التوزيع هو العنصر الثاني من عناصر النشاط الاقتصادي بعد الإنتاج، وعملية التوزيع تهدف إلى قسمة عائد الإنتاج على عناصر الإنتاج التي شاركت فيه وهي وفقاً للاقتصاديين المحدثين: العمل، والأرض، ورأس المال، والتكنولوجيا، والتنظيم؛ ليحصل كل عنصر من عناصر الإنتاج على نصيبه من عائد النشاط الاقتصادي الإنتاجي. د. عبد الفتاح محمد صلاح
موقع الاجتهاد: أذكر بأن مفهوم النشاط الاقتصادي وعناصره، والهدف المتمثل في إشباع حاجات البشر الدنيوية والحصول على الخدمات، تتشابه إلى حد كبير في جميع المذاهب والأنظمة الاقتصادية؛ ولكن النشاط الاقتصادي الإسلامي يتمايز عن غيره من الأنشطة الاقتصادية؛ من حيث الغاية النهائية والوسيلة المتبعة في القيام بعناصر النشاط الاقتصادي، وهذا هو محور مقالات عناصر النشاط الاقتصادي.
توزيع عائد الإنتاج في الاقتصاد التقليدي
يهتم التوزيع في الاقتصاد التقليدي بتحديد الثمن المقابل لخدمات عناصر الإنتاج التي تسهم في العمليات الإنتاجية المختلفة، ووسيلته إلى ذلك تفاعل قوى العرض والطلب لتلك العناصر لتحديد سعر التوازن لها.
– ويحصل العمل ( الجهد البشري العقلي والعضلي ) المبذول في العملية الإنتاجية على عائده المتمثل في أجور العمال.
– وتحصل الأرض ويقصد بها جميع الثروات ( الموارد الطبيعية ) التي خلقها الله للبشر على سطح الأرض؛ سواء أكانت يابسة أم مائية وما فوقهما وما تحتهما على عائدها نظير المشاركة في العملية الإنتاجية في صورة إيجار يعرف بالريع.
– ويحصل رأس المال على معدل فائدة مضمون كعائد له على مشاركتة في العملية الإنتاجية.
– وتحصل التكنولوجيا على عائد متمثل في أجرة أو ثمن مقابل الخدمة المقدمة للعملية الإنتاجية.
– وفي النهاية يحصل التنظيم على ربح نظير مشاركته في العملية الإنتاجية، والربح هو الفائض (المتبقي ) بعد توزيع عائد العملية الإنتاجية على الأربعة عناصر التعاقدية السابقة.
التوزيع العادل للثروة والدخل هدف الاقتصاد الإسلامي
من الطبيعي أن يكون التوزيع العادل للثروة والدخل من أولويات الاقتصاد الإسلامي، ومن المبادئ التي يتمايز بها عن غيره من الأنظمة الاقتصادية، وذلك لأن الاقتصاد الإسلامي يستمد فلسفته ومبادئه وأدواته التطبيقية من مبادئ الإسلام ذاته؛ الذي يأمر بالعدل لما له من أهمية كبيرة في إقامة المجتمعات قال تعالى: ” إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ” النحل 90، ويحذر من عدم العدل مع الناس بسبب بغضهم أو إساءتهم، بل يأمر في خطاب عام جميع الخلق بأن لا يعاملوا أحدا إلا على سبيل العدل والإنصاف، وترك الميل والظلم والاعتساف قال تعالى: ” وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ” المائدة 8.
لذا نجد عدالة التوزيع للثروة والدخل في الاقتصاد الإسلامى تتم على ثلاث مراحل:
1- مرحلة توزيع الثروة: وهي تتم قبل العملية الإنتاجية، وتهدف إلى تحقيق العدالة في توزيع الموارد الطبيعية ( عنصر الأرض )، وذلك من خلال تنظيم التملك الأولي للثروات والموارد الطبيعية التي خلقها الله للبشر دون دخل للإنسان في وجودها؛ وتنظيم التملك يحدد بالتبعية قاعدة توزيع الثروة، ومن بعدها توزيع الدخل على عناصر الإنتاج المشاركة فيه.
ولأن الاقتصاد الإسلامي ينفرد بنظرة اقتصادية عقـائديـة للملكية؛ إذ المالك الحقيقي لكل شئ هو الله عز وجل، قال تعالى: ” لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ ” المائدة 120؛ فإن الملكية في الاقتصاد الإسلامي لا تثبت إلا بإباحة الشارع لها، وتقريره لأسبابها، وهي ملكية انتفاع وليست ملكية رقبة، وهي ناشئة عن استخلاف الله للإنسان في الأرض، قال تعالى: ” وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ” البقرة 30؛ وهذه الملكية مكفولة ومصونة طالما ينتفع الأفراد بالشئ المملوك وفقاً لمراد وتوجيهات المالك الحقيقي.
2- مرحلة توزيع الدخل: وتتم أثناء العملية الإنتاجية، وفيها يتم توزيع عائد الإنتاج كدخول لعناصر الإنتاج التي شاركت فيه، ويكون توزيع الدخل على ( عنصر العمل ) بناء على الجهد الذهني والعضلي الذي يبذله الإنسان، أو بناء على ملكيته لأحد عناصر الثروة.
وإن كان الاقتصاد الإسلامي يعترف بقوى السوق ( العرض والطلب ) ويستخدمها في تحديد العائد على ملكية أحد عناصر الإنتاج، إلا أنه لا يعتبر توازن قوى السوق هي الوسيلة المناسبة لتحديد أجر الجهد البشري المبذول في العملية الإنتاجية، لأن التوازن لا يعني العدل بالضرورة.
لذا فإن من أهم ما جاء به الإسلام في المجال الاقتصادي تحقيق ” الكفاية ” للإنسان بصفته إنسان، وليس بصفته ترس في آلة أو عنصر من عناصر الإنتاج تتحدد قيمته بعدد من ساعات العمل؛ فهو إنسان خلقه الله سبحانه وتعالى بيديه، ونفخ فيه من روحه، وميزه بالعقل والقدرة على الاختيار بين الخير والشر، وكرمه على جميع مخلوقاته، وأسجد له ملائكته، قال تعالى: ” وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ” الإسراء 70.
والكفاية في الإسلام ليست مجرد كلام نظري، ولكنها حقيقة لها أسس واقعية واضحة في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية المطهرة.
ففي القرآن الكريم: يحدد الخالق سبحانه وتعالى كفاية آدم عليه السلام في الجنة في قولة تعالى: ” إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ” طه 118، 119. ففي الجنة توفر للإنسان كفايته من الأكل والشرب والملبس والمسكن.
وفي السنة النبوية: أنه صلى الله عليه وسلم قال: ” من أَصبح منكم آمنا في سربِه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت لَه الدنيا ” رواه البخاري. وهذا الحديث يضيف لمقومات الحياة الأساسية الأمن والعلاج كمتطلبات تتعلق بالحياة على الأرض. ولم يتوقف الأمر عند توفير الأمن والعلاج فحسب، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” من ولي لنا عملا فلم يكن له زوجة فليتزوج أو خادما فليتخذ خادما أو مسكنا فليتخذ مسكنا أو دابة فليتخذ دابة فمن أصاب شيئا سوى ذلك فهو غال أو سارق ” رواه أحمد. وهذا الحديث يكشف عن نظرة الإسلام تجاه توفير الكفاية للعاملين في أجهزة الدولة، ويقرر الحدود الأساسية التي تكفل لكل إنسان حياة كريمة مقوماتها مسكن وزوجة ووسيلة انتقال وخادم.
فحد الكفاية في الاقتصاد الإسلامي هو ذلك الحد الذي يكفي معيشة الفرد ومن يعول من الحاجات الأساسية والحاجية والتحسينية، التي اعتاد أفراد المجتمع على الاحتياج إليها دون إسراف أو تقتير، مع مراعاة الظروف التي يعيشها المجتمع على المستوى العام سعةً وضيقاً، يقول الماوردي في الأحكام السلطانية: ” تقدير العطاء مرتبط بالكفاية “.
3- مرحلة إعادة توزيع الثروة والدخل: وفيها يتم إعادة توزيع الثروة والدخل معاً وفقاً لمعايير أخرى غير المعايير الوظيفية لعناصر الإنتاج، والتي تعتمد على العمل في توزيع الدخل، وعلى الملكية في توزيع الثروة، وهذه المعايير الأخرى لها أبعاد إنسانية واجتماعية لتحقق بجانب العدل الرحمة والإحسان، وتحفظ توازن واستقرار المجتمع.
إن النظم الاقتصادية الوضعية التي لا تسمح باستحقاق الثرورة أو الدخل المتولد من النشاط الاقتصادي إلا لعناصر الإنتاج التي شاركت فيه، لإيمانها بأن قوى السوق هي المعيار الوحيد للتوزيع بين الفئات المختلفة، كان من ثمرتها تقسيم المجتمع إلى طبقات، ولا شئ أسوأ من تقسيم المجتمع إلى طبقة محدودة جداً من الأغنياء تتركز في إيديها الأموال ( الثروة والدخل )، وطبقه كبيرة من الفقراء، فتتسلط هذه الطبقة المحدودة وتتحكم في مصير الكثرة، وتسخرهم لخدمتها بغير حق، ويوجه أصحاب الأموال الاقتصاد كله وفقاً لمصالحهم ورغباتهم، وهو ما يُأجج مشاعر الكراهية والبغضاء في نفوس الطبقات الفقيرة على الأغنياء، ويتولد عن ذلك عنصرية وصراع طبقي يحدثان الشرور والآثام في المجتمع.
وقد تجاوز النظام الاقتصادي الإسلامي ذلك بأن جعل أساس التوزيع ” الحاجة ” في المقام الأول، ثم يأتي بعد ذلك العمل والملكية والمخاطرة في المقام الثاني، بحيث يضمن الإسلام ” حد الكفاية ” لكل فرد من أفراد المجتمع، وذلك كحق يكفله له المجتمع أو الدولة كإنسان خلقه الله وكرمه بغض النظر عن جنسيته أو ديانته لقوله تعالى : ” وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ” الإسراء 26.
ولحرص النظام الاقتصاد الإسلامي على تحقيق العدالة في توزيع الثروات والدخول بين الأفراد بما يحفظ التوازن والاستقرار الاقتصادي في المجتمع، فقد اتخذ من قوله تعالى: ” كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ ” الحشر 7؛ قاعدة اقتصادية تمثل جانباً كبيراً من أسس النظرية الاقتصادية الإسلامية، فالملكية الفردية معترف بها ولكنها محددة بهذه القاعدة؛ وكل وضع ينتهي إلى أن يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم ممنوعاً من التداول بين الفقراء هو وضع يخالف النظرية الاقتصادية الإسلامية؛ كما يخالف هدفاً من أهداف النظام الاجتماعي الإسلامي، لذلك حرم الإسلام الربا وحظر الاحتكار، وهما الوسيلتان الرئيسيتان لجعل المال دولة بين الأغنياء.
هذا ولم يكتفي الشارع الحكيم بوضع القاعدة، وإنما عمل على ضمان تحقيقها في الواقع، بتحديد وسائل تطبيقية تعمل بصورة تلقائية ومستمرة على إعادة توزيع الثروات والدخول بين الأفراد بما لا يسمح بوجود احتكار للثروة، وإن وجد لا تبقي عليه، ومن أهم هذه الوسائل:
• الزكاة: الزكاة عبادة من أجلِّ العبادات فهي الركن الثالث من أركان الإسلام، وهي أيضاً أداة مهمة من أدوات إعادة توزيع الدخل وبعض الثروة لصالح الطبقات الفقيرة في المجتمع وفقاً لمعيار ” الحاجة “، وهي تتميز بالتكرار كلما حال الحول، وأوعيتها تتميز بالتنوع مما يجعلها تغطي كافة عناصر الثروة والدخل فنجدها تشمل النقدين الذهب والفضة وما في حكمهما من أثمان ونقود سائلة، وعروض التجارة، والزروع والثمار، والثروة الحيوانية، والركاز كالمعادن والكنوز والبترول وكل ما يستخرج من باطن الأرض، والثروة البحرية كاللؤلؤ والمرجان، وكل ما يجد في كل عصر مما يعتبر ثروة ودخل.
ومعدلات الزكاة مختلفة فتفرض بـ 2,5%، 5%، 10%، 20%، والاختلاف في معدلاتها يرجع إلي مراعاة تكاليف الإنتاج والجهد البشري المبذول في الحصول على الثروة أو الدخل.
ورغم انخفاض نسبة الزكاة إلا أنها تعرض الثروات المكتنزة التي لا تساهم في الإنتاج للتآكل على مر السنين، مما يدفع أصحاب هذه الثروات إلى إخراجها من دائرة الاكتناز، والدفع بها في مجال الاستثمار الذي ينعش الاقتصاد ويقضي على البطالة، ويولد دخول للفقراء القادرين على العمل. أما الفقراء الذين لا يقدرون على العمل لظروف خارجة عن إرادتهم فإن التوزيع المباشر للزكاة المأخوذة من الأغنياء على الفقراء في المجتمع؛ يوفر حد الكفاية للفقراء ولمن يعولون، وهو ما يقضي على احتكار الثروة، ويسمح لجميع أفراد المجتمع بتداولها.
• الإرث: وسيلة حكيمة وعادلة من الخالق سبحانه وتعالى لإعادة توزيع مجموع الثروات والدخول المتراكمة خلال حياة كل إنسان بمجرد وفاته؛ وفقاً لمعيار صلة الرحم، ودرجة القرابة، والحاجة؛ تحقيقاً لاستمرار تداول الثروات على مدى الأجيال.
والإرث في النظام الإسلامي أقدر على تحقيق هدف إعادة التوزيع منه في الأنظمة الأخرى وذلك لاتساع قاعدة المستفيدين، قال تعالى: ” لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا” النساء 7، 8. كما أن الشارع الحكيم قرر قواعد تحد من قدرة المُوَرث على التصرف في تركته أثناء حياته، قال رسول صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: ” إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ” أخرجه الترمذي؛ وإن كان هناك وصية لغير الوارث فيجب ألا تزيد عن ثلث التركة، لحديث عامر بن سعد عن أبيه قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت فقلت: يا رسول الله بلغني ما ترى من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة أفأتصدق بثلثي مالي ” قال: لا ” قال: قلت أفأتصدق بشطره ” قال: لا الثلث والثلث كثير ” صحيح مسلم.
بجانب هذه الوسائل الإلزامية الآمرة يوجد وسائل إلزامية ناهية عن الأعمال التي تعيق تدفق وتداول الأموال بين أفراد المجتمع، وتضر بعدالة توزيع الثروة والدخل منها:
• تحريم الربا: الربا من الأمور التي شدد القرآن على تحريمها، قال تعالى: ” وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ” البقرة 275، وقال تعالى: ” يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ” البقرة 276؛ والمحق يعني إبادة وذهاب الشئ كله حتى لا يرى منه أثر، فالربا كارثة اقتصادية تمزق المجتمع نفسياً ومالياً ولا تترك لأفراده إلا الحسرة والندامة.
والربا هو الكبيرة الوحيدة التي استحق فاعلها الحرب من الله ورسوله، قال تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ” البقرة 278، 279.
يأتي التحريم المشدد للربا واستتباعه بعقوبة لا قِبَل لأحد بها؛ لمنع الاعتماد على توليد المال للمال، دون أي إضافة حقيقية إلى النشاط الاقتصادي الزراعي أو الصناعي أو التجاري أو غيرها مما يحتاج إلى العمل، فتحدث البطالة وتزداد الفوارق بين طبقات المجتمع، ويتحول مجرى الثروة إلى جهة واحدة هي جهة الأغنياء، وهو ما يرفضه النظام الاقتصادي الإسلامي.
• تحريم الاكتناز: الكنز في الأصل هو المال المدفون تحت الأرض من الذهب والفضة، قال تعالى: ” وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ” التوبة 34، وفي التفسير أيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه، وإن كان على ظهر الأرض غير مدفون. أما الاكتناز بالمعنى الاقتصادي فيقصد به تخلف أحد عناصر الموارد عن المساهمة في الاقتصاد وبقاؤه في صورة عاطلة، مما يؤدي إلى حدوث اختناقات في حركة تداول الثروة يترتب عليها توقف أو تباطؤ النشاط الاقتصادي.
هذا ولم يقتصر النظام الاقتصاد الإسلامي في إعادة توزيع الثروة والدخل بين أفراد المجتمع على الوسائل الإلزامية الآمرة والناهية، وإنما رغب الأغنياء في وسائل تطوعية تحقق نفس الهدف وثوابها عند الله عظيم، وتشمل هذه الوسائل الصدقات، والنذور، والوقف.
توزيع عائد الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي
هدف العدالة في توزيع الثروة والدخل في النظرية الاقتصادية الإسلامية كان له كبير الأثر في تمايز قواعد توزيع عائد الإنتاج على عناصر الإنتاج ( التوزيع الوظيفي ) في الاقتصاد الإسلامي عنها في الاقتصاد التقليدي.
1- العمل: في النظام الاقتصادي الإسلامي للعمل عدة أوجه تعاقدية داخل النشاط الاقتصادي، ولكل وجه من هذه الأوجه التعاقدية نصيبه من عائد العملية الإنتاجية وفقاً للتفصيل التالي:
• العمل الأجير: يقابل هذا الوجه التعاقدي عنصر العمل في اقتصاد السوق، ولكن في الاقتصاد الإسلامي يجب أن تكون بداية الأجر مساوية لأجر الكفاية الذي يكفي معيشة الفرد ومن يعول من الحاجات الأساسية والحاجية والتحسينية، ثم يرتفع الأجر ليحقق عدالة تنَاسُب الأجر مع الجهد المبذول في النشاط الإنتاجي قال تعالى: ” وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ” الأعراف 85.
وعقد الإجارة في الاقتصاد الإسلامي بمقوماته الشرعية من التراضي المعبر عنه بالإيجاب والقبول، والشروط الواجب توافرها في طرفي التعاقد ( العامل وصاحب العمل )، وتحديد كمية العمل، ومعلومية الأجر، يؤدي هذا الغرض على الوجه المطلوب.
• العمل المضارب: ويكون من خلال عقد المضاربة، وهو أحد العقود الشرعية التي يختص بها النظام الاقتصاد الإسلامي دون سواه؛ وفيها يقدم العامل ( رب العمل ) مجهوده مقابل الحصول على حصة شائعة من الربح متفق عليها مع ( رب المال )، وإن حدث خسارة فيتحملها رب المال وحده؛ ويخسر العامل مجهوده.
• العمل المخاطر: وهو يقابل عنصر التنظيم في اقتصاد السوق؛ وفيه يخاطر العامل بماله ومجهوده في النشاط الاقتصادي، ويستأثر بالربح ( الغنم ) ويتحمل الخسارة ( الغرم ).
2- الأرض: تحصل الأرض في النظام الاقتصادي الإسلامي على عائد نظير مشاركتها في الإنتاج في صورة جزء من الناتج كما في حالة المزارعة، ومعناها في فقة السنة: إعطاء الأرض لمن يزرعها على أن يكون له نصيب مما يخرج منها كالنصف أو الثلث أو الأكثر من ذلك أو الأدنى حسب ما يتفقان عليه. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر.
ويجب العلم أن المزارعة تفسد إذا كان النصيب المتفق عليه معيناً؛ بأن يحدد مقداراً معيناً مما تخرج الأرض. أو يحدد مقداراً معيناً من مساحة الأرض تكون غلتها لصاحب الأرض، والباقي يكون للعامل أو يشتركا فيه. وسبب فساد المزارعة في هذه الحال أنه ربما يصاب النصيب المعين وتسلم الأرض، وربما تفسد الأرض ويسلم النصيب المعين، وهذا نوع من الغرر الذي قد يفضي إلى النزاع؛ كما يجوز أن تكون المزارعة بالنقد وبالطعام وبغيرهما مما يعد مالاً؛ بمعنى أن تحصل الأرض على أجرة محددة بالنقد في حالة دفعها للغير ليستغلها.
3- رأس المال: رأس المال في النظام الاقتصادي الإسلامي ليس له إلا أن يشارك في النشاط الاقتصادي، ومن ثم يشترك في نتيجتة النهائية من ربح أو خسارة، وذلك هو الطريق الشرعي الوحيد لنماء المال وزيادته، أما أن يحصل رأس المال على معدل فائدة ثابت ومضمون مقابل الوقت؛ بصرف النظر عن نتيجة النشاط الذي استخدم فيه، فهذا مرفوض لأنه الربا المحرم.
إشادة الغربيين بأدوات التوزيع في الاقتصاد الإسلامي
الدور الفعال للزكاة والوقف كأداتين من أدوات النظام الاقتصادي الإسلامي لإعادة توزيع الدخل والثروة لصالح الطبقات الفقيرة في المجتمع وفقاً لمعيار ” الحاجة “؛ جعل عدد غير قليل من الاقتصاديين والكتاب والمؤرخين الغربيين المنصفين ينوه به، ويثني عليه، ويشيد بفضل الإسلام؛ ويثبت له السبق على النظم العالمية الحديثة في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه العالم.
المستشرق ليون روش مؤلف كتاب اثنتان وثلاثون سنة في رحاب الإسلام يقول: ” لقد وجدت في الإسلام حل للمشكلتين الاجتماعيتين اللتين تشغلان العالم ( يقصد بذلك العنصرية والصراع الطبقي ).
الأول: في قول القرآن: ” إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ” الحجرات 10.
الثاني: فرض الزكاة على كل ذي مال، وتخويل الفقراء حق أخذها غصباً، إن امتنع الأغنياء عن دفعها طوعاً، وهذا دواء الفوضوية “.
المؤرخ أرنولد توينبي حول نفس المعنى يقول: ” أن الإسلام قد قضى على النزعة العنصرية والصراع الطبقي بتقرير مبدأ الإخاء الإسلامي والمساواة المطلقة بين المسلمين، وعلى الغرب أن يأخذ بهذا المبدأ الإسلامي لتنجو المدنية الحالية مما يدب فيها اليوم من عناصر العداء “.
المستشرق ماسينيون يقول: إن لدى الإسلام من الكفاية ما يجعله يتشدد في تحقيق فكرة المساواة؛ وذلك بفرض الزكاة التي يدفعها كل فرد لبيت المال، وهو يناهض الديون البابوية، والضرائب غير المباشرة التي تفرض على الحاجات الأولية الضرورية.
كارل ماركس الذي يعد أحد أعظم الاقتصاديين في التاريخ يقول عن نظام الزكاة: وكانت هذه الضريبة فرضاً دينياً يتحتم على الجميع أداؤه، وفضلاً عن هذه الصفة الدينية فالزكاة نظام اجتماعي عام، ومصدر تدخر به الدولة المحمدية ما تمد به الفقراء وتعينهم، وذلك على طريقة نظامية قويمة لا استبدادية تحكمية ولا عرضية طارئة، وهذا النظام البديع كان الإسلام أول من وضع أساسه في تاريخ البشرية عامة.
البروفيسور اليهودي إسحاق رايتر ألف كتاباً عن نظام الوقف الإسلامي يقول فيه: ” إنه نظام مهم جداً ولا يوجد مثله في العالم، فهو يسمح بتداول الثروة، هذه المعضلة التي استعصت على كل النظريات والفلسفات والثورات “.
وأخيراً الباحث مسيو لوبله في كتاب حضارة العرب يقول: ” صان المسلمون أنفسهم حتى الآن من مثل خطايا الغرب الهائلة فيما يمس رفاهية طبقة العمال، وتراهم يحافظون بإخلاص على النظم الباهرة ( يقصد الزكاة والإرث والوقف ) التي يساوي بها الإسلام بين الغني والفقير، والسيد والأجير على العموم، وليس من المبالغة أن يقال: إن الشعب الذي يزعم الأوربيون أنهم يرغبون في إصلاحه هو خير مثال في ذلك الأثر الجوهري “.
بعد هذه الإشادات من اقتصاديين وباحثين غير مسلمين؛ ألا يدفعنا هذا إلى رد الاعتبار لأدوات النظام الاقتصادي الإسلامي الإلزامية والتطوعية؟! فنطبق فريضة الزكاة، ونلغي القوانين الجائرة التي دمرت مؤسسات الوقف ليعود الوقف إلى سابق عهده الزاهر، وبذلك تتكامل الأدوات الإلزامية والتطوعية فيما بينها في تناغم، لتقوم بدورها في حل جميع المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه دولنا الإسلامية، ونقدم للعالم أجمع نموذج تطبيقي يحتزى به في تحقيق العدالة الاقتصادية، والرحمة الاجتماعية.
*مؤسس ومشرف موقع الاقتصاد العادل