الوقف والتنمية الثقافية

الوقف والتنمية الثقافية.. قراءة في المرتكزات والآفاق / الأستاذ محمد المحفوظ

الاجتهاد: تمر الأمة الإسلامية اليوم بمرحلة حاسمة في صراعها من أجل النهوض الحضاري وتجاوز التخلف ورواسب الانحطاط.. إذ تمارس هذه العناصر دورها وتأثيرها السلبي في هذا المضمار..

فالتخلف السياسي الذي يتجسد في شيوع حالة الاستبداد السياسي وغياب الحريات والمشاركة السياسية، وإقصاء القوى الإسلامية الحية عن ممارسة دورها ووظائفها المجتمعية والحضارية. كل هذا يحول دون النهوض الحضاري.. حيث لا نهضة حضارية مع استبداد سياسي.. فالخطوة الأولى في مشروع النهوض الحضاري، هو تجاوز كل رواسب التخلف وعصور الانحطاط على مستويات الحياة كلها.

وفي هذا السبيل، الأمة بحاجة أن تستنهض قواها الذاتية، وتعمل على تنمية العناصر الذاتية المتوفرة في جسم الأمة، حتى تشترك في هذه المعركة الحضارية.. ولا ريب أن الأوقاف الإسلامية، من المفردات الأساسية التي تحتضنها الأمة، وتحتاج إلى عملية تنمية لدورها ووظائفها، وذلك من أجل تقوية جسم الأمة وتنمية أدوارها، وتجاوز كل الصعاب والعقبات التي تحول دون ممارسة الأمة لدورها الحضاري في هذا السبيل.

الوقف
الأستاذ محمد محفوظ

إذ أن الوقف الإسلامي، شكل في التجربة الحضارية والتاريخية للمسلمين، وعاءاً أساسياً من أوعية رعاية شرائح الأمة وتطوير خيارات الحرية والاستقلال في مسيرتها.. وعمق الوقف الإسلامي من قدرة الأمة على تجاوز محن وتداعيات انحراف الدولة وظلمها وتجاوزها إلى التطلعات الحضارية للمسلمين.. فكان الوقف بمثابة الحاضن الأكبر الذي احتضن الأمة، وسعى نحو تقوية مسيرتها، ومارس دوراً في رعاية الشرائح الضعيفة، ووفر الامكانات والطاقات، لكي تمارس الأمة شهودها الحضاري. فكان الوقف بحق مفخرة الحضارة الإسلامية، لما قدمته من منجزات ومكاسب أفادت الإنسانية جمعاء.

وإن حروب التخلف والانحطاط، التي تواجهها أمتنا الإسلامية، على مختلف الصعد والمستويات، تتطلب منا معاودة فحص دور الأوقاف الإسلامية في تنمية الأمة وتعزيز خياراتها، وتعميق قدرتها على الاستقلال وممارسة أدوارها ووظائفها الحضارية.. كما تتطلب منا إعادة الاعتبار إلى هذا المنجز الحضاري – الإسلامي، والعمل على تنمية حقل الأوقاف في واقعنا المعاصر.. فليس أمام أمتنا سوى طريق التعبئة الشاملة لكافة إمكاناتها وقدراتها لحسم صراعها الحضاري والانطلاق نحو البناء والتقدم والشهود الحضاري.

في معنى الوقف:

على الصعيد اللغوي، يعرف الوقف بالحبس، يقال وقفت الدابة إذا حبستها على مكانها. أما على الصعيد الاصطلاحي، فقد تعددت التعريفات لمفهوم الوقف، بتعدد المذاهب الفقهية، مع تسالمهم واشتراكهم في أغلب شروط وأركان الوقف.

فقد عرف الشيعة الإمامية الوقف بأنه «عقد ثمرته تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة». [1]

أما الحنفية فيعرفون الوقف بأنه «حبس العين على حكم ملك الواقف والتصدق بالمنافع على الفقراء مع بقاء العين». [2]

أما المالكية فيعرفونه «إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازماً بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديراً». [3]

ويعرفه الحنابلة بأنه «حبس مالك أصل ماله المنتفع به مع بقائه زماناً على بر». [4]

ويعرفه الشافعية بأنه «حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته، وتصرف منافعه إلى البر تقرباً إلى الله تعالى». [5]

ويتضح من خلال هذه التعريفات أن الإمامية والشافعية والحنابلة، “لا يصح الوقف لديهم إلا فيما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، فيصح وقف جميع العقارات والمنقولات لا ما لا ينتفع به إلا باستهلاك عينه. وعلى هذا فلا يصح وقف الدنانير والدراهم.

ويقول المالكية، وزفر والأنصاري من الحنفية، وأحمد في رواية وابن تيمية من الحنابلة إن كل ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه أو بقاء بدله يصح وقفه، فعلى هذا يصح وقف الأثمان للقروض والبذور للزرع، كما يجوز وقف النقود بشرط استبدالها بالعين الثابتة، فلا يشترط في الأموال المثلية إمكان بقاء عينها بل يكفي فيها إمكان بقاء أمثالها وبدلها “. [6]

أما الاستبدال، وهو يعني أن تبدل العين الموقوفة بعقار آخر أو بمبلغ من المال لشراء عين به تكون موقوفة مكان العين التي بيعت. “ويعد الاستبدال أحد وجوه الاستثمار لأنه يصلح لأن يكون وسيلة لدوام الانتفاع بالأوقاف بالتخلص من الأوقاف المتعطلة واتخاذ أعيان صالحة بوقفها بدلها.

يرى الحنفية جواز الاستبدال «فيما عدا المسجد» في الأعيان الموقوفة، بشرط الواقف أو للضرورة، أما لمجرد المصلحة ففيه خلاف.

