الاجتهاد: الرؤية الفقهية للحركة الحسينية: هناك مجموعة من الأسئلة المهمة، أولاً: هل ما قام به الإمام الحسين عليه السلام امتثال لتكليف شخصي يخصّه، كما قد يستشعره البعض من قوله عليه السلام: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قد أمرني بأمرٍ وأنا ماضٍ فيه»، أم أنّه عليه السلام كان في إطار تطبيق تكليف عام، لا امتثال لتكليف شخصي؟
ثم لو كان التكليف عاماً، نسأل ثانياً: هل ذلك التكليف العام تكليف فردي أم تكليف اجتماعي؟ أي: هل المخاطب بذلك التكليف كل فرد فرد، أو أنّ المخاطب بذلك التكليف الأُمّة والمجتمع بأسره؟
فإن اخترنا أنّ ما قام به الإمام الحسين عليه السلام هو تطبيقٌ لتكليف فردي، فنسأل ثالثاً: ما هو ذلك التكليف الفردي؟ هل هو الدفاع عن النفس؟ أم أنّ ذلك التكليف الفردي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إنّ من موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أنّه إذا توقّف تأثير النهي عن المنكر على إتلاف النفس ـ أحياناً ـ أو المال أو الجاه والمنصب،
فإنّ النهي عن المنكر يُقدّم على تلك الأضرار وإن كانت جسيمة؛ وذلك لكون المنكر جسيماً جداً، وهذا ما يستشعره بعضهم من خلال قول الإمام الحسين عليه السلام: «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلى الله عليه وآله، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»؟
وإذا اخترنا أنّ حركة الإمام الحسين عليه السلام هي تطبيقُ تكليفٍ يخصّ الأُمّة والمجتمع الإسلامي، وليس المخاطب به فرداً من الأفراد؛ لذلك فقد أراد الإمام الحسين عليه السلام بحركته تشريع هذا الأمر الذي تُخاطَب به الأُمّة، وتطبيقه في الوقت نفسه؛
من هنا تظهر لنا عدّة احتمالات:
الأول: هل ذلك الأمر الذي خوطبت به الأُمّة الإسلامية ـ آنذاك ـ هو الأمر بحفظ مقام الإمامة عن الإذلال، والذي قد يُستفاد من قوله: «إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بِنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجلٌ فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله»،
وقال: «ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون».
فالأُمّة مخاطبة بصيانة هذا المنصب من أن يكون معرَّضاً للإذلال، وقبول بيعة يزيد بن معاوية تعريضٌ لهذا المنصب للإذلال؟
الثاني: أو يقال: إنّ المسألة لا ترتبط بمنصب الإمامة بما هو منصب الإمامة، بل إنّ منصب الإمامة هنا ملحوظ على نحو الطريقية للدين نفسه وليس ملحوظاً على نحو الموضوعية؛ فيكون الخطاب للأُمة في هذا الأمر متوجِّهاً لإعزاز الدين، فإذا ما بايع الإمام الحسين عليه السلام يزيدَ بن معاوية وأمثاله تحقّق معنى الإذلال للدين نفسه، ومن الواضح أنّ الأُمّة مطالبة بإعزاز الدين نفسه؛ إذ العزّة لله ولرسوله، كما قال تعالى: ﴿وَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾، وهذا هو المقصود من قوله عليه السلام: «يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون…».
الثالث: أو يقال: إنّ التكليف الذي خوطبت به الأُمّة هو تسليم مقام الخلافة إلى أهله، فليس المطلوب مجرد صيانة المنصب عن الإذلال، أو مجرد أن يكون الدين عزيزاً، بل لا بدّ من تسليم هذا المقام إلى أهله، وهذا كما يُعتبر تكليفاً للأُمّة فهو حق من حقوقها أيضاً؛ لأنّ من حقوق الأُمّة نفسها أن تكون تحت قيادة معصومة تمثل الإرادة السماوية تشريعاً وتطبيقاً. وبالتالي؛ فلا بدّ للأُمّة أن تقوم بمسؤوليتها في سبيل إرجاع هذا المنصب إلى أهله، وفي سبيل المطالبة بحقها في القيادة المعصومة.
الرابع: أو أن يقال: إنّ الأمر الذي خوطبت به الأُمّة هو إقامة العدالة، كما في قوله: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾، فهي مطالبة بذلك سواء تمكّنت الأُمّة من إرجاع الأمر إلى أهله أم لم تتمكن من ذلك؛ لأنّ المطلوب الأصلي هو إقامة العدالة على الأرض، وإن كانت العدالة التامة لا تتحقق إلّا بقيادة المعصوم وكون الأمر بيده تشريعاً وتطبيقاً، إلّا أنّ هناك مرتبة أُخرى من العدالة يمكن للأُمّة تحقيقها.
فحينئذ ـ وبعد هذه الاحتمالات ـ لا بدّ من دراسة أنّ هذا التكليف الجماعي أو التكليف العام الذي خوطبت به الأُمّة الإسلامية، والذي أراد الحسين عليه السلام بحركته تشريعه وتطبيقه مع أيٍّ من هذه الاحتمالات السابقة ينسجم ويتطابق؟
وهنا تنشأ أسئلة أُخرى، بأن يقال: على فرض أنّ ما قام الإمام الحسين (عليه السلام) بتطبيقه هو التكليف بإرجاع مقام الخلافة إلى أهله، أو التكليف بإقامة العدالة على الأرض، فهل كان المخطط الحسيني هو أن يتمّ هذا الهدف ـ وهو إقامة العدالة أو دولة العدالة أو الدولة المعصومة ـ على يده، أم أراد أن يكون هو المفتاح لهذا المشروع ولهذا الخط؟
فكما أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كانت مهمتهما التأسيس للدولة الإسلامية؛ إذ أتمّ الإمام علي (عليه السلام) في عصره التشريعات المتعلّقة بالدولة الإسلامية من حيث السلطة القضائية والتنفيذية ووضع القوانين الاجتماعية والاقتصادية للدولة الإسلامية ـ كما يظهر من عهده لمالك الأشتر رضي الله تعالى عنه ـ وأصبح الدور الآخر على عاتق الإمام الحسين (عليه السلام) ومن بعده الأئمّة عليهم السلام، وهذا الدور هو الشروع في حركة تطبيق تلك التشريعات والقوانين على أرض الدولة الإسلامية،
فالحسين (عليه السلام) أراد أن يكون هو المفتاح للشروع بهذا الدور، لا أن يتمّ هذا الأمر على يده في عصره وفي زمانه، بل هو المفتاح لجميع ما حصل من ثورات وحركات منذ يومه (عليه السلام) إلى ظهور الإمام المهدي عج الله تعالى فرجه الشريف، فجميع ذلك مراحل لنفس حركة الإمام الحسين (عليه السلام)، وإنّ دولة المهدي عج الله تعالى فرجه الشريف ما هي إلّا امتداد لهذا المشروع الحسيني العظيم ومرحلة من مراحله.
وبالتالي؛ فلا مانع من أن يكون دور الحسين (عليه السلام) هو وضع الإطار العام لهذه الحركة العظيمة، وأن تكون شهادته (عليه السلام) بذرة لبداية وانطلاقة هذا المشروع إلى ظهور المهدي عج الله تعالى فرجه الشريف، وليس ذلك تحجيماً لدور الحسين (عليه السلام) ومقامه؛ فإنّ حركة كل إمام معصوم هي بحجم الظروف الموضوعية التي عاش فيها،
فعندما يقال: إنّ الدور الحسني كان دور الصلح وحقن الدماء والتمهيد لثورة الحسين (عليه السلام)، فإنّ هذا ليس تحجيماً لدور الحسن (عليه السلام)؛ وإنّما دوره ومسؤوليته في زمانه بحجم الظروف الموضوعية التي عاش فيها، وكذلك دور الصادِقَين عليهما السلام، ودور الكاظم (عليه السلام)، ودور الرضا (عليه السلام)، ودور الإمامين العسكريين عليهما السلام الذي اقتصر على إجابة المسائل والاستفتاءات وصرف الحقوق من خلال وكلائهم؛ فإنّ الظروف هي التي جعلت الدور بهذا الإطار، وليس ذلك تحجيماً لدورهم عليهم السلام.
فكل تلك الأسئلة بحاجة إلى دراسة فقهية من أجل معرفة أنّ ما قام به الإمام الحسين (عليه السلام) هل هو تطبيق لتكليف خاص أو لتكليف عام، وما هي حقيقة ذلك التكليف؟
المصدر: مجلة الإصلاح الحسيني، العدد السادس/ قسم من مقالة بعنوان ” مشروع دراسة الحركة الحسينيّة “
قراءة المقال
مشروع دراسة الحركة الحسينية
إنّ ما نطرحه من هذه البحوث ليس تحقيقاً لمفاصل الحركة الحسينية، ولا هو اختيارٌ لرأي من الآراء، وإنّما هو منهجيةٌ لكيفية دراسة حركة الإمام الحسين (عليه السلام)، ووضعٌ أو بيانٌ للأُسس العلمية التي ينبغي الدخول منها إلى دراسة الحركة الحسينية، فهذه الدراسة تشكل الهيكلية العامة لهذه الحركة المباركة.
جهات البحث
إنّ مشروع دراسة الحركة الحسينية بأُسس علمية معرفية، وكذا تناولها في إطار البحث الموضوعي، يحتاج إلى البحث والتأمّل في جهات متعدّدة ومتنوعة، منها:
الجهة الأُولى: هل نحن معنيّون بتفسير الحركة الحسينية؟
لا بدّ في بداية البحث من طرح هذا السؤال، وهو: هل نحن معنيون ومطالبون بتقديم تفسير للحركة الحسينية وشرح المبررات والأهداف لهذه الحركة أم لا؟
وهنا قد يُجاب بالنفي أو الإثبات:
وجوه النفي
قد يقال: إنّنا غير معنيين بذلك؛ بلحاظ أحد أُمور:
الأول: إنّ ما قام به الإمام الحسين (عليه السلام) يُعتبر امتثالاً لتكليف شخصي، والتكليف الشخصي لسنا معنيين بتفسير هويته أو مطالبين بامتثاله، وهذا كتكليف النبيّ (صلى الله عليه وآله) ببعض الأُمور الخاصة كوجوب صلاة الليل ونحوها؛ فيعتبر هذا التكليف من التكاليف الخاصة بذلك المعصوم، ولسنا مكلَّفين به أو مسؤولين عنه.
الثاني: لو تنزّلنا ـ عمّا سبق ـ وفرضنا أنّ ما قام به الإمام الحسين (عليه السلام) هو تطبيق لتكليف عام لا يختص به، مع ذلك فنحن غير مسؤولين عن ذلك التكليف؛ والسبب في ذلك هو أنّ تطبيقه لا يكون إلّا من خلال شروط موضوعية، وتعيين تلك الشروط والظروف المناسبة وتشخيصها بيد المعصوم (عليه السلام)، وهو أمرٌ خارج عن إطار قدرتنا وإمكاناتنا البشرية العاديّة القابلة للخطأ والصواب.
وبالتالي؛ فنحن لسنا معنيين بتفسير هوية الحركة أو شرح مبرراتها؛ إذ لا ثمرة في ذلك. الثالث: إنّ الأئمّة المعصومين عليهم السلام لم يتصدوا لشرح حقيقة هذه الحركة، ولم يتصدوا لوضع المبررات لها، وإنّما اكتفوا بربط الأُمّة الإسلامية بحركة الإمام الحسين (عليه السلام) ربطاً غيبياً من خلال المراسم العزائية، أو ربطاً عاطفياً من خلال إثارة الضمائر المتفاعلة مع حركة الإمام الحسين (عليه السلام).
فإذا كان هذا هو موقف أهل البيت عليهم السلام من النهضة الحسينية، فموقف غيرهم لا بدّ أن يتطابق معهم؛ لأنّهم أهل العصمة والطهارة.
وجوه الإثبات
ولكن قد يقال في مقابل وجوه النفي المتقدّمة: بأنّ هناك وظيفة ومسؤولية على عواتقنا وهي ضرورة شرح حركة الإمام الحسين (عليه السلام) المباركة؛ وذلك لوجوه ثلاثة تصلح للرد على ما تقدم من وجوه النفي:
الوجه الأوّل: إنّ حركة الإمام الحسين (عليه السلام) كانت تطبيقاً لتكليف عام توافرت فيه كافّة الشروط، وحيثما توافرت الشروط تعيَّن التكليف، وأمّا تشخيص الظروف المناسبة لتطبيق مثل هذا التكليف في كل زمان فهو بيد الأُمّة من خلال طرق الإحراز التعبّدي؛ إذ ليس المطلوب من المكلَّف أن يصل إلى تشخيص موضوع التكليف وقيوده تشخيصاً حقيقياً يقينياً، وإنّما هو مُطالَب بالطرق التعبّدية بإحراز موضوع التكليف وقيوده، وهذا أمرٌ ممكن، بل لازم على المكلَّف في كل زمان، سواء أكان فرداً أم مجتمعاً. وبذلك يتبيَّن ضرورة دراسة وتحليل النهضة الحسينية بشكل مفصَّل وواضح.
الوجه الثاني: إنّ شرح حقيقة هذه الحركة هو مصداق من مصاديق التعرّف على مقامات الإمام المعصوم (عليه السلام)، فإنّ من مقامات الإمام المعصوم وصوله إلى مرتبة الشهادة، ومن مقاماته (عليه السلام) قيامه بحركة تُعدّ مظهراً لمشيئة الله} ومظهراً للهداية الإلهية التي أُنيطت بهداية المعصوم (عليه السلام)؛ فالتعرّف على هذه الحركة هو مصداق وصغرى من صغريات معرفة مقاماتهم العظيمة.
ومن الواضح، فنحن مكلَّفون بمعرفة مقاماتهم ومراتبهم الوجودية الإلهية.
كما أنّ التعرّف على مقاماتهم يُعتبر من صغريات إحياء أمرهم، ولا يتوقف إحياء الأمر على إقامة المراسم العزائية فحسب، وإنّما من أوضح مصاديقه هو شرح مقاماتهم وتفسير مسيرتهم وبيان الأسرار الخفية والأهداف الإلهية في هذه المسيرة العظيمة. ومن الواضح فنحن مأمورون بإحياء أمرهم عليهم السلام.
الوجه الثالث: إنّ التعرّف على حركة الإمام الحسين (عليه السلام) هو تعرّفٌ على السنن التاريخية والسنن الإلهية في مسيرة تاريخ المعصومين بصفة عامة، فكما أنّ لحركة التاريخ سنناً اجتماعية تحكمها في كل جيل وفي كل فترة من الفترات، فإنّ هناك ـ أيضاً ـ سنناً إلهية متكررة تحكم تاريخ الرسالة السماوية وتاريخ مسيرة الدين نفسه،
فإنّه يستفاد من الآيات المباركة: ﴿إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[1]، ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾[2]، وقوله} عن لسان إبراهيم (عليه السلام): ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾[3]: إنّ العلم والعصمة والنبوّة هي في أُسرة واحدة وسلالة واحدة، انحدرت من الأجداد إلى الآباء إلى الأبناء، وإنّ جعل هذا العلم في هذه الأُسرة وفي هذه السلالة هو عامل من عوامل نشأة الحجية لكل معصوم من هؤلاء المعصومين بلحاظ أنّه انحدار من هذه الأصلاب الطاهرة، بعضها من بعض، وهو عامل في تخلق النطفة منذ تكونها في هذا الإطار القدسي المعطر بالعلم والعصمة والكتاب،
فالانحدار من عصمة واحدة عاملٌ من عوامل تخلق النطفة وهي مقترنة بالحجية والإمامة على الخلق، وهذا هو معنى أنّ فيهم ميراث النبوّة والإمامة، وهو معنى ما ورد في الزيارة الشريفة للإمام الحسين (عليه السلام): «السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله… »[4]،
فإنّه ليس المقصود هو الإرث الحسّي وهو تناقل الكتب السماوية من يد إلى يد أُخرى، بل إنّ هذا النوع من الإرث ما هو إلّا مظهر من مظاهر الإرث الحقيقي؛ بمعنى أنّ هذا السنخ من المعلومات والقداسة والعصمة حمله صلب واحد وعرق واحد ممتد في هذا النور الذي تَقلَّب في الأصلاب والأرحام: «أشهدُ أنّك كنتَ نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهَّرة، لم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها، ولم تُلبسك من مُدلهمّات ثيابها»[5].
فقراءة ثورة الحسين (عليه السلام) وتفسير ماهية تلك الحركة المباركة ـ من أجل التعرّف على السنن الإلهية في حركة تاريخ الرسالة ـ من الأُمور المهمّة جدّاً، والتي لا بدّ من دراستها والتنقيب عنها بشكل مفصّل وواضح.
فإنّنا عندما نسأل ـ مثلاً ـ: ما هي العلاقة بين أن يُقيم إبراهيم (عليه السلام) الكعبة وأن يكون بزوغ نبوّة النبيّ (صلى الله عليه وآله) من الكعبة، وأن يكون ظهور المهدي المنتظر عج الله تعالى فرجه الشريف من الكعبة؟
وما هي العلاقة بين تقديم إسماعيل (عليه السلام) للذبح قرباناً إلى الله، وتقديم الحسين (عليه السلام) قرباناً إلى الله تبارك وتعالى وفداءً للدين؟
وما هي العلاقة بين زواج الإمام علي (عليه السلام) من امرأة عراقية فاطمة أُمّ البنين وبين خروج الإمام علي (عليه السلام) إلى العراق والانتقال بالعاصمة الإسلامية إلى هناك؟ وما هي العلاقة بين خروج الإمام علي (عليه السلام) إلى العراق، واختيار الإمام الحسين (عليه السلام) العراق مهداً لحركته، واختيار المهدي المنتظر عج الله تعالى فرجه الشريف العراق عاصمة لدولته دولة العدل والقسط؟
وما هي العلاقة بين زواج الحسين (عليه السلام) من امرأة فارسية لتكون أُمّاً لزين العابدين (عليه السلام)، وبين كون بلاد فارس قاعدة للتشيع وخروج الخراساني الذي هو من أنصار الإمام المهدي من هذه القاعدة؟ وما هي العلاقة بين كون أُمّ الإمام المهدي عج الله تعالى فرجه الشريف جارية رومية وكون المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) ركناً من أركان دولة المهدي عج الله تعالى فرجه الشريف؟
فإنّ هذه الأحداث ليست أُموراً وقعت صدفة من دون أن تكون بينها روابط، بل إنّ هذه الأحداث تكشف لنا عن سنن إلهية كانت بمثابة وضع روابط مفاصل حركة الدين وحركة الرسالة منذ نوح (عليه السلام) ـ الذي أرسى سفينته في الكوفة ـ إلى ظهور المهدي المنتظر عج الله تعالى فرجه الشريف وقيام دولته المباركة في الكوفة.
فالتعرّف على حركة الحسين (عليه السلام) وتفسير ماهيّتها وشرح مبرّراتها لربطها بهذه المسيرة مسيرة الرسالة منذ اليوم الأول لها إلى آخر يوم على وجه البسيطة[6]، فالمبرّر لدراسة حركة الإمام (عليه السلام) وكوننا معنيين بالدراسة هو الوصول إلى كل تلك المعارف المهمة على مرّ تاريخ الرسالة الإلهية، وهو الغاية القصوى من الدين.
الجهة الثانية: الرؤية الفقهية للحركة الحسينية
وفي هذه الجهة هناك مجموعة من الأسئلة المهمة، أولاً: هل ما قام به الإمام الحسين (عليه السلام) امتثال لتكليف شخصي يخصّه، كما قد يستشعره البعض من قوله (عليه السلام): «إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أمرني بأمرٍ وأنا ماضٍ فيه»[7]، أم أنّه (عليه السلام) كان في إطار تطبيق تكليف عام، لا امتثال لتكليف شخصي؟
ثم لو كان التكليف عاماً، نسأل ثانياً: هل ذلك التكليف العام تكليف فردي أم تكليف اجتماعي؟ أي: هل المخاطب بذلك التكليف كل فرد فرد، أو أنّ المخاطب بذلك التكليف الأُمّة والمجتمع بأسره؟
فإن اخترنا أنّ ما قام به الإمام الحسين (عليه السلام) هو تطبيقٌ لتكليف فردي، فنسأل ثالثاً: ما هو ذلك التكليف الفردي؟ هل هو الدفاع عن النفس[8]؟
أم أنّ ذلك التكليف الفردي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إنّ من موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أنّه إذا توقّف تأثير النهي عن المنكر على إتلاف النفس ـ أحياناً ـ أو المال أو الجاه والمنصب، فإنّ النهي عن المنكر يُقدّم على تلك الأضرار وإن كانت جسيمة؛ وذلك لكون المنكر جسيماً جداً، وهذا ما يستشعره بعضهم من خلال قول الإمام الحسين (عليه السلام): «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي (صلى الله عليه وآله)، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»[9]؟
وإذا اخترنا أنّ حركة الإمام الحسين (عليه السلام) هي تطبيقُ تكليفٍ يخصّ الأُمّة والمجتمع الإسلامي، وليس المخاطب به فرداً من الأفراد؛ لذلك فقد أراد الإمام الحسين (عليه السلام) بحركته تشريع هذا الأمر الذي تُخاطَب به الأُمّة، وتطبيقه في الوقت نفسه؛ من هنا تظهر لنا عدّة احتمالات:
الأول: هل ذلك الأمر الذي خوطبت به الأُمّة الإسلامية ـ آنذاك ـ هو الأمر بحفظ مقام الإمامة عن الإذلال، والذي قد يُستفاد من قوله: «إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بِنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجلٌ فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله»[10]،
وقال: «ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون»[11]. فالأُمّة مخاطبة بصيانة هذا المنصب من أن يكون معرَّضاً للإذلال، وقبول بيعة يزيد بن معاوية تعريضٌ لهذا المنصب للإذلال؟
الثاني: أو يقال: إنّ المسألة لا ترتبط بمنصب الإمامة بما هو منصب الإمامة، بل إنّ منصب الإمامة هنا ملحوظ على نحو الطريقية للدين نفسه وليس ملحوظاً على نحو الموضوعية؛ فيكون الخطاب للأُمة في هذا الأمر متوجِّهاً لإعزاز الدين، فإذا ما بايع الإمام الحسين (عليه السلام) يزيدَ بن معاوية وأمثاله تحقّق معنى الإذلال للدين نفسه، ومن الواضح أنّ الأُمّة مطالبة بإعزاز الدين نفسه؛ إذ العزّة لله ولرسوله، كما قال تعالى: ﴿وَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾[12]، وهذا هو المقصود من قوله (عليه السلام): «يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون…».
الثالث: أو يقال: إنّ التكليف الذي خوطبت به الأُمّة هو تسليم مقام الخلافة إلى أهله، فليس المطلوب مجرد صيانة المنصب عن الإذلال، أو مجرد أن يكون الدين عزيزاً، بل لا بدّ من تسليم هذا المقام إلى أهله، وهذا كما يُعتبر تكليفاً للأُمّة فهو حق من حقوقها أيضاً؛ لأنّ من حقوق الأُمّة نفسها أن تكون تحت قيادة معصومة تمثل الإرادة السماوية تشريعاً وتطبيقاً. وبالتالي؛ فلا بدّ للأُمّة أن تقوم بمسؤوليتها في سبيل إرجاع هذا المنصب إلى أهله، وفي سبيل المطالبة بحقها في القيادة المعصومة.
الرابع: أو أن يقال: إنّ الأمر الذي خوطبت به الأُمّة هو إقامة العدالة، كما في قوله}: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[13]، فهي مطالبة بذلك سواء تمكّنت الأُمّة من إرجاع الأمر إلى أهله أم لم تتمكن من ذلك؛ لأنّ المطلوب الأصلي هو إقامة العدالة على الأرض، وإن كانت العدالة التامة لا تتحقق إلّا بقيادة المعصوم وكون الأمر بيده تشريعاً وتطبيقاً، إلّا أنّ هناك مرتبة أُخرى من العدالة يمكن للأُمّة تحقيقها.
فحينئذ ـ وبعد هذه الاحتمالات ـ لا بدّ من دراسة أنّ هذا التكليف الجماعي أو التكليف العام الذي خوطبت به الأُمّة الإسلامية، والذي أراد الحسين (عليه السلام) بحركته تشريعه وتطبيقه مع أيٍّ من هذه الاحتمالات السابقة ينسجم ويتطابق؟
وهنا تنشأ أسئلة أُخرى، بأن يقال: على فرض أنّ ما قام الإمام الحسين (عليه السلام) بتطبيقه هو التكليف بإرجاع مقام الخلافة إلى أهله، أو التكليف بإقامة العدالة على الأرض، فهل كان المخطط الحسيني هو أن يتمّ هذا الهدف ـ وهو إقامة العدالة أو دولة العدالة أو الدولة المعصومة ـ على يده، أم أراد أن يكون هو المفتاح لهذا المشروع ولهذا الخط؟
فكما أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كانت مهمتهما التأسيس للدولة الإسلامية؛ إذ أتمّ الإمام علي (عليه السلام) في عصره التشريعات المتعلّقة بالدولة الإسلامية من حيث السلطة القضائية والتنفيذية ووضع القوانين الاجتماعية والاقتصادية للدولة الإسلامية ـ كما يظهر من عهده لمالك الأشتر رضي الله تعالى عنه ـ وأصبح الدور الآخر على عاتق الإمام الحسين (عليه السلام) ومن بعده الأئمّة عليهم السلام، وهذا الدور هو الشروع في حركة تطبيق تلك التشريعات والقوانين على أرض الدولة الإسلامية،
فالحسين (عليه السلام) أراد أن يكون هو المفتاح للشروع بهذا الدور، لا أن يتمّ هذا الأمر على يده في عصره وفي زمانه، بل هو المفتاح لجميع ما حصل من ثورات وحركات منذ يومه (عليه السلام) إلى ظهور الإمام المهدي عج الله تعالى فرجه الشريف، فجميع ذلك مراحل لنفس حركة الإمام الحسين (عليه السلام)، وإنّ دولة المهدي عج الله تعالى فرجه الشريف ما هي إلّا امتداد لهذا المشروع الحسيني العظيم ومرحلة من مراحله.
وبالتالي؛ فلا مانع من أن يكون دور الحسين (عليه السلام) هو وضع الإطار العام لهذه الحركة العظيمة، وأن تكون شهادته (عليه السلام) بذرة لبداية وانطلاقة هذا المشروع إلى ظهور المهدي عج الله تعالى فرجه الشريف، وليس ذلك تحجيماً لدور الحسين (عليه السلام) ومقامه؛ فإنّ حركة كل إمام معصوم هي بحجم الظروف الموضوعية التي عاش فيها،
فعندما يقال: إنّ الدور الحسني كان دور الصلح وحقن الدماء والتمهيد لثورة الحسين (عليه السلام)، فإنّ هذا ليس تحجيماً لدور الحسن (عليه السلام)؛ وإنّما دوره ومسؤوليته في زمانه بحجم الظروف الموضوعية التي عاش فيها، وكذلك دور الصادِقَين عليهما السلام، ودور الكاظم (عليه السلام)، ودور الرضا (عليه السلام)، ودور الإمامين العسكريين عليهما السلام الذي اقتصر على إجابة المسائل والاستفتاءات وصرف الحقوق من خلال وكلائهم؛ فإنّ الظروف هي التي جعلت الدور بهذا الإطار، وليس ذلك تحجيماً لدورهم عليهم السلام.
فكل تلك الأسئلة بحاجة إلى دراسة فقهية من أجل معرفة أنّ ما قام به الإمام الحسين (عليه السلام) هل هو تطبيق لتكليف خاص أو لتكليف عام، وما هي حقيقة ذلك التكليف؟
الجهة الثالثة: الرؤية التحليلية للحركة الحسينية
يُبحث في هذه الجهة عن قسمين:
القسم الأول: البحث عن ماهية وحقيقة الحركة الحسينية
وهذا البحث من قبيل ما يقال: ما هي ماهية وحقيقة حركة الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ فيُجاب: إنّ ماهيتها وحقيقتها الدعوة والبيان. ومن قبيل ما يقال: ما هي حقيقة حركة الإمام المهدي المنتظر عج الله تعالى فرجه الشريف؟ فيُجاب: إنّ حقيقتها إقامة دولة العدل والقسط. وهنا نسأل أيضاً: ما هي حقيقة حركة الإمام الحسين (عليه السلام)؟
وللجواب عن هذا السؤال لا بدّ من الرجوع إلى كلمات وشعارات صاحب الحركة الإمام الحسين (عليه السلام)؛ لكي تتّضح وتتحدّد الإجابة المناسبة والصحيحة.
عندما نقرأ تصريحات الإمام الحسين (عليه السلام) ـ من أول انطلاقة الحركة والثورة وحتى يوم شهادته ـ نجد أنّها تُشير إلى عدة حقائق:
أولاً: رفض البيعة: فإنّ هناك تصريحاً للإمام (عليه السلام) يظهر منه أنّ واقع الثورة هو رفض البيعة؛ لأنّ في البيعة إذلالاً حينما قال (عليه السلام): «ومثلي لا يبايع مثله».
ثانياً: امتثال الأمر الإلهي: هناك تصريحٌ آخر يظهر منه أنّ المطلوب امتثال الأمر الإلهي، وذلك في قوله (عليه السلام): «أتاني رسول الله (صلى الله عليه وآله)… فقال: يا حسين، اخرج؛ فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً، فقال له ابن الحنفية:… فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟ فقال له: قد قال لي: إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا»[14].
ثالثاً: الإصلاح: وهنا يظهر منه (عليه السلام) أنّه في إطار إنشاء مشروع إصلاحي، وهو ما ذكره (عليه السلام) لأخيه محمد بن الحنفية في وصيته له: «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي (صلى الله عليه وآله)…»، بناءً على أنّ المراد بالخروج هو خروجه (عليه السلام) على الدولة الظالمة آنذاك، وليس الخروج من مكة إلى العراق.
رابعاً: مواجهة الظلم: وفي موقع رابع صرّح (عليه السلام) وهو في طريقه إلى العراق بأنّ الظلم لا بدّ من مواجهته: «ألَا ترون الحق لا يُعمَل به، والباطل لا يُتناهى عنه؛ ليرغب المؤمن في لقاء الله، وإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برماً»[15].
خامساً: الزحف المقدّس: المعنى الآخر الذي صرح (عليه السلام) به هو الزحف على كل حال؛ لأنّه لا خيار غير هذا العمل: «ألَا وإنّي زاحف بهذه الأُسرة على قلّة العدد، وكثرة العدو، وخذلة الناصر»[16].
الآراء في تعدّد وتنوّع كلمات الإمام الحسين (عليه السلام)
إذن، فهناك مجموعة من التصريحات والكلمات ـ المختلفة ظاهراً ـ قد صدرت من الإمام الحسين (عليه السلام)؛ من هنا لا بدّ من طرح هذا السؤال: هل هذه الموارد هي عبارة عن عوامل متعددة أم لا؟ فهنا عدّة آراء:
الرأي الأول: إنّ هذه الموارد والتصريحات هي عبارة عن عوامل متعدّدة وعلل ومبرّرات متنوعة في حركة واحدة.
الرأي الثاني: إنّه لا بدّ من إرجاع هذه المبرّرات كلها إلى هدف واحد، كما حاول الشهيد المطهري في كتابه الملحمة الحسينية من إرجاعها إلى حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرأي الثالث: هناك نظرة أُخرى لهذه التصريحات، وهي أن يقال: بأنّها تعبير عن مراحل مرّت بها الحركة الحسينية؛ أي: إنّ كل تصريح يتحدّث عن دور ومرحلة من المراحل تكون كل مرحلة تمهيداً لبروز مرحلة أُخرى.
وعليه؛ فهنا مراحل:
المرحلة الأُولى: مرحلة المدينة، وكانت مرحلة رفض البيعة ـ سواء أكان الإمام الحسين (عليه السلام) مختاراً في هذا الرفض أم مضطراً إليه، فهذا شيء آخر ـ ومن الطبيعي أن تكون لهذه المرحلة كلماتها الخاصة بها.
المرحلة الثانية: وهي مرحلة الخروج من مكة، وكانت مرحلة إظهار أنّه في مقام امتثال أمر إلهي، وكان لا بدّ لهذا الخروج من تفسير أمام صحابة النبيّ (صلى الله عليه وآله) والتابعين ومَن كان في حالة استغراب من خروج الحسين (عليه السلام) يوم التروية والناس قادمة إلى الحج في مكة.
المرحلة الثالثة: مرحلة تحديد الزمان والمكان، فأمّا المكان، فقد اختار (عليه السلام) العراق لانطلاق الثورة، وهو ما ذكره (عليه السلام): «ألم تكتبوا لي أن أقبل إلينا لقد أينعت الثمار واخضر الجناب، وإنّما تقبل على جند لك مجنّدة»[17]، فهذا النص يعبِّر عن هذه المرحلة في الحركة الحسينية، وليس هو تعبيراً عن أصل الحركة نفسها، بل هو تعبير عن تحديد الموقع والمكان.
كما يظهر منه (عليه السلام) أنّه أخَّر المعركة إلى يوم عاشوراء باختياره وإرادته؛ لأنّها كادت أن تتم في يوم التاسع من المحرم، إلّا أنّه (عليه السلام) اختار الزمان المناسب كما اختار المكان المناسب.
فكل هذه التصريحات التي ترتبط بإرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة، والسؤال عن حركة مسلم بن عقيل ومصيرها، ومعاتبة الحرّ بن يزيد الرياحي ومَن معه بأنّهم كتبوا إليه، وقد أخرج لهم خرجين من الكتب والرسائل، كل ذلك لا يرتبط بأصل الحركة وماهيّتها، بل هو مرتبط بتحديد المكان والزمان.
المرحلة الرابعة: وهي مرحلة يوم عاشوراء يوم الاستشهاد، والتصريحات التي برزت منه (عليه السلام) يوم عاشوراء هي التي تُعبِّر عن المرحلة الأخيرة من مراحل هذه الحركة المباركة.
إذاً؛ فكل تصريح وكل مقطع من كلام الإمام الحسين (عليه السلام) يُعبِّر عن مرحلة معيّنة تكون ممهِّدة للمرحلة التي بعدها، لا أنّ كل هذه التصريحات تُعبِّر عن ماهية الحركة نفسها، ولا أنّها علل وأسباب متعددة لحركة واحدة.
فهذه جهة من الجهات المهمة التي لا بدّ من بحثها في تفسير ماهية الحركة الحسينية.
القسم الثاني: البحث في عوامل الحركة الحسينية
البحث في أنّ هذه الحركة هل كانت حركة مادية طبيعية، أي: هل كانت في إطار العوامل الطبيعية المتاحة آنذاك، أو لا؟ فهنا احتمالان:
الأول: إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) أراد أن يحقّق هدفه من إقامة العدالة من خلال العوامل التي أُتيحت له، وهي ـ على سبيل المثال ـ التحرّك بمئة شخص أو يزيدون أو ينقصون، وبأن يكون له (عليه السلام) صوت ـ مثلاً ـ في الحجاز، وصوت في الكوفة، وصوت في البصرة، وصوت في اليمن،
وهذا يُعتبر الدور الأول للحركة، ثم ينتهي هذا الدور في مقطع تاريخي معيَّن، ليأتي دور آخر من قِبَل الإمام السجاد (عليه السلام) أو العقيلة زينب عليها السلام؛ ليكون إعلاماً لهذه الحركة، بحيث لولاه لانقضت هذه الحركة واندثرت، ثُمّ يأتي الدور الثالث، وهو دور الأئمّة المعصومين عليهم السلام في الإصرار على إقامة المجالس وإحياء الأمر لهذه الحركة المباركة، كما ورد عنهم عليهم السلام: «مَن جلس مجلساً يُحيَى به أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»[18].
الثاني: إنّ الحركة الحسينية لم تكن مؤطَّرة بالأُطر المادية الطبيعية؛ وذلك من خلال قراءة ما صدر عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) والزهراء عليها السلام من أنباء عن مصير هذه الحركة، وأنّه ينصب له علم في الطف، وينصب له علم لا يزيده مرور الأيام وكرور الدهور إلّا علواً، خصوصاً بملاحظة أنّ الظروف الطبيعية لم تكن متأتّية لحجم هذا الهدف الذي صرَّح به الحسين (عليه السلام) من خلال بياناته ورسائله، فلو كان الأمر خاضعاً للعوامل الطبيعية فقط لما كان وجه لتلك التصريحات المتكررة من قبل الإمام (عليه السلام)،
كيف وهي صدرت من سياسي حكيم يختار دوراً بحجم الظروف وبحجم الإمكانات التي بين يديه؟! وأيضاً عندما نضمّ إلى هذه التنبيهات والمؤشرات ما حدث من إعداد بني أسد في الأيام الأُولى لمقتله (عليه السلام) من القيام بدور معيَّن، وما حدث للسبايا في طريقهم إلى الكوفة وإلى الشام من معاجز وكرامات إلى آخر هذه الأُمور،
فجميعها يُظهِر أنّ هذه الحركة ـ سواء أكانت حركة إقامة العدالة أم كانت حركة إعزازٍ للدين ـ لم تكن متأطرة بالعوامل الطبيعية، ولم تكن متقوقعة في هذه الأسباب المادية المحدودة، بل كان للعوامل الغيبية دورٌ في هذه الحركة، ومن هذه العوامل دم الحسين (عليه السلام) وصبره وعطشه؛
فإنّ هذه الأُمور ربما يُنظَر إليها بمنظار مادي، ويُتعامل معها بالحسابات الطبيعية، فتبدو أُموراً طبيعية في ساحة المعركة، فإنّ مَن يُحاصَر في أرض ويُمنَع عنه الماء فإنّه يموت عطشاً، ومَن يقاتل فإنّه يُراق دمه، ومَن تكون الفئة المحاربة له فئة حاقدة فإنّه من الطبيعي أن تقوم بمجزرة تشمل حتّى ذبح الأطفال والتمثيل بالأجساد وسبي النساء،
ولكنّ الأمر ليس كذلك؛ لأنّ هذه الأُمور لا يُنظَر إليها بهذا المنظار الضيّق، وإنّما كل هذه الأُمور هي جزء من الحركة الحسينية نفسها، فالحركة لم تعتمد على فعل مادي جسدي تمثل في جسم الحسين (عليه السلام) وهو خارج من المدينة إلى مكة، ثُمّ من مكة إلى كربلاء، ثُمّ قيامه بحركة قتالية معيَّنة، إنّما انضمّت إليها عوامل هي كانت دخيلة ـ بالمنظور الملكوتي ـ في تحقيق أهداف الحسين (عليه السلام)، من دمه وصبره ومحنته وذبح أطفاله وسبي نسائه، بحيث يكون مجموع هذه العوامل الغيبية أقطاباً وأوتاداً اعتمدت عليها الحركة الحسينية، ويكون ذلك تفسيراً لمشيئة الله تعالى بأن يرى الحسين (عليه السلام) قتيلاً، وأن يرى النساء سبايا.
وبالتالي؛ إذا قُرئت الحركة الحسينية من هذا المنظار تبيَّن أنّ ما ورد في كثير من فقرات الزيارات الشريفة عن الصادق (عليه السلام) والأئمّة عليهم السلام من بعده في الحسين (عليه السلام) من التركيز على نقاط معيَّنة في هذه الحركة: من أنّه صريع الدمعة الساكبة، وصاحب المصيبة الراتبة، وبطل الإسلام، والمضحّي بنفسه في سبيل الله، أو عندما يُخاطب العباس (عليه السلام) بالصابر المجاهد المحامي الناصر… «أَشهدُ وأُشهِدُ اللهَ أنّك مضيتَ على ما مضى عليه البدريون والمجاهدون في سبيل الله»[19].
فإنّه بذلك يتبيَّن لنا الجواب عن السؤال الذي طرحناه في الجهة الأُولى هل نحن معنيّون بدراسة الحركة الحسينية أم لا؟
والجواب: إنّنا معنيّون بدراسة حركة الحسين (عليه السلام)؛ لأنّنا معنيون بفهم هذه الزيارات الشريفة التي وردت في حركة الحسين (عليه السلام)، فهي كانت شرحاً لماهية هذه الحركة الحسينية وتفسيراً لحقيقة هذه الحركة. ومن جهة أُخرى، نفهم من مجموعة هذه الزيارات أنّ الحركة لم تعتمد على العوامل الطبيعية وحدها، وإنّما اعتمدت على مجموعة من العوامل الغيبية التي كانت أوتاداً وأعمدة لتحقيق أهداف هذه الحركة وثمراتها.
إشكال على غيبية الحركة الحسينية
قد يقال: بأنّ تفسير الحركة الحسينية بتفسير غيبي وإخضاعها للعوامل الغيبية يخرجها عن الإطار الإنساني، وبالتالي؛ فلا قابلية ولا صلاحية لها أن تقدم بوصفها مثلاً إنسانياً أعلى للحركة الهادفة التي تصل إلى غاياتها ضمن الطرق والسبل الإنسانية والطاقة البشرية.
جواب الإشكال:
يمكن الجواب عن الإشكال المتقدم بأنّ العامل الغيبي على نحوين:
النحو الأوّل: أن يكون العامل نفسه أمراً غيبياً، وهذا نظير تدخّل الملائكة في معركة بدر، كما جاء في قوله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ رَمَىٰ﴾[20]، فهذا العامل في حد نفسه أمرٌ غيبيٌ، ولا ننكر دخله في سلوك المؤمن، فضلاً عن حركة الأنبياء والأوصياء والمصلحين بمقتضى قوله}: ﴿ أُولَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾[21]. ولكنّنا لا نربط الحركة الحسينية بمثل هذا العامل، وإن كان دخيلاً فيها.
النحو الثاني: أن يكون العامل ذا تأثير ملكوتي إلّا أنّه في حد نفسه عاملٌ بشريٌ إنساني، نظير ما تطرحه مدرسة علم النفس الاستبطاني من أنّ إرادة الإنسان لها دخل في صناعة إنجازاته، والتلقين النفسي من الإنسان لنفسه في كل مرحلة من مراحل خوضه للحياة عامل دخيل في نجاحه ووصوله إلى المعجزات في إنجازاته وأفعاله.
فالمطروح في هذا التفسير هو أنّ هناك مجموعة من العوامل البشرية والإنسانية لها تأثير ملكوتي في إنجاح الإنجاز البشري، فالحسين (عليه السلام) من أجل الوصول إلى غايته وهدفه من حركته ـ وهو أن تكون تلك الحركة هي المفتاح أو البذرة أو المنطلق لجميع الحركات والثورات التي تصبّ في تحقيق العدالة والقسط على الأرض ـ قد استخدم الأدوات البشرية التي لها تأثير ملكوتي في صناعة الإنجاز،
نظير الدم الذي يُعبِّر عنه ـ وهو يجري من طفله أو من قلبه ـ: «هوَّن عليَّ ما نزل بي أنّه بعين الله»[22]، ونظير العطش الذي عبَّر عنه بخطابه لولده على الأكبر: «فما أسرع ما تلقى جدَّك محمداً (صلى الله عليه وآله) فيسقيك بكأسه الأوفى شربةً لا تظمأ بعدها أبداً»[23]، ونظير قوة الإرادة التي عبَّر عنها بقوله: «لا والله، لا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أُقرّ إقرار العبيد»[24]، ونظير عدم الانحناء الذي عبَّر عنه بقوله:[25]
أنا الحسين بن علي *** أحمــي عيـالات أبـي
آليـت أن لا أنـثـني *** أمضي على ديــن النبي
ونظير لفظ الذلّ الذي عبَّر عنه بقوله: «هيهات منّا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون». فعندما يرد علينا التساؤل: كيف استطاع الحسين (عليه السلام) بهذا الحجم الصغير من العُدّة والعتاد والأنصار، وفي هذا المدى الزمني القصير الذي خاض فيه المعركة، وفي هذه الوسائل الإعلامية الضئيلة التي توفّرت آنذاك، أن يتجاوز الحدود المادية المعبَّر عنها بالزمكان، وأن يفرض حركته على الزمن، وعلى جميع الأُطُر والإمكانات البشرية؟
فالجواب عن هذا السؤال هو: أنّ الإمام (عليه السلام) إنّما تخطّى كل هذه القيود، وتجاوز كل هذه الحدود بالأدوات التي هي في ظاهرها أدوات بشرية إنسانية، ولكنّها في واقعها ذات تأثير ملكوتي غيبي في صناعة الحدث وتجاوزه مدى الزمان والمكان، وهذه إحدى المعاني المشار إليها من المشيئة الإلهية برؤيته (عليه السلام) قتيلاً ورؤية النساء سبايا.
هذا كلّه فيما يتعلّق بهذه الجهة الثالثة، وهي جهة حقيقة وماهية الحركة الحسينية.
الجهة الرابعة: الرؤية العقائدية لـ الحركة الحسينية
دراسة الحركة الحسينية من وجهة نظر عقائدية في غاية الأهمية؛ إذ لا يمكن فصل دراسة حركة حَمَلَة رسالة السماء ـ من الأنبياء والأوصياء ـ عن الجانب الاعتقادي، وهذا نظير ما تقدم في الجهة السابقة من عدم إمكان فصل حركة المصلحين عن العوامل الغيبية؛ لأنّ منطلقهم من الغيب إلى الغيب، كذلك لا يمكن فصل حركتهم عن الإطار الاعتقادي؛ لأنّهم هم حملته وروّاده.
وبالتالي؛ فلا بدّ من تمهيد البحث في الجهة العقائدية؛ لربطها بثورة الإمام الحسين (عليه السلام). فنقول: قد تقرّر من الأحاديث الشريفة أنّ المعصوم (عليه السلام) هو مظهر لمشيئة الله تعالى، بل هو مشيئة الله تبارك وتعالى بمقتضى ما ورد: «رضا الله رضانا أهل البيت»[26]،
وما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «فإنّا صنائع ربّنا والناس بعد صنائع لنا»[27]، وقوله (عليه السلام): «…ونحن إذا شئنا شاء الله، وإذا كرهنا كره الله…»[28]، وبمقتضى ما ورد في زيارة الجامعة: «والمستقرّين في أمر الله»[29]؛ حيث إنّ هناك عالَـمَين: عالم الخلق وعالم الأمر، وقد أُشير إليهما بقوله}: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾[30] وإنّ عالم الخلق انعكاس لعالم الأمر، فالاستقرار في عالم الأمر يعني أنّ القرار في عالم الخلق بيد مَن له الاستقرار في عالم الأمر،
وقد أشارت الزيارة الجامعة في عدة فقرات منها إلى التزاوج الوثيق بين هذين العالَمين، وأنّ مَن له الاستقرار في عالم الأمر فله القرار في عالم الخلق: «بكم فتح الله، وبكم يختم، وبكم ينزل الغيث»[31]، وما يُشير بوضوح إلى هذا التزاوج الوثيق بين عالم الخلق وعالم الأمر هو قوله (عليه السلام): «وأسماؤكم في الأسماء، وأجسادكم في الأجساد، وأرواحكم في الأرواح، وأنفسكم في النفوس»[32]، فلا يكاد يتفاعل قرار في عالم الخلق إلّا وله منطلق من عالم الأمر.
فمن هذا المنطلق: وهو أنّ حركة المعصوم هي تجسيد لمشيئة الله} المشيئة التشريعية والتكوينية، ومشيئته تبارك وتعالى واحدةٌ، إنّما الفرق في المتعلَّق، فتارة يكون متعلّقها تشريعاً وأُخرى تكويناً. وقد أشار الإمام الحسين (عليه السلام) ـ كما ذكرنا سابقاً ـ إلى ائتلاف الجانبين التشريعي والتكويني في حركته في مفاد قوله: شاء الله أن يراني قتيلاً وأن يرى النساء سبايا.
ففي هذه الجهة كيف يتم الربط والتوفيق بين كونهم مظهراً لمشيئة الله}، وكون جريهم على طبق قوانين عالم المادة الذي يقتضي التغيّر والتجدّد، وبحسب التعبير القرآني يقتضي المحو والإثبات، كما في قوله}: يَمْحُو اللَّـهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾[33]،
فلأجل ذلك لا بدّ من عرض عدّة مفردات مهمّة لها دخل في بيان الربط:
المفردة الأُولى: في بيان المشيئة، فقد ورد في بعض الأخبار الصحاح: «خلق الله المشيئة بنفسها، ثم خلق الأشياء بالمشيئة»[34]، وفيه عدّة تفسيرات:
منها: إنّ سائر الكون المعبّر عنه بالوجود الانبساطي الإطلاقي راجع للمشيئة، حيث إنّ سائر الموجودات الإمكانية مرجعها إلى المشيئة، والمشيئة هي عبارة عن الوجود الانبساطي الإطلاقي.
ومنها: إنّ له تعالى مشيئة ذاتية كما أنّ له مشيئة فعلية بلحاظ أنّ ذاته} التي هي الحياة والعلم والقدرة هي اقتضاء للفيض، وبلحاظ مبدئية ذاته للفيض يكون لجميع صفات الفعل وألوان الفعل جذر ذاتي، بحيث يكون مرجع صفات الفعل إلى صفة من صفات الذات.
ومنها: إنّ المقصود بمثل هذا الحديث هو أنّ الله تبارك وتعالى برأ المخلوقات بمشيئته، وأنّ مشيئته لم تستند لمشيئةٍ قبلها، لا أنّ مشيئته ذاتية، ولا أنّ مشيئته هي عبارة عن الوجود الانبساطي الإطلاقي،
فالمقصود: أنّ مشيئته لم تنشأ عن مشيئةٍ قبلها. وقد اختار المشهور من علمائنا أن ليست إرادته إلّا فعله استناداً إلى الروايات الشريفة التي منها: صحيحة عاصم بن حميد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، «قلت: لم يزل الله مريداً؟ قال: إنّ المريد لا يكون إلّا لمراد معه، لم يزل [ الله ] عالماً قادراً ثمّ أراد»[35]، ومنها: صحيحة صفوان بن يحيى، قال: قال (عليه السلام): «الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، وأمّا من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك»[36].
المفردة الثانية: في بيان مظهرية المعصوم للمشيئة الإلهية، فإنّ المعصوم مظهر لمشيئة الله تعالى، فهو الجامع بين سائر أطوار المشيئة الإلهية في سائر العوالم في صلب ذاته القدسية، فهو الكنز الخفي في عالم الواحدية المعبَّر عنه بعالم الأسماء والصفات، وهو رقيقة العرش في قوله: ﴿ الرَّحْمَـٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ﴾[37]،
وهو ركن الكرسي في قوله تعالى: ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [38]، وهو العقل الأوّل في عالم الجبروت الذي أشارت إليه النصوص: «إنّ أوّل ما خلق الله العقل» [39]، وهو النفس الأوّل في عالم الملكوت الذي أشارت إليه الزيارة الجامعة: «خلقكم أنواراً فجعلكم بعرشه محدقين، حتّى مَنَّ علينا بكم، فجعلكم الله في بيوت أذن الله أن تُرفَع ويُذكَر فيها اسمه»[40]،
وهو مفتاح عالم المادة وعالم الناسوت، بل هو غايته وشرفه الذي أشار إليه حديث الكساء في الحديث القدسي: «ما خلقتُ سماءً مبنيّة ولا أرضاً مدحيةً…»[41]، إلى آخر كلمات حديث الكساء. فذاته القدسية كثيرة في عين وحدتها؛ حيث إنّ ذاته القدسية جامعة لأطوار المشيئة الإلهية لسائر هذه العوالم، وهذا ما يتفرَّع عنه البحث في المفردة الثالثة.
المفردة الثالثة: هل علم المعصوم (عليه السلام) إفاضة قهرية عليه أو أنّ علمه بيده ـ حيث إنّ ما ورد في الحديث الشريف: «إِذا أرادَ الإِمامُ أنْ يعلم شيئاً أعلمه الله ذلك»[42]، ليس المقصود منه أنّه يكون جاهلاً فترة فيطلب العلم اختياراً فيتحوّل إلى كونه عالماً، وإنّما المقصود منه أنّ علمه بيده وتحت اختياره وليس مجبوراً عليه ـ وبتبع هذا البحث يأتي بحث آخر أيضاً، وهو أنّ علمهم عليهم السلام الاختياري هل هو خاضع للبداء المشار إليه في قوله}: ﴿ يَمْحُو اللَّـهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾[43]، أم لا؟
مراتب علم الإمام (عليه السلام)
مقتضى مراجعة النصوص الشريفة، فإنّ هناك ثلاث مراتب لعلم الإمام (عليه السلام):
المرتبة الأُولى: العلم الحصولي بما هو نفس متعلقة بالبدن كسائر الأنفس، فإنّ مقتضى تعلّق النفس بالبدن تعلّق التدبير والتصرّف ارتسامُ صور الأشياء في النفس، فهذا العلم الحصولي موجود لدى الإمام (عليه السلام).
المرتبة الثانية: العلم الحضوري الإفاضي الذي هو مقتضى كونهم ولاة الأمر، ومقتضى كونهم المشيئة الفعلية السارية، فعلمهم الحصولي خاضع ومحكوم لعلمهم الحضوري الإفاضي، وعلمهم الحضوري الإفاضي الذي هو تجسيد للمشيئة الإلهية، وإن كان في عالم الإمكان وعالم المادة يكون مجراه خاضعاً للمحو والإثبات والتغيّر والتبدّل،
إلّا أنّ هذا الخضوع لقانون المحو والإثبات هل هو لقصور في القابل وهو نفس عالم المادة؛ حيث إنّ من طبيعته ومقتضياته التغيّر والتبدّل، أم هو لقصور في الفاعل؛ بمعنى أنّ هذا العلم الحضوري الفيضي الذي لهم ـ كعلم الملائكة المقرَّبين الذين هم أدوات في إفاضة هذا الوجود ـ خاضعٌ في حدّ ذاته للمحو والإثبات؟
فقد يقال: بأنّ ظاهر بعض النصوص الشريفة أنّ هذا النوع من العلم الحضوري الإفاضي هو في حدّ نفسه ـ لا بلحاظ متعلّقه ومجراه ـ خاضعٌ لعالم المحو والإثبات، ومنها هذه الرواية الواردة عن الحسين (عليه السلام) أنّه لمّا نزل شقوق أتاه رجل فسأله عن العراق، فأخبره بحاله فقال: «إنّ الأمر لله يفعل ما يشاء، وربّنا تبارك كل يوم في شأن، فإن نزل القضاء فالحمد لله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء ودُوِّن الرجاء فلم يبعد من الحق نفيه»[44]. وفي الأبيات المسندة إليه التي تمثل بها في يوم عاشوراء:[45]
فإن نهزم فــهزامون قدما *** وإن نُغـلب فغير مغلّبينا
وما إن طبّنا جـبن ولكــن *** منايانا ودولة آخــــرينا
إذا ما الموت رُفع عن أُناس *** كــلاكله أنــاخ بآخرينا
قد يقال: إنّه إشارة إلى ذلك وإنّ علمهم خاضع للبداء ولقانون المحو والإثبات.
المرتبة الثالثة: المبادئ العالية، والتي هي عبارة عن الكنز الخفي في عالم الواحدية ورقيقة العرش في ذلك العالم، فإنّ مقتضى كونهم عين هذه المبادئ العلمية العالية أنّ لهم الإحاطة بما سواه تبارك وتعالى، كما ورد في بعض الروايات الشريفة: أنّ لهم علم ما كان وما يكون وما هو كائن[46].
وبالتالي؛ في مقام المعارضة بين هذه الروايات وما ورد عنهم في بعض أحاديثهم: أنّ العلم يُحجَب عنهم فلا يعلمون، ويُبسَط لهم فيعلمون، هو ترجيح هذه الطائفة من الروايات على تلك الطائفة بلحاظ شهرتها الروائية وكثرة طرقها ـ مثلاً ـ ممّا يوجب الوثوق بها في مقام المعارضة مع الطائفة الثانية، وإنّ مقتضى الكمال ـ حيث إنّهم النسخة الأُولى من الكمال الإمكاني ـ ومقتضى أنّهم عين الكمال وصرف الكمال،
كما قُرِّر في قاعدة إمكان الأشرف، أنّه ليس هناك كمالٌ يمكن حصوله لهذا المخلوق الإمكاني إلّا وكماله فعليّ له، فليس هناك مرحلةٌ وحالة منتظرة بين الإمكان والوقوع، فكل كمال يمكن نيله لمحمدٍ (صلى الله عليه وآله) وآله فهو ثابت لهم بالفعل؛ حيث إنّ إحاطتهم بما كان وما يكون وما هو كائنٌ على نحو الحضور العيني التنجيزي الذي لا يخضع لبداءٍ ولا لتغيّرٍ،
فلأجل ذلك ـ ولا نريد هنا بحث المسألة بحثاً عقائدياً مفصّلاً، وحسمها من حيث الأدلة، بل هو طرح في ضمن هذه الجهة العقائدية ـ فإنّ علمهم الحضوري الإفاضي في عالم المادة محكومٌ لعلمهم بلحاظ كونهم المبادئ العلمية العالية في تمام أطوار المشيئة الإلهية.
وبالتالي؛ فإنّ جريهم على وفق عالم المادة من حيث اقتضاء طبيعته التغيّر والمحو والإثبات، لا يتنافى مع إحاطتهم التامة على نحو الإحاطة التنجيزية التي لا تخضع لاحتمال التغيّر والبداء، بل هو خاضع له ومحكوم به؛ وعلى هذا الأساس يصل الكلام إلى المفردة التالية في هذه الجهة العقائدية.
المفردة الرابعة: إنّ مقتضى عصمتهم العلمية في الموضوعات الخارجية أن تكون تصرّفاتهم في إطار علمهم، بل حتّى على الرأي الشاذ الذي لا يرى أنّ لهم العصمة العلمية في الموضوعات الخارجية، فإنّما يقال به في الموضوعات الفردية، كأكل الإمام وشربه ومشيه ونومه،
وأمّا الموضوعات العامة التي لها تأثير في مصير الأُمّة الإسلامية فلا يمكن أن تكون قابلة للخطأ والصواب؛ بحيث يتعرَّض مصير الأُمّة ومسيرتها لخطأ القيادة ولخطأ الإمام، فحتى على هذا الرأي الشاذ لا بدّ من التفصيل بين الموضوعات المؤثِّرة في مسيرة الأُمّة، وبين الموضوعات الفردية التي لا أثر لها على تلك المسيرة وعلى المسيرة التطبيقية للتشريع نفسه في الأُمّة الإسلامية، وبالتالي؛ فحيث إنّ صلح الحسن (عليه السلام) وحركة الحسين (عليه السلام) وحروب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من الموضوعات الخارجية التي لها تأثيرٌ في مصير الأُمّة، والتي لا تنفكّ عن العصمة العلمية؛
فمن هنا عندما يُطرَح التساؤل: كيف نوفِّق بين عصمتهم العلمية في الموضوعات الخارجية وبين إقدامهم على ما يؤدّي إلى تلف الأنفس والأموال، أو إقدامهم على أُمور تكون بحسب المقاييس المادية زائلة ومنقضية، نظير ما يقع في التساؤل عن الحروب التي خاضها أمير المؤمنين (عليه السلام) وانتهت بعدم الانتصار العسكري للإمام (عليه السلام)، أو إرسال الحسين (عليه السلام) لمسلم بن عقيل والذي انتهى بمقتل مسلم بن عقيل (عليه السلام)، ونحو ذلك من التصرفات والتصريحات التي صدرت عنهم عليهم السلام، والتي يُسأل عنها أنّه كيف يتمّ التوفيق بينها وبين العصمة العلمية في الموضوعات الخارجية؟
وفي مقام الجواب تُطرَح الوجوه الثلاثة:
الوجه الأوّل: إنّ علمهم في إطار عالم المادة علمٌ خاضعٌ للبداء والتغيّر، وهو ما أشرنا إليه في المفردة السابقة، وإنّه محل للتأمل والنظر.
الوجه الثاني: إنّ التكاليف والأوامر التي خوطب بها الأئمّة عليهم السلام ـ فردية أو اجتماعية ـ لم تُنَطْ بعلمهم الشهودي التنجيزي، وإنّما أُنيطت بمجريات عالم المادة وما يقتضيه من قوانين التغيّر والمحو والإثبات، فجرى تكليفهم في ضمن الإطار البشري الإنساني الذي هو الجامع المشترك بينهم وبين سائر الخلق، وإن كانوا ـ بما أنّهم هم المبادئ العلمية العالية ـ مطّلعين على أنّ مسيرتهم لها مدة زمنية محدّدة، ولها نتيجة منقضية وزائلة بحسب المقاييس المادية، ولكن لم يخاطبوا فيما هو خارج هذا الإطار، وإنّما خوطبوا بما هو ضمن هذا الإطار نفسه.
الوجه الثالث: إنّهم أُمروا على الإقدام على ما فيه قتلهم وفناؤهم وما يكونون فيه مصداقاً للصبر والمظلومية؛ كي يكون ذلك أعلى صورة التسليم والرضا بقضاء الله، كما يظهر من كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء؛ حيث ورد عنه (عليه السلام): «يا إلهي، صبراً على قضائك ولا معبود سواك يا غياث المستغيثين»[47].
فالإمام (عليه السلام) مع علمه التنجيزي بسائر الأُمور، إلّا أنّ مقتضى كونه المشيئة الإلهية في إطار التشريع وفي إطار التكوين فهو أعلى صورة من صور التسليم والرضا في عالم الإمكان، والتي عند التأمّل لا نرى اثنينية وانفكاكاً بينها وبين كونه هو المشيئة الإلهية.
الهوامش
[1] آل عمران: آية33ـ34.
[2] الحديد: آية26.
[3] البقرة: آية129.
[4] ابن قولويه، محمد بن جعفر، كامل الزيارات: ص375.
[5] الطوسي، محمد بن الحسن، مصباح المتهجّد: ص721.
[6] خصوصاً مع الأخذ بروايات الرجعة وأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كما هو فاتح لهذه الثورة فهو خاتم أيضاً، حيث إنّه في الرجعة يكون له الحكم، ويكون قيام الدولة المباركة أيضاً على يده، كما هو على يد حفيده الإمام المنتظر عج الله تعالى فرجه الشريف.
[7] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص21.
[8] كما في بعض كلمات المحلّلين لحركة الإمام الحسين (عليه السلام): أنّه حيث ضويق في المدينة خرج إلى مكة، وحيث ضويق في مكة خرج منها، وحيث ضويق في حركته إلى الكوفة دافع عن نفسه وهو في طريقه إلى الكوفة، فانتهى هذا الدفاع بمقتله وشهادته العظيمة وبتلك الفاجعة الكبرى.
[9] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329.
[10] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص17.
[11] المصدر السابق: ص59. ابن نما الحلي، محمد بن جعفر، مثير الأحزان: ص40.
[12] المنافقون: آية8.
[13] الحديد: آية25.
[14] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص40.
[15] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص224.
[16] ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج14، ص219.
[17] الشامي، يوسف بن حاتم، الدر النظيم: ص553. واُنظر: المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص38. والطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص262.
[18] الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص131، ح119.
[19] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص441.
[20] الأنفال: آية17.
[21] المجادلة: آية22.
[22] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص69. المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص46.
[23] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص67. واُنظر: الكوفي، أحمد بن أعثم، الفتوح: ج5، ص115.
[24] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص323. واُنظر: ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4، ص62.
[25] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص258.
[26] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص38. ابن نما الحلي، محمد بن جعفر، مثير الأحزان: ص29.
[27] الشريف الرضي، نهج البلاغة: ج3، ص32.
[28] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج26، ص7.
[29] الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا: ج1، ص306. مَن لا يحضره الفقيه: ج2، ص610.
[30] الأعراف: آية 54.
[31] الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا: ج1، ص308.
[32] المصدر السابق.
[33] الرعد: آية 39.
[34] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص110.
[35] المصدر السابق: ج1، ص109.
[36] المصدر السابق.
[37] طه: آية5.
[38] البقرة: آية255.
[39] المازندراني، محمد صالح، شرح أصول الكافي: ج1، ص202. المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج1، ص97.
[40] الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج2، ص613.
[41] الطريحي، فخر الدين، المنتخب للطريحي: ص254. الفتّال النيسابوري، روضة الواعظين: ص84.
[42] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص258.
[43] الرعد: آية39.
[44] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص246.
[45] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص59. ابن نما الحلي، محمد بن جعفر، مثير الأحزان: ص40.
[46] اُنظر: الصفار، محمد بن الحسن، بصائر الدرجات: ص147.
[47] القندوزي، سليمان بن إبراهيم، ينابيع المودة: ج3، ص82.