الاجتهاد: من أعظم هذه العناصر اللعينة، من بعد الجهل، الاستبداد الديني، أما علاجه فأصعب، ويكاد أن يكون مستحيلا، لرسوخه في قلوب الناس، وتصوره من لوازم التدين.
قد تطرقنا لبيانه بشكل موجز في المقدمة، وعرفت حقيقته؛ وأنه رغبات شخصية، يصوره بعض من يرتدي زي الروحانيين على أنه دین، ويفرضون على الشعب الجاهل بعقيدته ودينه، إتباعهم.
وعلمت أن هذه التبعية والطاعة، تعد من مراتب الشرك بذات الأحد، لعدم استنادها لحكم إلهي، وذلك بنص الآية الكريمة: « اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ»(۱)، والأخبار التي وردت بشأن هذه الآية، وفسرتها بعبادة الأحبار والرهبان، وقد جاء ذلك في عنوان الرواية الشريفة المروية في كتاب الاحتجاج.
يعدّ ابتداع هذا التيار في الإسلام، من ابتكارات معاوية، وأعانه على ذلك عمرو بن العاص، ومحمد بن مسلم، ومسلم بن مخلد، والمغيرة بن شعبة، وأشباههم؛ من الذين اعتبروا من صحابة الرسول (ص).
وكانت مغالطاتهم باسم الدين نافذة بين الناس. إذ جمعهم معاوية لتفريق كلمة الناس والقيام في وجه الولاية، ومجابهة أمير المؤمنین (ع). ومن الجماعة الأخرى، أبو موسى الأشعري، الذي يأس معاوية من انخراطه العلني في حزبه، فاكتفى بتقاعسه عن نصرة الحق، وخذلان مقام الولاية، من خلال زهده الصوري، وقعوده، فصد الناس عن القيام لنصرة الحق.
أسّس معاوية أساس الاستبداد في الإسلام، بالتحالف مع تلك الجماعة من عبدة الظالمين، وتقاعس هذه الجماعة عن نصرة الحق، حتى أشاع سبّ أمير المؤمنين (ع) على المنابر، على مسمع ومرأى جميع المسلمين. واختاروا الصمت، أو الإعانة على هذا الكفر الجلي، حفاظاً على مصالحهم العاجلة، ومواقعهم.
مواقف الولاء لهؤلاء الطغاة، والمواقف السلبية المتخاذلة، كملت بعضها بعضا، وأعانت الفراعنة وأخلافهم من بني أمية والعباسيين وسائر المغتصبين لتملك رقاب الناس، ومحو أحكام الشريعة. وبمرور الوقت، وبأصناف الحيل والمكر، اتحدت کلتا شعبتي الاستبداد، الديني الموروث عن عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري، والسياسي الموروث عن معاوية، وأصبح بعضهم لبعض ظهيراً، حتى وصلوا لما وصلوا إليه اليوم.
حيث غدت معاضدتهم توجب المكانة، والرفعة، والنفوذ الاجتماعي، ومساعدتهم من خلال السكوت على أفعالهم، وعدم ردع ظلمهم، مدعاة للتفاخر بالزهد، والابتعاد عن الدنيا، والتفاف العوام الأضل من الأنعام، حولهم. ولا بیان بعد العيان، ولا أثر بعد عين.
ولنعم ما قال الشاعر الفارسي، الذي اقتبس مضمون فكرته من الأخبار الواردة عن طينة الإنسان:
كل ماء يبقى على جوهره، سواء كان عذبة أو ملحة أجاجة وكل شيء في الخلائق يبقى على سجيته، إلى يوم ينفخ في الصور.
(1) – التوبة/ 9: 31.
المصدر: سلسلة تحديث التفكير الديني – كتاب: تنبيه الأمة وتنزيه الملة للشيخ محمد حسين النائيني – ترجمة الدكتور مشتاق الحلو – مراجعة و تقديم: الدكتور عبدالجبار الرفاعي
تحميل الكتاب