الاجتهاد: لم يكن السيد البروجردي يعوّل ويعتمد كثيراً على علم أصول الفقه والقواعد الأصولية في مجال ممارسة الاستنباط الفقهي، إلا أن هذا لا يعني أنه أهمل التحقيق والبحث في هذا العلم والذي يتوقف عليه الاستنباط الفقهي، وتقع قواعده في طريق عملية الاستنباط،
ولهذا نجد سماحته قد عمل على تنقيح بعض المباني الأصولية أثناء دراسته في النجف الأشرف.
يقول السيد العلوي: «إن المرحوم آية الله البروجردي قد نقح بعض المباني الأصولية أيام توقفه للدراسة في النجف، وكان حصيلة هذا العمل حاشيته على كتاب أستاذه الآخوند كفاية الأصول) في ثلاث مجلدات، وبحسب قوله: (لم تكن حاشية على الكفاية فقط وإنما كانت دورة أصولية مستقلة)، ومما يؤسف له إن هذا الكتاب قد فقد في الوقت الحاضر).
وأما في مجال علم الفقه فينقل عن جمع من أعاظم تلامذته في قم: «إن سماحته وإن لم يدون دورة فقهية كاملة، إلا أنه كانت لديه وفي كل فرع فقهي ملف كامل جمع فيه كل ما يتعلق بذلك الفرع الفقهي من نصوص، وقواعد فقهية، ومباني أصولية، وتتبع كلمات الفقهاء وخاصة القدماء منهم؛ إذ أن لكلماتهم لدى سماحته موضوعية خاصة، وفي كثير من الموارد كان سماحته يحتاج إلى مراجعة بعض المسائل، يعود إلى هذه الملفات، ويستند إليها.
وكان سماحة السيد البروجردي يرى أن الفقيه المجتهد، وخاصة (المقلد) يلزمه أن يستحضر دائماً مباني فتاواه ولهذا كان – ومن أيام دراسته – يدون مبانيه في الاستنباط، حتى تكونت لديه وبالتدريج – مجموعة كاملة من المباني؛ وخاصة في الفترة الزمنية التي أرجع فيها آية الله الشيخ محمد رضا الدزفولي والذي كان من مراجع التقليد في غرب إيران وإقليم خوزستان – مقلديه السماحة السيد البروجردي؛ فكان سماحته يبذل عناية ودقة أكثر في هذا المجال، فتكوّن لدى سماحته مذاق فقهي خاص، مع تأكيده الكثير على الأصول الملتقاة من الأئمة ، والذي تحتاج إلى تتبع واسع لآثار الفقهاء القدماء، ومن خلال مراجعة المتون الفقهية القديمة والتي لها أهميتها الخاصة).
وتتلخص نظرية السيد البروجردي في الأصول الملتقاة عن الأئمة بها يلي: «كان السيد البروجردي يعتقد بأن أكثر الكتب الفقهية لفقهاء الصدر الأول إلى عصر الشهيد الأول – شمس الدين، أبو عبد الله محمد جمال الدين بن مكي استشهد في سنة (٧٨٦ هـ ) – والتي جاءت فتواهم الفقهية بلسان أحاديث أهل البيت الفقه الروائي – بمعنى أن فتاوى أولئك الأعلام الكبار قد كتبت بحسب الكلمات الواردة في نص أحاديث الأحكام الشرعية، الصادرة عن الأئمة ونظراً للقرب الزماني هؤلاء الفقهاء بأصحاب الأئمة، وتلقي الروايات منهم، وخاصة الطبقة الأولى والطبقة الثانية، وهكذا باقي الطبقات؛ بالإضافة إلى توفر الأصول التي كتبت بواسطة أصحاب الأئمة وتلامذتهم وكل هذه الأصول لم تصل إلينا، فلذا تعد فتوى هؤلاء الفقهاء القدماء بحكم الروايات الصادرة من الأئمة ؛ بمعنى أننا إن عثرنا في كتب الفقهاء على فتوى معينة، ولم نجد لها مستند حديثي في الجوامع الفقهية، فهذه الفتوى تكشف عن وجود رواية استندوا إليها في فتاواهم، ولم تصلنا هذه الرواية لأسباب وحوادث مختلفة كحرق والفقهاء القدماء ومن بعدهم.
فقد كان سماحته يعتقد بأن الفقيه وفي كل فرع من الفروع الفقهية إذا كان هذا الفرع يستند إلى الروايات – لا بد من معرفة زمان صدور الرواية، ومع وجود علماء السنة ينبغي معرفة آرائهم في المسألة؛ وخاصة علماء المدينة – المنورة – وكذلك المدن التي سأل فيها الإمام أو التي كان يسكنها أو يتواصل معها وكذلك معرفة وجهات نظر متلقي السؤال من هذا الفرع الفقهي، والذي استوجب السؤال من الإمام؛ فينبغي أن تدرس هذه الحيثيات بدقة متناهية في كتب القدماء من الفقهاء بحسب الأزمنة المتلاحقة.
وإن لم يكن الفرع الفقهي يستند إلى الدليل الروائي؛ فينبغي أن يبحث في الخصوصيات الزمانية لهذا الفرع؛ ومن خلال ذلك نعرف عمق آراء وأنظار الأئمة المعصومين، وموارد انصراف الإطلاقات الموجودة في كلماتهم ونعرف موارد التقية وحدودها أيضاً.
ولهذا كان سماحته في بحوثه الفقهية يستعرض الفرع الفقهي ابتداء من خلال البعد الفقهي بغض النظر عن مقتضى القواعد الأصولية فيلاحظ الفرع الفقهي بنظرة فقهية محضة من خلال تتبع الروايات وفهمها، ثم بعد ذلك يرى القواعد الأصولية ماذا تقتضي.
وبعبارة أخرى موجزة كان سماحته يرى للفقه موضوعية بنفسها، ولا تكتسب موضوعيتها من خلال تطبيقات القواعد الأصولية لوحدها فقط.
وهذا المبنى وهذه المنهجية تستلزم أيضاً التتبع الكثير لآراء العامة وكلماتهم، وكذلك ملاحظة التتابع الزماني لهذه الآراء والكلمات وخاصة في زمان وعصر الصادقين .
وبهذا التحقيق العميق وبهذه المنهجية المبتكرة ومن خلال تنظيم الملفات الفقهية لكل فرع من الفروع الفقهية بذل سماحته جهداً كبيراً لا يقوم به إلا من أوتي تحصيلاً علمياً عميقاً عند أساتذة أفذاذ، وبعدها يتفرغ هذه المهمة ولفترة طويلة فينكب على المطالعة والبحث ولمدة ست وثلاثين سنة.
وهذا ما قام به السيد البروجردي مع ما له من نبوغ واستعداد علمي قوي، وفهم علمي عميق وهذا ما أذعن له وأشاد وصرح به كبار علماء عصر السيد البروجردي؛ فعندما طبعت حاشية السيد على العروة على العروة الوثقى وذلك قبل انتقال سماحته إلى قم حملها الشيخ محمد تقي البروجردي صاحب نهاية الأفكار – إلى النجف الأشرف واطلع عليها شيخ فقهاء العصر المرحوم آية الله محمد رضا آل ياسين، وكان من أعاظم الفقهاء ومراجع التقليد في النجف وأكثرية المقلدين العرب يرجعون إليه في التقليد وأتباع فتاواه، قال بعد اطلاعه على التعليقة إن صاحب هذه الحاشية من الأشخاص الذين لا يمكن أن تحسب لهم حسابهم من ناحية الأعلمية، ونقل عنه أيضاً: «إن صاحب هذه الحاشية تقليده جائز بشكل قطعي ومسلم) ؟ وهذه الحاشية والتعليقة كانت الوسيلة للتعريف بشخصية السيد البروجردي في الأوساط العلمية وخاصة في حوزة النجف الأشرف.
المصدر: العدد 165من مجلة تراثنا الصادرة عن مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قسم من مقالة بعنوان: تاریخ الحوزات العلمیة والمدارس الدینیة (تاریخ الحوزة العلمیة فی بروجرد) للباحث عدنان فرحان .
تحميل العدد