الاجتهاد: إحدى القضايا الكبرى التي أعلنها الإمام الخميني الراحل، هو تحديد يوم خاص للإحياء وتجديد العهد والعمل وفق ما يقتضيه الحدث، في قضية فلسطين والقدس حيث أعلن الإمام يوماً عالمياً لها تحت عنوان يوم القدس، وذلك في يوم الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك من كل عام، والملفت في هذا الإعلان عدة عناصر لا تقلّ اهمية إحداها عن الأخرى:
أولاً: إن الإعلان جاء بعد ستة أشهر من عودة الإمام الخميني التاريخية إلى إيران وبعد أربعة أشهر من قيام الجمهورية الإسلامية أي في تموز من العام 1979م مما يؤكد على مدى حضور هذه القضية، وعلى حيّز الأولوية الذي شغلته في فكر الإمام.
ثانياً: إن اليوم لم يكن خاصاً بالمسلمين بل يوماً عالمياً، وفي ذلك إشارة إلى إعطاء الإمام للقضية بعدها العالمي، كنموذج للصراع بين الحق والباطل، وهذا ما عبر عنه الإمام والذي سيتضح من دلالات يوم القُدس.
ثالثاً: إن إعلان اليوم هو في شهر رمضان، وهو شهر الوحدة بين المسلمين، الذين يلبي فيه أكثرهم نداء الحق ويحلون في ضيافة الرحمن متوجهين نحوه بالدعاء والابتهال، ملزمين أنفسهم القيام بالواجب وترك المحرم، وعلى القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسؤال الذي يطرح، هل هناك في حياة الأمة وواقعها اليوم منكرٌ أخطر وأسوأ من انتهاك حرمة المسجد الاقصى من قبل المستوطنين؟
إذن لا بد أن يلزم المؤمنون أنفسهم بتلبية نداء الحق في هذا الشهر، وقلوبهم معلقة بالحق قريبة منه، تعيش حالة من الصدق مع الذات، كما أن شهر رمضان يمثل بالنسبة للمسلمين شهر الجهاد والانتصار.
رابعا: دلالة ورمزية يوم الجمعة الذي هو عيدٌ للمسلمين جميعاً، يتوجهون فيه إلى بيوت الله تعالى لإقامة الجماعة وأداء الجمعة، في حالة من الخشوع والتقرب إلى الله، وفي حالة من الوحدة والألفة بين المسلمين والمؤمنين.
خامسا: رمزية اليوم مع التوقيت (الجمعة الأخيرة من شهر رمضان)، حيث هذه الأيام الأخيرة وخصوصاً الجمعات منها لها خصوصيات عبادية هامة، فهي الأيام التي تختصر خيرات الشهر، وفي إحدى لياليها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، والتي يعبّر فجرها عن ظهور الحق عبر الصيحة التي ستحصل وتبشر العالم بخروج الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) الذي سيطرد اليهود وللأبد من فلسطين، وستكون القدس هي مكان الإعلان عن قيام دولة العدالة الإلهية.
وهكذا كانت دعوة الإمام الخميني “أدعو جميع مسلمي العالم إلى اعتبار آخر جمعة من شهر رمضان المبارك التي هي من أيام القدر ويمكن أن تكون حاسمة في تعيين مصير الشعب الفلسطيني يوماً للقدس، وان يعلنوا من خلال مراسم الاتحاد العالمي للمسلمين دفاعهم عن الحقوق القانونية للشعب الفلسطيني المسلم”.
1- دلالات وأبعاد يوم القدس العالمي
– يوم مواجهة المستضعفين مع المستكبرين
اٍنه يوم عالمي، له علاقة بالصراع بين الخير والشر، وعمليا بين محور الشر المتمثل بالمستكبرين ومحور الخير الذي يجسده المستضعفون. ومما جاء في كلام الإمام حول هذا الموضوع “يوم القدس يوم عالمي، ليس فقط يوماً خاصاً بالقدس، انه يوم مواجهة المستضعفين مع المستكبرين”.
