع العاملين فيها على إتاحتهم هذه الفرصة للكلام حول موضوع ذي أهمية مجهولة أو متجاهلة، وهو علم القواعد الفقهية.

في الحقيقة هذا السؤال مركّب من شقين:

الأول: ما المقصود من القواعد الفقهية؟؛

الثاني: هل القواعد الفقهية علم مستقل بذاته؟

أما الجواب عن الأول فيكون من خلال تعريف القواعد الفقهية، وذلك من جهتين:

الجهة الأولى: التعريف الأفرادي للقواعد الفقهية

أولاً: القاعدة لغة واصطلاحاً

1- القاعدة لغة: بمعنى الأساس، وهي تجمع على قواعد، وهي: أسس الشيء وأصوله، سواء كان ذلك الشيء حسياً: كقواعد البيت، أم كان معنوياً: كقواعد الدين أي دعائمه. وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[1]، وكما في قوله تعالى: ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾[2]، فالقاعدة في هاتين الآيتين الكريمتين بمعنى الأساس وهو ما يرفع عليه البنيان.

2- القاعدة اصطلاحاً: وأما في الاصطلاح فعرفها المتأخرون بتعاريف مختلفة، بناء على اختلافهم في مفهومها هل هي قضية كلية أو قضية أغلبية؟ فمن نظر إلى القاعدة على أنها قضية كلية عرفها بما يدل على ذلك حيث قال في تعريفها: “قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها”، “قضية كلية يتعرف منها أحكام جزئياتها”، “حكم كلي ينطبق على جميع جزئياته ليتعرف أحكامها منه”.

ومن نظر إليها على أنها قضية أغلبية -وهم الفقهاء- فعرفها: “بأنها حكم أكثري ينطبق على أكثر جزئياته لتعرف أحكامها”. وتعريفهم هذا للقواعد ناجم عن وجود المستثنيات والتخصيصات في القواعد الفقهية أكثر مما توجد في القواعد بالعلوم الأخرى، وقد أشار إلى ذلك في تهذيب الفروق.

والتعريف الذي أخذ الكلية في مفهوم القاعدة أقرب؛ وذلك لأن الاستثناء لا يتنافى مع الكلية، سيما إذا نُظر إلى هذه الكلية على أنها نسبية لا شمولية. ومن هنا يمكن اعتماد تعريف القاعدة بأنها: “حكم كلي ينطبق على جميع جزئياته ليتعرف أحكامها منه”.

ثانياً: الفقه لغة واصطلاحاً

1- الفقه في اللغة: الفقه لغة: الفهم، وهو: العلم، أو جودة الذهن من حيث استعداده لاكتساب العلوم.

قال في النهاية: “… الفقه في الأصل: الفهم،…. يقال: فقِه الرجل ـ بالكسر- يفقِه فقهاً إذا فهم وعلم، وفقُه بالضم يفقُه: إذا صار فقيهاً عالماً”[3]. وفي لسان العرب: “الفقه العلم بالشيء والفهم له، وغلب على علم الدين لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العلم”[4]. فالفقه يعني الفهم والعلم.

2- الفقه في الاصطلاح: استعمل الفقه في اصطلاح الفقهاء تبعاً لما في روايات عن أهل البيت بمعنى: >العلم بالأحكام الشرعيّة العمليّة عن أدلّتها التفصيليّة لتحصيل السعادة الأخرويّة<؛ إذ استعمل الفقه في روايات أهل البيت بمعنى العلم بالأحكام الشرعيّة ومعرفتها،

جاء في الرواية عن مصادف قال: سألت أبا عبد الله: تحجّ المرأة عن الرجل؟ قال: >نعم إذا كانت فقيهةً مسلمةً وكانت قد حجّت، ربّ امرأةٍ خيرٌ من رجل<[5].

قال الشيخ الطوسي في ذيل هذه الرواية: “فشرط في جواز حجّتها مجموع الشرطين: الفقه بمناسك الحجّ [أي العلم بأحكام الحج]، وأن تكون قد حجّت، فيجب اعتبارهما معاً”[6].

