خاص الاجتهاد: من الأمور التي تؤخذ علينا أننا غُصنَا بعمق ودقة في دراسة المسائل، ومن هذه الناحية أنتجنا علماء ومتخصصين بارزين؛ سواء في الفقه أو في الأصول، ولكن لأننا لم ندرس فلسفة هذه العلوم افتقدنا إلى النظرة العامة والشمولية والمنسجمة لها، وعليه ترانا نقدّم تعاريف مبهمة ومشككة للهوية العامة لهذه العلوم، طلبة العلوم الدينية يدرسون حوالي أربعة آلاف ساعة من الأصول، ولكن إذا ما طرحنا عليهم بعض الأسئلة العامة نجد أنّ كثيراً منهم لا يمكنهم تقديم أجوبة وافية.
ما نقدمه هو تقرير لمباحث ورشة فلسفة علم الأصول بعنوان: فلسفة علم الأصول: الماهية، والضرورة، والبنية، التي قام الأستاذ حجة الإسلام الشيخ مجتبى إلهي الخراساني؛ أستاذ البحث الخارج في حوزة مشهد العلمية وعضو الهيئة العلمية في مركز الآخوند الخراساني للدراسات العليا في مكتب التبليغ الإسلامي قبل فترة في الدورة الأولى من سلسلة ورش تعليمية وبحثية تخصصية بعنوان فلسفة علم الأصول التي عقدت بإشراف لجنة الفقه ومباني الاجتهاد لمركز الآخوند الخراساني للدراسات العليا وكذلك لجنة الفقه التطبيقي البحثية التابع لمعهد الإسلام الحضاري.
ما هي حصة فلسفة الفقه، وما هي حصة فلسفة الأصول؟
هنا يوجد اقتراحان: تقسيم العمل؛ بأن تقوم فلسفة العلم لكل واحد منهما بالبحث في المبادئ المختصة بعلمها وحسب، وعليه تتحدث فلسفة الفقه عن المبادئ الخاصة بهذا العلم فقط، يجب عدم بحث المبادئ المشتركة بين الفقه والأصول في فلسفة الفقه، ولكن ماذا بالنسبة لفلسفة الأصول؛ هل ينبغي ألا تبحث في المشتركات؟
هنا يظهر الشك في كلمات وآراء أصحاب هذه النظرية، لأنه بمقتضاها يجب ألا تبحث فلسفة الأصول في المبادئ المشتركة، وتكتفي بدراسة تلك المبادئ المختصة بعلم الأصول، ولكن هل حقاً يوجد في علم أصول الفقه كلّ هذه المبادئ الاختصاصية؟!
هذه المبادئ الخاصة سوف تكون “مبادئ قريبة”؛ فإذن ينبغي ألا تبحث فلسفة علم ما في مبادئه البعيدة، وإذا لم يتم بحث المبادئ المشتركة بين الفقه والأصول في فلسفتيهما فأين يمكن أن تُبحث؟ يقولون: قوموا بدراساتها في فلسفة العلوم الإسلامية، أي ما يشمل الفقه والأصول والفلسفة والكلام.
المبادئ القريبة لفلسفة العلوم الإسلامية
ونقصد بالمبادئ القريبة من كلّ علم، وهذا غير موجود، لأنّه لو كان لكلّ علم مبادئ قريبة لبحثت في فلسفة ذلك العلم، وعليه لا يمكن أن نبحث في فلسفة العلوم الإسلامية المبادئ القريبة لأصول الفقه، لأنّه من اختصاص فسلفة الأصول، وعين ذلك بالنسبة للفقه، والكلام، فإذن ماذا يمكن لفلسفة العلوم الإسلامية أن تبحث؟ هل نبحث في جميع المبادئ البعيدة؟
فإذن لماذا نقول: فسلفة العلوم الإسلامية؟ أولم نتفق أنّ فلسفة كلّ علم ينبغي أن تبحث في مبادئه القريبة؟!
هنا يوجد تناقض، بما هي علوم إسلامية أي المبادئ القريبة لجميع العلوم الإسلامية، وعليه تكون الفرضية المبدئية في فلسفة العلوم الإسلامية أنّه يجب أولاً أن نجمع العلوم الإسلامية، وأن ننظر إلى المجموع على أنّه كلٌّ واحد،
والسؤال هنا:
هل العلوم الإسلامية علم واحد أم أنّها علوم متعددة؟ على الظاهر أنّها علوم متعددة، لا يوجد علم آخر لنقول أنّه تفرّعت عنه هذه العلوم الإسلامية، نحن ليس لدينا مثل هذا العلم، مثلا علم تحت عنوان الإسلاموية أو الإلهيات الإسلامية، حتى نقول أنّه علم واحد، وتلك أفرع ذلك العلم، وعلى الظاهر أنّ الفقه، والأصول، والفلسفة الإسلامية والكلام هي علوم في عرض بعضها البعض، أي أنّه لا يوجد علم أمّ، يشمل هذه العلوم جميعاً.
النقطة الثانية: لو اقترحنا حلاً بأن نؤوّل المبادئ البعيدة بما قبلها، يقولون: في نفس العلوم الإسلامية يوجد بعض المبادئ المشتركة فيما بين هذه العلوم، وماذا عن البقية؟ يقولون: يوجد حلّ لها؛ فهذه نجعلها من فلسفة العلم.
تنبيه: نفتح قوساً هنا:(وفقا لهذه النظرة يجب أن نؤسس علماً أساساً نسميه مثلا علم معرفة الإسلام، أو علم الإلهيات الإسلامية، يجب أن يكون لدينا علم يمكن أن نؤسس فلسفة له، وربما أنّ أحد الأسباب التي تمنع من إيجاد الارتباط بين العلوم الإسلامية وغيرها من العلوم، مع صعوبة توضيح وبيان تلك الروابط، هو أنّه يجب أن يتم ذلك الارتباط عبر علم أساس (علم أمّ)
أي أنّه لا يمكننا الآن المقارنة بين علم الكلام وعلم الاجتماع، فيجب أن نصل أولاً إلى علم أمّ؛ مثلاً (معرفة الإسلام)، ثم نبحث في العلاقة بين هذا العلم وبين علم الطبيعة مثلا، وهكذا يمكن تسهيل تبيين هذه الروابط، وأضيف هنا أنّه يمكن أن تحصل أمور أخرى، أي أنّه يمكن أن نصل إلى نتيجة أنّه يجب حذف بعض العلوم الإسلامية، التي نسعى ونجهد لإيجاد مختصات خاصة بها، ولكن دون جدوى، وأن نحيلها جميعاً إلى ذلك العلم الأمّ.
ولا يلزم أن تكون جميع أفرعه الآن من العلوم، يمكن أن نبقي فعلياً على بعض العلوم التي تمتلك حقيقةً خصائص العلوم، ونحذف ما ليس فيه هذه الخصائص، فمثلا فيما يتعلق بعلوم القرآن يدعي البعض أنّها ليست من العلوم، لأنها لا تتوفر على أيّ من مختصاتها، والبعض يدعي ذات الشيء بالنسبة للفلسفة الإسلامية، ويقولون لو كانت الفلسفة الإسلامية فلسفة بحق لوجب تعلقها بكل عالم الفلسفة، وإذا كانت مقيدة فما هو هذا القيد؟
إذا كان كلاماً فلتُسَمُوها علم الكلام، واليوم هناك حيرة في تصنيف الفلسفة الإسلامية في مؤسسات العلوم الإسلامية الناشطة في إيران؛ فأحياناً يقال أنّها تتبع للعلوم الإنسانية، وأحياناً تتبع للعلوم الإسلامية.
أزمة العلوم الإسلامية هي أزمة تصنيف
أريد أن أغلق القوس، ولكن أشعر بأنّ المسألة تحتاج إلى مزيد من الكلام؛ فنحن يجب علينا أن نحل بأنفسنا مشكلات روابطنا العلمية على المستوى الدولي، لن يأتي أحدٌ من الخارج ليحل مشكلات العلوم الإسلامية، والنشاطات المرتبطة بفلسفة العلوم لا تتطور في الدول الإسلامية بمقدار سرعة تطورها في إيران،
لا أريد القول أنّه ليست قديمة قدمها في إيران، ولا أريد أن أقول أنّه لا يوجد أي عمل؛ ولكنّ سرعة تطورها وتوسعتها هناك أقلّ مما هو عليه الحال في إيران، لذلك من الأفضل التفكير جدياً وعميقاً بمسألة روابط وعلاقات العلوم الإسلامية ببعضها الآخر، وهل أنّ هذا الأمر يحتاج إلى علم أمّ، وإلى تصنيف جديد و…
أزمة العلوم الإسلامية اليوم هي بحق أزمة تصنيف، تصنيف داخلي وآخر خارجي، وإن لم يحصل ذلك فربما لن ننجح في تقديم جهود ألف سنة لعلمائنا لتصبح معروفة في المجال الدولي، ربما لن ينتبه لنتاجهم أحد، ورويداً رويداً ينشأ في نفوس شبابنا _المتأثرين بالأجواء العالمية في مجال العلم_ شعور بأننا لا نملك شيئاً،
وللأسف مثل هذا الشعور والشك وقع لبعض طلبة العلوم الدينية، وذلك لأننا لم نقم بالترجمة بما يتوافق مع لغة ومنهج علم الفلسفة الجديد، ومن جهة ثانية لسنا متقنين تماماً لتراثنا العلمي، مما يعطي انطباعاً بأننا لا نملك شيئاً يعتدّ به.
لذا علينا أن نطرح هذه الأسئلة على الأساتذة العالمين بهذا التراث العريق؛ يجب أن نسأل أمثال آية الله مرواريد المتقنين للنصوص الأصولية، نسـألهم هل تمّ إلى اليوم بحث هذه المسائل أم لا ؟
ونحن أنفسنا نستخدم مفاهيماً ومصطلحات متأثرة بالفضاءات الجديدة، لأنّه نرى أنّ نفس هذا المصطلح غير مسبوق، ومن ثمّ يمكن أن نظنّ أنّ نفس الموضوع جديد، ونظنّ أنّه لم يتحدث حول هذا الموضوع أحد، ولم يناقشه أحد من قبل، كما أننا لم نبحث حول السيمائية في علم الأصول، وكذا لم نبحث حول علم التأويل (الهرمنيوطيقا)،
ونحن لدينا الكثير من النظريات التفصيلية في علم الأصول، ولو وضعناها في منهج ونظم خاص لأبهرنا العالم بها (كما يعبّر أحد العلماء)، ولكن لأننا لم نستخرج هذه الأمور، ولم نقدمها للعالم بشكل جيد، ولأننا لا نقوم بالترجمة؛ ولا أقصد هنا الترجمة اللغوية فقط؛ بل نحتاج إلى ترجمة علمية، أي نترجمها إلى لغة فلسفة العلم، ووفقاً لمفاهيمها ومصطلحاتها).
ويمكن أن نتحدث الآن حول فلسفة علم الأصول، وما هو موضوعها وفوائدها، المطالب التي تحدثت عنها ليست موضوعات علم الأصول، بل إنّ موضوع علم الأصول هو الذي يعين هذه الأبحاث، كما أن غرض علم الأصول يمكن أن يكون مؤثراً في هذه الأبحاث.
ما هي فلسفة علم الأصول؟ أي ما هي هيكلية علم الأصول؟
في البداية سأستعرض الأبحاث الكلية هنا، وما سأقوله يعبر عن آرائي الشخصية، وهي تحتمل الخطأ، وعندما أتحدث عن آرائي فهذا يعني أنني لا أقبل آراء الآخرين في الموضوعات المطروحة للبحث، وأنه عندي نقد وإشكالات عليها؛ وسأتحدث عنها إذا كان هناك أسئلة حولها، وسأبين لماذا أضفنا إليها أو لم نضف.
بحثنا الأول حول ماهية علم الأصول، ويتضمن المسائل التالية:
موضوع علم الأصول، وفائدته، وتعريفه، ومجالاته، وبنيته، كلّ ذلك سوف نتحدث عنه ضمن إطار ماهية علم الأصول، وهو كما لا يخفي بحث هام للغاية.
أمّا البحث الثاني فسنتحدث فيه حول التمايز بين علم الأصول وغيره من العلوم، وكذا العلاقات والروابط فيما بينهما، سنتحدث عن التمايز والفروق وعن الارتباط والعلاقة، لذلك سوف أتحدث عن مسائل من قبيل “الضابط”، وهي مسألة أصولية وتعتبر من إبداعات علماء أصول الفقه عندنا.
وسأتكلم في البحث الثالث حول علم الأصول من ناحية نظرية المعرفة (الأبستمولوجيا)، أي ما هي مصادر المعرفة في علم الأصول، وما هي الأمور التي يحق للأصوليين الاستناد إليها، وما هو معيار اعتبار القضايا الأصولية، وما هو معيار صدقها.
ويدور البحث الرابع حول منهجية علم الأصول، أي حول أساليب علم الأصول المناط بها كشف الأحكام، أو التي تعين المسؤولية تجاه الأحكام، وتقريباً لن يخرج بحثنا عن هاذين الأمرين: إمّا أننا نعمل على الكشف عن الحكم، أو نعمل على تعيين مسؤوليتنا تجاه الحكم، وهو ما نسميه التنجيز والتعذير.
وذلك مع ملاحظتنا لما تفضل به بعض العلماء، ومنهم المرحوم آية الله الخوئي الذي قال: نحن في الحقيقة لا نقوم بأكثر من عمل واحد، وهو تعيين التكليف والوظيفة، وذلك يكون أحياناً مع الواسطة، كما هو الحال في باب الأمارات، وأحيانا أخرى بلا واسطة وهو بحث الأصول العملية.
وهذا هو معنى كلمات الشهيد الصدر والعلامة الفضلي (تلميذا المرحوم الخوئي) رضوان الله تعالى عليهما؛ حيث قالا إنّ أبحاث علم الأصول تحدد الوظيفة العملية للمكلف إما مباشرة أو بشكل غير مباشر، وعن طريق كشف الحكم، وأنا أعتقد أنّ هذا الكلام هو تفسير لرأي المرحوم الخوئي وليس أكثر من ذلك. إذاً ما هي مناهجنا التي نتبعها؟ هل هي عقلية أم تجريبية، أم نقلية؟ وما هو مجال استخدام كلّ واحد من هذه المناهج؟
أمّا البحث الخامس فسنتناول فيه الفرضيات والمبادئ التصديقية لعلم الأصول، وبالنظر إلى الإشكالات التي بيّنها أستاذي آية الله مرواريد لن أقوم بتفكيك مبادئ الأصل، مثلاً نحن نقسم المبادئ إلى لغوية وفلسفيةـ وكلامية، وحكمية، وإذا لم نلتزم بهذا التقسيم لن يتعين علينا الرد على الإشكالات المذكورة في هذا المجال، أضيف أننا لسنا ملزمين بالحديث حول تلك المجموعة من المبادئ التي تُبحَث في سائر العلوم.
والبحث الأخير سيكون حول تطور علم الأصول، ليس من الجانب التاريخي، بل من جانب تقييم اعتباره، أي ماهي التحولات التي شهدها علم الأصول، وما هي المراحل التي مرّ فيها وإنجازاته في كل مرحلة، ويمكن لهذه الأجزاء ألا تكون موجودة، أي أنّه لا يلزم حكما أن تحدث حول التاريخ الزماني لعلم الأصول، وهناك فرق بين الكلام حول أحداث علم الأصول، وبين الكلام حول تاريخ تطور هذا العلم، فالكلام عن الأحداث عمل جزئي، ومن الأفضل ألا يُبحث في فلسفة علم الأصول.
ما هي الأسباب التي تجعل تعلم فلسفة أصول الفقه أمرا ضروريا ؟
سأذكر هنا ستة أسباب:
الأول: الإجابة عن تلك الأسئلة من الدرجة الثانية حول علم الأصول، والتي ذكرتها سابقاً، أي أننا نريد أن نعرف ما هي مصادر علم الأصول، وما هو أسلوب دراسة المسائل في هذا العلم، وما هو منهجنا الاستنادي، وما هو نوع القضايا الأصولية، فيمكننا إيجاد الإجابة عن هذه الأسئلة في فلسفة علم الأصول.
السبب الثاني: يجب الانتباه إلى الغرض من فلسفة أصول الفقه، وبغض النظر عن الأسئلة التي تدفعنا نحو تعلم فلسفة أصول الفقه يجب أن نحدد أولاً هل لفلسفة أصول الفقه أغراض وأهداف؟
ويمكن أن نعدد أغراض فلسفة علم الأصول كما يلي:
“دراسات عامة حول علم الأصول”، “تقديم النظرة الشمولية”، “تنظيم العلاقات والروابط في علم الأصول”، أي أنّها بالإضافة إلى تقرير هذا العلم تهدف إلى نقده وتقييمه، وتقديم المقترحات والتوصيات لتطويره، ولكن السؤال هنا هل نحتاج حقاً لمثل هذا التقييم لعلم الأصول أم لا؟ إذا كنا بحاجة إلى هذا الأمر فنحن بالتأكيد بحاجة إلى فلسفة أصول الفقه أيضاً.
السبب الثالث: هو بحث فرضيات علم الأصول، يُقال منذ أمدٍ بعيد أنّ العلوم الإسلامية أو علم الأصول مبنية على خطوط حمراء، أي أنهم يعبرون عن وجود الأصول الموضوعة بأنها خطوط حمراء، ولكنّا نعلم أنّ لجميع العلوم أصولاً موضوعة، أي أنّ فيها فرضيات تسبقها رتبة قد أُثبت في مقام أو علم آخر.
وهناك إشكال في الكلام الذي يقول أنّ علم الأصول -وكذا علم الفقه_ يبتنيان على مجموعة من التصديقات، مثلاً يبتنيان على صدق الوحي؛ وهذا خط أحمر، فجميع علومكم مبنية على إمكانية معرفة الواقع؛ فكيف يمكن أن نقول أنّ لها جميعاً خطوط حمراء، عندما يتمّ إثبات هذه المفروضات حينها يعلم كم منها أيدلوجية (كما يُقال) وكما منها علمي، وله إثبات واقعي وعلمي، وأنّه ليس ايدلوجيا، وليس عقيدة وموقفاً نفسانياً اتخذناه مسبقاً قبل أن نبدأ البحث العلمي،
ولوكان الأمر على هذه الشاكلة لقيل لنا أنّ فرضياتكم تابعة لعقيدتكم، وأنّ علمكم تابع لقيَمكم؛ فعملكم لن يكون علمياً، وإثبات الفرضيات والتعرف عليها هو عمل فلسفة علم الأصول، نعم يمكن أن يكون جزء من تلك الفرضيات محتاجاً لإثبات جديد، وعندما نحدد هذه الفرضيات، ونميزها بدقة عن مسائل علم الأصول، لن تكون جزءاً من القياسات المخفية ذات المقدمات المخفية، فإذن من أغراض فسلفة علم الأصول تحديد فرضيات هذا العلم وتوضيحها.