ويجيز المالكية الاستبدال إذا شرطه الواقف، وفي غير ذلك لا يجوز وإن خرب الموقوف إلا لمصلحة عامة «كتوسيع المسجد والطرقات» ولكنهم يجيزون بيع المنقولات واستبدالها إذا اقتضت المصلحة، ويجعل ثمنها في أمثالها.

أما المذهب الحنبلي فيرى الاستبدال إذا خرب الوقف وتعطلت منافعه، أو إذا ضعف وقل ريعه ووجد بدل آخر أحسن منه، أو إذا وجدت مصلحة للاستبدال.

ويرى الشافعية عدم جواز الاستبدال مطلقا سواء أكان عقارا أم منقولا، وأجازوا للموقوف عليهم استهلاك المنقول.

أما الإمامية فيرون ذلك في الوقف الخاص إذا شرط الواقف ووقف شروطه، كما يجوز الاستبدال إذا خرب الوقف وزالت منفعته. أما الوقف العام، مثل المساجد والمدارس، فلا يجوز بيعه ولا استبداله وإن خرب أو أوشك على الضياع”. [7]

وفي كتب الحديث والتاريخ هناك روايات وقصص تاريخية، توضح أن الرسول الأكرم ﷺ وأئمة أهل البيت والصحابة الكرام رضوان الله عليهم، مارسوا الوقف وأوقفوا بعض ما يملكون في سبيل الله جل وعلا. فقد روي عن جابر أنه قال: «لم يكن أحد من أصحاب رسول الله ذو مقدرة إلا وقف وقفاً» [8] . وروي عنه أنه قال: «ما أعلم أحداً كان له من مال من المهاجرين والأنصار إلا حبس من ماله صدقة مؤبدة لا تشترى أبداً ولا توهب ولا تورث» [9] .

وتعددت وتنوعت موضوعات الوقف، فمن الاهتمام بالفقراء وتزويج الأيتام إلى إنارة السبيل وإعداد موائد الإفطار للصائمين في شهر رمضان مروراً بتسديد مصاريف المستشفيات والإشراف على المساجد ودور العبادة والاهتمام بالمسجونين وإطعام الحجيج وقراءة القرآن وإصلاح الطرقات وبناء القناطر والحمامات العمومية ورعاية النساء وما أشبه ذلك.

وساهمت الأوقاف في بعض البلدان الإسلامية بحفظ التراث والمخطوطات. ”ففي المغرب الأقصى ساهمت الأحباس في حفظ مائة ألف مخطوط“ [10] .

”وابن جبير يحدثنا عن انبهاره بما شاهده في القاهرة عن مدرسة الإمام الشافعي التي أوقفها وأوقف بيته عليها، وعن مقامه فيها واستفادته من أموالها الموقوفة. ويقول: بأنه لم يعرف شبيهاً لها وأنه كانت هناك حمامات موقوفة ملحقة بها لاستخدام طلبة وموظفي هذه المدرسة. وهو نفسه قد أبدى دهشته من فخامة المدارس الموقوفة التي نزل بها في الإسكندرية عند وروده إلى مصر حيث يرتادها وينام فيها الدارسون والزهاد والمسافرون والفقراء ويستفيدون مما تتيحه لهم سواء من غذاء عقلي أو طعام بدني“ [11] .

ويحدثنا أيضا ابن بطوطة عن ”وروده إلى مصر والعراق وسوريا حيث وجد أنها عامرة بالمعاهد العلمية، فيحدثنا في رحلته عن مدى الرخاء الذي تتمتع به المدارس الوقفية في زمانه وكيف استفاد هو منها سواء في دمشق أو في بغداد مثل حديثه عن المدرسة النظامية فيصفها لنا ويصف جماعات الطلبة.

وهو يذكر لنا أحوال عشرين مدرسة جامعة في دمشق عاشت على أموال البر والخير والوقف مما شاهده بنفسه. أما في بغداد فلا يختلف عدد المدارس وفخامتها عما هو في دمشق، فهو يحدثنا عن ثلاثين جامعة أو مدرسة، ويقول بأنه يقصر القصر البديع عنها وقد درس فيها واستمع إلى أساتذتها واستفاد من وقفها“ [12] .

وفي دراسة قامت بها السيدة «ايرا لابيدوس» عن المجتمع الإسلامي في العصر الوسيط نشرتها في كتابها المعنون ب «المدن الإسلامية في العصور الوسطى المتأخرة»، وجدت أنه من بين نموذج استخلصته من تجارب الرجال يمثل ستمائة تاجر في هذا العصر في بعض هذه المدن الإسلامية، وجدت أن من بين هؤلاء الستمائة تاجر مائتين وخمسة وعشرين واحداً منهم كانوا بنفس الوقف أساتذة في المدارس الجامعية وعلماء شريعة وأئمة للمساجد الجامعة أو قضاة ومحتسبين.

كما وجدت أن فيهم كتاباً للعدل ونظاراً على الأوقاف الخيرية. كما وجدت أن من بينهم أربعة وثمانين تاجراً يعملون بنفس الوقف كمحدثين في المساجد والمدارس الموقوفة وخمسة عشر شخصاً آخر كانوا يتولون وظيفة قاضي، وستة آخرين عملوا في وظائف الإدارة العليا، كما أن ستة أشخاص كانوا يقوموا بوظيفة الحسبة.

