الاجتهاد: حينما يستدعى الفقيه من قِبل السلطان؛ ليؤسِّس لقانون فقهي يتكفّل معاملات الناس وحلّ الخصومات بينهم، نرى أنّ فقه الدولة ينشط وتؤلّف الكتب المتسلسة في فقه المعاملات والقضاء وأمور الإدارات، وهذا ما لمسناه من عصر المحقِّق الكركي (رحمه الله) حين عاصر ملوك الدولة الصفويّة. بقلم: الشيخ علي الزبيدي
تطوَّر الفقه واتَّسع من حيث البيان والتدوين، واتّساع شمول كلِّياته لمصاديقه ومِلاكاته، وبعبارة أُخرى: أنّ هذا التطوُّر حدث بلحاظ دليل الكشف لا المنكشف؛ لأنّه مرتبط بواقع الحياة ارتباطاً وثيقاً، يعالج الوقائع والحوادث الداخلية والخارجية، وله ارتباط بأفعال المكلّفين التي تتغيَّر طبيعياً مع تغيُّر الزمن وتطوّر الحياة، فكان لزاماً على الاجتهاد أن يواكب هذا التغيّر والتطوُّر.
ولا يمكن لأيِّ باحث أن يغفل تأثير الظرف السياسي والاجتماعي على الاجتهاد سلباً أو إيجاباً، فخلال المدَّة الزمنية الممتدَّة منذ بداية ونشوء الاجتهاد حتى وصوله لدور الكمال والنضج، المتمثّل بعصرنا الحاضر، كان النتاج الفقهي ـ سواء على صعيد البحث أم التدوين أم المنهجة ـ متأثراً بشكل أو بآخر بما يُحيط به من ظروف وأحداث، حاله حال العلوم الأُخرى، إن لم يكن أكثر لارتباط الفقه والاجتهاد بحياة الناس فرداً أو جماعةً.
ومن أمثلة ذلك: حينما عاش المكلّفون في بيئة تعتمد على الآبار في سقي زروعها، ومرافق حياتها الأُخرى، نجد أنّ مسألة تطهير البئر تأخذ حيّزاً كبيراً ومساحة يعتدُّ بها في أفكار الفقهاء والمجتهدين وتدويناتهم وبحثهم، كما نلاحظ ذلك في كتاب الشرايع للمحقِّق الحلِّي (قدس سره).
وبتطوّر الزمن واعتماد الفقهاء على مبانٍ جديدة لم تكن عند من سبقهم، أو وسائل حديثة لكشف مواضيع الأحكام، نرى أنّ مسألة تطهير البئر انحسرت مساحة بحثها في تأليفات فقهائنا المعاصريـن، إن لم تنقرض.
وعندما يتعرّض المذهب للنقد من قِبل فقهاء الجمهور، ينبري فقهاؤنا للردِّ وكتابة المسائل الخلافية، فينشط الفقه المقارن في فترة من الفترات، بتأثير العامل البيئي أو الاجتماعي.
كما حصل للشيخ المفيد والمرتضى والطوسي، حيث عاشوا في بغداد مركز الخلافة آنذاك، وهي تعجّ بالفقهاء من كلّ المذاهب.
وحينما يستدعى الفقيه من قِبل السلطان؛ ليؤسِّس لقانون فقهي يتكفّل معاملات الناس وحلّ الخصومات بينهم، نرى أنّ فقه الدولة ينشط وتؤلّف الكتب المتسلسة في فقه المعاملات والقضاء وأمور الإدارات، وهذا ما لمسناه من عصر المحقِّق الكركي (رحمه الله) حين عاصر ملوك الدولة الصفويّة.
وعندما كان الفقه الإمامي يعيش حالة العزلة للظروف السياسية، التي اقتضت أن تعيش الطائفة الشيعية في كفّة الخطِّ المعارض للسياسات الحاكمة الجائرة، نرى أنّ البحوث الفقهية والمسائل الاجتهادية تضيق فتنصبُّ على فعل المكلّف، وتنظر من لحاظه، وتسير حسب الحاجة التي يبتلي بها المكلّف،
بينما نراها تتَّسع لتنظر من منظار أوسع هو حاجة المجتمع لا المكلف منفرداً، حينما تقوم للدين دولة وتتبلور حاجة المجتمع لتنظيم علاقاته وبيان كيفية تعامل الفرد مع الدولة، وهذا ما رأيناه في زمننا عند قيام الدولة الإسلامية المباركة في إيران.