الجهة الثانية: تعريف القواعد الفقهية بوصفها المركب:

أولاً: من حيث التركيب اللغوي: فالمقصود من القواعد الفقهية أسس وأصول العلم بالأحكام الشرعية.

ثانياً: من حيث الاصطلاح: بعد اتضاح معنى كل من القاعدة والفقه وبيان المقصود منهما يمكن تعريف القواعد الفقهية بوصفها المركب أو فقل باعتبارها لقباً على فن معين من الناحية الاصطلاحية -وإن تعددت المحاولات من لدن المتقدمين والمتأخرين لتعريف القاعدة الفقهية تعريفاً جامعاً مانعاً- بأنها: أحكام كلية شرعية تقع في طريق تشخيص وظيفة المكلف في مقام العمل بنحو التطبيق.

أو يمكننا القول بأنها: أصل فقهي كلي يتضمن أحكاماً تشريعية عامة من أبواب متعددة في القضايا التي تدخل تحت موضوعه.

أما الجواب عن الشق الثاني ففي الحقيقة حتى الآن في الوسط الشيعي لم تستقل القواعد الفقهية عن علم الفقه، ولم تندرج في علم مستقل قائم بذاته، مع أن أهمية هذه القواعد ودورها ومدخليتها في علم عملية الاجتهاد الفقهي لا تخفى على الدارسين للفقه فضلاً عن الممارس لعملية الاستنباط،

بل يمكن القول بأنها لا تقل أهمية عن كثير من المباحث الأصولية، فينبغي أن يؤسس ويؤصل لعلم مستقل تندرج فيه القواعد الفقهية وتدرس فيه المبادئ النظرية لهذه القواعد كعلم على غرار علم أصول الفقه الذي يمكن عده توأم القواعد الفقهية حيث نشآ معاً في أحضان علم الفقه الذي لا يشك أحد في أنه من أوسع العلوم الإسلامية وأعمقها وأشهرها، كما لا شك في أنه نشأ في أحضان الكتاب الكريم والسنة الشريفة وترعرع في ظلهما،

وقد تمخّض علم الفقه عن ولادة علوم أخرى كعلم أصول الفقه وعلم الرجال والقواعد الفقهية، فكما اقتضت الحاجة إلى تأسيس علم الرجال وعلم أصول الفقه؛ فإن الحاجة نفسها تقتضي تأسيس علم القواعد الفقهية. نعم، عند غيرنا تأسس علم القواعد الفقهية من القرن الرابع الهجري لأسباب خاصة عرضت على الفقه السني بمدارسه الأربع، ولذا نرى كثرة التأليف في القواعد الفقهية كما هو الحال في أصول الفقه وغيره مما نشأ وترعرع في أحضان الفقه.

* هل لكم أن تطلعونا على أبرز المراحل التي مرّت بها القواعد الفقهيّة منذ النشوء إلى حيث المستوى الذي وصلت إليه الآن؟

يمكن أن يقسم تاريخ تطوّر القواعد الفقهية عند مدرسة أهل البيت إلى دورين أساسين:

الدور الأول: دور التأسيس

إن البذور الأولى لهذه القواعد زرعت مبكراً، فنشاهد جذور هذه القواعد في القرآن الكريم ونصوص النبي’ والأئمة المعصومين. فالقرآن الكريم يشتمل على بعض القواعد الفقهية، كقاعدة (لا حرج) التي نص عليها في القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[7]، وقاعدة اللزوم التي نص عليها بقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[8]، بل إن رسول الله’ كان أول من بدأ بطرح قواعد كلية فقهية، وغير فقهية، كبيان قاعدة (لا ضرر ولا ضرار)، وقاعدة (على اليد)، وحديث (الرفع)، وقاعدة (الجب)… فإنه’ صاحب جوامع الكلم، فقال’: >أعطيت خمساً لم يعطها أحد قبلي… وأعطيت جوامع الكلم<[9].

