خاص الاجتهاد: ملاحظة: انعقدت الدورة السادسة والعشرون من المؤتمر الدولي لمجمع الفقه الإسلامي في الفترة من 6 – 10 من شهر ذي القعدة 1446هـ في مدينة الدوحة بقطر. وقد شارك وفد من المحققين وأساتذة الحوزة العلمية من إيران برئاسة آية الله مبلّغي. كان الأستاذ مرتضى ترابي* أحد مُقدِّمي الأوراق البحثية في هذا المؤتمر، حيث قدّم مقالًا بعنوان “الاستصحاب ومفهومه، أقسامه وعلاقته بغيره من أدلة التشريع وحجيته وتطبيقاته في النوازل والمستجدات”.
في السطور التالية، نقرأ تقرير الكاتب عن هذه الورقة البحثية، التي تتضمن تطبيقات جديدة على الفقه المعاصر، ومنها فقه القضاء والجزاء.
فهرس المحتويات
1. الاستصحاب من الأصول العملية لا الأمارات.
2. عدم جريان الاستصحاب في الشبهات المفهومية.
3. أقسام الاستصحاب.
4. الاستصحاب وتطبيقاته في المسائل المستجدة والمستحدثة.
5. بقاء التكاليف في الأمراض التي تزيل الذاكرة والعقل.
6. التعامل بالعملات الرقمية المشفرة مثل البيتكوين.
7. استخدام الجيلاتين في الأطعمة.
8. استخدام الهندسة الوراثية.
9. انطباق عنوان “الميت” على من أصيب بموت الدماغ.
10. المريض الذي لا يرجى شفاؤه واستخدام أجهزة العناية المركزة (ICU).
11. بقاء حق الفسخ بعد العلاج وارتفاع العيب.
12. تغيير الجنس.
1. الاستصحاب من الأصول العملية لا الأمارات.
في هذه المقالة، تم التأكيد على تحديد مكانة الاستصحاب بين الأدلة، وأنه من الأصول المُحرزة، وبالتالي فهو متأخر رتبةً عن الأمارات ومقدم على الأصول غير المحرزة، وذلك مع بيان خصائص كل من الأمارات والأصول العملية ووجه الافتراق بينهما. ويجب الانتباه إلى أن هذا البحث هو من خصوصيات أصول الفقه الشيعي؛ لأن الأصوليين من أهل السنة لا يفرقون بين الأمارات والأصول العملية، ولكنهم يتمسكون في تقديم الأدلة الأخرى على الاستصحاب بضعف الظن الحاصل منه، وهو أمر محل إشكال.
بينما بسبب استمرار مسيرة الاجتهاد في الفقه الشيعي، وما يتبع ذلك من دقة في المسائل الأصولية منذ عهد الوحيد البهبهاني (قدس سره)، حدث التفريق بين الأمارات والأصول العملية في الأصول الشيعية، وهو ما يبدو أنه أحدث تطورًا في علم الأصول.
وخلاصة القول إن المقالة بيّنت أن الأدلة في أصول الفقه الشيعي تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الأدلة التي تُبيّن الحكم الواقعي للأشياء والأفعال، مثل الأدلة التي تُفصح عن أحكام الأشياء كما هي في واقعها، كوجوب الصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها.
القسم الثاني: الأدلة التي تُبيّن الحكم الظاهري للأشياء. وعند عدم وجود دليل يُبيّن الحكم الواقعي، يتم التمسك بهذا القسم الثاني. ويُطلق على هذا النوع الثاني من الأدلة “الأصول العملية”.
والأصول العملية أربعة هي: 1. الاستصحاب. 2. أصالة التخيير. 3. أصالة الاحتياط. 4. أصالة البراءة.
إذا لم يجد المجتهد الحكم الواقعي لشيء أو فعل بعد البحث في الأدلة، فإنه يرجع إلى الأصول العملية. وفي هذه الحالة:
إذا كان لذلك الشيء أو الفعل حالة سابقة معلومة الحكم، يجري فيه الاستصحاب.
أما إذا لم تكن له حالة سابقة معلومة، فإن كان الاحتياط فيه غير ممكن (مثل أن يكون أمره متردداً بين الوجوب والحرمة)، يجري فيه أصالة التخيير.
وإن كان الاحتياط فيه ممكناً، فإذا كان أصل الإلزام الشرعي معلوماً ولكن متعلَّقه مجهولاً، يجري فيه أصالة الاحتياط.
أما إذا كان أصل الإلزام نفسه مشكوكاً شرعاً، فإن أصالة البراءة هي التي تجري فی هذه الحالة.
وعلى هذا الأساس، فإن الاستصحاب، من حيث الرتبة، يأتي متأخراً عن الأدلة التي تُبيّن الأحكام الواقعية، لكنه يتقدم على بقية الأصول العملية الأخرى؛ لأن الاستصحاب يُعدّ من الأصول العملية المُحرزة.
2. عدم جريان الاستصحاب في الشبهات المفهومية
من النقاط الأخرى التي تم التأكيد عليها في المقالة أنه يجب تنقيح المباني الأصولية في موارد جريان الاستصحاب، قبل الحكم بجريانه أو عدمه في المسائل المستجدة. ومن هذه المباني هو البحث في جريان الاستصحاب في الشبهات المفهومية، حيث أن الرأي الصحيح هو عدم جريانه فيها.
بيان النقطة هو أن: الكثير من حالات جريان الاستصحاب في المسائل المستحدثة هي من قبيل الشبهة المفهومية، وخاصية الشبهة المفهومية هي أن الواقع الخارجي معلومٌ لدينا، ولكن الشك يكون فقط من جهة شمول المفهوم للمصداق الجديد وتحديد إطار المعنى.
على سبيل المثال: الشك في صدق عنوان “الحيّ” على من أصابه الموت الدماغي. أو الشك في صدق عنوان “الأمّ” على امرأة قامت بتأجير رحمها في حين أن البويضة ليست منها. أو الشك في صدق عنوان “المال” على العملات الرقمية. أو الشك في صدق عنوان “البيع والشراء” على العقد الإلكتروني. أو الشك في صدق عنوان “العاقل” على من أصيب بمرض باركنسون، وما شابه ذلك.
يُكمن الإشكال في جريان الاستصحاب في مثل هذه الموارد في أن الأحكام من جهة، تابعة للعناوين والمفاهيم، ومن جهة أخرى، فإن إثبات صدق المفهوم ومعناه من عدمه هو أمرٌ يرجع إلى اللغة. وليس من شأن الاستصحاب أن يثبت صدق اللفظ أو المفهوم، لأن تحديد حدود المعنى واللفظ إنما يتم عبر علامات خاصة، مثل التبادر والانسباق بدون قرينة، أو عبر نصّ أهل اللغة. لذلك، يجب الانتباه إلى أن الاستصحاب لا يجري في مثل هذه الموارد التي هي من قبيل الشبهات المفهومية. بالطبع، هذه المسألة لها حلٌّ قمنا بذكره في المقالة.
3. أقسام الاستصحاب
من النكات الثالثة التي تطرقت لها المقالة هي أقسام الاستصحاب، والتي تصل في الفقه الشيعي إلى حوالي 20 قسماً، بينما لم يذكر أصوليو أهل السنة أكثر من ستة أنواع. وقد أشرنا إلى هذه الأقسام ومباحثها لبيان ما هو موجود في أصول الفقه الشيعي.
وإذا أردنا الإشارة بإيجاز إلى نماذج من هذه التقسيمات، فيمكننا ذكر ما يلي:
1. تقسيم الاستصحاب بحسب المستصحَب: هل هو أمر وجودي أم عدمي؟
والأمر العدمي قد يكون عدمًا محمولياً أو عدمًا نعتياً.
2. تقسيم المستصحَب: هل هو حكم شرعي أم موضوع الحكم الشرعي؟
3. تقسيم المستصحَب: هل هو كلي أم جزئي؟
4. الاستصحاب الكلي ينقسم إلى أقسام ثلاثة.
5. تقسيم المستصحَب: هل هو حكم تنجيزي أم حكم تعليقي؟
6. تقسيم المستصحَب: هل هو سببي أم مسببي؟
7. تقسيم المستصحَب: هل هو أمر ثابت أم تدريجي؟
8. تقسيم الاستصحاب بحسب الزمان: هل هو من الماضي إلى الحال، أم من الحال إلى الماضي، أم من الحال إلى المستقبل؟
9. تقسيم الشك في الاستصحاب: هل هو فعلي أم تقديري؟
10. تقسيم الشك في الاستصحاب: هل هو مع تساوٍ بين طرفي البقاء والارتفاع، أم مع ترجيح طرف البقاء، أم مع ترجيح طرف الارتفاع؟
11. تقسيم الاستصحاب بحسب دليله: هل الدليل هو خطاب شرعي، أم إجماع، أم عقل؟
12. تقسيم الاستصحاب بحسب منشأ الشك: هل هو الشك في المقتضي، أم الشك في الرافع، أم الشك في رافعية الموجود؟
13. تقسيم الاستصحاب: هل هو من قبيل “الأصل المثبِت” المرتبط باللوازم العقلية أم لا؟
14. تقسيم الاستصحاب: هل هو متعلق بشرائع الأديان السابقة أم بشريعة الإسلام؟
وهناك أقسام أخرى، ويجب التفريق بين هذه الحالات عند الحكم بجريان الاستصحاب فيها.
الأستاذ ترابي يقدم رؤية فقهية حول الألعاب الإلكترونية ويحذر من التهديدات الفكرية للأطفال
4. الاستصحاب وتطبيقاته في المسائل المستجدة والمستحدثة
يتعلق القسم الثاني من المقالة بموارد جريان الاستصحاب في المسائل الفقهية الناشئة. وفي هذا الصدد، ذُكر أن الأحكام الشرعية تشمل جميع أبعاد الحياة، بما في ذلك المسائل المستحدثة. وقد تم بيان الأصول الكلية في القرآن الكريم، وعلى لسان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، بينما تُعدّ وظيفة الفقهاء هي بيان الفروع، ومواكبة تطورات الحياة، وتقديم إجابات للمشكلات المستجدة المرتبطة بالقانون والتشريع. وقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): “علينا القاء الاصول و عليکم التفريع”
والاستصحاب هو من القواعد الأصولية التي يستفيد منها الفقيه في الوصول إلى الحكم الشرعي الكلي، وهو أيضًا من القواعد الفقهية التي يمكن للمكلّف تطبيقها على موضوعات مختلفة للوصول إلى أحكامها.
وفي هذا السياق، أشارت المقالة إلى 25 حالة من المسائل المستحدثة التي يمكن الوصول إلى حكمها الشرعي عن طريق جريان الاستصحاب. وسنذكر ملخصاً لبعض هذه الحالات:
5. بقاء التكاليف في الأمراض التي تزيل الذاكرة والعقل
تُعدّ بعض الأمراض مثل الزهايمر أو الباركنسون سبباً لفقدان الذاكرة وعدم قدرة الإنسان على التعرّف على الأشخاص والأشياء. في المرحلة المتقدمة من المرض، إذا تم التأكد من أن المريض قد فقد قدرته على التمييز وأنه لا يُعدّ عاقلاً عرفاً، فإن الصلاة والصوم وسائر الواجبات المشروطة بالعقل تسقط عنه، كما نصّ على ذلك الفقهاء في فتاواهم.
لكن، في المراحل المتوسطة من المرض، التي لم يصل فيها المريض إلى هذه المرحلة المتقدمة، هل تبقى التكاليف العبادية الشرعية ثابتة عليه أم لا؟ وهل بيعه، وشراؤه، وهبته، وسائر تصرّفاته في أمواله نافذة أم لا؟
إذا شككنا في أن المريض قد وصل إلى تلك المرحلة وقت التصرّف — سواء كان الشك بسبب عدم العلم بالواقع الخارجي (حالة الشخص) أو بسبب العلم بحالته الخارجية ولكن مع التردد في صدق عنوان “العاقل” عليه عرفاً، وعدم وجود أمارة شرعية لإثبات أحد طرفي القضية — يمكن التمسك بـ استصحاب حالته العقلية السابقة حتى يتم إثبات خروجه من هذه الحالة.
لقد قال أحد الفقهاء في هذا الصدد: “إذا شككنا في أن الشخص المسنّ قد أصابه زوال العقل، يمكننا استصحاب رشده والحكم بصحة معاملاته ما لم يثبت زوال العقل بيقين أو اطمئنان. وبوجود هذا الاستصحاب، لا تثبت الولاية عليه لأحد”.
ومع ذلك، يُثار في مثل هذه الحالات إشكال، وهو: إذا كان منشأ الشك هو صدق مفهوم “العاقل”، فإن استصحاب بقاء العقل لا يجري؛ لأن هذا من قبيل إثبات المفاهيم اللغوية عن طريق الاستصحاب، وهو أمر لا يجري فيه الاستصحاب.
وبالرغم من هذا الإشكال، يرى بعض المحققين أنه يمكن في مثل هذه الموارد استصحاب الحكم الشرعي الثابت للموضوع الخارجي، أي بالإشارة إلى المكلف الخاص والقول: “هذا الشخص كان التكليف واجباً عليه سابقاً، وهو الآن واجب عليه كما كان في السابق”.
6. التعامل بالعملات الرقمية المشفّرة مثل البيتكوين
تُعدّ العملات الرقمية من الأمور المستجدة التي اختلف الفقهاء في مشروعية التعامل بها:
فريق من الفقهاء حكم ببطلان التعامل بهذه العملات، لوجود الغرر المنهي عنه في الشريعة.
في المقابل، أجاز فريق آخر التعامل بهذه العملات، لأنها تُعدّ مالاً من الناحية العُرفية، وذلك لكونها ذات منفعة عقلائية، وندرة، وقابلة للتملّك، ولا يشملها نهي شرعي خاص أو عام. كما أن الغرر منتفٍ عنها؛ لأن العرف ينظر إليها كغيرها من الأموال الاعتبارية.
كما امتنع فريق ثالث عن إصدار حكم نهائي في هذا الشأن، وأفتوا بـالاحتياط، حتى تتضح حقيقة هذه العملات.
ويمكن القول بالتفصيل بين العملات الرقمية المعروفة التي تعتمد عليها الأسواق المالية، والعملات المجهولة؛ بحيث يتحقق فيها صدق عنوان “المال” عُرفاً فقط في النوع الأول.
وعلى أي حال، إن بقي الشك ولم يصل الفقيه إلى نتيجة، فالمرجع هو استصحاب عدم انتقال الملكية وبقاء المال على ملك صاحبه، وتكون النتيجة هي بطلان التعامل بمثل هذه العملات.
7. استخدام الجيلاتين في الأطعمة
من التطبيقات المعاصرة للاستصحاب، هو الحكم على استخدام الجيلاتين: الجيلاتين مادة تُستَخرَج من الحيوانات أو بعض النباتات، وهي قابلة للذوبان.
إذا حصلت الاستحالة (تغيّر الماهية) لهذه المادة، فإن استخدامها يحكم بالحِلّية، بناءً على استصحاب عدم جعل الحرمة، ما لم يثبت ضررها على البدن، ففي هذه الحالة تكون حرامًا بسبب الضرر.
أما إذا لم تحصل الاستحالة—وهو الرأي الصحيح—فيُستَصحَبُ الحكم السابق؛ أي أن الجيلاتين يتبع حكم الحيوان الذي أُخِذَ منه: فإذا كان الحيوان مذبوحًا ذبحًا شرعيًا، كان الجيلاتين طاهراً وحلالًا؛ وإلا فإنه يكون حرامًا، بناءً على استصحاب بقاء الحرمة.
نعم، إذا شُكّ في كون الجيلاتين حيوانياً أم نباتياً، ولم توجد قرينة على كونه حيوانيًا، فإن الحكم هو الطهارة والحِلّية، بناءً على أصالة الطهارة والحِلّية.
8. استخدام الهندسة الوراثية
هل يجوز استخدام الهندسة الوراثية في إنتاج الأطعمة المُعدّلة؟ وهل يجوز أكل الأطعمة التي تُنتَج بهذه الطريقة؟
إذا قيل إن هذا الأمر هو من مصاديق تغيير خلق الله، فإنه سيشمله حكم الآية الشريفة: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا﴾ (النساء: 119)، وفي هذه الحالة يُحكم بحرمة الهندسة الوراثية.
أما إذا قيل بأن المراد من “تغيير خلق الله” في الآية هو التغيير في الدين، أو أنه يقتصر على التغيير الظاهري، ولا يشمل التغييرات الجينية التي تتم دون تغيير في المظهر أو الشكل الخارجي للمخلوقات، أو أنه يختص بالحيوانات فقط، أو أنه يشمل فقط ما كان يفعله المشركون في نذر الحيوانات للأصنام، وأن الآية لا تشمل النباتات؛ وإذا لم يتوفر دليل آخر على الحرمة، ولم يثبت ضررها حتى الآن، فإنه يجري استصحاب عدم جعل الحرمة، ويُحكم بالجواز والحِلّية في خصوص النباتات.
أما بالنسبة للتعديل الجيني على الحيوانات، فإذا قبلنا أن الآية لها دلالة عامة على حرمة تغيير خلق الحيوان مطلقاً، فبطبيعة الحال يُحكم بالحرمة؛ لأنه ليس من موارد الاستثناء.
لكن إذا لم يقبل أحدٌ هذا المطلب، واعتبر أن التغيير المنهي عنه في الآية يتعلق بقطع آذان الحيوانات وما شابه ذلك لتقديمها نذراً للأصنام، فحتماً يكون المرجع هو استصحاب عدم جعل الحرمة ويُحكم بالجواز، كما أن مقتضى أصل البراءة هو الجواز أيضاً.
9. انطباق عنوان “الميت” على من أصيب بموت الدماغ
يوجد خلاف بين العلماء المعاصرين حول الموت الدماغي، وهل يُعدّ هذا الوضع بمثابة موت ونهاية للحياة الإنسانية، خاصةً في الحالات التي يكون فيها الشخص موضوعاً تحت أجهزة الإنعاش. وهناك رأيان في هذا الشأن:
الرأي الأول: يرى أن الموت الدماغي لا يُعتبر موتاً حقيقياً ما لم يتوقف القلب عن النبض، وأن الإنسان لا يُعدّ ميتاً إلا بحدوث توقف القلب.
الرأي الثاني: يرى أن الموت الدماغي، سواء مع نبض القلب أو بدونه، يُعدّ موتاً حقيقياً، ولا حاجة لتوقف القلب للحكم بالموت. وهذا هو الرأي الذي تبناه أيضاً “مجمع الفقه الإسلامي الدولي” التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
الخلاف في فقه الإمامية
يوجد اختلاف في وجهات النظر بين فقهاء الإمامية أيضًا؛ حيث اعتبر بعضهم الموت الدماغي موتًا حقيقيًا أو حكميًا، بينما لم يقبل آخرون بذلك، معتقدين أن الشخص لا يزال على قيد الحياة، وأن أحكام الإنسان الحي تجري عليه.
ويتمسك أنصار الرأي الثاني (الذي يعتبر الشخص حيًا) بـ جريان الاستصحاب في الموضوع والحكم؛ ببيان أن حياة المريض كانت متيقنة قبل الموت الدماغي، ونحن نُبقي هذا اليقين إلى أن يصل إلى الحالة المشكوكة، وبناءً عليه تُجرَى عليه أحكام الإنسان الحي.
وبناءً على ذلك، لا يجوز بيع أو التبرع بالأعضاء التي تتوقف عليها الحياة، مثل القلب أو الرأس، وكذلك الأعضاء التي يؤدي نزعها إلى نقص واضح وتشويه في الجسد ويُعدّ نوعًا من الجناية على النفس، لا من قبل الشخص نفسه ولا من قبل وليّه.
لكن، يُورد إشكال على هذا الاستدلال؛ لأن هذه المسألة هي من نوع الشبهة المفهومية، أي الشك في سعة أو ضيق معنى “الحياة”، والاستصحاب لا يمكنه إثبات المعنى اللغوي.
إلا أن الرأي الصحيح هو أنه يمكن في مثل هذه الحالات جريان استصحاب الحكم الجزئي. بعبارة أخرى، على الرغم من أن الاستصحاب لا يجري في الموضوع أو المفهوم، فإن هذا لا يعني عدم جريانه في الحكم، بشرط أن تكون مقدمات الاستصحاب في الحكم كاملة؛ وهو ما يرى به بعض المحققين المعاصرين.
10. المريض الذي لا يرجى شفاؤه واستخدام أجهزة العناية المركزة (ICU)
في الحالات الحرجة، وبناءً على تشخيص الأطباء، يُوضع المرضى الذين يصابون بسكتة دماغية أو نوبة قلبية في قسم العناية المركزة تحت أجهزة الإنعاش الحيوية. وإذا فُصِلت هذه الأجهزة عن جسم المريض، فستحدث لديه مشاكل تنفسية أو قلبية قد تؤدي إلى وفاته المبكرة؛ ولذلك، يُعدّ بقاء هذه الأجهزة أمرًا ضروريًا.
ولكن في الحالات التي يتم فيها تشخيص الموت الدماغي، هل يجب أن تبقى الأجهزة متصلة بجسم المريض أم يمكن فصلها لعدم وجود أي أمل في الشفاء؟
في مثل هذه الحالات، وبناءً على أصل الاستصحاب، يُصدر الحكم بضرورة استمرار اتصال الأجهزة وحرمة فصلها، لأن ذلك يؤدي إلى الموت عرفاً. إذًا، لا يجوز فصلها إلا في حالة وجود ضرورة. وقد أفتى بذلك أيضاً بعض فقهاء الإمامية.
بيد أنه إذا لم يكن الجهاز متصلاً منذ البداية، فلا يوجد إلزام بتوصيله.
أما بين الفقهاء غير الإمامية، فالرأي السائد هو جواز فصل أجهزة الإنعاش. وقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي الدولي قراراً في هذا الصدد ينص على ما يلي:
إذا تعطلت جميع وظائف المخ بشكل كامل، وأكد الأطباء المتخصصون والثقات أن هذا التعطيل غير قابل للعودة وأن المخ في حالة تحلل، في هذه الحالة يمكن فصل أجهزة الإنعاش عن الجسد؛ حتى لو كانت بعض الأعضاء، مثل القلب، لا تزال تعمل بمساعدة الأجهزة.
وقد اشترط بعض الفقهاء غير الإمامية هذا الجواز بتأكيد ثلاثة أطباء متخصصين على أن استمرار اتصال الجهاز عديم الجدوى.
11. بقاء حق الفسخ بعد العلاج ورفع العيب
تُعدّ بعض العيوب الموجودة في المرأة سبباً في إيجاد حق الفسخ للرجل، دون الحاجة إلى الطلاق. وإذا اكتشف الرجل بعد الزواج أحد هذه العيوب، ولكن قبل أن يمارس حق الفسخ، زال ذلك العيب بالعملية الجراحية أو الدواء، فهل يبقى حق الفسخ للرجل أم لا؟
يرى بعض الفقهاء أن مجرد وجود أحد هذه العيوب وقت الزواج يُنشئ حق الفسخ للرجل. فإذا شُكّ في بقاء هذا الحق بعد زوال العيب، فالمرجع هو استصحاب بقاء حق الفسخ للرجل.
12. تغيير الجنس
المقصود بـ “تغيير الجنس” هو تحوّل الرجل إلى امرأة، أو المرأة إلى رجل. فهل مثل هذا العمل جائز؟ وفي حال الجواز أو الحرمة، هل تتغير الأحكام المتعلقة بالإنسان بعد تغيير جنسه أم لا؟
توضيح الموضوع
في العصر الحديث، ومع تطور جراحات التجميل، أقدم بعض الأشخاص الذين يشعرون بأنهم ينتمون إلى الجنس الآخر (كرجل يرى نفسه امرأة، أو امرأة ترى نفسها رجلاً) على تغيير جنسهم. ويتم هذا التغيير عبر إزالة الأعضاء الجنسية وربط أعضاء أخرى تُعطي شبهاً ظاهرياً بالجنس الآخر. كما يقوم الشخص بتعديل مظهره بشكل أكبر ليتناسب مع الجنس الذي يرغبه، وذلك باستخدام الهرمونات الخاصة بذلك الجنس.
لكن مع كل هذه التغييرات، هناك بعض الخصائص الجنسية التي لم تكن قابلة للتغيير حتى الآن:
1. الشفرة الوراثية: المرأة لديها كروموسوم XX والرجل لديه كروموسوم XY. هذه الكروموسومات موجودة في جميع خلايا الجسم وغير قابلة للتغيير.
2. أعضاء التناسل: جسم المرأة لديه القدرة على إنتاج البويضات، وجسم الرجل ينتج الحيوانات المنوية. الجرّاح يمكنه فقط إزالة هذه الأعضاء، لكن لا يمكنه بناء أعضاء تناسلية للجنس الآخر.
3. الهيكل الجسدي والعظمي: هناك اختلافات أساسية بين هيكل المرأة والرجل، ولا يمكن تغيير إلا جزء صغير منها عبر عمليات تغيير الجنس.
ولذلك، يبرز السؤال: هل هذه التغييرات الظاهرية كافية لتغيير الأحكام الشرعية أم لا؟
يرى بعض فقهاء الإمامية جواز تغيير الجنس وترتّب أحكام الجنس الجديد عليه، بشرط أن يصدق عليه العنوان الجديد عرفاً.
بينما يرى آخرون أنه لا يجوز تغيير الجنس، ولا تتغير الأحكام الشرعية بالتغيير الظاهري. وهذا الرأي الثاني، الذي يقول بعدم إمكانية تغيير الجنس الحقيقي وحرمته حتى لو كان ممكناً، هو الأقوى عندنا.
أما بين الفقهاء غير الإمامية، فيبدو أنهم لا يجيزون مثل هذا العمل. كما جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي:
“تغيير الجنس محرّم شرعاً، لأنه تغيير في خلق الله”.
من أهم الأدلة الفقهية على عدم تغيير الحكم الشرعي مع وجود التغيير الظاهري في الجسد، هو أصل الاستصحاب؛ فما دام الشك قائماً في التغيير الحقيقي للجنس، فإنه يجب إبقاء الحكم السابق.
إن أركان الاستصحاب في هذه المسألة كاملة، وبموجبه، فإن الأحكام الشرعية المتعلقة بالرجل أو المرأة تبقى كما كانت قبل عملية تغيير الجنس، لأن هذا التغيير، وفقاً لرأي الأطباء، هو تغيير ظاهري وليس حقيقيًا، وبالتالي لا تأثير له على الأحكام الشرعية.
طبعاً، الاستصحاب لا يجري في الجزء الموضوعي (أي تشخيص عنوان الرجل أو المرأة)؛ لأن هذه المسألة تندرج ضمن الشبهة المفهومية، والاستصحاب لا يمكنه إثبات الدائرة المفهومية للّفظ. هذا ما لم يُقَل إن تشخيص بقاء الموضوع هو مسألة عرفية، والعرف في مثل هذه الحالات لا يرى أن هذه التغييرات كافية لبقاء الموضوع (كون الشخص رجلاً أو امرأة).
* بدأ مرتضى ترابي دراساته الدينية في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف عام 1973ميلادي، ثم التحق بالحوزة العلمية في قم المقدسة عام 1976م. وقد حضر دروس “البحث الخارج” على يد أعلام كبار من أمثال آيات الله العظام جعفر السبحاني، والتبریزی، والوحید الخراساني، والهاشمي الشاهرودي.
يعمل حجة الإسلام ترابي منذ أكثر من عشر سنوات في قسم استفتاءات سماحة آية الله السبحاني، كما يقوم بإعادة تقرير دروس “البحث الخارج” الأصولية لآية الله السبحاني لطلابه. لديه مؤلفات قيمة تحمل العناوين التالية: “بحوث فقهية معاصرة في الاقتصاد والعلاقات الدولية”، و”دروس موجزة في أحكام المكاسب”، و”نظرة فقهية إلى النقود”، بالإضافة إلى ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة التركية الاستانبولية (التي فازت بجائزة الكتاب العالمي للجمهورية الإسلامية الإيرانية لعام 2010م ضمن الكتب المكرّمة في جائزة كتاب العام للحوزة. ومن مؤلفاته أيضاً “الإمام المهدي (عجل الله فرجه) حقيقة مشرقة”، و”القرآن من منظور أهل البيت (عليهم السلام)”.
كما قام أيضاً بتدريس السطوح العليا للحوزة العلمية لمدة تقارب العشرين عامًا، وهو يدرّس منذ عدة سنوات المسائل المستحدثة في مكتب آية الله السبحاني. إنه حقاً من أساتذة المستويات العليا المرموقين في الحوزة العلمية بقم المقدسة وعضو نشط في مجلس استفتاءات مكتب آية الله السبحاني.