فلا يمكن لأحد أن ينفي تأثير الظروف السياسية والاجتماعية على سير حركة الاجتهاد ونتاجها، فالفقه والفقهاء لا يمكن أن يعيشوا بمعزل عن ما يُحيط بهم من ظروف.
وإلى الآن تمثُل في الذاكرة تلك المواقف المشرقة، التي اتَّخذها فقهاء الطائفة بوجه الحكومات الاستعمارية والمستبدَّة.
لقد تصدَّى الفقهاء لمواجهة الحضارة الغربية ومعطياتها، التي بدأت تغزو العالم الإسلامي، وتستعمر بلاد المسلمين، وتسيطر على ثرواتهم ونفوسهم، وتفسد أنظمتهم وحكوماتهم، فكان لابدَّ للفكر الديني والفقهي أن يواجه هذا المدَّ الحضاري الكافر، وأن ينفتح على قضايا ومشاكل جديدة فكريَّة وقانونية، وسياسية بدأت تدخل بلاد الإسلام، فيُعطي فيها موقفاً شرعياً واضحاً، وعلاجاً عملياً مقنعاً.
وقد تصدَّى جملة من الفقهاء العظام في هذا العصر لأداء هذا الدور الرسالي , فظهرت دراسات علمية ومؤلَّفات معمَّقة وبديعة، في الاقتصاد الإسلامي، والفلسفة الإسلامية والفقه السياسي، ونظرية الحكم في الإسلام وغير ذلك.
كما صدرت ممارسات ميدانية من قِبل المرجعية الدينية للتصدِّي للكفَّار، ومواجهة النفوذ الاستعماري الغربي، وتعبئة طاقات الأمّة ضدَّ المستعمرين، كما نجد ذلك في فتوى الميرزا الشيرازي الكبير بتحريم التنباك ضدَّ مطامح الاستعمار البريطاني في إيران في العهد القاجاري ,
ونجده أيضاً في فتوى الشيخ محمّد تقي الشيرازي (قدس سره) ـ تلميذ الميرزا الكبير ـ بالجهاد في العراق ضدَّ الاحتلال البريطاني، والذي اشترك فيه الفقهاء مع الشعب في الجهاد ضدَّ الانجليز، وموقف المحقِّق الخراساني والميرزا النائيني (قدس سره)، وأفكارهم ضدَّ الاستبداد القاجاري، وطرح نظرية الحكم الدستوري الشرعي.
وكان آخر حلقات هذه الجهود الفقهية والسياسية المباركة، موقف المرجعية العُليا في إيران، وعلى رأسهم السيد الإمام الخميني (قدس سره) من الحكم البهلوي الغاشم، العميل للشيطان الأكبر أمريكا، حيث استطاع الإمام أن يستنهض الأمّة ويعبّئ طاقاتها ضدَّه، حتى سقوطه وإقامة حكم إسلامي يعتمد النظرية الفقهية طبقاً لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) في الحكم وهي نظرية (ولاية الفقيه)، التي كان قد شرحها وهذَّبها وأوضح معالمها، في بحوثه الفقهية التي ألقاها على تلامذته في النجف الأشرف،
ثمّ وفّقه الله سبحانه وتعالى لتطبيقها وتجسيدها وإخراجها إلى النور في إيران الإسلام، فكانت الجمهورية الإسلامية اليوم وما فيها من دستور وقوانين، مستمدَّة من الفقه الإسلامي حصيلتها وثمرة من ثمرات فكر وجهاد هذا الإمام، الذي كان من أبرز فقهاء ومراجع هذا العصر الفقهي الزاهر (١) .
وخلاصة القول: إنّ للظروف الاجتماعية والسياسية أثراً كبيراً وواضحاً على حركة الاجتهاد، وعلى النتاج العلمي المنبثق عنها.
المصدر : كتاب تاريخ الاجتهاد ومناهجه ؛ للشيخ علي الزبيدي.