السبب الرابع: إيجاد إدراك وفهم عام وشامل لعلم الأصول: هناك نتائج مختلفة لكل من الإدراك الكلي والإدراك الجزئي، كثيراً ما يقدم الإدراك الجزئي عمقاً للمسألة الفلانية أو المجال الفلاني، ولكنه لا يوجد عند المدرِك إتقاناً وفهماً كاملا لجميع العلم، ولا يمكنه أن يصنع انسجاماً وتناغماً في معارفنا ومعلوماتنا حول ذاك المجال،
وهذا يشبه أن تسير يوماً في أزقة إحدى المدن، وتشاهد ما فيها من أبنية وشوارع وشجر، وأحياناً تكون بعيداً عن المدينة وتنظر إلى خريطتها من الأعلى، الشخص الذي يسير في الأزقة لن يفهم أبداً كيفية تخطيط شوارعها وتموضع أحيائها، ولن يعلم مساحة المدينة أصغيرة هي أم كبيرة، ولن يعلم ما يجاورها من مدن ومناطق، وطالما أننا لم نخرج من المدينة، ولم ننظر إليها هذه النظرة العامة فلن نظفر بتلك المعارف والمعلومات.
نعم من الأمور التي تؤخذ علينا أننا غُصنَا بعمق ودقة في دراسة المسائل، ومن هذه الناحية أنتجنا علماء ومتخصصين بارزين؛ سواء في الفقه أو في الأصول، ولكن لأننا لم ندرس فلسفة هذه العلوم افتقدنا إلى النظرة العامة والشمولية والمنسجمة لها، وعليه ترانا نقدّم تعاريف مبهمة ومشككة للهوية العامة لهذه العلوم، طلبة العلوم الدينية يدرسون حوالي أربعة آلاف ساعة من الأصول، ولكن إذا ما طرحنا عليهم بعض الأسئلة العامة نجد أنّ كثيراً منهم لا يمكنهم تقديم أجوبة وافية،
ومن هذه الأسئلة ما هو الفرق بين أصول الفقه والفلسفة؟ وما هو هدف هذا العلم؟ وما هي أهميته؟ نعم نراهم لا يجيبون بالشكل المطلوب، ونجد هناك أزمة هوية علمية تجاه علم الأصول، وسبب جميع ذلك عدم وجود النظرة الشمولية لدينا تجاه هذا العلم، وبسبب اكتفائنا بالغوص في جزئياته ودقائقه والتعمّق فيها.
ويعتبر كتاب “حلقات الشهيد الصدر” واحداً من أفضل الكتب في أصول الفقه؛ إذ حاول الشهيد الصدر أن يكون له رؤيته الفلسفية العلمية، وأن يضع في أول الكتاب “مبادئ العمل”، ويوضّح المقدمات بالشكل المطلوب، كما سعى لأن يقدم نظرة عامة وشمولية،
ففي الجزء الأول من هذا الكتاب (الحلقة الأولى) يبدأ بمقدمة من حوالي ثماني صفحات تحدث فيها حول ماهية علم الأصول، وما هي وظيفته، وهل هو جائز أم لا، وهل يمثّل منطقاً للفقه أم شيئاً آخر؟
فهذه الأمور مضافاً إلى تسلسل الأبحاث وانسجامها في الكتاب كان سبباً لأن يقول أكثر من درسوه: “الآن فقط أدركنا كليات علم الأصول وماهيته”.
حتى لو درست كتابي الرسائل والكفاية، فعندما تدرس الحلقة الثانية من كتاب الشهيد الصدر حينها فقط تدرك المعنى العام للأصول، وأحد أسباب هذا الأمر النظرة العامة والمنسجمة والمنظمة التي يتصف بها هذا الكتاب، مما يسمح للطالب بتكوين تصور عام لعلم الأصول، ويمكِّنَهُ من إنشاء رابطة بين أركانه وأجزائه البنيوية، ويفهم أكثر مزاياه ووظائفه ومجال عمله، وعلاقته مع بقية العلوم.
وهذا يؤكد ما أسلفت ذكره من ضرورة امتلاك تصور عام وكامل عن علم الأصول، وعن ماهيته وأغراضه وأهدافه، ومن أين نبدأ وإلى نذهب عبر هذا العلم، وأن نحدد الطريق بشكل دقيق وصحيح، وإلا ربما يسبب جهلنا بطبيعة هذا العلم، وعدم وجود تعريف صحيح وكامل له إلى ضعف الباعث على دراسته وتحصيله.
وكلما تقدمنا إلى الأمام سوف تصبح دوافعنا أضعف وأضعف، ولكنّ هذه النظرة الشمولية يمكن أن تساعدنا، ويمكن أن توجد فينا الباعث والدافع لدراسة علم الأصول من أوله إلى آخره، وبطبيعة الحال هذا الأمر يصدق على بقية العلوم، فلسفة الفقه بالنسبة إلى الفقه، وفلسفة الكيمياء بالنسبة إلى الكيمياء… ونحن لأننا ما زلنا نفتقد لتلك النظرة الكلية العامة فمن الممكن ألا ندرك أهمية علم الأصول ومكانته وعظمته، ويمكن ألا ندرك جاذبيته ونقاط القوة فيه وإمكانياته، ولذلك لن توجد في أنفسنا البواعث الكافية لدراسته دراسة وافية وكاملة.
السبب الخامس: مسألة توسعة وتكميل علم الأصول.
لا شك أنّ كلّ علم يجب أن يتطور ويتكامل، ولكن ما هي الجهة التي ينبغي أن يتحرك وفقها؟
البعض يقول بأنّ بعض مباحث علم الأصول زائدة ولا حاجة لها؛ فيجب أن تُحذف وتُلغى،
والبعض الآخر يقول: علم الأصول اليوم يفتقر إلى أبحاث جديدة، وفضيلة الشيخ “عليدوست” قال مراراً أننا نحتاج إلى دفتر ثان لعلم الأصول، والموجود حالياً فيه نقص، ويجب دراسة مسائل جديدة لم تدرس إلى اليوم.
ولكن أيّ الرأيين هو الصواب؟ إذا ما أردنا إكمال علم الأصول وتطويره فعلينا بالتزامن مع ذلك أن نحذف المسائل التي تكون فعلاً زائدة وغير مفيدة، وأن نكّمل الأبحاث الناقصة،
وعليه أقول أنّ علم الأصول يواجه خطراً من جهتين، وإنقاذه من كلا الجهتين يتطلب عملاً جاداً في فلسفة هذا العلم، والخطران هما خطر التضخم غير المفيد، وخطر الانحلال والزّوال.
ومن المختصين من يقول: خلافاً لما يقوله بعض طلبة العلوم الدينية من أنّ علم الأصول يتجه إلى التضخم، ويجب الحد من هذا الأمر فإنّ الأمر على العكس تماماً، وإذا ما استمر الوضع على ما هو عليه سوف نشهد انحلال علم الأصول وتفتته؛ فبعضه سيوكَل إلى فلسفة الفقه، وجزءٌ آخر منه إلى الفلسفة الأولى، وبعضه إلى علم المعرفة، وبعضه إلى فلسفة العلم المطلقة، وبعضه إلى فلسفة علم الأصول، وعليه يكون الخطر الذي يهدد علم الأصول هو خطر الاضمحلال والزوال، وليس خطر التضخم.
بالنسبة إلى الكتب الدراسية يمكن القول أنّها تضخمت بالتدريج خلال المئة سنة الأخيرة، ولكن هل يعني ذلك أنّ علم الأصول قد أصابه بحق مثل هذا التضخم؟
عندما لا يكون مجال عمل علم الأصول محددا بدقة سوف يتعرض لتلك الإشكالات، ومردّ ذلك أنّ حدود علم الأصول مع غيره من العلوم غير واضحة،
فمثلاً عندما نقول مباحث الألفاظ، يقولون: هذه أبحاث لغوية، ولا علاقة لها بعلم الأصول، وعندما نتحدث عن المسائل العقلية، يقولون: هذه متعلقة بالفلسفة، ولا مكانة لها هنا، حتى أنّه قد قيل مؤخراً أنّ أبحاث الأصول العملية كالبراءة هي أبحاث فلسفية حقوقية.
وعليه يقولون أنّ علم الأصول مزيج من مسائل تنتمي إلى علوم أخرى، أي جميع ما تشير إليه كلمة “وغيره” من الأمور اللازمة للاستنباط، لأنّ المسائل اللازمة للاستنباط والمنتمية إلى علوم أخرى فهي بطبيعة الحال يجب أن تُدرس وتبحث في تلك العلوم،
ولكن ذلك لم يحصل لسبب ما، وعليه لا يكون لعلم الأصول هوية مستقلة، هو عبارة عن مزيج من المسائل المتعلقة بغيره من أفرع العلوم، فبعضها متعلق بالفلسفة، كمسألة الوجود الذهني والاعتباريّات، فهي لم تبحث بشكل جيد في الفلسفة؛ فقمنا نحن الأصوليون بتحقيقها ودراستها، ولأنّ علماء البلاغة والنحو والصرف لم يبحثوا جيداً حول “الحقيقة” و”المجاز” وأشباههما، ولم يبيّنوا جيدا مسألة الإطلاق والتقييد، لذلك تكفلنا نحن بهذه الأبحاث، وعليه عندما تؤدي جميع العلوم دورها ووظيفتها بشكل كامل سوف لن يكون لدينا شيء باسم علم الأصول.
والبعض الآخر يقول: لا الأمر ليس كذلك، ففي علم الأصول مسائل كثيرة غير علمية، وإذا ما كانت موجودة في علوم أخرى فهي ليست موجودة بمقدار وشكل حضورها في علم الأصول، هم يتصورون أنّ علم الأصول يتناول المسائل لأنها لم تبحث بشكل جيد في بقية العلوم، فمثلاً علماء الأصول دخلوا في مجال المسائل الفلسفية فكانت النتائج سيئة؛ فكان من الأفضل ألا يتناولوا هذه المسائل من البداية، وأن يوكلوا هذه الأبحاث إلى أهلها،
وأهل اللغة يقولون لعلماء الأصول أنتم لستم أهلا للدخول في الأبحاث اللغوية؛ لأنّ منهجكم عقلي محض، فاتركوها لنا، والحقوقيون يقولون: ليس للأصوليين التجربة الكافية في مجال وضع القوانين، وعليه لن تكون أصولهم العملية ذات نفع، وعليهم أن يوكّلوها لعلم فسلفة الحقوق.
وبهذا الشكل يتم تقديم علم الأصول كعلم منزوٍ ومحدود بعدد قليل من المسائل التي لن تُقدم بشكل علمي في إطارات يمكن الدفاع عنها، بل تجعل هذه النظرة من هذا العلم شبيها بالخيمياء وعلم الحروف والرمل والتنجيم، وغيرها من العلوم الغريبة، فالبعض يقول أنّ تعلم هذه العلوم فضيلة ولو أنّها قد لا تنفع أو لا تُستخدم.
إنّ الحكم على كلّ هذه الآراء والنظريات، ونقدها وتقييمها بالشكل الصحيح، يحوجنا إلى فلسفة علم الأصول، كما أنّ هذه الفلسفة تفيدنا في تحديد كيفية تطوير هذا العلم بحيث لا يتضخّم، ولا يضمحل أو يهمل ويترك، ولا يمتزج ويختلط بسائر العلوم، من الضروري أن نحدد مسائل علم الأصول، وما هو مجالها، وما هو المميز لنوع المسائل الأصولية.
وهنا أودّ أن أقدم المثال التالي:
مع وجود جميع هذه الامتزاجات المدعاة قال البعض في مقدمة علم الأصول وأثناء تعريفهم لهذا العلم: يجب أن نعرّف علم الأصول تعريفاً يمنع دخول المسائل غير الأصولية، وباعتبار أنّ مباحث الدلالة والألفاظ والوضع ليست أصولية فيجب أن تخرج من هذا العلم،
فلو فكّرنا في مسألة الأمر والنهي المنتمية إلى الدلالات العامة للغة، فمثل هذه المسألة لماذا يجب أن تبحث في علم الأصول؟ ما هو الشيء الذي ندرسه هنا حقيقة؟ هل نبحث فقط حول الحجج والأمارات والأدلة؟ وماذا عن الأصول العملية التي تمثّل بذاتها حكماً شرعياً؟
مثلاً يقدم كتاب “مناهج الأصول” تعريفاً لهذا العلم، ثمّ يقول: ربما يشكل على هذا التعريف أنّ مقتضاه ليس إخراج قواعد الفقه فحسب؛ بل سيعني إخراج الأصول العملية، وعلى رأسها الاستصحاب من هذا العلم، ومن ثم يقول: ما الذي سيحصل لو أخُرجت هذه الأبحاث؟
والإجابة: سنقوم بدراستها في علم الفقه، لقد درسناها إلى الآن لمدة سبعمئة سنة في الأصول، ومن اليوم فصاعداً ندرسها في الفقه. أريد أن أقول أنّها ليست مجرّد ادعاءات أو نقلاً للأقوال؛ لقد أثرّ تعريف علم الأصول على المحذوفات والإضافات العينية في الأصول.
وفي مقابل ذلك يقول البعض: لا يوجد أيّ مسألة مشتركة في علم الأصول، ومن اللافت قول الآخوند الخراساني عندما يتحدث حول المسألة المشتركة: “فيُعلَم وجود مشتركات مع العلوم الأخرى، ولا إشكال في ذلك”. أي أنّه في الحقيقة يقول: وجود تلك المسائل المشتركة مع الفلسفة لا يعني وجوب حذفها من علم الأصول.
ولكن أليس تمايز العلوم بالموضوعات؟ وإذا كان الأمر كذلك (وجود مشتركات بين علم الأصول والفلسفة) فالتمايز لن يكون أبداً بالموضوعات، بل سيكون بالغرض، وعليه وجود الموضوعات والمسائل المشتركة لن يؤدي إلى اضمحلال هوية علم الأصول.
وهنا نرى إلى أيّ مدى يمكن أن تصل الأمور، من أين تبدأ كلّ هذه الأبحاث؟ بعض المسائل مشتركة مع العلم الفلاني، وإذا لم نحذف هذه المسائل سوف نصل إلى القول بأنّ تمايز العلوم ليس بالموضوعات، فإن لم يكن كذلك، فنسأل ما هي موضوعات علم الأصول؟
لا يمكن أن نجدها، لأنّه مهما ذكرنا من موضوعات سوف تخرج عدد من المسائل، علم الأصول جامع لمسائل متشتتة، نحن لا نعرف ما هي؟ ولا نرى ضرورة لنعرفها، وكما يعبّر بعض الأصوليون بقولهم: عجز بعض الأصوليين عن إيجاد موضوع واحد.
بعض علماء الأصول لديهم رأي مختلف تماماً، فالمحقق الأصفهاني يقول: ليس هناك أي مسألة مشتركة بين علم الأصول وبين غيره من العلوم.
وماذا مثلا عن الأمر والنهي وغيرها الكثير؟ يقول: زوايا وجهات البحث فيها مختلفة ومتغايرة، ومن ثمّ أصلح هذا الرأي بنفسه ليقول: القول بأنّه توجد مشتركات ولكن جهة البحث مختلفة ينافي الصواب، فإذا لم يكن في ذات تلك المسألة حيثية مختلفة فلن نتمكن من اختيار حيثية بحث مغايرة، فيُعلم أنّه توجد حيثية مختلفة في نفس المسألة، وهي سبب جعل هذه المسألة في علم الأصول مختلفة عمّا هي عليه في الفلسفة مثلاً.
فإذاً وجود بعض الألفاظ المشتركة يجب ألا يجعلنا نعتقد أنّ المسألة واحدة، ومن ثمّ يقولون أنّ معنى الأمر في اللغة هو الأمر، ولكن من قال إننا في علم الأصول نبحث عن معنى الأمر؟
نحن في علم الأصول نسعى للوصول إلى معنى الأمر القابل للاستناد في استنباط الأحكام الشرعية، أي أنّه يجب أن يصل إلى درجة الاستظهار، وأن يكون هذا المعنى موافقاً للنصوص الشرعية، وألا يكون له مخالف في الأوامر الشرعية، وشتّان بين هذه المسألة وبين مسألة دلالة الأمر في اللغة، ولا يوجد أيّ ارتباط بينهما، ولا وجه اشتراك.
ومن ثمّ يستعرض المحقق عدداً من المسائل كأمثلة على ما يقال أنّها مسائل مشتركة بين أصول الفقه وسائر العلوم، ويقول: فإذن يثبت عدم وجود أيّ مسألة مشتركة.
جميع هذه الأبحاث تنضوي تحت فلسفة علم الأصول.
السبب السادس: تطوير المؤشرات النوعية والكيفية في علم الأصول، فتطوير العلم لا يكون كميا فقط؛ كأن نضيف في مسائله مثلاً، كما يقال مثلاً أنّه كان في الفلسفة إلى ما قبل الفارابي أربعون مسألة، وبعد ابن سينا وصل هذا العدد إلى مئتي مسألة، أو أنّ كُتب الأصول كانت في زمن السيد المرتضى أو زمن الشيخ الطوسي (رضوان الله تعالى عليهما) تساوي مجلدين (وفقا للكتابة المتعارفة اليوم)، ولكن حالياً لا يوجد كتب أصولية كاملة تقلّ عن ثماني مجلدات، هذا كلّه من باب التطور الكمّي، فماذا نقصد بالتطوير النوعي والكيفي للعلم؟ وما هو المقصود بمؤشرات التطور الكيفي؟ المقصود هو وثاقة واعتبار هذا العلم، فأساس مهمة علم الأصول أن يساعد في استنباط الأحكام المستندة إلى الشريعة.
فلسفة علم الأصول وماهيتها.. لماذا يجب أن ندرس أصول الفقه؟(1)/ الأستاذ إلهي الخراساني
فلسفة علم الأصول.. الفرق بين علم الأصول وفلسفة علم الأصول(2)/ الأستاذ إلهي الخراساني