“ ويذكر النعيمي المتوفي 927 هجرية في كتابه «الدارس في تاريخ المدارس»، أسماء للمدارس في دمشق والوقوف التي وقفت عليها ومما يذكره أنه كان هنالك اثنتان وخمسون مدرسة اختصت بتدريس الفقه الحنفي فقط، وثلاث وستون مدرسة أخرى بتدريس الفقه الشافعي، كما يورد أن للفقه الحنبلي إحدى عشرة مدرسة كل هذا في دمشق وحدها عدا المدارس التي تدرس المذاهب مجتمعة أو مدارس الطب والربط والخانقاه والجوامع التي كانت مراكز تعليمية أيضاً” [13] .

وحين التأمل في واقع الأوقاف ودورها في تعزيز خيار الاستقلال والاكتفاء الذاتي نجد ”أن الوقوف على التعليم والمدارس قد عضد المهن ومد المجتمع بما يحتاج إليه من مؤهلين لكل احتياجات الإدارة من مؤهلات وظيفية مختلفة أو لما احتاجه المجتمع من مهنيين في نشاطاته الاقتصادية والاجتماعية وساعدت أموال الوقف العلماء وطلبة العلم للوقوف ضد جور السلطة عندما تجور عليهم أو على عامة المسلمين.

ففي مدرسة واحدة في العصور الوسطى كان هنالك مائتان من الأساتذة المدرسين اعتمدوا كليا في رواتبهم على أموال الوقف التي تراوحت في معدلها إلى ما يقرب من ستين ألف درهم في السنة علما بأن الكثير منهم لم يكن يشتغل بصفة دائمة بل كان يعمل «part time» أي في بعض الوقف“ [14] .

رعاية الوقف:

ورعاية الوقف الإسلامي وتطوير سبل إدارته ومشاركته في التنمية والتطوير يقف على رأس أولويات مشروع التعبئة الشاملة.. فالدولة الإسلامية التاريخية، حينما تخلت عن مسؤوليتها الحضارية والعلمية، تصدت الأمة لهذه المسؤوليات والمهام، مدعومة بالوقف الإسلامي، الذي أسس المؤسسات، وبنى المعاهد العلمية والدعوية، ورعى الدعاة والمجاهدين، واحتضن الفقراء والضعفاء من الأمة، وسد نقاط الضعف التي أبانت من جراء انسحاب الدولة وانحرافها عن مهامها ومسؤولياتها الرسالية والحضارية.

لذلك فإن الكثير من المنجزات الحضارية الإنسانية، التي تحققت في تلك الحقبة، يرجع فضل القيام بها إلى الوقوف الإسلامي وفضاء عمله ومجالات حركته وفضاء اهتمامه.. فهو الذي عزز موقع الأمة، وأمدها بأسباب الاستقلال، وهو الذي وفر للدعاة والعلماء والمجاهدين كل الامكانات والقدرات للقيام بدورهم ووظيفتهم التاريخية..

ولم تقف أغراض الوقف في التجربة الإسلامية عند دور العبادة، وإنما تعدت ذلك إلى جميع أغراض البر والخير. فكان هناك الوقف على الجهات كالفقراء والمساكين والمحتاجين ودور التعليم والصحة وطلاب العلم والوقف الذري وعلى العجزة واليتامى وما أشبه. بحيث أن الوقف في التجربة الإسلامية، شمل مختلف المرافق والنواحي في الحياة الإسلامية.

وقد تبارى في إنشاء الأوقات أهل الخير والصلاح حتى أصبحت مواردها تغطي ما خصص له في العصور الحديثة عدة وزارات كالشؤون الاجتماعية والتربية والتعليم، بل امتد أثرها إلى بعض ما تقوم به الآن وزارات كالدفاع، كالوقف على الرباط والثغور والمجاهدين، وقد تمخض عن ذلك كله كم هائل من العقارات الموقوفة وغيرها، غير أن هذا الكم الهائل من الأوقاف أصابه الركود وشيء من الإهمال في عصرنا الراهن مما قلل من فعاليته وتأثيره الاقتصادي والاجتماعي والحضاري.

فالوقف عبارة عن مشروع إسلامي أصيل، يتجه إلى تنمية الإنسان في مختلف المجالات ويطور من إمكاناته وقدراته، ويسعى إلى سد كل الثغرات التي تحول دون تقدم المجتمع المسلم.

فالمؤسسات التعليمية الوقفية تباشر دوراً ووظيفة كبرى في هذا المجال، حيث العناية بالتعليم وتعميم المعرفة ورفع المستوى العلمي للمجتمع واستيعاب الكفاءات العلمية. كما أن الأوقاف الخيرية والاقتصادية تقوم بدور تنمية الوضع الاقتصادي وزيادة فعالية الإنتاج وتحقيق مفهوم الاكتفاء الذاتي والاستقلال الاقتصادي.

كذلك على مستوى التنمية الاجتماعية، حيث تمارس الأوقاف الإسلامية دور احتضان الحلقات الضعيفة في المجتمع «الفقراء – الأيتام – أصحاب الحاجة – الأرامل» وما أشبه. وتسعى نحو تطوير الوضع الاجتماعي بحيث يكون منسجماً وقيم الإسلام الاجتماعية.

فالوقف في التجربة التاريخية وفي المجال الحضاري الإسلامي، غطى مختلف مجالات الحياة الإسلامية. فكان له وظيفة ودور في التعليم والتدريب، والتغذية والصحة واكتساب التقانة الجديدة وتوفير المهارات وتخطيط الموارد البشرية والخدمات الصحية والسكنية وتوفير المياه والأمن الغذائي والإلمام بالقراءة والكتابة وإدارة دور العبادة وتمويل مؤسسات العلم والدعوة، ورعاية المعسرين من مختلف الفئات والشرائح.

