الاجتهاد: يعتبر الجانب العلمي في الإمام السيد محسن الحكيم من أهم الأبعاد في شخصيته فبالإضافة إلى السيرة الذاتية الذي تمثل القاعدة والأساس للبناء الفوقي في الشخصية تتمثل الأبعاد البارزة في شخصية الإمام الحكيم بالبعد العلمي، والبعد المرجعي، والبعد الجهادي السياسي، حيث إن الأعمال العلمية للإمام الحكيم قد أخذت حيزا واسعا من حياته، ووقته، وشخصيته.
فقد أحصى بعض المؤلفين في شخصية الإمام الحكيم مؤلفاته فبلغت – مؤلفاً، تتناول موضوعات مختلفة من العلوم الإسلامية، الأمر الذي يدلل على هذه الحقيقة خصوصاً إذا عرفنا أنه كتب بعض مؤلفاته مرتين كما هو في شأن بعض أجزاء (المستمسك)،
ولكن أهم مؤلفاته المطبوعة يمكن أن نحصرها في المؤلفات التالية:
1- مستمسك العروة الوثقى، وهو شرح استدلالي للقسم الأول من العروة الوثقى للسيد الطباطبائي اليزدي في أربعة عشر جزء.
2- حقائق الأصول، وهو شرح استدلالي لكفاية الأصول للمحقق الخراساني في مجلدين.
3- نهج الفقاهة، وهو شرح استدلالي لكتاب البيع للشيخ الأنصاري في مجلد واحد.
4- منهاج الصالحين، وهو رسالة عملية مفصلة، تتناول الفتاوى الفقهية في مجلدين، وقد أصبح موضع اهتمام خاص من قبل المراجع الدينيين المتأخرين عن الإمام السيد محسن الحكيم.
5- دليل الناسك.
ويحتاج تعريف هذه الكتب إلى حديث واسع، ولكن لا بد أن نشير إلى أن أهم هذه الكتب والذي حظي باهتمام بالغ وواسع في الأوساط العلمية هو كتاب (المستمسك)، الذي يعتبر بحق أهم موسوعة فقهية كتبها عالم بقلمه بعد كتاب (الجواهر) المعروف للشيخ النجفي.
إلا أن هذا الكتاب – مع الأسف – يشكو من نقص واضح، وهو أنه لا يمثل دورة فقهية كاملة لأن كتاب العروة الوثقى الذي يمتاز بكثرة الفروع الفقهية ودقتها لا يتناول جميع أبواب الفقه. وأحد جوانب النقص فيه هو كتاب الحج حيث إن المؤلف يتناول فيه أبواب الحج إلى كيفية الإحرام فقط.
ولذا يعتبر (دليل الناسك) مكملاً في هذا الجانب لكتاب (المستمسك)، بالإضافة إلى خصوصية هامة فيه تمثل هدفاً للمؤلف، وهو أن الإمام الحكيم تناول أبحاث الحج بطريقة استدلالية متينة ومختصرة، يركن إليها الباحثون، وقد جمعها في مجلد واحد صغير، وهذا العمل يعتبر من الناحية العلمية والفنية في غاية الأهمية.
والمهم في هذا البحث هو التعرف على الخصائص العلمية التي كان يمتاز بها الإمام السيد محسن الحكيم ونهجه في البحث والتدريس.
الفقه والأصول:
يمكن أن نقول: بأن الفقه والأصول كانا محور الاهتمام العلمي للإمام السيد محسن الحكيم، وقد أخذ من غيرهما المقدار الذي يمثل مقدمة عامة للفقه سواء في علم الحديث، أم التفسير، أم الرجال، أم اللغة والنحو والصرف، فضلاً عن غيرها من العلوم الإسلامية، وذلك بالرغم من أننا نجد في عناوين بعض مؤلفاته ما يشير إلى اختصاصها ببعض هذه العلوم، ومن هنا نجد الإمام الحكيم قد أولى الفقه أهمية خاصة وبرع به، وامتاز وعرف بين العلماء والمراجع بهذا الجانب، وكان موضع إعجاب وثناء وتقدير من قبل العلماء والباحثين، وتعتبر آراؤه في الفقه موضع بحث، وتتداول لدى كبار المجتهدين في بحوث درس الخارج.
والشيء المهم في هذا المجال إن آراءه أخذت طريقها إلى الأوساط العلمية بطريقة موضوعية دون تأثر بموقعه المرجعي المتميز، أو موقعه كأستاذ يعتز طلابه بالأخذ عنه، حيث إن كثيراً من هؤلاء الباحثين أما من المقاربين للإمام الحكيم في الطبقة العلمية، أمثال آية الله العظمى السيد الخوئي وغيره من كبار الأساتذة والمدرسين، أو من طلاب المدارس الأخرى والعلماء الآخرين.
وقد كان طريق هؤلاء إلى رأيه كتبه وأبحاثه التي لاقت رواجاً تدريجياً في هذه الأوساط([27]) خصوصاً أوساط الحوزة الإيرانية في النجف وقم والتي تعتبر – بشكل عام – من الأوساط المتقدمة علمياً([28]).
وفي هذا الجانب يمكن أن نلاحظ مجموعة من المميزات في فقه الإمام الحكيم، والتي تشكل في مجموعها مدرسة متكاملة، بالإضافة إلى متبنياته الأصولية والرجالية والحديثية العامة. ويمكن تلخيص المميزات بالنقاط التالية:
الأولى: الجمع بين الدقة في الاستنباط والتزام المنهج العلمي الذي يعتمد على الضوابط والأصول المقررة من جانب، والفقاهة في فهم النص وظروفه، وما يسميه بالارتكاز العرفي، والذوق العام، والعمل على إيجاد الموازنة بينها، وتفسير أحدها بالآخر.
وهذا العمل في الحقيقة يمثل محاولة للجمع بين مدرستين مهمتين في الفقه، خصوصاً بعد أن تطور علم الأصول، ووضعت فيه المصطلحات الفلسفية والكلامية، وغرق في بحر الفرضيات والاحتمالات والجزئيات، بحيث ألقى بضلاله الثقيلة على الفقه، وفهم النصوص والظواهر، وعملية التجريد للنص.
الثانية: القيام بعملية الاستنباط من موقع الممارسة الفعلية والمعايشة الحقيقية للمشاكل والحوادث والوقائع. سواء في دور البناء العلمي قبل المرجعية، أم في دور المرجعية العامة.
حيث إن الإمام الحكيم – كما ذكرنا في سيرته الذاتية – لم يكن مرجعاً عاماً فحسب، وجدت له هذه المعايشة العامة من خلال المرجعية، بل كان يعيش علاقات اجتماعية واسعة قبل مرجعيته شخصياً، إلى جانب عمله العلمي في الدور الأول من حياته، وشاهد ظروف سياسية مختلفة، ومر بأدوار عديدة، واصطحب بشكل مباشر مستويات من الناس متفاوتة في وضعها الاجتماعي، والثقافي، ومحيطها الحياتي من الفلاحين، والعمال، والتجار، والجنود، والطلبة، والعلماء، وأصحاب البيوتات من المدن، وأبناء العشائر والقبائل في الريف، ومن العراقيين، واللبنانيين، والإيرانيين… وقام بعدة أسفار إلى لبنان، وفي داخل العراق.
إن هذا المستوى الواسع من المعاشرة الميدانية للحياة إلى جانب المستوى العلمي المتميز تجعل الفقيه ينظر إلى الحوادث والمشاكل من بعدين مترابطين:
أحدهما: البعد العلمي الذي يستوحيه من الأدلة الشرعية والنصوص الشريفة.
وثانيهما: البعد الاجتماعي الذي جاءت الشريعة الإسلامية لبيان أحكامه وحل مشكلاته، والذي يلقي بضوئه لفهم هذه النصوص من خلال قانون مناسبات الحكم والموضوع.
وهذا العمل ضرورة مهمة في عملية الاستنباط حيث إنها تشخص الحكم الشرعي للموضوعات والقضايا التي يواجهها الإنسان في حياته يستند فيه الفقيه إلى الأدلة الشرعية، وكل منهما لا يمكن أن يؤخذ كعملية تجريدية فرضية فحسب، بل الأحكام الشرعية بالأصل وبحسب ورودها جاءت كمعالجة لهذه القضايا الحية، وإن لم يكن الحكم مقيداً بها في مدلوله كقضية خاصة خارجية، ولكنها بطبيعة الحال تلقي بخصوصياتها وظروفها على مضامين النصوص والقواعد الواردة بشأنها – كما هو واضح -.
كما أن إرجاع الأئمة إلى الفقهاء إنما هي لمعالجة هذه القضايا على ضوء ما ورد في الكتاب الكريم والسنة الشريفة خصوصاً إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الدور الذي لا بد للمجتهد أن يقوم به أيضاً وبعد تشخيص الأوامر التفصيلية في موارد الولاية: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله)([29]). بل إن عملية الاستنباط الفعلي هي عملية استنطاق الكتاب الكريم والسنة الشريفة انطلاقاً من الحوادث والقضايا ثم الرجوع إليها في تطبيق الحكم الشرعي.
والخلاصة إن عملية الاستنباط إنما هي عملية تشخيص الحكم للموضوع بعد تحديده وتشخيصه، ولا شك أن المعايشة الحياتية للحوادث لها دور كبير في تشخيص الموضوعات وتحديدها وفهم طبيعة الحكم المناسب المستفاد من الأدلة.
لعل هذا الفهم لعملية الاستنباط هو الذي جعل الإمام الحكيم يهتم بقضية الارتكاز العرفي كما أنه يفتح آفاقاً في عملية الاجتهاد لا يمكن حصرها في العملية التجريدية المحصورة بين النصوص والتصورات والفروض وقد يضيف للاجتهاد والأعلمية شرطاً جديداً وبعداً ومحتوى أصيلاً يحتاج فيه إلى مثل هذا الفهم المعايشة([30]).
الثالثة: الجرأة والشجاعة العلمية في الوصول إلى النتائج وتبنيها. فإن الإمام الحكيم وإن كان يلتزم في مبانيه الأصولية بالإجماع وكذلك بتأثير شهرة رواية الخبر وقبوله العام في الفتوى على العمل به. وبالتالي فهو يعطي دورا وأهمية لآراء العلماء ومتبنياتهم.
إلا أنه مع ذلك يفرق بين حالتين في هذا المجال:
إحداهما: حالة افتراض تلقي العلماء والرواة للحكم الشرعي أو خصوصية فيه من الأئمة عليهم السلام لم تنعكس على النصوص أو القرائن المحيطة بها. وفي هذه الحالة يولي الإمام الحكيم هذا الأمر دوراً في الاستنباط ويدخل كعامل مؤثر في هذا المجال.
وثانيهما: حاله تنبع من عناصر ذاتية في المجتهد والعالم كالاحتياط في مقام الفتوى، والابتعاد عن الشبهات، أو الاستظهار، أو الفهم الخاص للنصوص والتأثر بالأوضاع الاجتماعية التي كان يعيشها المسلمون في العصور السابقة، أو فكرة تقديس آراء المحدثين الأوائل والفقهاء السابقين أو غيرها من العناصر ذات القيمة الذاتية، لا الموضوعية.
فإن في مثل هذه الحالة نجد الإمام السيد محسن الحكيم يملك الشجاعة الكافية والجرأة الأدبية لاتخاذ الموقف الحازم في تبني النتائج العلمية في الفتاوى والأحكام،
ويمكن أن نلاحظ بوضوح في عدة فتاوى مهمة للإمام السيد محسن الحكيم إذا أخذناها في إطار ما يتصف به من روح الاحتياط والتقدس.
أ- الفتوى بطهارة أهل الكتاب، وكذلك بصحة الزواج الدائم من نسائهم، حيث كان بعض الفقهاء يتردد في الإعلان عن هذه الفتوى، إما لأنها مخالفة للمشهور، أو لأنها لها مردودات سلبية اجتماعية في أوساط المتدينين والمتشددين تؤدي للإضرار بالمقام الاجتماعي للفقيه.
وهذه الفتوى – بالرغم مما تحمل الإمام السيد محسن الحكيم بسببها من مشاكل – إلا أنها كانت أحد الفتوحات الاجتماعية المهمة، بسبب ابتلاء المؤمنين الواسع بمباشرة أهل الكتاب في العقود الأخيرة من ناحية، وانفتاح البلاد الإسلامية على العالم الغربي من ناحية أخرى.
ب- إلحاق من عمله في السفر بمن عمله السفر كالموظفين الإداريين، أو عمال الشركات، أو التجار الذين يكون مكان سكناهم بعيداً عن مقر عملهم بما يساوي المسافة المعتبرة بالسفر، وهكذا إلحاق الوطن المؤقت بالوطن الدائم، كطلاب العلوم الدينية الذين يدرسون في الحوزات العلمية بشكل مؤقت، أو طلاب الجامعات… الخ.
حيث كان الفقهاء – ومنهم الإمام السيد محسن الحكيم سابقاً – يرون أن مثل هؤلاء حكمهم القصر، والإفطار في شهر رمضان، ويفرقون في حكمهم عن أولئك الذين عملهم السفر كالسواق، وحملة البريد، وعمال إصلاح السكك الحديدية، ومسؤولي قوافل المسافرين وأشباههم، فحكمهم هو التمام والصوم،
وقد أفتى الإمام السيد محسن الحكيم بعد ذلك بأن الحكم هو التمام والصوم بالنسبة إلى جميع هؤلاء من القسمين، وكانت هذه الفتوى من خلال المعايشة الحقيقية لهذه الأعمال، وحلاً لمشكلات واسعة كان يواجهها هؤلاء المتدينون.
وقد سار على هذه الفتوى جماعة من الفقهاء الذين جاءوا بعد الإمام السيد محسن الحكيم حيث أصبحت هي الفتوى السائدة في أوساطهم.
ج- الفتوى بكفاية الإحرام من حدود الحرم وأدنى الحِل للحجاج الذين يأتون من الآفاق، ممن لا يمرون في طريقهم بأحد المواقيت الخمسة المعروفة، أو ما يحاذيها محاذاة عرفية، كالحجاج الذين يأتون إلى جدة بالطائرات، وكذلك صحة الإحرام من هذا الموقع للمعتمر بالعمرة المفردة.
حيث كان يستفيد من روايات المواقيت إنها مختصة بمن يمر عليها أو يحاذيها محاذاة عرفية وهي المحاذاة التي يمر فيها الحاج قريباً من الميقات في حالة استقباله لمكة، وبدون ذلك فلا تكون هذه محاذاة ولا مرور بالميقات، وبالتالي فيمكنهم أن يحرموا من أدنى الحل.
ومع قطع النظر عن صحة هذا الاستنباط وعدمه فإن ذلك موكول للأبحاث الفقهية، ولكن المهم هو الشجاعة والجرأة الأدبية لهذه الفتوى والذي عالج بها مشكلة حقيقية يعاني منها الحجاج استناداً لفهمه من النصوص، والقضية بطبيعة الحال ليست هي وجود حل للمشكلة وإنما الجرأة في الفتوى عندما يرى الدليل كافياً في الوصول إليها حتى لو كانت على خلاف ما هو معروف لدى الفقهاء.
وهكذا الحال في الفتوى بصحة السعي في الطبقة الفوقانية للمسعى، حيث يتوقف بعض الفقهاء بسبب الشك بصدق مفهوم السعي بين الصفا والمروة، أو الشك في أن الصفا والمروة كانت مرتفعة بدرجة هذا الطابق.
د- الفتوى بحلية الأطعمة – وحتى اللحوم فضلاً عن طهارتها – التي تباع في سوق المسلمين عند الشك في التذكية، حتى لو كانت مسبوقة بيد غير المسلم، حيث كان يرى أن سوق المسلمين نفسها أمارة على التذكية. نعم، مع العلم بعدم التذكية فلا كلام في الحرمة.
الرابعة: العمل على تيسير الفقه الاستدلالي من خلال الدقة في التعبير، والتلخيص للمطولات الفقهية، والجمع للآراء والنظريات المختلفة مع بيان واضح ميسر يمكن أن يتناوله الفضلاء والطلبة المجدين بسهولة فيختصر عليهم الوقت والجهد.
وقد نقل عنه بعض تلامذته([31]) أنه كان يقول: إني حينما أريد صياغة النص، أفترض أمامي بعض الطلاب (فلان) أما من عسيري الفهم، أو المدققين في النصوص، ومدى مطابقتها للمراد منها من المعاني، ثم أصوغ النص ليأتي ميسر الفهم لمثل هؤلاء.
وكنت ألاحظ في كتابه المستمسك إنه كان يدقق في كتابة النص لدرجة أنه يعيد كتابته عدة مرات، أو يضيف أو يحذف منه بعض الكلمات والفقرات، وهذا أمر واضح لمن يرجع إلى مسودة كتاب المستمسك بخط المؤلف. ولعل هذا الجهد الذي كان يبذله في هذا المجال، ولتحقيق هذا الهدف هو أحد أسرار النجاح الذي لاقاه كتاب المستمسك. ويعتبر كتاب (دليل الناسك) أحد المصاديق البارزة لهذه الميزة الخاصة أيضاً بل هو في الاختصار أكثر من المستمسك.
المنهج العلمي:
لقد كان المنهج العام الذي يتبعه الإمام السيد محسن الحكيم في الاستنباط والوصول إلى النتائج له طابعه من ناحية وله معالمه وخطواته من ناحية أخرى. ويحسن بنا بيان كل منهما مع قطع النظر عن موضوع التحيز.
أما طابعه العام فهو المنهج الموضوعي الذي يعتمد بشكل أساسي على الدراسة العلمية غير المتحيزة تجاه موضوع البحث ويطبق فيه الضوابط والأصول والقواعد العلمية المنطقية، أو التجريبية، أو الأسس المستنبطة لاستخدامها في عملية استنباط الأحكام الشرعية، كما سوف نشير إلى ذلك، ولكن في نفس الوقت يهتم بالجوانب الروحية والمعنوية في هذا العمل العلمي.
وقد كان الإمام الحكيم ينظر إلى الاستنباط على أنه ممارسة لأقدس عمل يقوم به الإنسان بعد الإيمان بالله والواجبات الأساسية، كما أنه هو واجب شرعي لا بد أن يقترن بقصد القربة، ليس في التوجه والاختيار العام بل في تفاصيل العملية الاستنباطية، كما سوف نشير، بالإضافة إلى أنه كان يرى أن الاستنباط يتعامل مع أعظم المقدسات الإسلامية وهي الكتاب الكريم والسنة الشريفة والعقل الإنساني الذي فضله الله تعالى على جميع المخلوقات، ومع الحرمات من النفوس، والديار، والأموال، والأعراض وغيرها.
وهذا الجانب المعنوي يمثل بعداً مهماً في نظر الإمام الحكيم في منهج الاستنباط، له تأثيره في الالتزام والدقة، وله تأثير في الهداية والتوفيق للوصول إلى المناهج،
ويمكن أن نلخص خطوات هذا المنهج ومعالمه بالأمور التالية:
الأول: قصد القربة في تفاصيل العملية الاستنباطية والاستعانة بالله تعالى للهداية إلى الصواب، وهذا القصد من الأمور غير المنظورة للمشاهد، ولكن كان يتحدث عنه الإمام الحكيم عندما ينصح طلابه ومحبيه، ويقوم ببعض الممارسات المعبرة([32]) عنه كالتزامه بصلاة تحية المسجد قبل صعود المنبر للدرس، علماً بأنه كان يلقي دروسه العامة في المساجد. ويمكن أن نلمسه في هذا التوفيق الذي اتصفت به كتبه المطبوعة.
الثاني: هو أسلوب التفكير بصوت مسموع – كما يعبرون – حيث كان يطرح الإمام الحكيم في درسه المسائل والأفكار في البداية مجردة عن الأدلة ثم يأخذ بإثارة الأسئلة حولها عن صحة الفكرة، ومدى واقعيتها، والمطالبة بالدليل على هذه الصحة، وجواب الإشكالات، وكان يترك في هذه العملية الفرصة للإثارة والتأمل.
فبالرغم مما نرى في كتاب المستمسك وغيره من كتبه من التنسيق والتبويب، إلا أن درسه كان يختلف عن ذلك إلى حد كبير، حيث كان يبدو عليه كأنه يحضر الأفكار والإثارات حولها والاستدلال عليها أثناء التدريس، ويفكر في صحتها والإشكال عليها والدفاع عنها. الأمر الذي كان يعطي فرصه واسعة للطالب أن يواكب ويتابع التفكير سواء من حيث الوقت أم الأسلوب.
الثالث: بذل الجهد في إيضاح محتوى الفكرة الأساسية وتأكيدها خصوصاً إذا كانت لأحد الأعلام الماضين من العلماء، أو توضيحها وكأنه يؤمن بها، ثم بعد ذلك يبدأ بالتفتيش عن دليلها أو صحتها، وبعد ذلك يبدأ بمناقشتها للوصول إلى النتائج المطلوبة. فالعملية تأخذ بنظره خطوات ثلاث لا بد للباحث أن يطويها حتى يصل إلى هدفه المقصود.
الرابع: التعامل مع آراء الآخرين العلماء باحترام، وتواضع، وأدب رفيع، والتفتيش عن المبررات التي اعتمدوا عليها في تكوين الفكرة أو التزامها، خصوصاً إذا انتهى إلى عدم القبول بها، حيث يبقى احتمال وجود خصوصيات وقرائن دعتهم إلى الأخذ بها خفيه على الباحث، الأمر الذي يجعل الطالب يبذل المزيد من الجهد في البحث والتفتيش عن الدليل والبرهان لقبول الفكرة أو رفضها، والابتعاد عن روح الاستهانة أو الغرور العلمي.
الخامس: الحرية، والاستقلال في التفكير العلمي، وعدم الانفعال والوقوع تحت تأثير الاحترام أو التعظيم للآخرين، حيث كان يقول: إن من الضروري في التعامل مع الأفكار (النظر إلى ما قيل لا إلى من قال)، وإن الكثير من الأخطاء وقعت بسبب هذا النوع من الانفعال والتأثر.
السادس: الالتزام بالضوابط والموازين العلمية في الاستنباط حيث لاحظ بعض الباحثين في منهج الإمام الحكيم العلمي إن هناك تطابقاً في مسيرة البحث لديه بين الدليل والقاعدة التي يستند إليها، والالتزام الفقهي له وهذا ما عبرنا عنه بالشجاعة الأدبية في الالتزام بالنتائج، على خلاف بعض العلماء الذين لا يلتزمون فقهياً بنفس نتائج البحث العلمي([33]).
إن هذه الأمور الستة مجموعها تمثل منهاجاً علمياً عاماً يعتبر من أفضل المناهج العلمية التي تتبناها العلوم في أفضل تطور للمناهج العلمية. فهو بالإضافة إلى الصفة الموضوعية يمتاز بالجانب الروحي والمعنوي لكي يؤتي في نفس الوقت ثماره التربوية المطلوبة، ولذا يمكن أن نقول: بأن الإمام الحكيم كان في منهجه العلمي عالماً، ومعلماً، وأخلاقياً.
نسأله تعالى أن يتغمده برحمته الواسعة، وأن يوفقنا للاقتداء به، والاستفادة من سيرته.
المصدر: تقديم آية الله السيد محمد باقر الحكيم “ره” لكتاب دليل الناسك تألیف آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم وهي وجيزة على مناسك الحج، الذي ألّفه استاذه المعظّم المرحوم الميرزا حسين الغروي النائيني، قدّس اللّه روحهم.
تحميل الكتاب