الدكتور مبلغي في ندوة حول الاقليات الدينية في المجتمعات الاسلامية، في طوكيو: لسنا موظفين من ناحية الاسلام على تكوين مجتمعات دينية او مجتمعا أديانيا فقط، بل حتى علينا ان ننشئ المجتمع الانساني.
معالجة مشكلة العنف الديني عبر اعادة الهوية الاجتماعية من منطلق الدين
ركز الاسلام على انشاء وقبول مجتمعات اربعة وهويات اربعة
موقع الاجتهاد: شارك سماحة الدكتور أحمد مبلغي، رئيس جامعة المذاهب الإسلامي في ندوة حول الاقليات الدينية في المجتمعات الاسلامية، التي انعقدت في يابان/ طوكيو بتاريخ 12 و13 / مايو / 2016.
وألقى سماحته كلمة في جلسة الافتتاح، واليكم نص الكلمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
نحن اجتمعنا في هذه الندوة بهدف الحصول على سبل الارتقاء بوضع ومكانة اتباع الأديان. والحلول في ذلك على اقسام ثلاثة:
أ) الحلول الفكرية والمعرفية:
ونحن في هذا المجال بحاجة ماسة للتنظير من منطلق الدين ومن منطلق المشتركات التي تتفق عليها الديانات المختلفة.
ب) الحلول الثقافية
ج) الحلول الحقوقية
وبحثي يرتبط بالمجال الفكري والتنظيري. اقتراحي هو ان ننظر الى الموضوع (أي: مشكلة العنف الديني من جانب اتباع بعض الاديان تجاه أتباع البعض الآخر) من زاوية التركيز التحليلي الاجتماعي للهوية الاجتماعية.
وبداية اقول: نحن نعاني من فقدان رؤية مضبوطة ودقيقة في التعريف بنسبة وعلاقة الهوية الاجتماعية بالدين.
والحقيقة ان الممارسين للعنف المذهبي بالنسبة لاتباع الأديان الأخرى والمهملين لحقوقهم يندفعون الى هذا التعدي الظالم من هوية اجتماعية طائفية تكونت لهم كهوية دينية.
والذي علينا ان نعيد نظرتنا الى “العلاقة القائمة للهوية الاجتماعية مع الدين” بنظرة تحليلية وتنظيرية، وذلك يتطلب ان نتوسع من البحوث حول “الهويات المنبثقة من الدين”.
ومن الطريف ان المجال لذلك خصب وواسع، فان الاسلام لو رجع اليه من هذه الزاوية فهو يعطينا مفاهيم اساسية يمكن على اساسها انشاء هويات اجتماعية دينية نشطة وقوية وبناءة تنتهي بالمجتمع الى ازالة هذه الهويات الطائفية، بل وحتى ازالة مجال بروزها.
لزوم تبني المجتمعات الاربعة:
ان من اللازم ان نعترف بمجتمعات اربعة.
هذا الاعتراف لا اريد القول بالقيام به خارج ديننا، بل الاسلام هو الذي تبنى هذه المجتمعات الاربعة، وطرحها ضمن تعاليمه الاجتماعية، وركز عليها تركيزا اجتماعيا أساسيا.
ونحن بسبب اهمالنا لهذه المجتمعات الاربعة فقد وقعنا في هذه المشاكل التي نشاهدها يوميا.
اولا: المجتمع الديني الخاص:
والمقصود من ذلك هو ما يتبلور ويظهر في التمذهب في تفسير الدين والأخذ به، فلكل قوم مذهبه.
وكما هو معلوم فان كل دين يحتوي على مذاهب واتجاهات، فللمسيحية -مثلا- المذهب الكاثوليكي والمذهب الارثوذكسي ومذاهب أخرى، كما أن للإسلام مذاهب وأهمها: المذهب السني والمذهب الشيعي.