وتمتد تجربة الوقف إلى خلق الفرص والإبداع وضمان الحقوق والحريات والتمتع بأوقات الفراغ ومحاربة الأمراض والعلل واكتساب المعرفة وتوفير مستلزمات الحياة الكريمة.

وعلى هذا فالوقف عبارة عن مصطلح في كلمة واحدة، لشكل بالغ الدلالة والتأثير من التنظيم الاجتماعي والتاريخي والحضاري. ويعطي هذا النظام «الوقف» الأولوية إلى بناء الأمة وخلق المجتمع المتضامن وتحقيق العدل الاجتماعي مصحوباً بأهداف وغايات دينية وحضارية.

وفي إطار إعادة الدور التاريخي للأوقاف الإسلامية في مجتمعاتنا المعاصرة، لكي تمارس وظائفها وأدوارها النوعية، من الضروري التأكيد على النقاط التالية:

1. إن الخطوة الأولى في إطار تفعيل وتنمية الأدوار والوظائف التي تقوم بها الأوقاف في مجتمعنا، هي ضرورة العمل على تأسيس مركز معلومات متكامل للجهات والمؤسسات الوقفية الراهنة. حيث إنه لا يمكن التفكير بضرورة التفعيل والتنمية، بدون توفر معلومات متكاملة عنها. بحيث يتم رصد وتسجيل كل الأوقاف، طبيعتها، مردودها، المسئول المباشر عنها، ومشكلاتها، ومستوى التزامها بتأدية دورها ووظيفتها وفق الضوابط الشرعية. لذلك فإننا نشعر أن الحاجة ماسة، للقيام بتأسيس مركز معلومات متكامل عن الأوقاف وشؤونها في مجتمعنا.

2. العمل على تطوير النظام الإداري المسير لشؤون الأوقاف في مجتمعنا، حيث أن عملية التنمية والتطوير، بحاجة إلى نظام إداري جديد، يأخذ على عاتقه استيعاب كل الامكانات وامتصاص السلبيات، والعمل على حشد الطاقات في سبيل إعادة الدور التاريخي لمؤسسة الأوقاف في مجتمعنا.

3. بناء ثقافة اجتماعية جديدة، قوامها توسيع قاعدة المسؤولية الاجتماعية والاهتمام بالشأن العام، وتزيد من مشاركة المجتمع بشرائحه المختلفة في البناء والتطوير والتقدم. وبما أن المؤسسة الأهلية والتطوعية في الفضاء المعرفي والاجتماعي والإسلامي، تمتلك عمقاً تاريخياً استراتيجياً، لذلك ينبغي أن تتحول هذه المؤسسات إلى مدرسة اجتماعية في تدريب أبناء المجتمع على مسائل وأبجديات العمل التطوعي وإدارة الشؤون العامة.

لهذا كله نستطيع القول: إن إعادة الدور التاريخي للأوقاف في مجتمعنا، بحاجة إلى وعي جديد وإدارة صلبة ومستديمة، تأخذ على عاتقها تذليل كل العقبات التي تحول دون ذلك، والعمل من مختلف المواقع لبناء نماذج إيجابية في هذا السياق تأخذ على عاتقها بناء الصدقية وتجديد الوعي الاجتماعي.

الوقف والتنمية الثقافية:

من الثابت تاريخياً أن الدولة الإسلامية قد انحرفت مبكراً في التاريخ الإسلامي، وعلى ضوء ذلك هناك معادلة غير محلولة، لدى الكثيرين، وهي كيف يمكن التوفيق بين هذا الانحراف المبكر، وابتعاد الدولة عن قيم الشورى والحرية في علاقة الحاكم بالمحكوم، وبين ازدهار الحضارة الإسلامية واتساع رقعتها الجغرافية والشعبية..

إن التوفيق بين هذا الانحراف، والازدهار الحضاري، هي تلك المعادلة التي يخطئ في فهمها وحلها الكثيرون. فيظلمون تاريخنا الحضاري عندما تستقطبهم مظاهر انحراف الدولة والسلطة..

وإن هذا الخطأ جاء وتبلور في عقول الكثيرين من أبناء الأمة، لإغفال حقيقة أساسية، وهي أن الأمة ومؤسساتها الأهلية وجهودها الطوعية، وأعمالها الخيرية وعلماءها وأئمتها ومجاهديها ومدارسها العلمية والتي ظلت خارج نطاق هيمنة الدولة والسلطة. فلم تعطل انحرافات الدولة طاقات الخلق والإبداع فيها «الأمة».

وبكلمة: أن الأمة ومؤسساتها هي التي أبدعت حضارة الإسلام وأوصلته إلى أقاصي وأطراف الأرض. فالأمة هي التي صنعت الحضارة، ورعتها، وطورتها. وهي استطاعت ذلك على رغم انحراف الدولة، لأن هذه الدولة ومن ثم تأثيرات انحرافها كان محدوداً.

ولقد أعان الإسلام على ترجيح كفة الأمة على كفة الدولة منذ بداية تجربته في الحكم والسلطة. وأسهم في ذلك كثير من مبادئه السياسية وقواعده الفكرية. فالأمة هي المستخلفة عن الله سبحانه وتعالى، أما الدولة فهي الخليفة عن الأمة بالاختيار والخاضعة لرقابتها وحسابها.

فالطرف الأصيل في نظرية الحكم والسلطة هي الأمة.. والأمة في الإسلام هي التي يتوجه إليها الخطاب في التكاليف الاجتماعية «الكفائية»، وهي أشد توكيداً من التكاليف الفردية «العينية»، حتى ليقع الإثم في التخلف عن إقامتها على الأمة جمعاء، وليس على الفرد وحده.

وقد قال تعالى في كتابه الكريم ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون﴾ [15] .

فالخطاب في هذه الآية المباركة لم يتوجه إلى قمة الدولة مثلاً، وإنما توجه خطاب الآية المباركة إلى الأمة كافة، مما يفيد أن مسؤولية العمل الصالح «بمعناه العام» ليست خاصة بالقائد أو السلطة السياسية، وإنما لعموم الأمة الإسلامية..

بهذه المبادئ والقواعد وأمثالها رجحت في الرؤية الإسلامية، كفة الأمة على كفة الدولة والسلطة. إذ ”أن المشروع السياسي للإسلام هو تكوين الجماعة/الأمة.

فهي الإطار الوحيد الذي يمكن أن يمارس الفرد فيه شعائر الدين كاملة. وهي المجال الوحيد لتحقيق الدين. وإذا كانت مفارقة سخيفة أن نقول أن الدين لا يمكن تحقيقه خارج الجماعة لكنها حقيقة بديهية ربما يتناساها الكثيرون من الذين يعتبرون أن الدين، خاصة الإسلام، يمكن تحقيقه على الصعيد الفردي المحض.

هذه التجربة حاولتها الصوفية لكنها تحولت عنها بعد فترة من الزمن. فقد بدأت الصوفية كأسلوب فردي في التعبير والاتصال بالله لكنها تحولت مع مرور الزمن إلى ممارسات جماعية وصارت طرقاً جماعية“ [16] .

ولهذا فإن الإسلام هو دين الجماعة، كما هو دين الفرد فإن ” تعليمات الإسلام في مجالات الحياة المختلفة، وحقولها المتنوعة تدل بلا شك على اهتمام الإسلام البالغ ببناء المجتمع، المتعاون، المتماسك، المنظم، المتكافل،.. دين الجماعة والنظم.

إن تلك التعليمات تكشف أهمية إصلاح البنية الاجتماعية باعتبارها الأساس الصلب والقاعدة المتينة التي يؤسس عليها المجتمع انطلاقاته في مختلف ميادين الحياة، حيث من العسير على مجتمع أن يقلع التحضر والتمدن مرتكزاً على بنية اجتماعية رخوة ” [17] .

هذه هي الحقيقة التي تفسر وتحل المعادلة، التي يخفق في حلها كثيرون.. وبها نعرف كيف بنت أمتنا أعظم الحضارات على الرغم من الانحراف المبكر للدولة عن هدى الإسلام وقيمه.

وانطلاقاً من هذه الحقيقة سنتحدث عن مؤسسة من مؤسسات الأمة ودورها في نهضة مجتمعنا وتقوية قواعده التحتية.

العمل الأهلي والتنمية الثقافية:

أولاً: لا شك أن العمل الأهلي، له أهمية خاصة في الدفاع عن المجتمع الأهلي المدني، لأنه يدعو إلى ضرورة وأهمية انتظام الناس في أطر اجتماعية واقتصادية وثقافية مستقلة عن كيان الدولة لكي يثبت المجتمع نفسه. وهي مؤشر «عملية الانتظام» على دخول المجتمع مرحلة الرشد التي تقتضي إمكانية تنظيم الذات، وينتج عنها بالتالي تخفيف تدريجي لمدى اعتماد الناس على الدولة، في معيشتهم وتنظيم أمورهم، وهكذا يتضاءل استتباع الناس للسلطة، وتتعاظم أهمية الوظائف الاجتماعية غير المرتبطة إدارياً ومالياً بالدولة وبالقيمين عليها. ولكي تكون هذه العملية ناجحة ومثمرة لا بد من إشاعة «الثقافة المدنية» على حد تعبير علماء السياسة والاجتماع في الوسط الاجتماعي بحيث تنمو هذه الثقافة في كل مؤسسات المجتمع ودوائره المختلفة «المدرسة – الأسرة – المسجد – الجمعية» وما أشبه.

لهذا فإن المجتمع الأهلي المدني يتجه إلى تأكيد الهوية الدينية والوطنية المشتركة، كما أنه سبيل أساسي من سبل التنمية والرفاه الاقتصادي والاجتماعي..

وتتأكد أهمية العمل الأهلي التطوعي في حالتين أساسيتين:

1. الهيمنة الاستعمارية التي تسعى إلى محاربة واجتثاث كل مقومات الاكتفاء الذاتي لدى المجتمع، والعمل على ربطه كلياً بالدوائر الاستعمارية.

2. عجز الدولة الوطنية عن القيام بواجباتها اتجاه المجتمع ومتطلباته، ولا شك أن في هاتين الحالتين تتأكد الحاجة، إلى وجود قنوات مغايرة، تعطي أكثر مما تعطيه الهياكل والبنى الرسمية. ولهذا نحن باستمرار بحاجة ماسة إلى تطوير حركة العمل الأهلي والشعبي «التطوعي» حتى يمارس دوره الطبيعي في إنماء المجتمع في مجالاته المختلفة.

وينبغي النظر إلى هذه الأعمال والمؤسسات باعتبارها تشجيعاً للممارسة التعددية في مختلف مظاهرها ومجالاتها. مثلما هي تشجيع لمبدأ المشاركة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية باعتبار أن «المشاركة» هي القلب النابض للمجتمع المدني، وعلى هذا فإن العمل الأهلي والشعبي لا بد أن يتنزل في النسيج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمجتمع.

لأن ”دور هذه المؤسسات يتكامل ليصل إلى تفجير الطاقات والقابليات المجتمعية واحتضان الكفاءات العلمية والأدبية، وتفعيل الأدوار المختلفة للمجتمع، والمساهمة في التخطيط تشغل أوقات الفراغ في المجتمع، وتطور الأداء الجماعي، والارتفاع به إلى مستوى متقدم، ليصل فيه المجتمع للاعتماد على نفسه وقدراته المحلية، ليواجه أعباء الحياة بنفسه، وبدون نيابة أحد عنه، إلا في الحالات التي لا يستطيع المجتمع القيام بها، لضرورة أو نقص خبرة أو قلة كادر متخصص“ [18] .

وعن هذا الطريق يمكننا أن نمنح العمل الأهلي صفتين أساسيتين:

1. الاستمرار، بوصفه حركة تراكم تاريخية يشارك في صنعها جميع الأجيال المتعاقبة، وبما ينبثق من ذلك من تقاليد وممارسات وهياكل..

2. الشمول، بمعنى أن يكون العمل الأهلي والشعبي شاملاً لجميع مجالات المجتمع «مع الإيمان بتعدد الأطر والأوعية المستوعبة لهذه الأعمال والنشاطات».

ولا بد من التأكيد في هذا الإطار على أهمية الكثافة التاريخية وعمق التشكل الزمني، لظاهرة العمل الأهلي والشعبي. الأمر الذي يفرض اعتماد منهج التاريخ الاجتماعي المقارن، كاختيار معرفي يساعدنا في إيجاد الصيغ والآليات المناسبة لتطوير العمل الأهلي في بُعده الثقافي، كما أن المقارنة تساعدنا على استجلاء نقاط التماثل والمسائل الخصوصية والاختلافات، وبالتالي نستطيع التوفيق بين مبدأي الشمولية والخصوصية. وبالتالي قد تكون هذه الدراسة مدخلاً طبيعياً وحقيقياً لدراسة مستفيضة لعلاقة الدولة بالأمة والمجتمع.

وتأسيساً على ذلك نقول، أن المجتمع المدني القادر، هو الذي يحوي على بنية مؤسساتية أهلية متطورة، تكون خير سند إلى المجتمع في مجالات التعليم والثقافة والاجتماع والاقتصاد، تساعد العاجز عن التعلم، وتعطي الضعيف مادياً سبل الاستمرار في التعلم وهي أيضاً نموذج من السند الأسري والاجتماعي، ومن التوازن النفسي. وعبر التاريخ كان للعمل الأهلي التطوعي حضوراً شعبياً في زمن غياب الدولة أو اهتراء هياكلها..

ثانياً: العمل الأهلي البنى الأساسية: إن إخضاع العمل الأهلي، لمبدأ الأولوية وترتيب مجالاته وفق الحاجة والضرورة، يلغي مقولة عشوائية العمل الأهلي ويثبت وجود منطق داخلي متحكم في تطوره يناسب حركة المجتمع، وبالتالي فإن هذه الجهود تصب في المصلحة الاجتماعية العامة..

فإذا أعطيت الأولوية في هذه الدراسة إلى الحقل الثقافي فمرد ذلك إلى حاجة النظام الاجتماعي «أي نظام اجتماعي»، إلى حركة ثقافية تمارس دور التوجيه والضبط للحركة الاجتماعية. ومن المؤكد أن العمل الأهلي ونموه، مرتبط بهامش من الحرية المتاح لها على صعيد المجتمع من جهة، وبعنصر الدين ودعوته الصريحة من أجل التعاون والتكافل الاجتماعي.

فقد قال تعالى: ﴿ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين﴾ [19] .

وقال تعالى ﴿وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾ [20] .

والعمل الأهلي المنشود في الحقل الثقافي ينبغي أن يستجيب لحالتين:

1. أن المشروع الثقافي الذي نسعى إلى بلورته في مجتمعنا مشروعاً ذا أساس ديني. بمعنى يعتبر الإسلام تحديداً هو ذلك الينبوع الصافي، والوعاء الأيدلوجي والمعرفي الذي ينتهل منه المشروع الثقافي قيمه ومعاييره وأهدافه..

2. وأن اعتماد المشروع الثقافي على أساس ديني، لا يعني الانغلاق على نحو التفاعل مع قضايا الإنسان المختلفة ومن منظور قيمي – إنساني خالص.

ولهذا كان المشروع الثقافي الاسلامي الأول في عهد رسول الله ﷺ، يولّد في حياة كل إنسان مسلم جدلية تاريخية بين الإنسان والعالم بحيث يصبح هذا الإنسان حاملاً لمشروع تغيير العالم.

وكان هذا هو جوهر مشروع الأمة الثقافي لذاتها وللعالم. فهو مشروع يسعى نحو تنظيم الواقع الإنساني بما يتطابق مع مضمون الإسلام وقيمه الخالدة. وبالتالي جعل حركة الإنسان «الفرد والمجتمع» منسجمة والقيم الإسلامية.

ثالثاً: المؤسسات العلمية «النموذج»، إذ أن أحد المجالات المهمة التي تجسد فيها العمل الأهلي واتخذ داخلها أبعاداً عميقة ومتأكدة هي التعليم. وقد وفرت هذه المؤسسات عبر التاريخ فرصاً هائلة للتعلم والتعليم، وفي الحفاظ على الهوية الدينية والوطنية للمجتمع في وجه الغزوات الخارجية أو عمليات التخريب والقمع الداخلية..

كما أن لها الدور الأساسي في إنتاج القيم، وتكوين النخب العلمية والسياسية والأدبية التي كانت تمارس دوراً قيادياً على صعيد المجتمع والوطن. وقد شكل العلماء والمثقفين، وفي مختلف العصور والأزمان مرتكزاً أساسياً من مرتكزات العمل الأهلي في المجتمعات البشرية. إذ أن الكثير من الجهود والمؤسسات الأهلية كانت تنبثق تحت رعاية العلماء والمثقفين.

لهذا كله فإننا في هذه الفترة، ينبغي أن نولي أهمية خاصة في بناء المؤسسات العلمية والمعاهد الثقافية باعتبارهما مؤسسات أهلية تدفع باتجاه تقوية الكيان المجتمعي وتشارك في التصدي لشؤون الناس المختلفة. ولكن السؤال الذي يطرح هو، ما هو الدور الثقافي المطلوب للمؤسسات العلمية والمعاهد الثقافية في المجتمع؟.

دائماً المؤسسة العلمية والمعهد الثقافي جزء من مشروع مجتمع، يستدعي قيامهما وظائف ومهام هي في صميم الحياة العامة للمجتمع. والثقافة ليست غريبة عن بنية المؤسسات العلمية ورسالتها، إنما تدخل في حدّها وصلب تكوينها ومهامها.

ولأن الثقافة هي نظام الأفكار التي يحيا بها عصر ما، فإن الثقافة على الدوام هي وسط الناس وأمامهم، تتعين وتتجدد بهم، لكنها تمنحهم أفقاً أكثر اتساعاً فتسهم في إعادة صياغة وعيهم وأهدافهم. وهي تستمد كينونتها من ميادين المعرفة المختلفة، لكنها ترفعها باتجاه حقيقتها. هي ثقافة تماثل الحقيقة أو الحقيقة ذاتها بمضمون اجتماعي إنساني شامل..

والثقافة التي تسعى إليها هذه المؤسسات العلمية والمعاهد الثقافية كمضمون تتشكل في ظل ثلاث مهام أو وظائف أساسية:

1. تحصيل الثقافة: تقوم مهمة تحصيل المعرفة والعلم، من أولى المهام إلى المؤسسات العلمية ومعاهد البحث والثقافة. وأولى حلقات السلسلة التي تشكل بنية مشروع هذه الأطر الثقافي.

وتحصيل الثقافة هو في البدء اهتمام بها، وهذا الاهتمام بالعلم والثقافة، هو الذي يفتح مسار العلم والمعرفة.

وتجد هذه المهمة ترجمتها الفعلية، في عودة جادة إلى منابع الثقافة الإسلامية، مع التفاعل الواعي والرشيد لمتطلبات العصر لإرساء قواعد معرفة أكثر اتساعاً وأكثر نفعاً للمجتمع.

فالمؤسسات العلمية والمعاهد الثقافية، تقدم العلم والمعرفة لا كعلم ومعرفة فحسب، بل كحلقات مترابطة في مشروع واحد يخدم المجتمع ويسعى نحو تقوية بنيته التحتية..

والجدير بالذكر، أن أغلب قواعد العلوم ومبادئه قد تشكلت وفق الحاجة البشرية. فبذور علم الهندسة مثلاً نشأ على ضفتي النيل استجابة لحاجة تحديد الأملاك بعد الفيضان. وينسحب ما قلناه في الهندسة على باقي العلوم والمعارف.

لهذا “فإنا بحاجة لروح التعاون، والمأسسة، وذلك بتصفية أفكار التخلف والضعة والقهر الراسبة في الأذهان، ثم بث روح الانفتاح والتعاون. وإيجاد هزة ثقافية تكسر أغلال النفس، وتبعثها نحو العمل والنشاط والحيوية.

ومن حسن الحظ فإن مجتمعاتنا وبرغم كثرة المعوقات والمشكلات التي تحد من نموها الاجتماعي، ومعظمها ذاتي في النفوس والعقول، إلا أنها تملك صفات أخرى تجعل من المعوقات أمراً يمكن تجاوزه بمزيد من الجهد والطاقة والعطاء في سبيل إزاحتها من طريق النمو والتقدم”[21] ،

2. نقل الثقافة: حتى تسجل المؤسسات العلمية، والمعاهد الثقافية، إخلاصها لمبادئها ووفائها الكامل للقيم والأهداف التي تلتزم بها. وهي إنما تؤكد في ذلك ارتباطها الديناميكي بمحيطها ومجتمعها.

وإذا كان اكتناز المشروع الذاتي، أمراً مطلوباً في البدء، فما ذلك إلا مقدمات تسمح لهذه الأطر أن تكون أكثر قدرةً وفعلاً وأثراً..

أما أن تكتفي هذه الأطر، بالجانب الذاتي من مشروعها، فهي تضع نفسها إذ ذاك خارج الناس، وعلى هامش حياتهم وأوضاعهم. فتستحيل في أحسن الأحوال بيت عبادة لا مركز إشعاع ومصدر للفكر والمعرفة. لكن هذه الأطر ليست صومعة تأمل ترقب الحياة من عل، وإنما هي وعي الناس في أكمل صوره الممكنة، يعمق معنى وجودهم ويشدهم نحو الأفق الأرحب..

وهكذا فإن «نقل الثقافة» يتضمن الأمرين معاً، تحقيق المؤسسة العلمية لذاتها، أي لحقيقتها وأهدافها وقيمها وانفتاحها على محيطها ومجتمعها. الأمر الذي يخدم في الكثير من جوانبه مشروع المؤسسة العلمية وأهداف المجتمع في آن.

إن مؤسسة علمية لا تسهم في جعل محيطها أكثر وعياً، وتحملاً للمسؤولية ونشاطاً وحيوية، وفي جعل أبناء المجتمع أقل جهداً وانغلاقاً، ليست مؤسسة علمية في شيء، ولا هي تنتمي إلى القيم والأهداف التي تشكل مشروع العلم والثقافة.

هو ذا معنى كون المؤسسة العلمية منارة ومركز إشعاع. هي منارة ومركز إشعاع وطليعة مجتمعها في ما لو تصدت فعلاً لتحديات واقعها ومحيطها والتزمت بهموم الناس وآمالهم وحاجاتهم.

وفي ذلك دخول بالمؤسسة العلمية وثقافتها إلى كينونة مجتمعها، فتعيد صياغته، وتغدو بالتالي وقائع لأيامهم وخبرات ثمينة تبدل في وعيهم وسلوكهم.

ولنتذكر أن العالم الحق والمثقف الملتزم، من صفاته أن تشتمل ثقافته على الأفكار التي يعيش بها عصره، يُعمل الفكر في كل ما يعنّ له، حصل من المهارة على ما يفيد به مجتمعه ويسد نقصاً فيه، ومن المعرفة ما يجعله متصفاً بسعة الأفق، ومن العلم ما يهديه إلى فهم الأمور، ومن الحلم ما ينعته بسعة الصدر، ومن البصيرة ما يكسبه بُعد النظر، ومن الصحافة والشجاعة ما يجعله أهلاً لاتخاذ القرارات وتحمل المسؤوليات ومن النزاهة ما يملي عليه التجرد والموضوعية.

3. الإسهام في الثقافة: وهو دور المؤسسة العلمية والمعاهد الثقافية الأساسي، توظف له كل الامكانات وهو ما يميزها عن الأطر والمؤسسات الأخرى، لأنها تلامس مناطق الإبداع في ذوات مريديها فتتعهدها وتصقلها وتضفي على المادة رصانة البحث وهدفيته، فتفي بوعدها لمجتمعها وتحقق ذاتها في آن.

وللإسهام هذا صيغ وميادين تتعدد وتتنوع، لكنها تتفق جميعاً في كونها إضافة أصيلة متفردة. والعجز في المساهمة في البناء الثقافي للمجتمع، لا يعني العجز عن ولوج المستقبل وحسب. بل يعني كذلك فشل الاحتفاظ بلحظة الراهن.

فالكينونة التي لا يضاف إليها تخسر من ذاتها فتتراجع إمكاناتها وتبقى في النهاية قفراً قاحلاً مجدباً.

وبالتالي فإن العمل الثقافي الذي تعنى به المؤسسة العلمية، ليس ملء الذاكرة بل تثقيف العقل، وهذا لا يتأتى مصادفة وإنما بعمل واعٍ هادف، ويترجم في وسائل وأدوات ومناهج تنبه في العقل طاقات ومواهب، وتوقظ الذات من سباتها السلبي. وفي هذا الإطار يقوم إصرار المؤسسة العلمية على تنمية روح البحث لدى أبناءها ومريديها.

والمقصود من البحث هو الفحص العلمي المنظم في سبيل التدقيق في فكرة ما، أو لاكتشاف معرفة جديدة. وإذا كان تشجيع الأبحاث والدراسات يقوم في علة وجود مؤسساتنا العلمية فإنها ما زالت دون هدفها هذا. بينما تشكل مراكز الأبحاث في البلدان المتقدمة التي تعيش هواجس مستقبلها عصب جامعاتها واقتصادها ومجتمعها.

ومؤسساتنا العلمية تستطيع القيام بذلك، إذ لها من خبرتها وخبرة غيرها، ما يسهم في توفير انفتاح أكبر على مجتمعها والدخول معه بوابات المستقبل. فلتفتح مؤسساتنا العلمية ذراعيها للناس فتغدو بذلك أكثر منعةً وأوثق قربى وأعظم إخلاصاً لمبادئها وقيمها.

ولا يمكن لمؤسساتنا العلمية أن تتنازل عن مشروعها هذا لأنه يعني تنازلاً من التاريخ تنازلاً عن المستقبل، وتنازلاً عن المساهمة في بناء الوطن والمجتمع.

وأخيراً ثمة فرص ومجالات عديدة لتدخل النشاطات الأهلية في مجال التنمية الثقافية، ولكن هذه الفرص بحاجة إلى صناعة الأرضية والظرف الجديد المناسب لهذه العملية.

ومن المجالات ما يلي:

1. تشجيع وترويج الإنتاج الفكري والثقافي المحلي.

2. خلق فرص وفضاءات لاحتضان التعابير والإبداعات الثقافية والفنية.

3. تشجيع الاستثمار في الأمور ذات الطابع الثقافي.

وختاماً: إن العمل الأهلي اليوم في الحقل الثقافي، أصبح ضرورة لأهميته في إقرار التعدد وتأكيد الحق في التنظيم الحر والمستقل..

 

المصدر: جهينة الإخبارية

الأستاذ محمد جاسم المحفوظ

من مواليد مدينة سيهات بالمنطقة الشرقية عام1966م، وفيها تلقى تعليمه الاولي
درس اللغة العربية والفقه والثقافة الإسلامية في الحوزة العلمية
ساهم في إدارة مجلة “البصائر”
شارك في تأسيس وادارة مجلة “الكلمة” وهي مجلة فصلية تعنى بالقضايا الفكرية والثقافية
كتب مقالات ثقافية واجتماعية وفكرية في جريدة اليوم والرياض
شارك بابحاث ودراسات عديدة في مؤتمرات فكرية محلية وعربية

من مؤلفاته:

الإسلام مشروع المستقبل
نظرات في الفكر السياسي الإسلامي
الإسلام، الغرب وحوار المستقبل
الأهل والدولة بيان من أجل السلم المجتمعي
الفكر الإسلامي المعاصر ورهانات المستقبل
الأمة والدولة من القطيعة إلى المصالحة لبناء المستقبل،
الحضور والمثاقفة – المثقف العربي وتحديات العولمة
عضو الهيئة الاستشارية للمنتدى منذ (٢٠١٤ – ٢٠١٩م) 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky