البناء على القبور، وتشييدها

البناء على القبور وتشييدها.. مناقشة وردّ / العلامة السيد محمد حسن القزويني الحائري “ره”

الاجتهاد: قالت الوهابية: لا يجوز بناء القبور وتشييدها وجعل الضرايح عليها وأن ذلك شرك وفاعله مشرك. وقالت الإمامية: يجوز بناء القبور للأنبياء والأولياء وتشييدها وحفظها عن الاندراس والانطماس، وإن ذلك تعظيم للدين.

واستدل ابن تيمية ومن تابعه من الوهابية:

أولا: برواية أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته؟… فقرن بين طمس التماثيل وتسوية قبور المشرفة، لأن كليهما ذريعة إلى الشرك.

البناء على قبور الأنبياء والأئمة

وثانيا: بما في كتاب الله من الأمر بعمارة المساجد ولم يذكر المشاهد وقال سبحانه: وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد لا عند كل مشهد… إلى أن قال: فالرافضة بدلوا ديدن دين فعمروا المشاهد وعطلوا المساجد مضاهاة للمشركين ومخالفة للمؤمنين.

وثالثا: أن النبي صلى عليه وآله وسلم إنما شرع لأمته عمارة المساجد ولم يشرع لهم أن يبنوا على قبر النبي، ولا رجل صالح من أهل بيته، مسجدا ولا مشهدا .انتهى.

والجواب عنه أما أولا فلقد باهت في قوله إن الشيعة عطلوا المساجد إلخ، لأن الإمامية يرون من الفرض على أنفسهم عمارة المساجد وإقامة ذكر الله تعالى فيها بأزيد مما يرونه بالنسبة إلى المشاهد. نعم لبعض المشاهد عندهم مزية وزيادة فضيلة من بين المعابد، لاشتمالها على جهتين: جهة المسجدية، وجهة المشعرية، كحرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو حرم الله وحرم رسوله، ومشهد مولانا علي عليه السلام وحرم الحسين عليه السلام لأنها مساجد ومشاعر. ولا أشكال في اختلاف البقاع من حيث الفضيلة.

ولأجل اشتمال المشاهد المزبورة على زيادة الفضيلة توى الإمامية – بل والمسلمين – يزدلفون إليها ويزدحمون فيها، وإلا فالمساجد عند الإمامية لا تخلو عن إقامة الصلاة فيها كما هو دأبهم في بلادهم، فيعمرونها ويواظبون عليها، بل يعمرون كل مقام ومشهد فيه من شعائر الإسلام شئ لأنه تشييد للدين، ولكن تلك المقامات من البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.

وأما ثانيا: فلأن رواية أبي الهياج لا دلالة فيها على أن المراد بالتسوية جعل المدفن مساويا للأرض من غير تعلية بل اللفظ في هذا الخبر كاللفظ في قوله: فإذا سويته فيه من روحي وقوله تعالى: رفع سمكها فسواها.

والمراد من التسوية في الآيتين التعديل في رفع السماء وخلقة البشر، كما قال عز شأنه: فسواك فعدلك.

وأقرب محتملات التسوية وأظهرها في الرواية هو تسطيح القبر، وذلك لعدم ذكر المعادل أولا، والتقييد بالشرف ثانيا… وإلا كان التقييد لغوا فتدل الرواية على رجحان التسطيح على التسنيم.

مناقشة أدلة تحريم البكاء على القبور

والعجب من ابن تيمية أنه كيف استدل برواية أبي الهياج على منع البناء على القبر وأنه من صنع أهل الشرك، والحال أنه عند قول العلامة من أن المشروع تسطيح القبور وإنما تركته أهل السنة وذهبوا إلى التسنيم لما صار شعارا للشيعة قال: إن مذهب أبي حنيفة وأحمد أن تسنيم القبور أفضل – كما ثبت في الصحيح أن قبر النبي كان مسنما، والشافعي يستحب التسطيح لما روى من الأمر بتسوية القبور.

ورأى أن التسوية هي التسطيح. قال بعض الأصحاب: إن هذا شعارا للرافضة فيكره ذلك، وخالفهم جميع الأصحاب وقالوا بل هو المستحب وإن فعلته الرافضة – انتهى.

فإنك ترى أنه كيف أقر ثانيا بما أنكره أولا، فذهب إلى ما هو المجمع عليه بين الأصحاب، وعليه صحيح الخبر – كما في البخاري – من رجحان جعل الأثر للقبر وتعليته عن الأرض مسطحا، وحمل هو أخيرا خبر أبي الهياج – تبعا للشافعي على التسطيح، مع أنه حمله أولا على الطمس، إذ لا أقل من الاحتمالين في اللفظ بين الطمس والتسطيح مع علو القبر – كما ذهب إلى الاحتمالين شارح النسائي من غير ترجيح.

لكن يؤيد الاحتمال الثانية بعد ما صح الخبر عن أنه كان قبر رسول الله مرتفعا عن الأرض لا مساويا – ما عن الشافعي وغيره: من أن رسول الله سطح قبر ابنه إبراهيم، وما في كتب الحديث: من أنه جعل قبر أبي بكر مثل قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسطحا ورش عليه الماء، وأقامت عليه عائشة النوح.

المراد من التسوية للقبور

فعلى ذلك لا محيص لابن تيمية عن أحد الأمور: إما الحكم بشرك جميع الأصحاب الذين قالوا بمقالة الإمامية من رجحان تعلية النبي وتسطيحه، أو رفع اليد عن خبر أبي الهياج رأسا، لأنه منفرد بهذا الحديث في كتب الأحاديث كما عن شارح النسائي ناسبا له إلى السيوطي، وإما حمله على أحد الأمرين:

الأول أن المراد من التسوية التعديل بهدم سنام القبر إن كان مسنما أو هدم شرفه إن كان ذا شرف، كما وقع التصريح بالشرف في الرواية.

الثاني حمله على استحباب، أو وجوب تخريب قبور المشركين ونبشها كما عقد لذلك بابا في صحيح البخاري وسنن النسائي وابن ماجة وذكروا فيه أن النبي صلى الله عليه وآله لما قدم المدينة وأمر ببناء المسجد فأمر بقبور المشركين فنبشت ثم بالخراب فسويت – الحديث.

وفي اقتران لفظ التسوية بطمس التماثيل دلالة على أن الأمر المبعوث إليه تسوية قبور المشركين، فإن الصور والتماثيل وجعلها في مقابرهم أو معابدهم من سنن المشركين، كما يشهد له ما في البخاري عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأتاها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة. أوردها البخاري أيضا في باب نبش قبور مشركي الجاهلية.
هذا، فلم يبق في البين ما يصح الاعتماد عليه من السنة إلا ما رواه مسلم والترمذي وغيرهما: من نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تجصيص القبور والبناء عليها وأن يكتب على القبر.

والجواب عن الرواية: أولا

أن النهي أعم من الحرمة والكراهة سيما الواقع منه في الأحاديث، )وثانيا( أنها غير معمول بها في شئ من فقراتها الثلاث.
قال محمد بن عبد الهادي الحنفي المعروف بالسندي: أنه قال الحاكم بعد تخريج هذا الحديث في المستدرك: الإسناد صحيح وليس العمل عليه، فإن أئمة المسلمين من الشرق إلى الغرب يبكون على قبورهم، وهو شئ أخذه الخلف عن السلف انتهى.

أقول: ومثل الكتابة على القبر البناء عليه، فإن إجماع الأمة فضلا عن الأئمة على البناء على قبور أئمتهم وحفظ مراقدهم عن الاندراس والانطماس حيث يكون الحفظ عندهم شعارا للدين، فلا يعارض الخبر الواحد الظني هذا الإجماع القطعي بين المسلمين.

إقرار النبي على البناء

كل ذلك مضافا إلى فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعل من النبيين، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم أقر على بناء الحجر ولم يأمر بهدمه، مع أنه مدفن إسماعيل وأمه هاجر، وكذلك إقراره صلى الله عليه وآله وسلم وإقرار خلفائه الراشدين على بناء قبر إبراهيم الخليل وعلى بناء قبور الأنبياء التي هي حول بيت المقدس.

مثل هذه الأبنية على قبور الأنبياء والمرسلين في صحة الاعتماد عليها لجواز البناء على قبور المؤمنين الحجرة الطاهرة النبوية، حيث أن دفنه في البناء ودفن الصحابة من بعده فيه. ثم إقرار الصحابة على ذلك وعمارة الحجرة المباركة دليل قاطع على جواز البناء على القبر.

فإن قلت: المحرم بناء القبة على القبر دون الدفن في البناء تحت القبة.
قلت: أولا حرمة البناء على القبر ونهي النبي صلى الله آله وسلم عنه نظير حرمة استظلال المحرم حال السير ونهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه، فكما أن التحريم في المحرم يعم الاستظلال السابق على الإحرام فيجب عليه تركه لو كان متلبسا به، كذلك التحريم في البناء قبر فيعم البناء السابق واللاحق.

وثانيا: أنه لو كان البناء على القبر بمنزلة الأحجار والأصنام في الجاهلية كما قال به ابن عبد الوهاب وابن تيمية – كانت الجهة واحدة بين البناء السابق على الدفن واللاحق له، فدفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر في الحجرة الطاهرة أقوى حجة على جواز البناء السابق واللاحق.

بل ربما يكشف ذلك عن الرجحان للتأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيجوز البناء على قبور أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته، فإن الجهة واحدة والملاك واحد والإجماع منعقد على عدم الفرق.

فإن لابن تيمية، المصرح بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يشرع لأمته بناء القبور – المصير إلى الفرق بين قبره صلى الله عليه وأله وسلم وقبور سائر المؤمنين بعدما أثبتنا جوازه عليه وأن النبي شرع البناء على قبره، حسبما أوصى بدفنه في حجرته، لأن المناط واحد والعلة مشتركة.

تعظيم شعائر الله

وأما ثالثا: فبأن القرآن وإن لم يصح خصوصا بالبناء على قبور الأنبياء لكنه مصرح به عموما في قول سبحانه: ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب وقوله تعالى: ومن يعظم حرمات الله فهو خير له وقوله تعالى: ولا تحلوا شعائر الله لأن المشاهد المتضمنة لأجساد النبيين وأئمة المسلمين من معالم الدين الواجب حفظها وصونها عن الاندراس، فإن الحفظ عن الخراب بناءا وتجديدا من أنحاء التعظيم كما أن حفظ المسجد عن الخراب تعظيم له.

ثم أقول: إن الله تعالى جعل الصفا والمروة من الشعائر والحرمات التي يجب احترامها، فكيف بالبقاع المتضمنة لأجساد الأنبياء والأولياء. فإنها أولى بأن تكون شعارا للدين. كيف لا؟ وهي من البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فإن المراد من البيت في الآية هو بيت الطاعة وكل محل أعد للعبادة، فيعم المساجد والمشاهد لكونها من المعابد.

ولو لم يكن في الشريعة ما يدل على تعمير المساجد وتعظيمها واحترامها لأغنتنا الآية بعمومها عن الدلالة على وجوب تعمير المسجد وتعظيمه وإدامة ذكر الله فيه، لكونه من البيوت التي أذن الله أن ترفع.

ومثل المسجد في جهة التعمير والتعظيم والحفظ المشاهد التي هي من مشاعر الإسلام ومعالم الدين، ولذا تجد إصرار المسلمين على إبقاء مدفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومدافن أهل بيته الطاهرين ومدافن أصحابه، فمصيرهم إلى حفظ تلك المراقد عن الاندراس في طول هذه المدة لكونه تشييدا للدين وتقوية لشوكة المؤمنين، لا أنه مضاهاة للمشركين – كما قال به زعماء الوهابيين.

وقال ابن عبد الوهاب: إن البناء على القبر بمنزلة الأخشاب والأحجار التي كانت تعبد في الجاهلية، وليته درى حاصل كلامه من أشكال بناء الحجر على قبر إسماعيل وأمه هاجر، وعدم أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهدم البناء وبناء الحجرة النبوية، وهل يمكن لأحد أن يقول: أن الصحابة الذين دفنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجرته الطاهرة وأمروا بسد أبواب الحجرة على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبر الشيخين أرادوا بذلك جعل البناء والحيطان صنما يعبد من دون الله تعالى.

رد فعل عمر واجتهاده

قال ابن تيمية في منهاج السنة: وكان عمر بن الخطاب إذا رأى المسلمين يتناوبون مكانا يصلون فيه لكونه موضع نبي ينهاهم عن ذلك، ويقول: إنما هلك من كان قبلكم باتخاذ آثار أنبيائهم مساجد.

أقول: إن النهي لعله اجتهاد منه، وإلا لم يقل أحد بأن الصلاة في موضع صلى فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكون حراما باطلا، ولو سلم كونها منهيا عنها لكن النهي أعم من الحرمة، لما في البخاري من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدرك رجل من أمتي الصلاة صلاها. . مضافا إلى أن المسلمين – خصوصا الإمامية – ينكرون هذه النسبة إلى عمر إذ لو كان عمر ينهى عن ذلك فكيف أبقى آثار، الأنبياء، وأبقى أثر قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبر أبي بكر، أم كيف أوصى بدفنه في الحجرة الطاهرة وجعل قبر أبي بكر قبلة لقبره، كما جعل قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبلة لقبر أبي بكر فلو كان بناء المدفن بمنزلة الأصنام في الجاهلية لما أهتم عمر وقبله أبو بكر وبعدهما سائر الصحابة ببقاء الحجرة النبوية والدفن عن النبي صلى الله عليه وآله..

وجمع ذلك يكشف عن أن ما أفتى به ابن عبد الوهاب في هذه المسألة تهجس بالغيب وقول بلا علم، أعاذنا الله من ذلك.

 

المصدر: كتاب البراهين الجلية في رفع تشكيكات الوهابية – تأليف: السيد محمد حسن القزويني الحائري الصفحة 52

تحميل الكتاب

3535.pdf البراهين الجلية في رفع تشكيكات الوهابية للقزويني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky