الاجتهاد: عقد المنتدى الدولي للحوار المسؤول ندوة حوارية[1] بعنوان: “الصوم في الديانات الثلاث: الإسلام والمسيحية واليهودية”. بإدارة الإعلامي حسن خليفة، وبمشاركة كلٌّ من: الشيخ غازي حنينة، والأب وسام أبو ناصر.
افتتح الندوة الإعلامي حسن خليفة بالترحيب بالضيوف الكرام.
وكانت البداية مع فضيلة الشيخ غازي حنينة[2]، الذي قدّم قراءة حول الإسلام والصوم في الإسلام. فعرّف الصيام بالمعنى العام، وقال: ما من رسالة نزلت من عند الله سبحانه وتعالى، وما من نبي تابَع رسالة رسول من بعده، إلا وكان الصوم سبيلًا للتزكية وللسمو الأخلاقي والروحي، ولإيجاد شخصية إنسانية متكاملة تصمد في وجه التحديات والأعاصير التي يمكن أن تواجه المجتمع.
وقال: عندما تكلم القرآن الكريم عن الصوم قال: “كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم”؛ بمعنى فُرض. والذين من قبلنا يُقصد بهم اليهود والنصارى.
ويُكثر القرآن الكريم من الحديث عن اليهود والنصارى الذين يحملون رسالة سماوية من عند الله سبحانه وتعالى؛ رسالة نبي الله موسى (ع) الذي جاء بالتوراة، ورسالة نبي الله عيسى المسيح بن مريم (ع) الذي يحمل رسالة الإنجيل. ولذلك فإنّ الصوم أمر مشترك بين أبناء الرسالات الثلاث المنزّلة من عند الله سبحانه وتعالى، فاليهودية كما المسيحية تتعبّدان بالصوم وكذلك نحن معشر المسلمين، وإن كانت معايير الصوم تختلف بين طائفة وأخرى.
وتابع فضيلته عندما يستطيع الإنسان أن يكبح جماح شهوتي الفرج والبطن، بمقدوره أن يواجه كل المغريات والملذات التي يمكن أن تجذبه في طريق يبعده عن الله سبحانه وتعالى.
كما وأنفاس الصائم تسبيح، وهي حالة ملائكية يعيشها الإنسان المسلم مع الله سبحانه وتعالى. والصائم في دورة تدريبية تأهيلية للنفس والروح والأخلاق والجسد يعيشها المسلم الصائم طوال شهر كامل، وهذه العبادة تجعله حرًّا من كل الملذات، وفي ذلك قال أهل العلم: (تمام العبودية هو كمال الحرية).
وتابع فضيلة الشيخ حنينة كلامه قائلًا: على الإنسان أن يُلزم لسانه بالامتناع عن الألفاظ التي تخرجه عن حالة الصوم الذي يتعبّد به لله تعالى، ليس فقط أن يدع طعامه وشرابه. وشهر رمضان هو شهر إعداد وتدريب على التآخي والتعاون فيما بين أبناء الأمة، فلا يعيش الإنسان حالة الأنانية، ولا حالة الصَدَفة التي تغلق على نفسها، فيعيش وحيدًا.
وقال: إنّ شهر رمضان هو شهر الوحدة والتآخي الإنساني والإيماني والتعاون، كلما تمكّن الإنسان المسلم ماليًّا وعنده من المقدرة أن يعود بالخير على أصحاب العوز والفقراء المتعففين والمساكين، وما أكثرهم في هذه الأيام الصعبة التي نعيشها في وطننا الحبيب لبنان مسلمين ومسيحيين من أزمة كورونا، وما تم التلاعب به من لعبة الدولار قياسًا على العملة اللبنانية، التي حوّلت معاشات الموظفين والعمّال والأجراء إلى مستويات قليلة قياسًا عمّا كانت عليه سابقًا.
هذه الأيام هي أيام امتحان لذوي الغنى لينفقوا على ذوي الحاجات من أي فئة كانوا دون تمييز بين مواطن ومواطن. ونحن نتآخى مع إخواننا المسيحيين بالأخوّة الإنسانية في هذا الوطن لنعيش مواطنين على قدم وساق في مسؤولية مشتركة نحو وطننا لبنان الحبيب الذي يعنينا جميعًا ونتحمّل مسؤوليته جميعًا. وفي هذا الشهر تتجلى كل المعاني الإنسانية والإسلامية العظيمة التي تدفع بالإنسان المسلم الصائم ليكون أخًا لأبناء وطنه في الإيمان وفي الإنسانية.
وعن الموارد الاستثنائية لعدم الصوم التي يُجمع عليها فقهاء المسلمين تقريبًا قال فضيلته: يسقط الصوم عن المريض ما دام الصوم يسبّب له الضرر، كما ويسقط عن المسافر، والمرضع إذا خشيت على لبنها أن ينقطع وقال الطبيب الحاذق ذلك. ولكن عندنا نحن (فعدّة من أيام أُخر) أي من كان مريضًا في شهر رمضان وليس مرضه مزمنًا عليه أن يقضي ما فاته بعد شهر الصوم. والحائض والنفساء أيضًا.
وعن الصوم عند اليهودية قال: لديّ معلومات طفيفة، لا نجد لها مجالًا للحديث بين أبنائنا ومجتمعنا، وإنّما كنّا نعرف من خلال بعض المتابعات والمطالعة أنّ الطائفة اليهودية لها أيام تصوم فيها منها أيام شكر، والأيام التي تمر فيها بظروف صعبة.
وفي الإجابة عن سؤال هل هناك اختلافًا بين الطوائف والمذاهب في موضوع الصوم لدى المسلمين وبين السنّة والشيعة؟ قال فضيلة الشيخ حنينة: إذا كان البعض يعتبر أنّ اختلاف المطالع هو مدعاة للاختلاف فهذا غير منطقي. فمطالع الشمس والقمر تختلف من قُطر إلى قُطر، ولا ينبغي أن نجعلها مدعاة للاختلاف بين أبناء الأمة الواحدة. هناك فئة من المسلمين من السنّة والشيعة يوظّفون اختلاف فطر المسلمين على مستوى اليوم والليلة، وعلى مستوى الشهر، ليكون ذلك سببًا لإيجاد الفرقة والشرذمة والتمزق بين أبناء الأمة الواحدة.
وختم فضيلة الشيخ غازي حنينة كلامه بالإشارة إلى تشديد اليهود على أنفسهم، وقال: عندما تكلم الله سبحانه وتعالى عن مهمة النبي محمد (ص) قال: “ليضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليه”، هم يضلّون ويشددون على أنفسهم. وأنا لست في مورد التعريض بهم بل أتكلم من حيث البحث العلمي، ونحن الآن في جلسة علمية أخلاقية إيمانية ولا نتكلم بالسياسة ولا بغيرها.
اليهود يشددون على أنفسهم في مأكلهم وفي طريقة الذبح عندهم، فهم بعد أن يذبحوا الذبيحة يبقرون بطنها ويقلّبون أحشاءها فإذا وجدوا حصاة أو خشبة أو قطعة من حديد حرّموها كلها على أنفسهم، وهذا ما يسمى عندهم بالكوشير. بينما في الرسالة الإسلامية عندما يتكلم الله عز وجل عن شهر رمضان يقول: “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر”.
ثم تحدث سعادة الأب وسام أبو ناصر[3] عن الصوم في الحياة المسيحية، وقال: الصوم ليس هدفًا بحدّ ذات بل هو وسيلة، ولكن السؤال الأساسي هو أنّ الصوم وسيلة لماذا؟
نحن نعلم تاريخيًّا أنّ الديانة المسيحية هي بنت الديانة اليهودية، وهي تكملة لما بدأه الله من خلال تكوين الخلق في آدم وحواء، وصولًا إلى السيد المسيح وإلى نهاية الأزمنة. ولو عدنا بالتاريخ إلى حيث كان يعيش العبرانيون في أرض مصر والذين كانوا يخضعون لسلطة فرعون آنذاك، نجد أنّ النبي موسى حرّض شعبه لعبادة الإله الحي الواحد وليس لعبادة البشر بفرعون، وانطلق بهم إلى ما وُعدوا به من أرض الحرية في الصحراء للخروج من عبودية الإله الإنسان إلى تحقيق عبادة الله لمدة أربعين عامًا دون طعام، فقط بما كان يعطيهم الله ما يُعرف بـ(المنّ والسلوى) كي يعتاشوا، ويصلوا إلى ما يُعرف بأرض المعاد.
وبيّن الأب أبو ناصر ترافق الرقم أربعين مع محاولة الخروج من عبادة الذات والأشخاص والبشر والأنا إلى عبادة الله وحده. لذلك السيد المسيح في إنجيل متى 4 عندما خرج للصيام قال له الشرير في نهاية اليوم الأربعين: قل لهذا الحجر أن يصير خبزًا. فأجابه السيد المسيح: (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله).
فهي دعوة من السيد المسيح للتعبّد بالإله الخالق وترك كل العبادات الأخرى. فالانسجام بالرأي بين ما أقوله وبين ما تفضّل به فضيلة الشيخ غازي من خلال الأهداف المرجوّة من الصوم العودة للإله الواحد، والطاعة لتعاليمه تتشابه لدى كل من يعبد الله من خلال الصيام. وهو طريق للوصول دائمًا للقول لله إنّنا نعبدك وحدك ولسنا عُبّاد طعام.
ثمّ بيّن أنّ للصوم وجهتين: وجهة جسدية وهي الصوم عن الطعام والمشتهيات وغيرها. ووجهة روحية وهي الصوم عن الخطيئة والكلام. وقال: كلّ ما تفضل به فضيلة الشيخ مطابق كليًّا لما أنا بصدد أن أشرحه.
وتابع كلامه قائلًا: كان الانطلاق بالصيام منذ بدء الخليقة عندما قال الله لآدم وحواء افعلا ما يحلو لكما، ولكنه نهاهما عن الأكل من شجرة المعرفة، كان يقصد بذلك الصوم عن محاولة الاستكبار والتعالي على حضوره، وأن يعبدانه فقط. لكنهما تكبّرا على مشيئته وسقطا بالخطيئة الأصلية، أو بما يُعرف بألوهية الذات التي نعيشها اليوم أينما كان. فالحرب القائمة هي حرب كل من لا يريد حضور الله في حياته على كل من هم يؤمنون بحضوره في حياتهم.
وقال: الصوم بحد ذاته هو أكثر من وسيلة لترويض الذات، ولا يمكن الخضوع والتعبّد لله وقبول مشيئته إلا إذا تحررت الروح من كل ما هو أصفاد وكيانات بشرية وأنانيات. كان بولس الرسول مُلِمًّا بالفلسفات اليونانية التي تُصوّر الإنسان كما لو أنّه امتداد للحقيقة السماوية، أي أنّ عالم المثل في السماء والإنسان هو العالم الزائل.
لذلك كان الهدف من الصوم في تلك الأيام هو تحرير هذا العالم الزائل مما هو لله مع الإبقاء على العلاقة بالله. أمّا اليوم فقد تمرّسنا في العبادة والتعبّد والعلاقة بالله، حتى الجسد الذي كان بولس آنذاك يرفضه ويعتبره إناء للحقيقة، هو مقدس لأنّ الله خلقه ووضع فيه تصوّره. علينا بالصيام أن ننقّي هذا الجسد والروح مما يثقلهما.
وأكّد الأب أبو ناصر أنّ زمن الصوم هو زمن مقدس في كل الديانات، وهو زمن العودة للعبادة الحقيقية والتعبّد للإله الذي خلقنا، وبدون الله نحن لا شيء، ولا يوجد هدف في حياتنا إلا التقاتل والتناحر.
الله هو الذي يجمعنا في الإنسانية وفي حضوره في حياتنا. وأنا أقول وعلى مسؤوليتي الشخصية، أحبائي كل من تعبّد لله تعبّدًا من دون غرض وغاية يلتقي بأخيه الإنسان المتعبّد لله مهما كانت ديانته أو طائفته أو مذهبه. ولا يمكن أن لا يلتقي فيه الآخر لأنّ الله واحد ويجمعنا كلنا. طرق العبادة تختلف إنّما الصوم هو الطريقة الوحيدة التي تجمع كل أبناء الله والتي تؤكد حضور الله في مجتمعاتنا وبيننا.
وشرح الأب أبو ناصر عملية الصوم التي تختلف طرقها بين المذاهب، وبين الطوائف الشرقية والغربية. وقال: أنا لست مع التساهل في مبدأ الصوم مهما كانت الأسباب لأنّ الصوم هو اللقاء بالله وهو أسمى هدف. موضحًا الفرق بين الصوم والصيام.
فالصوم أقصاه مدة ثلاثة أيام، وأما الصيام فهو لفترة طويلة، عند المسيحيين هو لأربعين أو لخمسين يومًا، وعند المسلمين ثلاثين يومًا. يجب أن يكون الصوم صومًا حاسمًا لا استثناءات فيه وإلا فلن يكون اسمه صومًا. إن كان الشخص مريضًا فلا بأس أن يأخذ علاجه، إنّما لماذا الاستثناء في الصوم طالما الهدف منه هو إعلان ألوهية الله في حياتنا؟
وبيّن أنّ السيد المسيح لم يضع تاريخًا للصوم، ولا يوجد في الإنجيل المقدس أو في روايات الأناجيل المقدسة تاريخًا للصوم كأن يبدأ كشهر رمضان في أول رمضان وينتهي في آخره، إنّما الصوم هو عمل شخصي. ومع مرور الأيام وتنظيمًا للعبادات داخل الكنيسة وضعت في إنجيل متى 4/4 صوم السيد المسيح أو الرقم الأربعين الذي هو عبادة الخروج من عبودية الخطيئة إلى حرية أبناء الله.
الصوم هو إعلان لعبودية الله في حياتنا وضعته قبل زمن القيام أو عيد الفصح بأربعين يومًا لإعلان أنّ الله هو سيد حياتنا وليس شيئًا آخر. وهذا الصوم يفترض أن يكون انقطاعًا كاملًا عن كل الطعام، هذا هو القانون العام، ولكن هناك استثناءات كثيرة وأنا ضدها.
وأوضح أنّه لا يوجد في المسيحية تعويضًا عن مفاعيل عدم الصوم، لأنّ نتائج عدم الصوم هي كارثية على صاحب العلاقة أولًا وآخرًا. ولكن الكنيسة تلحظ الاستثناءات في حال المرض والعلاج والأدوية كما ذكر فضيلة الشيخ. وتدخل الكفارة في التعويض عن الصوم بعمل الخير.
والصوم عن الخطيئة أو الرجوع عن الخطيئة في الحياة الشخصية فيه إلزام للتعويض بالعمل الخيّر قباله، وبمساعدة الفقير أو المريض وزيارته، والسيد المسيح لحظ في إنجيل الدينونة ذلك (كنت جائعًا فأطعمتموني، كنت مريضًا فزرتموني، وكنت عريانًا فألبستموني وكل ما فعلتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار لي أنا فعلتموه)، هي أفعال تعويضية أن نلتقي بالإنسانية عندما نكون في علاقة جيدة مع الله.
وعن صوم اليهودية، قال إنّ العهد القديم هو المرجع لمعرفة تقاليد اليهود، ونجد فيه أنّ وقت الصيام كان في أيام مختلفة حسب الظروف. منها يوم الكفارة وهو اليوم الوحيد الذي أمرت فيه الشريعة بالصوم، وهو اليوم العاشر من الشهر السابع حسب التقويم العبري، وكل ما هو مطلوب تذليل النفوس للامتناع عن كل عمل.
وأيضًا هو يوم عطلة مقدسة يصومون فيه ويقدمون قربانًا للرب. ولديهم نوع ثاني من الصيام هو وقت الشدة، كانوا يصومون في أوقات أخرى لم تكن الشريعة تأمر بها، وهو وقت الاستعداد لملاقاة الله كما حدث مع موسى في سفر الخروج أو في تهديد بالحرب، وعند المرض. وعندما صام داوود سبعة أيام من أجل مقتل شاوول. لهم أوقات استثنائية لم تقل بها الشريعة عندهم. فقط يوم واحد في السنة ولو عدنا في التاريخ لحرب العبور إلى عام 1973 استفاد منه أنور السادات حتى دخلوا في الحرب مع اليهود.
وختم الأب وسام أبو ناصر كلامه بتجديد شكره للدعوة لهذا اللقاء المبارك، وبارك للمسلمين صومهم وقال: شهر صيام مقبول للإخوة المسلمين، وأن نبقى دومًا على معرفة وإيمان بأنّ الصوم هو وسيلة وطريقة -وليس هدفًا- لإعلاء كلمة الله، وأنّ الله هو فقط المعبود ولا عبادات أخرى في حياتنا غير عبادة الله الخالق، وهو الذي يجمعنا تحت سقف واحد في الإنسانية.
[1] الأربعاء 28- 4- 2021.
[2] رئيس مجلس الأمناء في تجمع العلماء المسلمين، وعضو مؤسس في التجمع، وعضو مؤسس في جبهة العمل الإسلامي.
[3] رئيس المركز الحبر المريمي لحوار الأديان في لبنان، وأمين السر العام للجنة الأسقفية للحوار المسيحي الإسلامي، حائز على إجازة في الفلسفة بكالوريوس في اللاهوت، وإجازة في العلوم المريمية ودبلوم في علم الأرواح.
المصدر: معهد المعارف الحكميّة