الاجتهاد: روى المفيد بسنده إلى ابن عباس قال: لما توفي رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» تولى غسله علي بن أبي طالب «عليه السلام» والعباس معه، والفضل بن العباس، فلما فرغ «عليه السلام» من غسله كشف الإزار عن وجهه، ثم قال: بأبي وأمي، طبت حيا، وطبت ميتا، انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممن سواك، من النبوة، و الأنبياء، خصصت حتى صرت مسليا عمن سواك، وعممت حتى صار الناس فيك سواء.
ولو لا أنك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع لأنفذنا عليك الشؤون (الشؤون: هي منابع الدمع في الرأس.)، ولكان الداء مما طلا، والكمد محالفا، وقلاّ لك، ولكنه ما لا يملك رده، لا يستطاع دفعه.
ثم أكب عليه فقبل وجهه والإزار عليه [1].
ونقول:
قد يقال: إن عليا «عليه السلام» ذكر أن امتناعه عن إنفاذ ماء الشؤون عليه، لأن ذلك يعد جزعا، و النبي «صلى اللّه عليه وآله» قد أمر بالصبر، و نهى عن الجزع. مع أن ثمة نصا آخر مرويا عنه «عليه السلام» يخالف هذا المعنى و يدل على أنه لا مانع من الجزع عليه «صلى اللّه عليه و آله»، حيث يقول: «إن الصبر لجميل إلا عنك، و إن الجزع لقبيح إلا عليك» [2].
و قد جزع الإمام الصادق «عليه السلام» على ابنه إسماعيل جزعا شديدا [3]، و جزع آدم على ابنه هابيل [4].
و نجيب:
أولا: إنه لا منافاة بين ذلك كله، فإن للجزع مراتب، بعضها محرم مطلقا، حتى لو كان جزعا على النبي «صلى اللّه عليه و آله» و الوصي، و هو ما يوجب اختلال الحال، لمجرد كونه أبا أو قريبا، أو لتخيله فوات أمر دنيوي بموته، و من دون أية فائدة أو عائدة، لا على الإنسان في مزاياه و أخلاقه، و لا على الدين. .
و هناك مرتبة من الجزع تحرم إذا كان المصاب بغير النبي و الوصي، و تحل إذا كان المصاب بهما «صلوات اللّه عليهما و آلهما» . شرط أن يكون له فائدة على الإنسان في إيمانه و تقواه، أو على نصرة الدين، و حفظ المسلمين، كجزع يعقوب على يوسف «عليهما السلام»، الذي كان جزعا محبوبا للّه
و مطلوبا، لأنه يعطيهم الإنطباع عن قيمة الإنسانية في الإنسان، المتمثلة بما تجلى في يوسف «عليه السلام» من خصال الخير، و حميد الصفات، و فريد المزايا لدى أنبياء اللّه و أصفيائه، و هو يؤكد عظم الخسارة بفقد هذا النوع من الناس.
بالإضافة إلى فوائد أخرى تعود على الجازع نفسه، تكاملا، و ثباتا، و صلابة في الدين، و جهادا و صبرا في سبيل اللّه تعالى، إلى الكثير من الفوائد الأخرى. .
فهذا الجزع المفيد جدا محبوب ومطلوب للّه تعالى، حتى لو أدى إلى العمى، أو الخوف من أن يكون حرضا [1]أو أن يكون من الهالكين. .
و أما الجزع على الناس العاديين الذي لا دافع له إلا شدة التعلق العاطفي، و لا فائدة منه و لا عائدة، فهو مبغوض للّه، و محرم على عباد اللّه تبارك و تعالى. لأنه إنما يعبر عن أنانية طاغية، و حب عارم للدنيا، و تعلق مقيت بها، لأنه إنما يجزع على شيء فقده، و لذة فاتته.
و ربما يبلغ حدّ إظهار الإعتراض على قضاء اللّه تعالى و قدره.
و هذا يفسر لنا الروايات الصحيحة التي أكدت على استحباب الجزع على الإمام الحسين «صلوات اللّه و سلامه عليه» ، و يبين لنا المراد من قول علي «عليه السلام» و هو يرثي رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» : «إن الجزع قبيح إلا عليك الخ. .» .
ثانيا: قد يشار هنا إلى جواب آخر أيضا، و هو: أن الجزع، و إن كان جائزا عليه «صلى اللّه عليه و آله» و له درجة من الثواب، و لكن التجلد و الصبر هو الأفضل، و الأكثر ثوابا لأن فيه المزيد من المشقة و الجهد، و هو أيضا يوجب ثبات الناس على دينهم، و عدم السقوط أمام التحدي الكبير الذي ينتظرهم، بل قد يتخذ منه بعض المغرضين ذريعة للتخلف عن جيش أسامة، فأصبح بذلك مرجوحا، و ربما يكون محرما، و إن كان لو لا ذلك لكان هو الأفضل و الأرجح.
الخضر عليه السّلام يعزي برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:
عن أنس قال: لما قبض النبي «صلى اللّه عليه و آله» أحدق به أصحابه، فبكوا حوله واجتمعوا، فدخل رجل أشهب اللحية، جسيم صبيح، فتخطى [رقابهم]فبكى، ثم التفت إلى أصحاب رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» ، فقال: إن في اللّه عزاء من كل مصيبة، و عوضا من كل فائت، و خلفا من كل هالك، فإلى اللّه فأنيبوا، و إليه فارغبوا، و نظره إليكم في البلاء، فانظروا، فإن المصاب من لم يجبره.
فانصرف، و قال بعضهم لبعض: تعرفون الرجل؟ !
قال أبو بكر و علي: نعم، هو أخو رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» الخضر «عليه السلام» [5].
و نقول:
أولا: قال الصالحي الشامي عن هذا الحديث: قد ذكر في كتاب الموضوعات [6].
و قال البيهقي: هذا منكر بمرة [7].
و قال الذهبي: عباد بن عبد الصمد، منكر الحديث [8].
ثانيا: روى محمد بن عمر برجال ثقات، و ابن أبي حاتم، و أبو نعيم عن علي «عليه السلام» : أن رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» لما قبض و كانت التعزية به جاء آت، يسمعون حسه و لا يرون شخصه، فقال: السلام عليكم، أهل البيت و رحمة اللّه بركاته كُلُّ نَفْسٍ ذٰائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ إِنَّمٰا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ [9]إن في اللّه تعالى عزاء من كل مصيبة، و خلفا من كل هالك، و دركا من كل فائت، فباللّه فثقوا، و إياه فارجوا، فإن المحروم من حرم الثواب، و إن المصاب من حرم الثواب، و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته. .
فقال علي: هل تدرون من هذا؟ هذا الخضر «عليه السلام» [10].
و لعل هذا أقرب إلى الصواب، و اللّه هو العالم بالحقائق.
الهوامش
[1] نهج البلاغة (بشرح عبده) ج 2 ص 228 و الأمالي للمفيد ص 60 و (نشر دار المفيد) ص 103 و البحار ج 22 ص 327 و البحار ج 22 ص 527 و 542 و الأنوار البهية ص 45 و التمهيد لابن عبد البر ج 2 ص 162 و شرح النهج للمعتزلي ج 13 ص 24 و تمهيد الأوائل و تلخيص الدلائل للباقلاني ص 488.
[2] نهج البلاغة (بشرح عبده) ج 4 ص 71 البحار ج 79 ص 134 و دستور معالم الحكم ص 198 و عيون الحكم و المواعظ للواسطي ص 150 و غرر الحكم ص 103 و نهاية الأرب ج 5 ص 193 و البحار ج 79 ص 134 و جامع أحاديث الشيعة ج 3 ص 498 و شرح النهج للمعتزلي ج 19 ص 195.
[3] راجع: بحار الأنوار ج 47 ص 249 و 250 و مستدرك سفينة البحار ج 2 ص 60.
[4] البحار ج 11 ص 224 و 230 و 240 و 264 و ج 23 ص 59 و 63 و 64 و علل الشرائع ج 1 ص 19 و تفسير العياشي ج 1 ص 306 و تفسير القمي ج 1 ص 166 و التفسير الصافي ج 1 ص 416 و ج 2 ص 29 و تفسير نور الثقلين ج 1 ص 432 و 616 و تفسير كنز الدقائق ج 2 ص 341 و قصص الأنبياء للراوندي ص 58.
[5] حرض حرضا من باب تعب: أشرف على الهلاك. راجع مجمع البحرين ج 1 ص 489.
[6] سبل الهدى و الرشاد ج 12 ص 340 عن ابن أبي الدنيا، و الحاكم، و البيهقي، و مسكن الفؤاد للشهيد الثاني ص 109 و البحار ج 79 ص 97 و تفسير الآلوسي ج 15 ص 322 و تاريخ مدينة دمشق ج 16 ص 424 و البداية و النهاية ج 1-
[7] -ص 387 و ج 5 ص 298 و إمتاع الأسماع ج 14 ص 564 و السيرة النبوية لابن كثير ج 4 ص 551 و قصص الأنبياء لابن كثير ج 2 ص 228.
[8] سبل الهدى و الرشاد ج 12 ص 340.
[9] دلائل النبوة للبيهقي ج 7 ص 269 و تاريخ مدينة دمشق ج 16 ص 424 و البداية و النهاية لابن كثير ج 5 ص 298 و إمتاع الأسماع ج 14 ص 564.
[10] ميزان الإعتدال ج 2 ص 369 و راجع: التاريخ الكبير البخاري ج 6 ص 41 و ضعفاء العقيلي ج 3 ص 137 و الجرح و التعديل للرازي ج 6 ص 82 و بيان خطأ البخاري للرازي ص 75 و كتاب المجروحين لابن حبان ج 2 ص 170 و الكامل لابن عدي ج 2 ص 210 و ج 4 ص 342.
[11] الآية 185 من سورة آل عمران.
[12] سبل الهدى و الرشاد ج 12 ص 340 و في هامشه عن: ابن سعد ج 2 ص 211 و (ط دار صادر) ج 2 ص 275 و انظر المطالب العالية ج 4 ص 259 و كنز العمال ج 7 ص 251 و المعجم الكبير ج 3 ص 129 و مجمع الزوائد ج 9 ص 35 و الإصابة ج 2 ص 266 و 267 و الدر المنثور ج 2 ص 107 و تفسير القرآن العظيم ج 1 ص 444 و تفسير ابن أبي حاتم ج 9 ص 3076 و راجع: البحار ج 22 ص 505 و 515 و ج 39 ص 132 و الأمالي للصدوق ص 166 و عن إكمال الدين ص 219 و 220 و المناقب لابن شهرآشوب ج 2 ص 84 و روضة الواعظين ص 72 و تفسير كنز الدقائق ج 2 ص 308.
المصدر: کتاب : الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله المؤلف : العاملي، السيد جعفر مرتضى الجزء : 33 صفحة : 93