ويقول قدس سره “انه يوم مواجهة الشعوب التي عانت من ظلم أمريكا وغيرها للقوى الكبرى”. ويقول أيضاً في السياق ذاته “انه اليوم الذي يجب أن يتجهّز فيه المستضعفون في مقابل المستكبرين ليمرغوا أنوف المستكبرين في التراب”. وكذلك فانه يوم يجب توجيه التحذير فيه لكل القوى الكبرى بوجوب رفع يدها عن المستضعفين ويوم تثبيت حق المستضعفين في الوجود والحياة والحضور والتأثير على ساحة وميدان الحياة الدنيا ولعلنا يمكن ان نستذكر بعض ما قاله الامام في هذا اليوم: يقول الإمام الخميني (قدس سره) “يوم القدس، يوم يجب أن تتحدد فيه مصائر الشعوب المستضعفة، يوم يجب فيه أن تعلن الشعوب المستضعفة عن وجودها في مقابل المستكبرين”.
ويضيف “يوم القدس يوم يجب أن نخلّص فيه كل المستضعفين من مخالب المستكبرين، يوم يجب أن تعلن كل المجتمعات الإسلامية عن وجودها وتطلق التحذيرات إلى القوى الكبرى”.
يوم القدس هو محطة ومناسبة لتجميع المستضعفين وتوحيد كلمتهم بما يمكن أن يؤسس لحزب المستضعفين. وفي هذا البعد يقول الإمام الخميني: “لقد كان يوم القدس يوماً إسلامياً، ويوماً للتعبئة الإسلامية العامة، وآمل أن يكون هذا الأمر مقدمة لتأسيس حزب للمستضعفين في كل أنحاء العالم، وأتمنى أن يظهر حزب باسم المستضعفين في العالم”.
– يوم القدس هو يوم الإسلام
بعد رمزيته العالمية والإنسانية، تأتي الرمزية الدينية للقدس، كتعبير عن مكانة الإسلام كدين إلهي يريد أن يصلح العالم وأن يرفع الظلم ويقيم العدل، وأحد الرموز الفعلية لذلك هو القدس وما تدلل عليه في عملية إحيائها وتحريرها كعملية لإحياء الدين وإقامته ونشره.
وفي هذا المعنى يقول الإمام الخميني (قدس سره) “يوم القدس، يوم الإسلام، يوم القدس، يوم يجب فيه إحياء الإسلام وتطبيق قوانينه في الدول الإسلامية. يوم القدس، يجب أن تحذر فيه كل القوى من أن الإسلام لن يقع بعد الآن تحت سيطرتهم وبواسطة عملائهم الخبثاء.
يوم القدس، يوم حياة الإنسان، يجب أن يصحو جميع المسلمين وان يدركوا مدى القدرة التي يمتلكونها سواء المادية منها أم المعنوية، إنني اعتبر يوم القُدس يوماً للإسلام ويوماً لرسول الله (ص) ويوما يجب أن نجهّز فيه كل قوانا لإخراج المسلمين من العزلة”.
– يوم القُدس هو يوم الالتزام ونفي النفاق
بعد البعدين العالمي والإسلامي، الإنساني والديني، كان البعد التطبيقي ليوم القُدس، الذي يجسّد حقيقة الالتزام بالإسلام، وواقع الانتهاج بنهجه، والاستنان بسنته والاحتكام إلى تشريعاته، بحيث إن هذا اليوم هو المميز بين المسلمين حقاً من غير المسلمين بالمعني الفعلي، أو بالأحرى هو الذي يميّز المؤمنين عن المنافقين.
يقول الإمام الخميني (قدس سره) “انه اليوم أي يوم القُدس الذي سيكون مميزاً بين المنافقين والكثيرين فالملتزمون يعتبرون هذا اليوم، يوماً للقدس ويعملون ما ينبغي عليهم، أما المنافقون فإنهم في هذا اليوم غير آبهين أو أنهم يمنعون الشعوب من إقامة التظاهرات”. ويقول أيضا “إن الذين لا يحيون مراسم يوم القُدس هم مخالفون للإسلام وموافقون للصهيونية”.
2- الواجب تجاه يوم القُدس
بعد إعطاء الأبعاد الحقيقية ليوم القُدس، أكد الإمام الخميني قدس سره على ضرورة إحياء هذا اليوم، الذي جعل له شعائر خاصة، تعبّر عن حقيقة الإحياء، فليس الأمر مجرد رفضٍ للصهيونية ولهيمنتها ولتسلطها وليس هو مجرد استنكار للظلم الناتج عن احتلال القدس، ومشروع تهويدها، إنما الأمر يتعدى ذلك إلى التحرك والنزول إلى الشارع والتعبير العملي عن الاستنكار والرفض للصهيونية وللاستكبار.
يقول الإمام الخميني (قدس سره) “إن يوم القُدس، يوم يجب أن تلتفت فيه كل الشعوب المسلمة إلى بعضها، وان يجهدوا في إحياء هذا اليوم فلو انطلقت الضجة من كل الشعوب الإسلامية في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك الذي هو يوم القُدس لو نهضت كل الشعوب وقامت بنفس هذه التظاهرات ونفس هذه المسيرات، فان هذا الأمر سيكون مقدمة إن شاء الله للوقوف بوجه هؤلاء المفسدين والقضاء عليهم في جميع أرجاء بلاد الإسلام”.
ويدعوإلى “أن يعتبر المسلمون يوم القُدس يوماً كبيراً وأن يقيموا المظاهرات في كل الدول الإسلامية في يوم القدس وأن يعقدوا المجالس والمحافل ويرددوا النداء في المساجد”، مشيرًا إلى “لو أن كل المسلمين في العالم خرجوا يوم القُدس من بيوتهم وصرخوا (الموت لأمريكا، الموت لـ “اسرائيل”) فإن نفس قولهم الموت لهذه القوى سوف يجلب الموت له”.
هذا اليوم يجب ان يكون يوما حقيقا للتصدي لانتهاكات الصهاينة للمسجد الاقصى ولاعتداءاتهم المستمرة على اهله …هذا اليوم يجب ان يكون يوم تصدي لقرارات ظالمة تعطي للصهاينة كل يوم حقوق غير مشروعة على هذه الارض المسروقة المغتصبة من اهلها.
كانت وصية الامام الخميني واضحة؛ان يوم القُدس العالمي هو يوم الاسلام، يوم احياء الاسلام، يوم ينبغي فيه للمستضعفين ان يعدوا أنفسهم لمواجهة المستكبرين، يوم ينبغي فيه على كل مسلم ان يجهز نفسه لمواجهة “اسرائيل” ولابد ان تعود القدس الي المسلمين. انه يوم الفصل بين الحق والباطل يوم انفضاح المتآمرين الموالين لـ “إسرائيل”، يوم يجب ان نسعى فيه جميعا لإنقاذ الناس، يوم انذار القوى العظمى بان الاسلام لن يرضخ لسيطرتها او لسيطرة الخبثاء من عملائها.
ان لهذا الاعلان المقدس بعدا سياسيا وانسانيا هاما فهو يكشف نوايا قوى الاستكبار الخبيثة ويفضح خططها ومؤامراتها على الامة الاسلامية وعلى فلسطين والقدس.
تبقى اهمية الاحياء والمشاركة في هذا اليوم دليل على الدور الذي يمكن ان تلعبه الشعوب المسلمة في كافة بقاع الارض لتجديد العهد والولاء لبيت المقدس اولى القبلتين ومسرى الرسول الاكرم محمد (ص).
وبناء على ذلك يقول الامام الخميني “الذين لا يشاركون في يوم القُدس موافقون لإسرائيل مخالفون للإسلام”. علّنا بهذا النداء العالمي نفهم حكمة هذا العالم الرباني في الاصرار على اعلان هذا اليوم العظيم، يوم تجديد العهد مع القدس ومقدساته لتبقى عين المسلمين وعقولهم موجهة لأرض فلسطين ولا شيء سواها.
لقد دأبت الجمهورية الاسلامية في إيران على تجديد العهد مع القضية الفلسطينية والمقدسات على ارض فلسطين. ولان ارض فلسطين هي ارض مقدسة ولأنها مرسى نبّي هذه الامة صلّ الله عليه وعلى اله وسلم فهي بقيت ولا تزال قبلة المجاهدين، وهذا الاحتفال السنوي هو تعديل للبوصلة وتذكير بعدالة هذه القضية وأحقيّتها.
المصدر: الخنادق