وهذه المذاهب عندما كان لها واقع خارجي وأتباع، تنبثق من كل منها هوية اجتماعية خاصة، فللشيعة مجتمعها وهويتها وللسنة مجتمعها وهويتها؛ لا يمكن اهمال هذه الهويات او مكافحة هذه المجتمعات، ولا باس بذلك، وانما المشكلة ان هذه الهويات المذهبية قد تظهر كهويات طائفية، وسببه اننا اكتفينا بهذه المجتمعات الخاصة الدينية وتركنا المجتمعات الثلاثة الأخر.
ثانيا: المجتمع الديني العام:
ان المجتمع الديني العام هو ذلك المجتمع الذي يغطي مذاهب مختلفة، ويتضمن أناسا تكون كل مجموعة منها يتعلق بمذهب خاص، فالمسيحية التي تتضمن مذاهب مختلفة تنشأ وتحدث مجتمعا دينيا عاما، فكل مسيحي سواء أن انتحل هذا المذهب منها او ذاك المذهب الثاني او الثالث، يمتلك هوية دينية مسيحية، هذه الهوية الدينية المسيحية العامة لو لم تكن فسوف تتحول العلاقات بين المذاهب المسيحية الى صراعات كما كان في عهد، والاسلام كان هكذا، فانه لابد ان يتحقق مجتمع عام اسلامي اسمه الامة الاسلامية تحتوي على مجموعات مختلفة ذات مذاهب متفاوتة تمتلك هذه المجموعات هوية واحدة اسلامية عامة هي قوية في ظهوراتها وأداءاتها. والمشكلة عندنا المسلمين اننا نفقد هذه الهوية الاسلامية العامة، والطائفية تحصل وتنطلق من حصر الهوية الدينية في الهوية الدينية الخاصة، فأصبح كل (او اناس من كل) ضد الآخر وأصبح ينفي الآخر.
ولو نأتي وننشئ الى جانب هوياتنا المذهبية، هوية اسلامية تحضر في أعماق وجودنا فسوف يتمتع المجتمع الاسلامي بكل من يتعلق به بتغطية عامة تنتج بشكل دايم حالة احساسية جميلة، هي تجمع الكل.
وهذه الهوية الواحدة هي التي اراد انشاءها نبينا (ص) وأصر عليها وهي اول اداء لها انها تستوعب الهويات المذهبية فتجعلها في اتجاه حسن وايجابي وتكوين علاقات تعايشية فيما بينها.
والاسف الشديد اننا نفقد هذا الاحساس بالهوية الدينية العامة الاسلامية، فنحن أصبحنا نركز تركيزا تاما على الانتماءات المذهبية مصحوبة بالإهمال الشديد للإسلام الذي يغطي هذه المذاهب، فآل الامر بنا الى هذا الوضع الذي نشاهده، والطائفية قد نشأت في هذا الفراغ العظيم.
وهنا جدير ان أؤكد على ان وجود الامة الاسلامية ليس فقط ينفع الامة، بل ينفع البشرية، وان حدوث الازمة في هذه الامة ليست فقط تضر الامة بل تضر البشرية. فظهور الاحساس بالهوية الاسلامية في كل مسلم، مسلم يخدم مشروع بناء العلاقات السليمة بين الديانات الالهية.
فالإسلام لا يريد بناء علاقات سليمة بين المسلمين كأمة كي يحدث عبر ذلك حدوث مشاكل للأمم اتباع الديانات الاخرى، فان هذا الاسلام الذي ينادي بضرورة ايجاد الامة الاسلامية نفس الاسلام الذي يقول بان الاختلاف الاممي اختلاف للتعارف لا للتنازع.
ثالثا: المجتمع الادياني:
وهذا المجتمع هو أكبر نطاقا وأوسع دائرة من المجتمعات الدينية العامة (الاسلام والمسيحية و…) والمجتمع الأدياني يعني ذلك السقف الواسع الذي يعيش ويندرج تحته اتباع الاديان المتعددة.
وهذا المجتمع ليس فقط ينفع ان نطرح اسمه، ونكتفي بذكره، فان الاسم غير مجد، بل لابد ان يوجد ويتوفر في اتباع كل دين، احساس بأن الاديان الاخرى ايضا تشترك مع دينهم في المعنويات والاخلاق.
فالإسلام صحيح أصر على تكوين الامة الاسلامية ولكنه ايضا تبنى ان يحصل مجتمع كبير ادياني أطلق عليه اسم “ملة ابراهيم”.
وملة ابراهيم ليست فقط المسلمين، بل تشمل غيرهم من اتباع الاديان الابراهيمية.
لماذا ذكر القرآن المساجد الى جانب ذكره للصوامع والبيع؟
لماذا ورد في القرآن “قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم”؟
فان “تعالوا” يعني علينا ان نجتمع ونشكل سقفا كبيرا نعيش تحت هذا الغطاء العام يحتوي على المعنوية وعلى الدعاء وعلى البر وعلى ذكر الله وعلى الاخلاق وعلى الحسن وعلى وعلى … هذا كله يرتبط بكل الاديان، تعالوا الى كلمة سواء..
رابعا: المجتمع الانساني:
لسنا موظفين من ناحية الاسلام على تكوين مجتمعات دينية او مجتمعا أديانيا فقط، بل حتى علينا ان ننشئ المجتمع الانساني.
ان ضمير الانسان يعتقد بالله سبحانه. كل فرد انسان وله كرامته.
علينا ان نوجد هذا الاحساس في أنفسنا باننا انسان وغيرنا انسان، اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق. ولم يقل الامام علي بن ابي طالب (ع) هذا القول للمجاملة بل لمتابعة حقوق الانسان، فانه كان في مقام بيان الامر برعاية التعامل الصحيح مع الانسان سواء كان على دينك او على غير دينك.
ان المجتمع الانساني لو نفقده ونفقد الاحساس به فسوف نفقد تلك الفرصة السليمة الذاتية الداخلية التي تدفعنا ان نفقد فهم النصوص بصورة صحيحة.
لو نزيل في أنفسنا الرؤى الانسانية الفطرية فسوف تتحول طريقتنا لفهم الاسلام الى منهجية جافة قد تنتهي بنا الى العنف.
فقد ورد في القرآن ما يستفاد منه ان اسلوب ابراهيم هو كان تهيئة الاجواء لرجوع الانسان الى أنفسهم، فهو عندما فعل ذلك العمل فحدثت حالة الرجوع الى النفس، “فرجعوا الى أنفسهم”.
فالرجوع الى النفس يعني الرجوع الى ما يمتلكه الانسان من فطرة وانصاف وعقل.
فالذي يمتلكه الانسان مهم، ومعلوم ان الانسان يمتلك الانسانية ويمتلك حالة الاعظام للقتل والعنف و…
ان التوحيد يمر تحقيق الاعتقاد به وتثبيته في الحياة عبر الرجوع الى الداخل والى ما يمتلكه الانسان.
يقول القرآن: “ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين”.
ان هذه الآية غير واردة بالنسبة الى مجتمع اسلامي بحت، وايضا غير واردة بالنسبة الى مجتمع أدياني بحت، بل هذه الآية – كما يقول العلامة الطباطبائي- واردة بالنسبة الى مجتمع انساني، لان الآية لم تركز على دين خاص، حيث تقول لفسدت الارض والارض للكل ثم تقول ولكن الله ذو فضل على العالمين ولم تقل ذو فضل على المسلمين او المؤمنين بالأديان.
وكذلك الآية التي تقول “فطرة الله التي فطر الناس عليها ذلك الدين القيم”. فربطت بين الدين والفطرة.
ففي هذا الإطار الذي يركز عليه القرآن فهل يكون الصحيح ان نهمل الفطرة والتوجهات الفطرية الاخلاقية؟!