كما إنه يُلاحظ بوضوح تخريج القواعد الفقهية وتعليمها في مدرسة أهل البيت بحيث صار تفريع الفروعُ على الأصول المسموعة عنهم والقواعد، روي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله، قال: >إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرعوا<[10]، وعن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا، قال: >علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع<[11].

ويمكن القول بأنهم كانوا أول من بدأ بعد رسول الله’ ببيان القواعد الفقهية، وأول من فتح باب الاستدلال بها والتفريع عليها، فلم تكن هذه القواعد بمحتواها أمراً مغفولاً عنه لديهم، فقد أملى الإمام الباقر -وأعقبه الإمام الصادق- على الأصحاب قواعد كلية في الاستنباط، فروي عن الإمام الصادق قوله: >الْأَشْيَاءُ مُطْلَقَةٌ مَا لَمْ‏ يَرِدْ عَلَيْكَ أَمْرٌ ونَهْيٌ، وكُلُّ شَيْ‏ءٍ فِيهِ حَلَالٌ وحَرَامٌ فَهُوَ لَكَ حَلَالٌ أَبَداً، مَا لَمْ تَعْرِفِ الْحَرَامَ مِنْهُ فَتَدَعَه‏<[12].

وعليه فالقواعد الفقهية كانت موجودة في عصر الرسالة والمعصومين ولكنها متناثرة لم يجمعها كتاب أو تصنيف.

الدور الثاني: دور التدوين والتصنيف

علمنا أن نشأة القواعد الفقهية كانت منذ عصور مبكرة وقد تناقلتها الأجيال بعد ذلك كما تقدم، ولكن على الرغم من تتابع الجهود بقيت القواعد متفرقة ومتناثرة وفي المدونات الفقهية مختلفة، ولم يول فقهاء الإمامية القواعد الفقهية اهتماماً من حيث التدوين والتصنيف كما أولوا القواعد الأصولية إلا في العصور المتأخرة،

وقد مر تدوين القواعد الفقهية عند الإمامية بمرحلتين:

الأولى: التدوين الأولي في القرن 8 و9 الهجريين.

الثانية: التدوين التكميلي في القرن 13 و14 الهجريين.

وقد صدرت جميع المصنفات والمؤلفات في القواعد الفقهية كما هو الملاحظ في المرحلة الثانية.

وإذا استُعرضت تطورات حركة التأليف الإمامي في مجال القواعد الفقهية نلاحظ أن أول شخص من الشيعة اقتحم هذا الميدان وتصدى لتدوين كتاب في القواعد الفقهية بشكل مستقل هو الشهيد الأول محمد بن جمال الدين مكي العاملي (734- 786ﻫ) وأسماه (القواعد والفوائد).

وقد صرح بذلك في إجازته لابن الخازن حيث قال: >… فمما صنفته كتاب القواعد والفوائد في الفقه، مختصر يشمل على ضوابط كلية أصولية وفرعية تستنبط منها الأحكام الشرعية، لم يعمل للأصحاب مثله<[13]. واستمرت حركة التدوين الفقهي في القواعد الفقهية بعد الشهيد الأول إلى الوقت الحاضر

ومن المصنفات في هذا المجال:

1- نضد القواعد الفقهية على مذهب الامامية: لتلميذ الشهيد الأول أبي عبدالله الفاضل المقداد السيوري (ت826ﻫ) /القرن التاسع.

2- القواعد الستة عشر: للشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت1227ﻫ)/ القرن الثالث عشر.

3- الأصول الأصلية والقواعد الشرعية: للسيد عبدالله شبر (ت1243ﻫ) / القرن الثالث عشر.

4- عوائد الأيام من مهمات أدلة الأحكام: للمولى أحمد بن محمد مهدي بن أبي ذر النراقي الكاشاني (ت1245ﻫ) القرن الثالث عشر.

5- العناوين: للسيد مير عبد الفتاح الحسيني المراغي (ت1274ﻫ) القرن الثالث عشر.

6- خزائن الأحكام: للآغا بن عابد الشيرواني الدربندي (ت1285ﻫ). القرن الثالث عشر.

7- مناط الأحكام: للملا نظر علي الطالقاني (ت1306ﻫ)/ القرن الرابع عشر.

8- تحرير المجلة: للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (ت1373ﻫ) / القرن الرابع عشر.

9- مستقصى قواعد المدارك ومنتهى ضوابط الفوائد: لملا حبيب الله الكاشاني (ت1340ﻫ) / القرن الرابع عشر.

10- القواعد الفقهية: للشيخ مهدي الخالصي الكاظمي (ت1343ﻫ) / القرن الرابع عشر.

11- القواعد الفقهية: للسيد محمد حسن البنجوردي (ت1396ﻫ) / القرن الرابع عشر.

12- القواعد الفقهية: للشيخ محمد تقي آل فقيه العاملي (ت1419ﻫ) القرن الخامس عشر.

وهناك مؤلفات كثيرة يمكن العثور عليها من بين الكتب والرسائل المختلفة قد توفرت على بحث قاعدة فقهية أو عدة قواعد وطبعت باسم ذلك الكتاب، وقسم منها يلاحظ ضمن فصول خاصة في الكتب الفقهية أو الأصولية، وقد بلغ عدد الكتب المتناولة للقواعد الفقهية في فقه الإمامية (350) مؤلف.

* ما هو الفرق بين القواعد الفقهيّة وشبيهاتها من قبيل: (الضابطة، المسألة، النظريّة الفقهيّة، القاعدة الأصوليّة)؟

بيان الفرق بين القواعد الفقهية وبين غيرها من المصطلحات الشبيهة بها أمر مهم وضروري لمساهمته في توضيح المقصود من القواعد الفقهية وبلورتها، والمصطلحات التي نحتاج الى بيان الفارق والمائز بينها وبين القواعد الفقهية ليست قليلة سوف نقتصر على المهم منها:

أولاً: الفرق بين القواعد الفقهية والأصولية

قد يقع الالتباس في المائز بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية، بحيث يحسبهما القارئ شيئاً واحداً؛ لذا كان لا بد من بيان الفوارق بينهما،

وقد ذكرت في هذا المجال عدة فوارق اقتصر على ذكر بعضها:

1- القواعد الأصولية: هي القواعد الآلية التي يمكن أن تقع كبرى استنتاج الأحكام الكلية الإلهية أو الوظيفة العملية. فالمراد بالآلية ما لا ينظر فيها، بل ينظر بها فقط، ولا يكون لها شأن إلا ذلك، فتخرج بها القواعد الفقهية، فإنها منظور فيها، لأن قاعدة ما يضمن وعكسها -بناء على ثبوتها- مما ينظر فيها وتكون حكماً كلياً إلهياً، كما عليه الإمام الخميني.

2- أن القواعد الفقهية تقع في طريق تشخيص وظيفة المكلّف في مقام العمل بنحو التطبيق، كما أن أمر تطبيقها على الجزئيات مشترك بين المقلد والمجتهد، والقواعد الأصولية تقع فيه بنحو التوسيط، وهذا ما ذهب إليه السيد الخوئي.

3- أن القواعد الفقهية تحتاج إلى القواعد الأصولية، ولكن القواعد الأصولية لا تحتاج إليها. وبعبارة أخرى: إنّ القواعد الأصولية لا يتوقف ثبوتها على قاعدة فقهية، بخلاف القواعد الفقهية، فإنها جميعاً مما لا بد في حصولها من كبرى أصولية، لأنها وليدة قياس لا تكون كبراه إلا قاعدة أصولية، وقد ذكر هذا الفرق في كلمات المحقق العراقي.

4- أن القواعد الأصولية لا تقبل التخصيص والتقييد، والقواعد الفقهية تقبل التخصيص أو التقييد.

5- أنّه في القاعدة الأصوليّة يشترط ركنان:

الأوّل: أن تكون قاعدة مشتركة، أي لا تختصّ ببابٍ بخصوصه، وليس من الضروري أن تعمّ كلّ الأبواب، بل المهم أنّها لا تختصّ ببابٍ معيّنٍ فإذا شملت بابين أو ثلاثة كفى لاشتراكها، على خلاف قاعدة الطهارة فإنّها تختصّ بمسألة الطهارة ولا تتجاوزها بينما حجيّة الخبر فهي تشمل أكثر من باب.

الثاني: أن تكون نتيجتها كلّية مغايرة. فمتى ما اجتمع هذان الركنان كانت القاعدة أصوليّة ومتى ما اختلّ هذان -إمّا بمعنى اختلالهما معاً أو بمعنى اختلال أحدهما- فسوف تصير القاعدة فقهيّة، وقد اختار ذلك السيد الصدر.

ثانياً: الفرق بين القاعدة الفقهية والضابط الفقهي:

الضابط لغة: من ضبط الشيء، حفظه بالحزم، ورجل ضابط أي حازم[14]. الضبط: إحكام الشيء واتقانه، يحبس الفروع التي تقع في إطاره.

وينبغي ان يعلم بأن الضابط يأتي بمعنين:

الأول: بمعنى الملاك والمعيار والميزان، مثل: ما لو بينا الضابط والملاك في المعصية الكبيرة والصغيرة أو الضابطة في قتل العمد والخطأ أو الضابط بين الحيوان البري والبحري في الحج. وهذا المعنى كما ترى لا علاقة له بالقاعدة الفقهية.

الثاني: بمعنى المفهوم الكلي الذي يكون شاملاً لفروع ومصاديق باب فقهي، مثل الضابطة في النذر أو الضابطة فيما يشترط في إمام الجماعة.

وهذا المعنى هو الملحوظ في المقام والذي يمكن أن يقع اللبس بينه وبين القاعدة الفقهية وبناء على هذا يمكن ذكر فروق ثلاثة:

1- ما ذكره ابن السبكي والزركشي والسيوطي وابن نجيم وغيرهم من أن القاعدة الفقهية أعم من الضابط الفقهي وذلك باعتبار ان الضابط الفقهي يطلق على القضية الكلية الفقهية التي تتكون جزئياتها من قضايا كلية فقهية من باب فقهي واحد، فهو يجمع الفروع الفقهية من باب واحد، بينما القاعدة الفقهية تتكون جزئياتها من قضايا كلية فقهية من أبواب شتى.

وبعبارة أخرى: القاعدة الفقهية يمكن إجراؤها في عدة أبواب من الفقه، بخلاف الضابطة الفقهية فجريانها إنما يكون في باب واحد. هذا الفارق مبني على أن القاعدة الفقهية لا بدّ وأن تكون جامعة لفروع من أبواب مختلفة وأما ما يجري في باب واحد فليس بقاعدة فقهية، وهذا غير مسلم إذ ينتقض بوجود قسم من القواعد الفقهية تجري في باب واحد، مثل: قاعدة الإمكان التي تجري في مسائل أحكام النساء، وفي باب الطهارة فقط، وقاعدة (لا شك لكثير الشك) التي تجري في باب الصلاة فقط، فهذا الفارق قابل للتأمل.

2- إن القاعدة الفقهية حكم كلي يعينه الشارع أو يؤول إليه الشارع، لكن لا يشترط في الضابطة الفقهية كونها مستندة إلى الشارع لزوماً، بل يمكن أن يكون للعرف دور في تعيينها.

3- إن الضابطة الفقهية هي قضية تبين الشروط والملاكات الدخيلة في موضوع الحكم وتنقيح الموضوع أما القاعدة الفقهية فليست بصدد بيان الموضوع ومتعلق الحكم وإنما تبين لنا الحكم الكلي.

ويلاحظ عليه: إن هذا الفارق على المستوى النظري وتحديد المفاهيم فحسب وإلا ففي مقام الاستعمال والإطلاق قد يستعمل أحدهما مكان الآخر من أمثلة ذلك: (كون الشرط صحيح هو الذي لا يخالف الكتاب والسنة)، (أيّ الأموال تعتبر وأيها فعلية)، (ما هو القتل الذي يصدق عليه أنه قتل العمد أو الخطأ) وهذه كلها تعتبر ضوابط فقهية.

4- الفارق الصياغي: إذ تصاغ القاعدة الفقهية بعبارات موجزة وألفاظ تدل على العموم والاستغراق كما في قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) في حين أنه لا يشترط ذلك في الضوابط الفقهية، فقد تصاغ في جملة أو فقرة على شكل فتوى في بعض الأحيان ككل ما صلح من المال أن يكون مهراً صلح أن يكون بدلاً للبضع.

ومن جهة أخرى: هناك من أطلق الضابط على القضية الكلية الفقهية التي تتكون جزئياتها من قضايا كلية فقهية، فلا فرق بينهما.

ثالثاً: الفرق بين القواعد الفقهية ومسائلها:

الفارق بينهما هو في الموضوع، فموضوع القاعدة الفقهية عام يصدق على موارد مختلفة ويمكن أن تكون له تطبيقات متعددة مأخوذة منه كقاعدة الطهارة.

بخلاف المسألة الفقهية فإن موضوعها خاص لا يصدق إلا على مورد واحد(أي أنه متحد المورد)، فلا تطبيقات لها بحيث يستنتج منها أحكام تعد مصاديق للقاعدة، بل المستنتج في المسألة الفقهية أحكام الموضوعات خاصة،

مثال: هذا الثوب طاهر، ذلك الفراش طاهر، هذه تعتبر مسائل فقهية، وكذلك نفوذ إقرار الإنسان في بيعه وشرائه وهبته وصلحه وعاريته وإجارته وتزويجه…. وسائر العقود والإيقاعات مندرجة تحت قاعدة (من ملك شيئاً ملك الإقرار به).

ليس معنى ذلك أن المسائل الفقهية قضايا شخصية جزئية بل معناه أن المسائل الفقهية وإن تعددت مصاديقها وتكثرت إلا أنها لا تعدو المورد الواحد.

فقضية الكافر نجس تنحل إلى قضايا متعددة بعدد أفراد ما يصدق عليه عنوان الكافر إلا أن هذه القضايا المتعددة لا تصدق إلا على مورد واحد وهو عنوان الكافر، وكذلك قضية الخمر حرام، والبيع عقد لازم، النفقة واجبة على الزوج، فإن هذه المسائل قضايا كلية لها مصاديق متعددة إلا أنها لا تخرج عن المورد الواحد.

بينما القاعدة الفقهية لموضوعها موارد مختلفة فإن قاعدة الصحة مثلا: يمكن تطبيقها على صلاة الغير، وبيعه وإجارته ونكاحه وطلاقه…. وغير ذلك.

قاعدة نفي الضرر: موضوعها الحكم الذي ينشأ عنه الضرر الشخصي، فهي قابلة للانطباق على الوضوء الضرري والصوم الضرري والحج الضرري والإنفاق الضرري وهكذا.

القاعدة الفقهية تنحل إلى مسائل فقهية مختلفة وكلية، أما المسائل الفقهية فهي تنحل إلى قضايا شرعية جزئية، (الكافر نجس ينحل إلى زيد كافر نجس وعمر كافر نجس…). قاعدة ما يضمن تنحل إلى مسائل شرعية كلية مختلفة كالتالي: – المبيع بالبيع الفاسد مضمون. – المنفعة في الإجارة الفاسدة مضمونة. – البذل في الخلع الفاسد مضمون. – الهبة المعوضة مضمونة على المتهب في فرض الفساد وهكذا…

الفرق من حيث الشمول النوعي والإفرادي: إنّ العديد من الأفراد يمكن إدراجها تحت كل من القواعد والمسائل إلا أنّ الأفراد المندرجة تحت القاعدة هي أنواع وأصناف مأخوذة في تعريف القاعدة بنحو جزئيات إضافية للنوع فيما أنّ الأفراد التي هي تحت دائرة المسألة الفقهية أفراد شخصية ومصاديق خارجية.

رابعاً: الفرق بين القاعدة الفقهية والنظرية الفقهية العامة:

لبيان الفارق بين القواعد الفقهية وبين ما يسمى بالنظريات العامة عند رجال القانون وتمييز كل منهما عن الآخر لا بد من توضيح معنى النظرية لغة واصطلاحاً:

1- تعريف النظرية في اللغة: هي مشتقة من النظر، وهي تأمل الشيء بالخفي، والنظري: هو الذي يتوقف حصوله على نظر وكسب كتصور النفس والعقل والتصديقات بأن العالم حادث.

2- تعريفها اصطلاحاً: والنظرية اصطلاحا عبارة عن طائفة من الآراء تفسر بها بعض الوقائع العلمية أو الفقهية، وقالوا: بأنها جملة تصورات مؤلفة تأليفاً عقلياً تهدف إلى ربط النتائج بالمقدمات. كما هي فرض علمي يربط عدة قوانين بعضها ببعض ويردها إلى مبدأ واحد يمكن أن نستنبط منه أحكاماً وقواعد.

إن عنوان (النظرية الفقهية العامة) من جملة الاصطلاحات الجديدة، ويبدو أنها دخلت في البحوث الفقهية على يد الحقوقيين والقانونيين المسلمين المطلعين على قوانين الغرب. وقد كان ذلك بهدف المقارنة والمقاربة بين النظام الفقهي والحقوق والقوانين الموضوعة وترتيب البحوث الفقهية على أساس المنهج الحديث. ومن هنا يمكن تعريف النظرية الفقهية العامة بأنها: مجموعة الأحكام المتقاربة التي تصب في موضوع معين ولها مبان خاصة وهدف خاص.

أو فقل: إن النظرية الفقهية تحتوي على بحوث ومفاهيم مختلفة يرتبط بعضها بالبعض الآخر، وتقع مورداً للبحث ونتيجتها تكون مبنىً وأساساً لمطالب وفروع أخرى، هذا من جهة. ومن جهة أخرى النظرية الفقهية أعم من القاعدة وأشمل، فهي عبارة عن موضوعات فقهية لها أركان وشروط وتجمع بينها روابط فقهية تجمعها وحدة موضوعية تحكم عناصرها جميعاً وذلك كنظرية الملكية ونظرية العقد ونظرية الإثبات.

نظرية تعريف الحكم وفرقه عن الحق وأقسامه، يمثل نظرية فقهية ومن البحوث المترابطة بعضها مع البعض، ونتيجتها تكون وسيلة لاستنباط واستخراج فروع أخرى، وهكذا نظرية العرف، نظرية الملكية، نظرية الدلالة، نظرية الإثبات.

فمثلاً: نظرية الإثبات في الفقه الجنائي الإسلامي تألفت من عدة عناصر وهي المواضيع التالية: حقيقة الإثبات، الشهادة، شروط الشهادة، كيفية الشهادة، الرجوع عن الشهادة، مسؤولية الشاهد، الإقرار، القرائن، الخبرة، معلومات القاضي، اليمين.

هكذا هو المنهج الجديد الذي يسلكه المؤلفون في النظريات العامة في تكوينها، إذ كل موضوع عنصر من عناصر هذه النظرية وتندرج تحت فصول، والرابط بينها علاقة فقهية خاصة.

إذن، الاختلاف الأساسي يتلخص في أمرين:

1- القاعدة الفقهية تتضمن حكماً فقهياً في ذاتها، وهذا الحكم الذي تتضمنه ينتقل الى الفروع المندرجة تحتها، بخلاف النظرية الفقهية فإنها لا تتضمن حكماً كلياً في ذاتها كنظرية الملك، ونظرية العقد.

2- القاعدة الفقهية لا تشتمل على أركان وشروط (التي توجد بينها علاقة وارتباط) بخلاف النظرية الفقهية فإنها تشتمل على أركان وشروط مثلاً: – كل بيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه، فهذه القضية تمثل قاعدة فقهية، لكن حينما يرى الفقيهان (القبض) شرط في العقود، ويبحث في أن انتقال المبيع يحصل من زمان العقد، وأن منافعه تدخل حين القبض في ملك المنتفع، وقبل ذلك تكون المنافع متعلقة بالمالك، فيحاول الفقيه إيجاد رابطة بين هذه الأحكام والأركان حتى يصل الى النظرية التالية: – القبض شرط في نفوذ العقد.

ويلاحظ على ذلك: القول بأن القاعدة الفقهية لا تشتمل على شروط وأركان غير مسلَّم على الإطلاق، بل بعض القواعد الفقهية مقيّدة ومحدّدة بشروط ولها أركانها، (فقاعدة الضرورات تبيح المحظورات) ليست على إطلاقها بل لها شروطها الخاصة، فلا تباح المحظورات إلا بشرط أن يكون الضرر في المحظور الذي يحل الإقدام عليه أنقص من ضرر حالة الضرورة، والضرورات تقدر بضررها.

وهنا أمر ينبغي الإشارة إليه وهو أنه على الرغم من أن النظريات الفقهية تختلف عن القواعد لكن لا يوجد بينهما تنافر، ونقاط الاختلاف تكمن في التالي:

1- إن النظريات أوسع نطاقاً من القواعد، ومن الممكن أن تدخل القواعد في إطار النظريات وتخدمها، فنظرية الحق تتناول التعريف بالحق وأنواعه وأركانه ومصادره وما يتصل به، واستعمال الحق وما يتعلق بذلك من القيود والشروط. وقد تكون القاعدة أعم من النظرية من جهة أخرى حيث أن القاعدة لا تقيّد بموضوع ولا باب معين، بينما النظرية قد تتقيّد بموضوعها ولا يمكن دخول غيره فيها، فعندما نتناول نظرية العقد أو الملكية فلا يدخل فيها ما يتعلق بالعبادات أو غير ذلك مما لا صلة له بالنظرية.

2- ومن النظريات ما تتناول موضوعاً خاصاً، ولكنه منتشر بين طائفة من المعلومات المبثوثة في أبواب مختلفة من كتب الفقه كنظرية التعسّف (التعدّي) في استعمال الحق، ونظرية العقد أو الملكية فلا يدخل فيها ما يتعلق بالعبادات أو غير ذلك مما لا صلة له بالنظرية.

ومنها ذات نطاق ضيّق، وتتناول موضوعاً خاصاً من موضوعات الفقه وتبحثه كما بحثته كتب الفقه ولكن بترتيب وتنظيم آخر، كنظرية الضمان ونظرية الغصب ونظرية القسامة وغير ذلك.

خامساً: الفارق بين القواعد الفقهية والأشباه والنظائر:

توجد طائفة كبيرة من الكتب التي تتناول القواعد الفقهية بالبحث إلا أنها تحمل عنوان (الأشباه والنظائر) مما استدعى التساؤل عن العلاقة بينهما وعن الفوارق إن كانت، وهذا بدوره يتوقف على توضيح المقصود من الأشباه والنظائر أولاً ثم بيان الفارق والمائز.

1- التعريف اللغوي للنظائر: المتتبع لاستعمالات الأشباه والنظائر في اللغة لا يرى فرقاً بينهما، فشبه الشيء مثله ونظيره مثله أيضاً، وعلى هذا فتكون دلالة هذه الكلمات واحدة. قال في لسان العرب: “النَّظائِرُ: جمع نَظِيرة، وهي المِثْلُ والشِّبْهُ في الأَشكال، الأَخلاق والأَفعال والأَقوال”[15].

2- التعريف الاصطلاحي للنظائر: فقد بين السيوطي معنى كل من المثيل والشبيه والنظير، فذكر أن المماثلة هي المساواة من كل وجه، وإن المشابهة هي الاشتراك في أكثر الوجوه لا كلها وأن المناظرة يكفي فيها الاشتراك في بعض الوجوه، ولو كان وجهاً واحداً.

 

حاوره: الشيخ عبد الرؤوف الربيع

المصدر: الأبدال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky