خاص الاجتهاد: رسالة المرجع الديني آية الله نوري الهمداني إلى الاجتماع العام لجمعية مدرسي حوزة قم العلمية تحت عنوان: “الذكاء الاصطناعي: الفرص والتحديات والحلول”
عقدت الدورة السادسة عشرة للاجتماع العام لجمعية مدرسي حوزة قم العلمية، والتي تناولت موضوع “الذكاء الاصطناعي: الفرص والتحديات والحلول“، صباح اليوم الخميس الموافق 12 ديسمبر 2024، بحضور أساتذة السطوح العليا والبحث الخارج في الحوزات العلمية، وقراءة رسالة المرجع الديني آية الله نوري الهمداني، وذلك في قاعة اجتماعات مدرسة دار الشفاء للدراسات العليا بقم المقدسة.
وفي بداية هذا الحفل، تم قراءة رسالة سماحة آية الله نوري الهمداني والذي جاء فيها
بسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنا وَنَبِيِّنَا أَبِى الْقَاسِمِ المصطفى مُحَمَّد وَعَلَى أهلِ بَيتِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِینَ سيَّما بَقيَّهَ اللهِ فِی الأرَضینَ.
تحية طيبة إلى ذلك الاجتماع العام الكريم ومع التحية والسلام لمقام بقية الله الأعطم عجل الله تعالی فرجه الشریف.
نشهد في عصرنا الحالي، تحولاً غير مسبوق في مجال العلم والتكنولوجيا، حيث تمتد آثاره بسرعة لتشمل جميع المجالات العلمية والثقافية. ومن بين هذه التحولات الجذرية، التقدم الملحوظ في مجال الذكاء الاصطناعي؛ تلك المعرفة التي لم تعد حكراً على كونها أحد المحاور الرئيسية للتنمية العالمية، بل أصبح دورها في تحليل البيانات، وتسهيل الأبحاث، وتقديم الحلول المبتكرة في جميع العلوم، بما فيها العلوم الدينية، أمراً لا يمكن إنكاره.
وعند التمعن في تعاليم القرآن الكريم، نجد أن استخدام الأدوات الحديثة لفهم الآيات بشكل أفضل وتعميق المعرفة الدينية يتماشى مع هدف خلافة الإنسان في الأرض: «وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ». (الجاثية،۱۳). كما يدعونا إلى الاستفادة من الأدوات الحديثة والتفكير في حل المشكلات؛ كما قال أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في نهج البلاغة: «الْعَقْلُ رَأْسُ الْعِلْمِ، وَالْفِكْرُ رَأْسُ الْعَقْلِ» (نهج البلاغة الحكمة ۱۱۳).
لذا يمكن اعتبار الذكاء الاصطناعي أداة تعمل على تنظيم واستخدام كم هائل من البيانات بذكاء، مما يساعد الباحثين على التفكير والتأمل بشكل أعمق. هذه التكنولوجيا، من خلال تحليل البيانات بدقة واستخراج الأنماط وتسهيل العمليات البحثية، تغني الباحث عن القيام بالأعمال الروتينية وتساعده على الوصول إلى رؤى أعمق. بعبارة أخرى، الذكاء الاصطناعي مساعد ذكي وليس بديلاً للتفكير البشري.
إن لم نستغل هذه الفرصة ولم نستفدها نحن حَمَلة الوحي وعلماء الشريعة، فقد نواجه تحديات جسام في المستقبل القريب. فالجيل الجديد الغارق في عالم التكنولوجيا يتوقع أن تلبي العلوم الدينية احتياجاته بلغة العصر. كما أن المؤسسات العلمية والبحثية في العالم تستخدم هذه التكنولوجيا لتوسيع نطاق أبحاثها، وإهمالنا قد يؤدي إلى تباعد العلوم الدينية عن التيار العالمي للمعرفة. فمن الضروري اليوم أن ندرك جميعًا أهمية وضرورة هذه التكنولوجيا، وأن نسعى لتعلمها وتطبيقها في مجالات تخصصنا؛ فالأدوات الذكية يمكن أن تساعدنا في التبليغ والبحث والتدريس، بل وحتى في الاستنباطات الدينية بشكل أدق.
فقد حان الوقت الآن لكي نقوم نحن، بوصفنا رواد المعرفة الإسلامية، بدور فاعل في هذا المسار، وأن نسهم في صياغة مستقبل قائم على العلم والبصيرة. ومن خلال الانخراط في هذا المجال والاطلاع على إمكانيات الذكاء الاصطناعي، يمكننا أن نفتح آفاقًا جديدة للعلم والدين. إن هذا الأمر يمثل ضرورة علمية وواجبًا دينيًا، يتعين علينا الإسراع في الوفاء به لتلبية احتياجات المجتمع.
المستقبل لمن يستخدم علم اليوم لخدمة الأهداف السامية. يجب على الحوزة العلمية أن تولي اهتمامًا خاصًا بالفقه المعاصر وأن تسعى للتطوير والاستجابة للتحديات، مستلهمة سيرة علمائنا الكبار وتراث أجدادنا. وأعتقد أن من يعملون في هذا المجال يجب أن يتمتعوا بفقاهة عالية المستوى.
التحول الذي نتحدث عنه لا يعني التقليل من شأن تراث القدماء أو استبداله بكتبٍ أقل مستوى. بل المطلوب هو أن يجلس الباحثون والفقهاء ضمن الإطار والمنهج الفقهي الجواهري، وعلى نهج العلماء الأعلام كالشريف العلماء وسعيد العلماء والشيخ الأنصاري، بل وأن يتجاوزوا ذلك في معالجة القضايا المعاصرة. وأؤكد أن فتاوى الحوزة العلمية يجب أن تكون على مستوى عالٍ لدرجة أن يقال في المستقبل بعد قرون: إن هذه الفترة كانت في عصر الثورة الإسلامية التي أسسها فقيه كامل، ولا تزال تقودها شخصية فقيهة، وسوف تستمر على هذا النهج بإذن الله.
تحمل حوزه العلمية في قم اليوم أعباءً أثقل مما مضى، ولذا يتعين عليها أن تكون أكثر تجهيزًا. وفي الختام أودّ أن أذكر الأساتذة الأفاضل بواجبهم الأساسي؛ فنحن مسؤولون عما يحدث في بلادنا والعالم الإسلامي. اليوم، تُقدَّم صورة مشوهة عن الإسلام تتسم بالعنف والتطرف، ولا نجد فيها شيئًا من الإسلام الرحيم الذي بشَّر به النبي وأهل بيته الطاهرون. علينا أن نبذل قصارى جهدنا لنشر الإسلام المحمدي الأصيل.
وختاماً، أرفع أسمى آيات الشكر والعرفان إلى جميع الأساتذة الأفاضل ومنظمي هذا الملتقى العلمي، ولا سيما إلى هيئة رئاسة المجمع العام لجمعية مدرسي حوزة قم العلمية. وأسأل الله تعالى أن يوفق الجميع لما فيه رضاه.
حسين نوري الهمداني
21 من شهر آذر 1403 ش / 10 من شهر جمادي الثاني 1446هـ