الاجتهاد: إن مصطلح فقه الأقليات قد تجاوز مرحلة التساؤل عن شرعيّته من عدمها؛ لأن المرحلة التي نعيشها انتقلت من لحظة بناء المصطلح إلى مرحلة الاجتهاد من داخله، وعليه لا ضَيْرَ في التفكير في ما بعد فقه الأقلِّيات، كما يوجد عندنا فقه نوعيّ عن فقه المرأة، وفقه الصلاة، وفقه المواريث، وغيرها. / الكاتب: د. العربي إدناصر
وتحلية مجموعة من المسائل الشرعية ونخبة من الاجتهادات الفقهية بلقبٍ معين الهَدَف منه جمع شتات مسائله، وحصر موادّه، في ما يتعلَّق به موضوعاً؛ للتدليل على أحكامه، ولتذليل النفاذ إلى مظانّه، تيسيراً لفهمه والإبداع فيه.
وهو ليس فقهاً مبتدعاً في الدين، غير مأصول على هداه؛ فقضايا الأقليات قديمةٌ بالجنس، حديثةٌ بالنوع، وقد كانت إرهاصاته معروفةً في تاريخنا الفقهي ضمن اجتهادات الفقهاء، في إطار ما يسمّى بـ (منطقة الفراغ التشريعي)، التي ليس فيها سوابق حكمية، فولدوا فيها اجتهادات وفتاوى وأقضية، عُرفَتْ عقبها بـ (فقه أهل الذمّة ونوازل المستأمنين).
لكنّ تحلية فقه الأقلِّيات بوصفٍ زائد يعبِّر عن هموم جماعةٍ معينة بذاتها لتتقصّد جماعةً من المسلمين، ليكون العنوان دالاًّ ومخصوصاً بـ «فقه الأقلِّيات المسلمة»، فهذا الموضوع لم يتبلور في المدوَّنات الفقهية كنظريّةٍ فقهيّة وقانونية، كما هو موجودٌ في فقه المستأمنين والذمّيين، لاعتبارات تتعلّق بالوضع السياسي والحضاري الذي يعيشه المسلمون في العصور القديمة، قبل غزو التتار والحروب الصليبية وسقوط الأندلس، حيث كان المسلمون في منعةٍ من أمنهم واستقرارهم، فما كانوا يحتاجون إلى الإقامة في بلدٍ غير مسلمٍ؛ لأن كل بلدان المسلمين هي موطنٌ لهم بحكم آصرة العقيدة.
لكنْ بعد ذلك فالحاجة ماسّةٌ إلى تطويره وتأسيسه على قواعد قارّة ومتماسكة، تخرجه عن إطار الأحكام العُرْفية والظروف الاستثنائية، ليتحوّل إلى فقهٍ مميَّز ومستقلّ، يعبِّر عن حاجات جماعةٍ نموذجية.
فما هي معالم هذا الفقه النموذجي؟ وما هي آفاقه ومآلاته الاستراتيجية؟
هذا ما تُعنى به هذه الدراسة، ويمكن مراجعته على صفحات المجلّة.
ولماذا كلّ هذا الحرص على تأهيل فقه الأقلِّيات، وبنائه على أُسُس جديدة وغاية في التطوُّر؟
لأن فقه الأقليات هو الوجه الخارجي للفقه الإسلامي في علاقته مع محيطه، وهو التمرين العملي الذي يثبت مدى قدرة المسلم على التعايش مع مخالفيه، وعلى قدرته على بناء ذاته خارج أوطانه وبين أقرانه، وهو فقهٌ في مواجهةٍ مباشرة مع الطَّفْرة العلمية والتكنولوجية الغربية، ومع التقدُّم الحضاري الذي يفرض قَدْراً من الندِّية الفكرية والمنهجية.
وهو فوق ذلك دليلٌ عملي على عالمية الإسلام وشمولية رسالته، وتجلٍّ من تجلِّيات الخيرية، والإخراج للناس على منهج البرّ والمعروف والقسط؛ ليتلمَّس الغير رحمة الدين عن قربٍ، وينهلوا من دعوة الحق بين مواطنيهم، الذين يشاركونهم نفس الأرض ونفس القانون.
بما يعني أن هناك مهمّةً إدارية وفنِّية في انتظار هذه المجالس وخلايا البحث التابعة لها؛ لأن علوم الإدارة قد تطوّرت وصارت تعتمد التخطيط للحاضر والمستقبل، ولا بُدَّ أن يبنى التخطيط على فَهْمٍ وعلمٍ بعناصر القوة وعناصر الضعف في المجتمع، ومعرفة الفرص المتاحة والتهديدات المتوقَّعة.
وهي مجرّد قاعدة بيانات قبل وضع الهَدَف الكلّي، والأهداف التفصيلية، ثمّ الوسائل العملية المناسبة؛ ليأتي تنزيلها في أوقات زمنية وخطوات عملية وفي مراحل محدّدة، تعقبها المتابعة الميدانية والمراقبة المستمرّة. وبالموازاة مع هذا المخطَّط ترصد ميزانية مالية كفيلة بتنفيذه. ويوضع هذا البرنامج كلّه تحت تصرُّف الخبراء الأكفاء في مختلف التخصُّصات العلمية.
المصدر: العدد (60 – 59) من مجلة الاجتهاد والتجديد
تحميل العدد