الاجتهاد: أيام مئات قبل الثورة الإسلامية في إيران (1979) عاشتها دلال عباس في طهران قبل الزلزال الذي قلب الخريطة السياسية والثقافية للمنطقة بأسرها رأساً على عقب. ها هي الأستاذة الجامعية والباحثة اللبنانية تستذكر هذه الأيام في دفتر يومياتها الصادر أخيراً عن «دار الأمير» في بيروت بعنوان «أيام مئات في إيران قبل الثورة»./ حوار محمد ناصر الدين
ولئن تأخر صدور هذه المذكرات أربعين عاماً بعد ثورة البلد الذي تربطه بجبل عامل الذي تنحدر منه عباس، علاقات علم وفقه وحضارة ودين، إلا أن تفاصيلها لا تزال كاشفة حول الكثير من نضال شعب كتب في حينه «بداية الممكنات» التي كان أولها إمكانية كسر الهيمنة الغربية واقتراح مشروع حضاري بديل يستند إلى أصالة شعوب المنطقة وتاريخها وثقافتها وأحلامها وحقّها في التحرر والاستقلال وكرامة أبنائها وتضامنهم مع قضية فلسطين المركزية العادلة.
كانت العلاقة الروحية والأكاديمية التي جمعت الباحثة في التراث الإسلامي بالعالم بهاء الدين العاملي (1546-1622) الذي هاجر من جبل عامل إلى إيران في القرن السادس عشر وأسهم في نهضتها الدينية والفكرية والعلمية، بمثابة خيط أريان الذي قاد عباس إلى استكشاف إيران في كامل أبعاد هويتها والدافع إلى كتابة وتحقيق أكثر من كتاب من وحي هذه العلاقة منها «بهاء الدين العاملي: أديباً وفقيهاً وعالماً»، و«التدين والنفاق بلسان القط والفأر»: حول تجربتها مع الثورة الإيرانية ورحلتها على خطى العلامة العاملي وغيرهما من القضايا، كان هذا الحوار مع «كلمات»
لماذا هذا الكتاب عن الثورة الإيرانية بعد أكثر من أربعين عاماً على انطلاقتها؟
– ذكرتُ في مقدّمةِ الكتاب، أنّني قرّرتُ ـ متأخّرةً لأسبابٍ عديدةٍ ـ أنْ أكتُبَ تجرِبتي في هذه الحياة، وفي ذهني أنْ أجزّئها إلى ثلاثِ مراحلَ في دفاترَ ثلاثة:
الأوّل عن أمّي وقريتي الجنوبيّة «كوثريّة السيّاد» التي خرّجت مدرستُها الدينيّةُ منذ قرنين علماء توزّعوا في أنحاء الجَنوبِ والبقاع معلّمين ومرشدين؛ لكنهّا كانت في طفولتي الأولى من ضمن القرى المنسيّةِ المهمَلة، لا مدرسةَ فيها، ولا طريقَ معبّدة،
والثاني عن دراستي وعملي معلّمةً في المرحلتين الابتدائيّة والثانويّة، وعن التعليم في الجامعة، وضمناً تجربتي مديرةً لـ «ثانويّة النبطيّة الرسميَة للبنات»،
والثالث عن المرحلة الإيرانيّة. أنهيتُ الدفترَ الأول وبعضاً من الثاني، ثمّ شرعتُ في الكتابةِ عن التجربةِ الإيرانيّة قبل انتصار الثورة الإسلامية، من أوّل عام 1977 حتى نهاية عام 1978، لأنّ ما شاهدتُه وقرأتُه وتعلّمتُه وسمعتُه وعرَفتُه في هاتين السنتين غيَّرَ وِجهةَ دراستي وطبيعةَ قراءاتي، ونظرتي إلى مختلفِ مظاهرِ الحياةِ وأنماطِ السلوكِ والتفكيرِ ومقاربةِ الدين، ولأنّ ما كتبتُه وسأكتبه في الدفتر الثاني عن السنوات التي أعقبت عودتي من إيران، متأثّرٌ بالتجرِبة الإيرانيّة على نحو ما. لذلك نشرت هذا الدفتر، ولا أعرفُ إنْ كنتُ سأنشرُ الدفترين الأوّلَيْن، أم لا.
كيف بدأت حكايتك مع اللغة الفارسية وآدابها، وإيران وثقافتها؟
بدأت حكايتي مع اللغة الفارسيّة وآدابها، وإيران وثقافتها، مذْ كنت طالبةً في الجامعة اللبنانيّة في أواخر العقد السادس من القرن العشرين الميلاديّ، في قسم اللغة العربيّة وآدابها، كنا ندرس اللغة الفارسيّة (مادّةً اختياريّة) بمعدّل ساعتين أسبوعيّاً، وكان أستاذنا الدكتور أحمد لواساني.
طريقةُ تدريسه، والمعلوماتُ الإضافيّة التي كان يستطرد إليها، جعلتاني أعشق هذه اللغةَ وأعشق الشعراءَ الذين أسمعَنا الدكتور لواساني بعضَ شعرهم.
كانت فكرةُ السفر خارج لبنان لمتابعة الدراسة أمنيةً صعبةَ التحقّق. تابعتُ دراستي العليا في الجامعة اللبنانيّة، في الأدب الأندلسيّ، وكانت رسالتي لنيل الماجستير قبل بداية الحرب الداخليّة في لبنان هي الكتاب الذي تأخّرَ نشرُه حتى عام 2017 بعنوان «المرأة الأندلسيّة مرآةُ حضارةٍ شعّت لحظَةً وتشظّت»، ونسيتُ موضوع إيران واللغة الفارسيّة.
لكنّ الأمور تسيرُ أو تتيسّرُ من حيث لا نحتسب. بعد عشر سنوات، في أواخر عام 1976 أي قبل انتصار الثورة الإسلاميّة بسنتين، وفي حمأة الحرب الداخليّة في لبنان والاعتداءات الإسرائيليّة على الجنوب حيثُ نقيم، قضتِ المشيئة الإلهيّةُ أنْ أرافق زوجي إلى إيران لعملٍ هناك ندَبته إليه الشركة الألمانيّة التي كان يعمل فيها مهندساً، وأنا بنيّة التسجيل للدكتوراه.
في إيران، سمعتُ للمرة الأولى في حياتي اسمَ بهاء الدين العامليّ، فقرّرتُ في اللحظة عينها أن يكون موضوع أطروحتي، وبدأت العمل وجمع المعلومات والتوثيق. وفي الوقت نفسه كنت أتابع عن قرب ما يجري في إيران في تلك المرحلة التاريخيّة المَفْصِليّة قُبيل انتصار الثورة الإسلاميّة.
كيف تصفين علاقتك بالشيخ بهاء الدين العاملي، كتابة وتحقيقاً وتجربة عرفانية؟ كيف تصفين هذه الشخصية؟
في إيران سمعْتُ اسمَ الشّيخ البهائيِّ للمرة الأولى في حياتي، فقرّرتُ أنْ يكون موضوعَ أطروحتي في الأدب، وبدأتُ التّحضير والإعداد والبحث، ثمّ بدأت الإضرابات والاعتصامات والتظاهرات… بعد عودتنا إلى لبنان، تابعت التحقيق والبحث حول بهاء الدين العاملي، وقرّرتُ أنْ أنجزَ كتاباً شاملاً عنه.
بعد اكتماله مخطوطاً، وقبل نشره، حوّلته في عام 1985، سنة افتتاح مرحلة الدكتوراه في الجامعة اللبنانيّة (أطروحةَ دكتوراه أنجزتُها بإشراف أستاذي المرحوم الدكتور أحمد لواساني أيضاً)، قضيتُ مع كتب الشيخ البهائي التي لا تُحصى سنواتٍ أدْرسه وأتعلّم منه: عالمَ رياضيّاتٍ ومهندساً، وفيلسوفاً زاهداً حكيماً وأديباً وشاعراً عرفانيّاً باللغتين العربيّة والفارسيّة، ومفسّراً وفقيهاً اجتهاديّاً مجدّداً،
يضع العقلَ ركناً من أركان الاجتهاد الأربعة، يُعادي التقليد وينتقدُ الفقهاءَ القِشريّين الذين يعتمدون الظاهر دون الباطن… وظلّ الشيخ البهائي صلةَ الوصل بيني وبين إيران الإسلاميّة، ممثّلاً للعلماء العامليّين الذين هاجروا إلى إيران خوفاً من القتل زمن العثمانيّين بتهمة التشيّع، وكان له ولهم دورٌ فاعلٌ في بناء الدولة الصفويّة عمرانيّاً ودينيّاً وفكريّاً.
لا يُحصى عددُ العائلات التي تعود أصولها إلى جبل عامل، ما أوجد علاقاتِ نسبٍ وتبادلٍ ثقافيٍّ وحضاريّ، بين العامليّين وبين إيران، منذ القرن السابع عشر الميلاديّ… عرّفني الشيخ البهائيّ الفرق بين التيارات الفِقهيّة، والمعنى العملي للتمييز بين الظاهر والباطن في الإسلام… فهو كان عنوان التيار الاجتهادي في الإسلام، الذي ركّز علماء جبل عامل المهاجرون دعائمَه في إيران، وإليه ينتمي قادة ثورتها.
كان الشيخ البهائي كذلك صلةَ الوصل بيني وبين الشعراء العرفانيّين الذين تأثّر بهم، ولا سيّما حافظ الشيرازي وجلال الدين الرّومي… من خلال دراسته، أتيحت لي فرصة معرفة علاقة التصوّف بالتشيّع، ومعنى أن يكون الفقيه شاعراً عرفانيّاً، يختصره القول: «من تفقّه ولم يتصوّف فقد تفيْقه، ومن تصوّف ولم يتفقّه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقّق».
هلّا وصفتِ لنا أيامك الأولى في إيران؟ ما كانت انطباعاتك الأولى حول هذا البلد؟
في طهران أنزلتنا الشركة في الشهرين الأوّلَين في فندق في أحد الأحياء الرّاقية وبمحاذاته حديقة عامّة كنت يوميّاً بعد ذهاب زوجي إلى العمل، أجرّ ابنتي بيدها ونسير على الرصيف العريض الذي تفصله عن الشارع من الناحيتين قناة تمرّ فيها المياه السائلة من ثلوج دماوند، في ظلّ أشجار الدلب المعمّرة… بهرتني نظافةُ الشارع وترتيبه، وأناقةُ الرجال والنساء الذين يخرجون أو يدخلون من بوّابات المنازل القريبة، أو يرتادون الفندق أو يمرّون بقربه؛ وعُمّالُ النظافةِ يكنسون أوراق الشجر وهم يرتدون زِيّاً موحّداً…
اعتقدتُ أنّ المدينةَ كلّها على هذا النحو، مصدّقةً ككلِّ الأجانب الذين لم يرَوا إلّا ربعَ المدينةِ هذا أنّ طهران تشبهُ كبريات المدن الأوروبّيّةِ، وأنّ أهلَها يعيشون عيشةً هنيّةً راضية؛ إلى أن رأيتُ ما بيّنَ زيفَ هذا الادّعاء… في يوم عطلة، ذهبنا والمهندسَان الألمانيّان زميلَي زوجي في العمل للنزهة والفرجة، توجّهنا من الشمال نحو الجَنوب، بدأت الأرصفةُ العريضةُ تضيقُ شيئاً فشيئاً؛ والأهمّ أنّ قنوات المياه التي تفصلُ الرصيف عن الشارع بدأت تضيقُ إلى أن استحالت خطّاً دقيقاً من المياه القذرة الملوّثة؛ وفاجأتني رؤيةُ النساء المرتديات العباءات المنزليّة، يَغسلنَ الأواني على الرصيف مقابل بوّابات بيوتهنّ بهذه المياه القذرة.
ورأيت المسلَخ الموجود بين البيوت المبنيّةِ على عجلٍ في هذا الجزء من طهران، وسمعت قصّة «الذباب» الذي يستوطن أجواء هذا القسم من العاصمة الذي شبّهه أحد الشعراء بالثيران الهائجة… كان التفاوت الطبقي ملحوظاً إلى حدٍّ يتعذّر وصفه؛ وكان الناس يعيشون حالةً من الرّعب، خوفاً من وشايةٍ ملفّقةٍ تُدخلهم السجن، فتختفي آثارهم…
من خلال الديناميّة التي تمتّعت بها النساء الإيرانيات، تعرّفنا إلى الكثير من يوميّات الثورة وأفكارها وتياراتها، ما كان دور المرأة الإيرانية في تلك الثورة؟ هل لا يزال دور المرأة الإيرانية فاعلاً اليوم، وهل أنت قلقة ممّا يُحكى في وسائل الإعلام عن قمع للمرأة الإيرانية؟
مع شروع المرحلة العامّة للثورة، شاركت النساء بقوّة في مسيرات التاسوعاء والعاشوراء التي تحوّلت إلى تظاهرات ضدّ النظام الشاهنشاهيّ، وكنّ يسرنَ في الصفوف الأماميّة حاملاتٍ أطفالهنّ الرُّضّع، في مواجهة الجنود المدجّجين بالأسلحة، وطائرات الهليكوبتر تُحلّقُ فوق الرؤوس تهديداً.
كانت الواحدة منهن تقترب من الجندي المسلّح، تُقدّم له وردةً وتقول له: أنا أمك أو أنا أختك، وتدعوه للانضمام إلى الأمّة والتمرّد على النظام الغاشم؛ وهناك أمثلة عديدة انتشرت في أوساط الناس عن جنودٍ وجّهوا رصاص بنادقهم إلى ضبّاطهم بدلاً من توجيهها إلى المتظاهرين، ولا سيّما النساء اللواتي يتقدّمن التظاهرات…
وكان لواقعة الثامن من أيلول 1978، التي استُشهد فيها آلاف النساء مع أطفالهنّ، تأثيرٌ كبيرٌ في المجتمع وفي نفوس الجنود وصغار الضبّاط… وقد استمرّ حضور النساء في الساحة السياسية بعد انتصار الثورة. وفي ردٍّ له على علماء الدين الذين انتقدوا حضور النساء في الاجتماعات، وغير ذلك، قال الإمام الخميني: «أتظنّون أنّ بياناتي وخُطبَكم هي التي أخرجتِ الشاه؟ هؤلاء هنّ اللواتي طردْنه، فعاملوهنّ باحترام».
لا يزال دور المرأة الإيرانيّة فاعلاً بقوّة في مختلف الميادين، ومتابعة تلك الأمور في مظانّها من دون تحيُّز توضح أصلَ المسألةِ وجذورها، بِدءاً من قمع شرطة رضا خان للنساء المحجّبات في الثلاثينيّات، ومنع الفتيات المرتديات غطاء الرأس من دخول المدارس، وإطلاق الرصاص الحيّ على المحتجّين في مشهد،
وانقسام المجتمع الإيرانيّ قِسمةً عموديّةً حادّةً بين المتديّنين وبين الرافضين للإسلام العربيّ المصدر، والحجاب رمزٌ من رموزه، إلى الستينيّات وإعلان الإمام الخمينيّ أسلمةَ الثّورة والعداء لأميركا والغرب المستعمر، ولإسرائيل، ثمّ انتصار الثورة، وجعل سفارة إسرائيل أوّل سفارةٍ لفلسطين في العالم (وهنا مربط الفرس)، بدأ التضييق والحصار والمؤامرات وافتعال المشكلات، وبثّ الحزازات والفتن بذرائعَ مختلفة، وكانت حادثة مهسا أميني المؤسفة ذريعةً كسابقاتها… هذه هي القصّة من دون تأويلٍ أو تسطيح.
هل إيران محكومة بتاريخها الشيعي الاثنَي عشريّ وحوزتها العلميّة، بحيث لا يمكنها إلا أنْ تؤدّيَ دوراً سياسيّاً من خلال هذا العامل الجينيّ، الذي يطغى على عوامل أخرى، مثل دورها الإمبراطوري الفارسي من قبل، وتقاليدها الملكية العريقة؟
يفصل إيران عن تاريخها الإمبراطوري الأسطوريّ أربعةَ عشرَ قرناً ونيّف، هذا التاريخ الذي جمّلتْه «الشاهنامة» ليس هو التاريخ الحقيقي للإمبراطوريّة الفارسيّة، ومن المناسب في هذا السياق العودة إلى ما كتبه الدكتور مطهّري حول هذا الموضوع… تاريخ إيران دولةً موحّدةً مستقلّةً بدأ في السنة الأولى من القرن السابع عشر الميلادي حين جعل الصفويّون الإسلام دينَ الدولةِ الرسميّ على أساس المذهب الاثني عشريّ،
فتحوّلت بلاد إيران من دويلاتٍ وشعوب عِرقيّة متصارعة، فارسيّة وتركيّة وعربيّة وتركمانيّة وكرديّة وأوزبكيّة ومغوليّة، وبلوشيّة إلى دولة واحدة «على أساس المذهب»، هذا التوحيد في المذهب، أوجد رابطاً مشتَرَكاً بين الأقوام الإيرانيّين، ووحّدَ البلاد عاطفيّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً وعسكريّاً، وهذا ما يجمع غالبيّة مواطنيها حتّى الآن…
نظام الحكم في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، مختلف حتى الآن عن جميع الأنظمة السياسيّة المطبّقة في العالم، وإن أخذ من الأنظمة المعاصرة بعض إيجابيّاتها وطوّرها كنظام الانتخابات، الذي هو الأهمّ في العالم كما يؤكّد الخبراء المحايدون. ويخضع الحكم علانيةً للرقابة الشرعيّة على أساس الإسلام الشيعي الاثني عشري، كما يخضع أيّ نظام في العالم إلى الرقابةِ من مؤسّسةٍ ما مخفيّة في معظم الأحيان.
هل خذلت الثورة الإسلامية فريقاً من مكوّناتها الأولى، خصوصاً أنّ أطرافاً عدّة شاركت فيها طلباً للعدل والمساواة كالشيوعين (حزب توده)؟
إنّ الثورةَ الإسلاميّةَ ليست ثورةَ طبقيّةً؛ وإنّما هي ثورة ثقافيّة وفكريّة وسياسيّة، شاركت فيها كلّ الطبقات. منذ الستينيّات وبعد انقسام «حزب توده» على نفسه، بسبب موقف بعض رموزه من الصراع العربي الإسرائيلي، ومهادنة البعض للشاه حين أعلن ثورته البيضاء؛ وإهانة آخرين للمقدّسات والرموز الإسلاميّة، تقلّصت قاعدتُه الشّعبيّة.
وبعد صعود نجم الإمام الخمينيّ ورموز الثورة الإسلاميّة؛ أعلن الثوريّون الحقيقيّون من الشيوعيّين ومن غير المتديّنين إيمانَهم بالشعارات الثوريّة المتعلّقة باستشهاد الإمام الحسين، وصار شعار «اقتدوا بالإمام الحسين، وثوروا على الظالمين مثله» شعارَ كلّ الثوار في إيران منذ الستينيّات.
على سبيل المثال، الشاعر خسرو گلسرخی الشيوعي الذي أُعدم عام 1974، سُمِح له قُبيلَ الإعدام أنْ يدافعَ عن نفسه، فتكلّم من ضمن ما تكلّم على الإسلام الثوريّ المناقض للإسلام التاريخيّ، تحدّث عن إسلام عليّ وأبي ذرّ وسلمان، وعن استشهاد الإمام الحسين رمز الثورات طيلة التاريخ
وممّا قاله من خطبة طويلة: «أنا ماركسي لينيني، بحثت عن العدالة الاجتماعيّة، فوجدتُها في بداية حياتي في الإسلام، فأوصلتني إلى مفهوم الاشتراكيّة… الإسلام الحقيقيّ، الذي يتجلّى اليوم في حركة التحرّر الوطنيّ الإيرانيَّة… نحن نؤيّد الإسلامَ الحقيقيَّ، إسلامَ عليّ والإسلام الحسينيّ».
كيف لمستِ تعلّق الإيرانيين بشخصية الإمام الخميني عشية الثورة؟ ومن هم المؤثرون الآخرون؟
قبل أن تتعرّفَ جماهيرُ الشعب في إيران إلى شخصيّةَ الإمامِ الخمينيّ، ابتداءً من عام 1963، وتعلنه قائداً ومرشِداً وإماماً لها، كان الخمينيُّ في قمّ معلّماً في حوزتها يُركّز في دروسه على ثلاث قضايا أساسيّة: أولها مواجهة الفكر الديني المتحجّر، وانتقاد علماء الدين والفقهاء الذين يختصرون الدين بممارسة الفرائض والشعائر الدينيّة منفصلةً عن القضايا الوطنية والاجتماعيّة، وثانيها أسلمة المقاومة وإظهار حقيقة التشيّع فكراً إسلاميّاً ثوريّاً وحدويّاً.
وقد عكفَ باكراً على تطوير نظريّة ولاية الفقيه التي وضع أسُسَها علماء جبل عامل، وطبّقها المحقّق الكركي زمن الشاه طهماسب الصّفويّ، وظلّت تتطوّر بأيدي آخرين، إلى أنْ أوصلَها الإمام الخمينيّ إلى ما أوصَلَها إليه وهو في النجف… منطلِقاً من نظريّة النظام السياسي الإسلامي المبنيّة على أساس العدالة الاجتماعيّة، التي وضعَ أسُسها الإمام عليّ بنِ أبي طالب في كتابه إلى مالك الأشتر واليه على مصرَ، وإلى عُمّاله الآخرين، وحاول هو تطبيقها في سنوات حكمه التي لم تتجاوز الخمس سنوات… القضية الثالثة تتمثل في مواجهة التيار القوميّ الفارسي العنصري، الذي كان يدعو إلى إحياء أمجاد إيران القديمة قبل الإسلام، هادفاً من وراء ذلك إلى الانقطاع عن الأممِ المسلمةِ غيرِ الآرية، والارتباط بأوروبا والغرب.
كلّ الجماهير كانت تستمع إلى أشرطة التسجيل، وتقرأ البيانات التي يرسلها الإمام من المنفى، للعلماء من أمثال مطهّري وخادمي (أصلُه من جبل عامل) وطالقاني ومنتظري والخوانساري ومحمد تقي فلسفي وبهشتي وأنواري، والخامنه اي، وربّاني شيرازي، وهاشمي رفسنجاني، وعلي مشكيني، وغيرهم. وكان لكلٍّ من شريعتي ومطهّري تأثيرٌ كبيرٌ في طلّاب الجامعة، وفي الذين يستمعون إلى المحاضرات التي كانا يلقيانِها في حسينيّة الإرشاد.
راقبتِ كثيراً العلاقة التي كانت قائمة بين نظام الشاه والكيان الغاصب، هل كانت هذه العلاقة ملموسة وقوية في الشارع الإيراني؟ وهل تأثر بها المفكرون الإيرانيون سلباً أو إيجاباً، لو عرفنا مثلاً أنّ مفكراً مثل جلال آل أحمد قد زار الأراضي المحتلة وأقام فيها؟
قبل أنْ أسافر إلى إيران، كنت أعرف الكثير عن شاه إيران وعَلاقته الوثيقة بإسرائيل. بعد أيّامٍ من وصولنا إلى طهران، كنّا أينما حلَلْنا في هذا الحيّ من طهران حيث أسكنتنا الشركة، «نتعركش» بالإسرائيليّين. والأدهى من ذلك كان الغزل المستمرّ بالسادات قبل زيارة الكيان وبعده، وسبّ عبد الناصر بمناسبة وبغير مناسبة، في التلفزيون وعلى ألسنة البشر المؤيّدين للشاه…
وبما أنّ العلاقات السياسيّة والاقتصاديّة بين إيران وإسرائيل كانت في الأوج، كانت زيارة إسرائيل أمراً عاديّاً لجميع الإيرانيّين غير المعادين لإسرائيل، وكانت توجّه الدعوات إلى الكتّاب والمثقفين الإيرانيّين لزيارة إسرائيل، فيلبّون الدعوات، ويكتبون مشاهداتهم، منهم من كان منطلقه عنصريّاً معادياً للعرب من أمثال بور داوود وتلاميذه، وآخرون يزورونها ليروا بأمّ أعينهم صِحّةَ الحديث الذي يسمعونه عن إسرائيل الاشتراكيّة…
قرأتُ نصّ المقابلة التي أجرتْها إحدى الصّحف عام 1961 مع بور داود، بعد عودته من زيارة «إسرائيل»، وكانت الأسئلة والأجوبة تتمحور حول لقائه بن غوريون، ومظاهر الديموقراطيّة في «إسرائيل»، والعمل في الكيبوتسات. تحدّث عن جدّ واجتهاد «الشعب» الإسرائيلي الذي يتحدّى جبروت المئة مليون عربي الذين يحاصرونه من كلّ الجِهات…
أمّا جلال آل أحمد، فهو من الذين زاروا «إسرائيل» في عام 1963 بحسب الموضة السائدة لدى الشيوعيّين الإيرانيّين الذين كانوا معجبين أشدّ الإعجاب بإسرائيل الاشتراكيّة؛ زارها بعد انفصاله عنهم لمعرفة ما يجري بعد كلّ ما سمعه وقرأه من أقوال زوّارها…
ومن خلال قراءة ما كتبه (وأنا قرأتُ مدوّنة الرحلة أخيراً)، وردّه على الذين انتقدوه حينها ممن التزموا بتحريم الإمام الخمينيّ الاعترافَ بإسرائيل، أو التعامل مع الإسرائيليّين في داخل البلاد وفي خارجها، ومنهم الخامنئيّ وطلّاب الحوزة، يتبيّن أنّه لم يكن متعاطفاً معها، وإنّما ركّز على الظلم الذي تعرّض ويتعرّض له الفلسطينيّون.
كأستاذة جامعية، ومؤرخة بارعة للثورة الإسلامية، ما هي دروس الرحلة التي تنقلينها لطلّابك؟ وكيف يمكن طمأنة قسم وازن من اللبنانيين بأنّ العلاقة بإيران ليست علاقة تبعية وانقياد، وخصوصاً في ظل طروحات مثل ولاية الفقيه؟
أنا لستُ مؤرّخة بالمعنى الأكاديمي للكلمة، أنا معلّمة لغات، شغوفة بالقراءة. أمّا التاريخ فهو أصلُ العلوم الإنسانيّة بأكملها بنظري. أنا أكتب ما أعيشه وما يُثير اهتمامي، وأنقلُ ما أعرف إلى الذين أُحبّهم.
قلتُ ولا أزال أقول للذين أعرفهم وأعلّمهم وأشرفُ عليهم من العرب والإيرانيّين الشباب الذين لا يعرفون كيف كانت الأوضاع في إيران قبل الثورة، أنْ يطّلعوا على ما يجري في إيران من مظانّه الصحيحة، وليس من خلال الإعلام المأجور التابع لأنصار إسرائيل.
ولولا التزام إيران بالقضيّة الفِلسطينيّة ومساعدتُها أحرار العالم، لما فُرضتْ عليها العقوبات، ولعاش أهلُها في ثباتٍ ونبات، ولرُدّت إليها أموالُها المحتجزة في المصارف العالميّة. لدى إيران من الثروات الطبيعيّةِ والثروات الإنسانيّة والعلميّة ما يجعلها ـ لولا الحصار ـ أغنى من المُعادين لها من غير سبب.
إنّ الكرة الأرضيّة منقسمةٌ الآن قسمين: إسرائيل ومن معها وفلسطين ومن معها… وما من إمبراطوريّةٍ كما يُخبرنا التاريخ تأبّدت وعاشت دهوراً. مضحكٌ وطفوليٌّ قولُ اللبنانيّين إنّ لإيران أطماعاً هنا، هل لدينا ما يمكن أن تسرقَه منّا؟ نحن أعطينا إيران منذ أكثر من أربعة قرون علماء صَحّحوا مسار تديّنها، وهي ردت إلينا الجَميل وساعدتنا في تحريرِ أرضنا.
المصدر: الاخبار