مفتاح الكرامة

صدر حديثاً: مرآة الفضل والاستقامة في أحوال مصنّف مفتاح الكرامة .. شذرات من حياته

خاص الاجتهاد: صدَرَ حديثاً عن مركز إحياء التراث التابع لدار مخطوطات العتبة العبّاسية المقدّسة، كتابٌ حمل عنوان: (مرآة الفضل والاستقامة في أحوال مصنّف مفتاح الكرامة ) من تأليف السيد محمد الجواد بن السيد حسن الحسيني العاملي (1282 – 1318هـ) ابن حفيد مصنف (مفتاح الكرامة)، وتحقيق واستدراك إبراهيم السيّد صالح الشريفي، وراجعه ووضع فهارسه: مركزُ إحياء التراث التابع لدار مخطوطات العتبة العبّاسية المقدّسة.

إنّ تدوين سيرة العُلماء العُظماء، وإخراجها من الأَذهان والنُّفوس، وإدراجها في الطروس، قد يحسبها الذي لم يَلج هذا المِضْمار من الأُمور الهيّنة اليسيرة، لكن الأَمر ليس كذلك، فسَبْر هذا الغَور يحتاج إلى كثيرٍ من التتبّع والفحص والبحث في كُتب التراجم، والسِّيَر، والمذكّرات وغيرها، والاستطلاع ميدانيًّا من أجل سؤال الأقارب، والزملاء، والتلامذة،.. وغيرهم؛ من أجل تدوين ما سنح في خواطرهم وخلجات نفوسهم عن تلك الشخصيّة.

وإنّ الرسالة التي ألَّفها السيّد محمّد جواد عن سيرة جدّه صاحب ( مفتاح الكرامة ) بطلبٍ من بعض أهل الفضل -كما صرّح بذلك في مقدِّمتها- قد اعتَمدَ في تدوينها على أمرين:

الأوّل: البحث الميدانيّ، وذلك بالسؤال عن أحوال السيّد (قدّس سرّه) وما يرتبط بأمور حياته العلميّة والاجتماعيّة ممَّنْ عاصروه وعَمّروا إلى زمن المؤلِّف، أو ممَّنْ سَمِعوا من الذين عاصروه، وقد أفاد سيّدنا المؤلِّف كثيرًا من هذا الأمر في كِتَابَته عن حياة جدّه (قدّس سرّه).

وممَّنْ عَمّر إلى زمن مؤلِّفنا ابنةُ السيّد صاحب ( مفتاح الكرامة )؛ إذ أفادته كثيرًا بمعلوماتها عن والدها (قدّس سرّه)، فكان يسألها عن أحوال والدها كما ستراه في طيّات هذه الرسالة.

والأمر الثاني: هو وجود معلومات مهمّة في مؤلَّفات جدِّه (قدّس سرّه) المكتوبة بخطِّ يده، فقام المؤلِّف بإدراجها في هذه الرسالة، فأعطت هذه المعلومات المكانة العلميّة التوثيقيّة المهمّة لهذا العمل، وعلى الرغم من ذلك فإنَّ السيّد المؤلِّف لم يكن بصدد جمع كلّ ما يرتبط بحياة جدِّه، وإنّما ألَّف هذه الرسالة على سبيل الإيجاز والاختصار، كما صرّح بذلك في مقدِّمتها.

فجاءت هذه الرسالة حاملةً بين طيّاتها معلومات مهمّة عن نسبه، ونشأته العلميّة، وأساتذته، وتلامذته، وكراماته، ومؤلَّفاته، وأشعاره.. وغير ذلك ممّا ستقف عليه عند مطالعتك لها إنْ شاء الله تعالى.

يُذكر أنّ هذه الإصدارات جاءت نتيجةً للتقدّم الذي حقّقه مركزُ إحياء التراث ‏في مجال تحقيق المخطوطات والكتب غير المحقّقة، وإظهارها بحلّةٍ علميّة ‏جديدة من خلال مراجعتها وتدقيق ما ورد فيها وتحقيقها من قِبل ملاكاتٍ متخصّصة.

همة صاحب (مفتاح الكرامة) في التعليم

تناول السيد الأمين في (أعيان الشيعة) الجد والسعي المتواصل للسيد جواد العاملي صاحب (مفتاح الكرامة) قائلاً: كان في الجد وتحصيل العلم قليل النظير، وقد أفنى عمره في الدرس والتدريس والبحث والمطالعة والتأليف وخدمة الدين،

وكان يستغرق وقته ليلاً ونهاراً في ذلك، دون أن يحدث له ضعف واضطراب، وكان مشغولاً بالبحوث العلمية حتى في أيام الأعياد وليالي القدر من شهر رمضان، واستمر على هذه الحال حتى سن الشيخوخة وكله رغبة ونشاط في هذا المضمار،

وكان لا ينام من الليل إلا قليلاً، ولما سئل: ما هي أفضل أعمال ليلة القدر؟

أجاب: بإجماع علماء الإمامية هو الاشتغال بطلب العلم

وفي أيام محاصرة النجف من قبل الوهابية بين سنوات (1331 و 1336هـ) كان العلماء مع الأهالي يقومون بالدفاع عن المدينة، وفي الوقت الذي كان يشارك العلماء في الجهاد والمحافظة على المدينة ووسائل الدفاع وتشجيع المجاهدين والحراس وترغيبهم، تراه لا يفتر قلمه عن التأليف والتدريس،

فقد كتب في تلك اللحظات رسالة في وجوب الدفاع عن النجف، كما استمر في كتابة بعض مجلدات ( مفتاح الكرامة ) مثل: مجلد الضمان والشفعة والوكالة وكان له من العمر حدود السبعين.

وإحدى الأمثلة على استمرارية الجد والجهد في الليل والنهار هي: أنه في نهاية العديد من مجلدات ( مفتاح الكرامة ) تراه يكتب: (قد تم الفراغ منه ليلة كذا) وذكر في مجلد الوقف (قريب منتصف الليل)، والمجلد الثاني من الطهارة (في الربع الأخير من الليل) ومجلد الوكالة (بعد منتصف الليل) ومجلدين من الشفعة (في الليل) وبعض المجلدات الأخرى (في ليلة القدر) أو (ليلة عيد الفطر).

وفي آخر مجلد الإقرار من ( مفتاح الكرامة ) كتب: في شهر رمضان من هذه السنة كتبت ثمانية أو تسعة أو عشرة أجزاء من الأبحاث، إضافة إلى الأعمال الأخرى التي أقوم بها في شهر رمضان، وما تركت الكتابة إلا لبعض المؤثرات التي كانت سبباً للتعطيل.

ونقل حفيده السيد جواد بن السيد حسن قال: كانت ابنة صاحب ( مفتاح الكرامة ) سيدة جليلة القدر ومشهورة بالتقوى والعبادة وكانت قد عاشت خمسة وتسعين عاماً من العمر، دون أن تعاني من ضعف الحواس أو عدم القدرة،

وكانت تقول: إن والدي ما كان ينام الليل إلا قليلاً من الوقت، ولم يتفق لي أن رأيته وهو نائم بل كان مستيقظاً على الغالب مشغولاً بالمطالعة والكتابة.

ونقل حفيده الشيخ رضا بن زين العابدين العاملي الذي كان مدة في بيته وكان ينام بعد الفراغ من مطالعاته في الليالي قال: كنت أرى جدي يقظاً ومشغولاً بعمله، وكان يلتفت إلى حفيده ويقول: ما هذا العشق بالنوم، وهذا المقدار الذي نأخذه من النوم يكفينا، وكان يضع رأسه على يده، ويغفو إغفاءة قصيرة جداً، ثم يعود إلى عمله، وأحياناً يوقظ حفيده لصلاة الليل، ويقوم هو بالمطالعة.

وكان معروفاً بين العلماء في زمانه وحتى موته بالدقة والضبط وصفاء الذات، وكان يرجع إليه كبار العلماء لحل المسائل المشكلة فيأخذون منه الجواب أو يطلبون منه تأليفاً في ذلك، وكان تأليف كتبه بالتماس أساتذته: كالشيخ جعفر كاشف الغطاء، والسيد صاحب الرياض. ( المصدر: مجلة اللقاء العدد السابع والعشرون – موقع هيئة علماء بيروت)

نسبه الشريف:

اسمه – على ما أنسبه إليه المحقق الفقيه السيد محسن الأمين العاملي (رحمه الله)، محمد جواد بن محمد بن محمد بن أحمد العاملي. وقد يصف نفسه في بعض مصنفاته بالحسيني الحسني الموسوي.
ولد (رحمه الله) في قرية ” شقراء ” من قرى جبل عامل بلبنان.

سنة ولادته: لم يضبطه أحد على التحقيق والتعيين إلا أن الأمين العاملي (رحمه الله) أثبتها في حدود المائة ونيف وخمسين بعد الألف.

قصد الكربلاء المقدسة بعد أن اشتغل بمقدمات العلوم مدة غير يسيرة في جبل عامل لبنان،
ويظهر مما ذكره بعض الأعلام أنه بعد وروده تلك البلدة الطيبة والحوزة المباركة حضر جلسة مذاكرة السيد الفقيه السيد علي الطباطبائي ولذا حكى عن بعض مصنفاته وإجازاته أنه قال:

إنه – أي صاحب الرياض – أول من علمني ورباني وقربني وأدناني، ولذا يعبر عنه كثيرا ما في كتابه هذا ب‍ ” شيخنا ” أو ” أستاذنا ” وهذا الكلام المحكي عنه بظاهره يشعر بأن صاحب الرياض أول أساتيذه ومعلميه وأنه لم يتعلم قبله من أحد،

إلا أن ذلك بعيد جدا، فإن صاحب الرياض كان من الفقهاء المجتهدين ومن مدرسي خارج الفقه والأصول ومثله لا يكون مدرسا لمقدمات العلوم ومبادئها التي يتكفل تعليمها أوساط الطلبة ومن يتردد في بادئ الرأي من المعلمين.

ثم بعد أن حضر مجلس بحث الطباطبائي برهة من الزمن حضر حوزة أستاذه الوحيد البهبهاني (رحمه الله) وقيل: إنه كان ملازما لدرسيهما معا في زمان واحد مشغولا بذلك عن الخروج من كربلاء حتى لزيارة النجف الأشرف وهو (رحمه الله) دائما يعبر عن أستاذه هذا ب‍ ” أستاذنا الآقا أو الأستاذ أدام الله حراسته “. وهو (رحمه الله) قد عنى في هذا الكتاب بنقل كلام هذا الأستاذ أكثر من عنايته بنقل كلام سائر أساتذته.

ثم بعد أن ارتحل الوحيد البهبهاني إلى رحمة الله تعالى هاجر سيدنا المترجم له إلى النجف الأشرف الحوزة الأم لجميع الحوزات العلمية للشيعة الإمامية فحضر حلقة درس العلامة العابد والحجة السيد مهدي الطباطبائي المعروف ب‍ ” بحر العلوم ” وحلقة بحث الشيخ الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء ” وحلقة بحث الشيخ الفقيه المتعبد الشيخ حسين نجف.

ولكنه على ما يقال: لم يزل كان ملازما لجلسة بحث العلامة الطباطبائي إلى أن ارتحل الطباطبائي إلى رحمة الله ورضوانه وبقي ملازما لحوزة درس الشيخ جعفر مدة مديدة إلى أن سافر الشيخ المشار إليه إلى إيران.

قال أستاذه المحقق البهبهاني في إجازته التي كتبها له على ما حكي: استجاز مني العالم العامل والفاضل المحقق المدقق الماهر العارف ذو الذهن النقاد والطبع الوقاد مولانا السيد السند السيد محمد جواد حرسه الله تعالى وأبقاه ووفقه لما يحبه ويرضاه فأجزت له، إلى آخر ما كتب له بخطه.

وقال المحقق القمي صاحب القوانين في إجازته التي كتبها بخط يده على مجلد الفرائض من مفتاح الكرامة حينما زار أئمة العراق وأقام مدة يسيرة في الغري: أما بعد فقد استجازني الأخ في الله السيد العالم العامل الفاضل الكامل المتتبع المطلع على الأقوال والأفكار الناقد المضطلع بمعرفة الأخبار والآثار السيد جواد العاملي مؤلف هذا الكتاب فاستخرت الله وأجزت له أدام الله أفضاله وكثر في الفرقة الناجية أمثاله، إلى آخر ما كتب له بخطه.

وحكي عن بعض أهل الورع أنه قال: مما تحققناه من أحواله على حد التواتر أنه كان مشهورا بين علماء عصره من زمن حضوره على أستاذه الوحيد البهبهاني إلى يوم وفاته بالضبط والاتقان وصفاء الذات وأن أجلاء العلماء – سواء من مشايخه المتقدم ذكرهم أو من غيرهم – كانوا إذا أشكلت عليهم مسألة أرادوا تدريسها أو تصنيفها أو الإفتاء بها ووجدوا الأساطين مضطربين في كلماتهم والأخبار متعارضة متخالفة في مداليلها أو مسانيدها، سألوه عما حققه هو في تلك المسألة فإن لم يكن له تحقيق فيها التمسوا منه كتابتها وتحقيقها فيقفون عند قوله وتحقيقه، لعلمهم بغزارة اطلاعه وجودة انتقاده وشدة ممارسته لكلمات العلماء وعرفانه بمحط أنظار الفقهاء ومأخذ براهينهم واستدلالاتهم ولخبرته بعلم الرجال.

وقد قيل: إن تأليف جل كتبه أو كلها إنما كان بالتماس أسطوانة من هذه الأساطين أو أستاذ من هؤلاء الأساتذة. وهذا أمر يظهر بالنظر في ديباجة كتبه المشار إليها. وهذا يدل على علو شأنه وانفراده في عصره بما لا يشاركه فيه غيره من علماء زمانه.

قال صاحب روضات الجنات: كان من فضلاء الأواخر ومتتبعي فقهائهم الأكابر وقد أذعن بكثرة اطلاعه وسعة باعه في الفقهيات أكثر معاصرينا الذين أدركوا فيض صحبته بحيث نقل إن الميرزا أبا القاسم صاحب القوانين كان إذا أراد في مسألة تشخيص المخالف والمؤالف يرجع إليه فيظفر به.

وقال في ترجمة صاحب القوانين: إنه كان يرجع في مسائل الفقه عند شكه في وجود مخالف في المسألة إلى سيدنا الفقيه المتتبع السيد جواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة أيام إقامته عنده ونزوله عليه في قم المباركة.

ولأجل هذه الشهرة الحسنة والاعتبار المقبول المشهور ولأجل هذه السابقة المضيئة كان معظما مبجلا عند العلماء كافة.

استقامته وثباته في المسير:

كان صاحب الترجمة في أمر درسه وتحقيقه من أول الأمر ولا يزال ثابت القدم قوي الإرادة، عظيم الهمة، لم يرجع عن عزمه وتصميمه ولو ساعة واحدة بل كان يشتغل جميع الأوقات في تحقيقه وكتابته، ليله ونهاره إلا برهة يسيرة منهما استثناها لأجل الواجبات الشرعية أو الأمور الضرورية كالأكل والنوم.

حكي عن ابنته – وكانت على ما يقال مشهورة بالتقوى – أنها قالت: كان والدي يكتب ويقرأ وكتبه كلها مفتوحة بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله وهو يدور عليها والقلم والكاغد بيده يطالع ويكتب وكان كثيرا ما ينسى أكل طعامه في وقته فالتزمت والدتي أن تقدم الطعام إليه كل يوم وليلة في وقته وتنبهه على تناوله في حينه.

وحكي عن ابنته هذه: إنه ربما كان يوقظ سبطه المذكور للنافلة ولكن لم نجده يقوم للنافلة بنفسه وكان ذلك منه حرصا على اشتغاله.

ومما يؤيد ذلك ما كتبه في آخر مجلد الإقرار من مفتاح الكرامة فقال: كتبت في شهر رمضان من هذه السنة ثمانية أجزاء أو تسعة أجزاء أو عشرة أجزاء مع هذا التتبع والاستيفاء وذلك أني تركت له سائر الأعمال التي يعملها العاملون في شهر رمضان إلا ما قل جدا مؤثرا للتحصيل والاشتغال على جميع أعمال شهر رمضان.

ومما يدل على ذلك أنه (رحمه الله) صنف وألف جملة من مصنفاته في أيام محاصرة الخارجي سعود بن عبد العزيز الوهابي لبلدة النجف الأشرف ومن تلك المصنفات جملة من مجلدات هذا الكتاب، مع أنه كان يجالس مع العلماء لإعمال الحيلة فيما يخلصهم من هذه العويصة وربما كان مع جملة منهم يمر على الحفظة والحرس ويحرضهم على الجهاد والمدافعة عن تلك البلدة المشرفة.

توصياته 

أوصى في آخر كتاب الإقرار إخوانه في التحصيل والتحقيق، فقال بعدما أوصى به من الجد والسعي في التحقيق ودوام التحصيل:

وأوصي إخواني أن لا يغادروا من أوقاتهم في غير التحصيل وبالزهد في هذه الدنيا فإن الميل إليها آفة التحصيل انتهى.

مفتاح الكرامة ومكانته بين المؤلفات الفقهية

منذ ألف هذا الكتاب القيم بيد مؤلفه الفاضل صار مرجعا لمحققي مسائل الفقه الشيعي ومنظرا للفقهاء المؤلفين لكتب الفقه الجعفري.

وذلك أولا لاعتماد أساتيذ الفقه ومعلميها في ذلك الزمان على كتابه في نقل الإجماع والشهرة ونقل الأقوال الواردة في كل مسألة فقهية،

فهذا صاحب الجواهر الفقيه المحقق مؤلف جواهر الكلام الذي لم يسبق له نظير في تاريخ تأليف فقه الشيعة اعتمد في نقل الأقوال والإجماع والشهرة على كل مورد نقلها صاحب مفتاح الكرامة .

وقد نقل بعض مشايخنا الفضلاء (رحمه الله) عن العلامة الفقيه المحقق آية الله الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي إن هذا الكتاب كان مرجعا لصاحب الجواهر في تحقيقاته الفقهية في كتابه كثيرا،

وقال (رحمه الله): إنه لم يكن معروفا في حوزة قم المباركة قبل نزول السيد البروجردي تلك البلدة وهو الذي عرف هذا الكتاب وكتاب كشف اللثام للفاضل الهندي بين محصلي علوم الدين ومحققي مسائل الشريعة.

وثانيا أن تأليفه حسب ما صرح به نفسه في أول كتاب الطهارة إنما كان بأمر من شيخه وأستاذه الأعلم الأفقه في زمانه الشيخ جعفر كاشف الغطاء.

فإنه هو الذي أمره بأن يؤلف كتابا يذكر فيه جميع الأقوال الواردة في كل المسائل الفقهية وينقل في كل مسألة من تلك المسائل الإجماعات والشهرات المذكورة أو المنقولة في كتب الفقهاء وجعل عليه أن يصرح فيه بأسامي مصادر تلك الأقوال والإجماعات ويذكر فيه الدليل الذي لم يتعرض له الأصحاب وقال له:

أما كتاب مختلف الشيعة تأليف العلامة الحلي (رحمه الله) وإن كان مؤلفا في هذا الموضوع إلا أنه إنما ذكرت فيه الأقوال والإجماعات والشهرات في المسائل الخلافية وهو مع ذلك لم تذكر فيه جميع تلك الأقوال الواردة في تلك المسائل، بل ولم تذكر فيه جميع المسائل الخلافية. فعندئذ أجابه صاحب المفتاح في مسؤوله وتلقاه بقبوله.

وهذا الأمر يعطينا أن الشيخ جعفر الذي قيل إنه الأفقه من جميع الفقهاء ما عدا الشهيد والمحقق الأولين لم يعتمد في ذلك على غيره والحال أنه كان هناك كثير من الفقهاء من أصحاب القلم لا يزالون يؤلفون ويصنفون، بل كان هناك صاحب الجواهر وصاحب مقامع الفضل وغيرهما في حال تأليف كتابيهما في نفس ذلك الزمان وهما كغيرهما كانوا بمنظر منه ومسمع ومع ذلك كله لم يعتمد عليهما ولا على غيرهما في هذا الأمر وإنما كلفه نفسه بتأليف مثل هذا الكتاب.

قال صاحب الروضات: لم ير عين الزمان أبدا بمثله كتابا مستوفيا لأقوال الفقهاء ومواقع الإجماعات وموارد الاشتهارات وأمثال ذلك من غير خيانة في شئ منها والاجتهاد له في فهم ذلك كما هو عادة تلميذه بما لا مزيد عليه لكل من يريد اجتهادا في مسألة من مسائل الفقه .

وقال العلامة الأمين العاملي (رحمه الله): هو كتاب لم يسمح الزمان بمثله في استيفاء أقوال العلماء ومواقع الشهرة والإجماع والتنبيه على الخلل الواقع في جملة من الأنقال مع كمال التتبع وعدم الاكتفاء بالنقل. وبالجملة فهو في بابه عديم النظير بين مصنفات الأصحاب . (المصدر: مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة للفقيه المتتبع السيد محمد جواد الحسيني العاملي قدس سره المتوفى سنة 1226)، المجلد الأول ، الصفحة:12)

 

من قصصه:

عتاب الاستاذ

كان السيد جواد العاملي يتناول طعام العشاء، فسمع الباب يطرق، وعندما عرف أن الطارق هو خادم استاذه السيد مهدي بحر العلوم أسرع نحو الباب.. قال الخادم: السيد الاستاذ يطلب مجيئك الآن، وضع الطعام أمامه ولكنه لن يبدأ قبل أن تذهب إليه.
ودون أن يكمل السيد جواد تناول عشائه، أسرع إلى بيت السيد بحر العلوم، وبمجرد أن وقعت عين الاستاذ عليه قال له بغضب وحدة لا عهد له بهما من قبل:
– سيد جواد أما تخاف الله؟!.. أما تستحي من الله؟!..
واستبدت الحيرة بالسيد جواد.. ماذا جرى وما الأمر لم يعاتبه السيد طيلة حياته بمثل ذلك العتاب، وحاول جاهداً أن يهتدي إلى السبب فلم يفلح، ولم ير بداً من السؤال.

– هل يمكن أن يتفضل السيد الاستاذ بذكر التقصير الذي حصل مني؟..
– منذ سبعة أيام بلياليها وجارك (الشيخ محمد نجم العاملي) لا سبيل له إلى القمح والأرز، وهو في هذه المرة يستدين التمر الزهدي من البقال المجاور، ويقتات به مع عياله، واليوم ذهب ليستدين التمر وقبل أن يطلب ذلك قال له البقال: أصبح دينك كبيراً، فخجل بعد ذلك أن يطلب شيئاً ورجع إلى البيت صفر اليدين، وبقي هو وعائلته بدون طعام.

– أقسم بالله أني لم أعلم بذلك أبداً، ولو أني علمت لقمت بما يجب.
– كل إنكاري عليك لأنك لا علم لك بأحوال جارك، لماذا يمضون سبعة أيام بلياليها هكذا، وأنت لا تعلم، ولو أنك كنت تعلم ولم تفعل شيئاً لقلت لك: يا يهودي أو يا نصراني.
– وماذا تأمر الآن؟..

– يأخذ خادمي هذه الصينية من الطعام إلى باب ذلك الرجل، وعند الباب تأخذ الصينية أنت وتطرق الباب، وتطلب منه أن تتناولا طعام العشاء معاً وخذ هذا المال وضعه تحت سجادته أو حصيره، وتعتذر منه على تقصيرك في حقه مع أنه جارك، واترك الصينية هناك وتعال، ولن أتعشى حتى تأتي وتخبرني بما جرى.
وحمل الخادم الصينية الكبيرة، وعليها أنواع الطعام اللذيذ، ومضى مع السيد جواد، وعند الباب تناول السيد جواد الصينية ورجع الخادم.

ودخل السيد جواد، وبعد أن سمع صاحب البيت اعتذاره ورجاءه تناول الطعام، أكل لقمات فعرف أنه (لم يحضر في منزل السيد جواد العاملي) فما كان منه إلا أن قال: هذا الطعام ليس طبخاً عربياً وعليه فليس من بيتك، وإذا لم تقل من أين فلن آكل أبداً.
وعبثاً حاول السيد جواد أن يثنيه، ولم ير في النهاية بداً من إخباره بكل ما كان، ووافق الشيخ على تناول الطعام قائلاً:
عجيب أمر هذا السيد فوالله لم يطلع على سري أحد، فمن أين عرف!..

المصدر: كتاب قصص العلماء، للشيخ عبد العظيم المهتدي البحراني الصفحة: 105

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky