تحرير المجلة

كتاب “تحرير المجلة” للعلاّمة كاشف الغطاء .. دوافع التأليف ومساراته

الاجتهاد: إن من أفضل الشروح على كتاب «مجلة الأحكام العدلية»، هو كتاب «تحرير المجلة»، للعلاّمة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء؛ وذلك للأسباب التالية:

أوّلاً: لقد أضاف إلى الأصل ما ينيف على الثمانين قاعدة فقهية، وقد خلا كتاب «المجلة» منها جميعاً، في حين أن الكتاب يبقى ناقصاً من دونها.

ثانياً: لقد عمد سماحته إلى رفع نقصٍ آخر في كتاب «مجلة الأحكام»، ألا وهو بحث الأحوال الشخصية؛ حيث لم يرِدْ هذا البحث في هذا الكتاب (المجلة)، وهذا يُعدّ نقصاً كبيراً.

ومن هنا فقد عمد سماحته إلى استدراك هذا النقص، مع المحافظة على أسلوب ومنهج المؤلِّفين لكتاب المجلة، ولكنْ مع رفع النواقص تحت عنوان المجلد الخامس، والذي يشتمل على عناوين من قبيل: كتاب النكاح، والطلاق، والظهار، والإيلاء، واللِّعان، والدَّيْن، والوصيّة، والوَقْف.

/ بقلم: د. الشيخ محمد رحماني(*) ترجمة: وسيم حيدر

الهدف والدافع

بالالتفات إلى المكانة التي يتمتَّع بها كتاب «مجلة الأحكام العدلية»، واتساع دائرة نفوذه من ناحيةٍ، وعدم التفات المدوِّنين إلى أهمية فقه الإمامية من ناحيةٍ أخرى، فقد عمد سماحته ـ بسبب تحلِّيه بروح المصلح التقريبي ـ إلى إضافة آراء الإمامية الفقهية إلى هذا الكتاب. وقد ذكر في مقدّمة هذا الكتاب جانباً من الدوافع التي حملته على كتابة هذا الشرح، قائلاً: إن الغرض الرئيس والهامّ من وراء تدوين هذا الكتاب أمران:

أـ شرح كتاب «المجلة»، وحلّ بعض عُقَده ومعضلاته.

ب ـ بيان الموارد التي لا تنسجم مع فقه الإمامية.

ثمّ استطرد قائلاً: ربما ظهرت منزلة الفقه الجعفري من خلال تضاعيف هذا الكتاب من حيث:

1ـ المضامين العالية.

2ـ سعة المصادر.

3ـ كثرة الفروع.

4ـ قوّة الاستدلال.

5ـ تجذّر المباني.

6ـ الانسجام والتناغم مع العقل والعُرْف.

الإبداع في المحتوى

بالإضافة إلى إبداع سماحته في تبويب وهيكلة الأبحاث، فقد أبدع في مجال المحتويات والمضامين أيضاً. وإن من المسائل التي اعتبرها سماحته من جملة مختصّاته التي انفرد بها القاعدةَ الثالثة والثمانين، تحت عنوان: «ذوات الأسباب لا تحصل إلاّ بأسبابها». فهو يقول بأن الشارع؛ طبقاً للمصالح المشتركة، قد اعتبر أموراً من قبيل: الزوجية والملكية والرقّية، وقد جعل لأجل تحقُّق كلّ واحدٍ منها سبباً خاصّاً. فجعل لنقل وانتقال الملكية مثلاً عقد البيع والإجارة والصلح وما إلى ذلك، ومثل الحرّية المتسبِّبة عن صيغة العتق.

وعليه إذا أعلن المولى قائلاً: رفعت ملكيتي عن هذا العبد لن يغدو هذا العبد حرّاً، ويبقى على عبوديته إلى حين إجراء صيغة العتق، التي هي السبب الشرعي لتحقُّق الحرية. ثمّ قال: إن القاعدة المشهورة بين الفقهاء، والتي تقول بأن الإعراض يوجب زوال الملكية، وتكون سبباً في صحّة تملُّك الآخرين، ليست صحيحة، ولا تنسجم مع أيّ قاعدةٍ شرعية، ولم يقُمْ عليها أيّ دليلٍ شرعي.

أجل، لو التزمنا بالدلالة التَّبَعية دلّ الإعراض بالدلالة التَّبَعية على إباحة تصرّف الآخرين، وأما زوال ملكية المالك، وبالتالي ملكية الآخرين، فلا دليل عليها.

فإنْ قلتَ: إن قاعدة السلطة على الأموال تقتضي أن يتمكّن المالك من سلب ملكيته عن ماله، وحقيقة الإعراض سلبُ الملكية أيضاً.

قلتُ: صحيح أن الملكية نوع من السلطة، ولكنْ من غير المعقول أن تقتضي هذه السلطة إلغاء ذاتها؛ إذ يلزم من ذلك أن يكون وجود الشيء سبباً لعدمه.

وعلى أيّ حال فإنه ـ خلافاً لمشهور الفقهاء، الذين يقولون بأن الإعراض يستوجب زوال الملكية ـ لا يرى الإعراض موجباً لزوال الملكية، بَيْد أن الإعراض يدلّ بالدلالة التبعية على إباحة التصرُّف للآخرين. هذا إذا التزمنا بالدلالة التَّبَعية. ولكنْ يبقى الشيء على ملك المالك الأول، ولا يغدو ملكاً للمالك الآخر.

القواعد الفقهية

تقدّم أن ذكرنا أن من إبداعات العلاّمة كاشف الغطاء تخطيطه لبعض القواعد الفقهية. وقد تقدّم أنه أضاف ما يربو على الثمانين قاعدة فقهية إلى دائرة المعاملات في كتاب «مجلة الأحكام العدلية»، حيث أسقطها المؤلِّفون غفلة.

إن هذه القواعد وإنْ كان أكثرها موجوداً في الكتب الفقهية الشيعية، بَيْدَ أن أصل بعضها أو طريقة بيانها وصياغتها من إبداعات العلاّمة آل كاشف الغطاء. ومنها: قاعدة العدل، حيث قال في مقام بيانها والاستدلال عليها: تستفاد قاعدة العدل من الروايات الواردة في مورد الوديعة.

توضيح ذلك: دلَّت الرواية على أن شخصاً إذا أودع عند شخص درهمين، وأودعه شخصٌ آخر درهماً واحداً، واختلطت الدراهم، ثمّ تلف واحدٌ منها دون إفراط أو تفريط، ولم يتميَّز أن التالف من صاحب الدرهمين أو من صاحب الدرهم، قال الإمام عليّ×: «يعطى لصاحب الدرهمين درهمٌ ونصف، ولصاحب الدرهم نصف درهم»([1]).

وقد حمل الفقهاء الآخرون هذه الرواية على الصلح القهري؛ كي لا تقع مخالفة قطعية، بَيْد أن سماحته قد فهم من الرواية قاعدةً فقهيّة (قاعدة العدل)، وعمل على تعميمها من جهتين:

أـ التوسعة في كلّ موردٍ كان فيه مالٌ مردَّد بين شخصين أو أكثر، وتردَّد الواقع، ولم يكن هناك طريقٌ إلى تحديده.

إنْ قلتَ: نحدِّد الواقع من خلال القرعة، ولا يصل الأمر إلى تأسيس قاعدة العدل.

قلتُ: إن الكثير من الفقهاء لا يجرون القرعة في الحقوق والأموال.

ب ـ التوسعة حتّى بالنسبة إلى الموارد التي ليس لها مورد ترديد معين، كأن يكون الشخص وكيلاً لرجلين يطلبهما معاً، وقد أُعطي مالاً، ولم يعرف المعطي منهما. وقد اختلف الفقهاء هنا في رفع هذه المشكلة، وقال سماحته: الحقّ ـ لقاعدة العدل ـ أن يتمّ توزيع المال بين الدائنين. ثمّ قال: إن لهذه القاعدة في الفقه، وفي حقل الأموال وغير الأموال، الكثير من الأشباه والنظائر. ثمّ قال في الختام: إن الشاهد على هذه القاعدة الرواية النبويّة الواردة من طريق أهل السنّة، والتي جاء فيها: «أتاه رجلان يختصمان في بعيرٍ، وأقام كلّ واحدٍ شاهدين أنه له، فجعله بينهما»([2]).

لا إشكال في دلالة الرواية على القاعدة.

ومهما كان فإن قاعدة العدل ـ كما هو ملاحظٌ ـ لم تذكر في كلمات أيٍّ من الفقهاء السابقين لعصر كاشف الغطاء. وعلى فرض وجودها فإنها ليست بالتفصيل الذي ذكره العلاّمة الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء.

منزلة الاجتهاد ونقد انسداده وانفتاحه

قال كاشف الغطاء في مقام بيان منزلة الاجتهاد في الأمر الأول من مسائل المقدّمات: إن أهم مسألة يتعيّن على الجميع معرفتها هي أن إرادة الله ومشيئته قد تعلَّقت بخلق نوع الإنسان، وأعدّ له جميع سبل الرقيّ وتسلق مدارج الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة. ومن هذه السبل أنه خلق الإنسان، وخلق فيه غرائز، من قبيل: الشهوة والغضب من جهةٍ، كما أودع فيه الفطرة السليمة والسجايا الأخلاقية الفاضلة من جهةٍ أخرى.

وحيث إن الغرائز الحيوانية غالباً ما تتغلَّب على الفطرة كان الإنسان بحاجةٍ إلى القوة العاقلة؛ لكي يقيم من خلالها التوازن والاعتدال عند احتدام النزاع بين هذين النوعين من الصفات. ومن هنا فإن الله قد أفاض على الإنسان القوّة العاقلة، وعبَّر عن ذلك بقوله: ﴿نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ (الحجر: 29).

ومن جهةٍ أخرى حيث إن عقل الإنسان محدود، وغالباً ما يتأثَّر بأمور من قبيل: الغضب والشهوة والعواطف، فقد أدّى ذلك إلى ضرورة أن يبعث الله الأنبياء لهداية الناس من جهتين، وهما:

أـ تعريف الخير والشرّ، والسعادة والشقاء.

ب ـ إقامة التوازن والاعتدال بين الصفات والغرائز عند عجز العقل.

إن نتيجة بعثة الرسل قد أفضَتْ إلى ظهور الأديان السماوية، وكان آخرها وأكملها وأتمّها هو الدين الإسلامي الحنيف.

ولكي لا تزول الحجّة البالغة بعد رحيل رسول الله، ولكي يبقى كتاب الله وسنّته بين الأمّة الإسلامية، فيستنبط منهما العلماء المجتهدون أحكام المسائل والقضايا اليومية. وعليه كان الاجتهاد باب رحمة على العباد، ومن هنا كان باب هذا الاجتهاد ـ من وجهة نظر الإمامية ـ مفتوحاً منذ زمن رسول الله إلى يومنا هذا.

بَيْدَ أن كلاًّ من الشيعة والسنّة قد جنحوا في مسألة الاجتهاد نحو الإفراط أو التفريط؛ إذ قال السنّة بغلق باب الاجتهاد، مكتفين بالمذاهب الأربعة المعروفة، في حين أن الشيعة فتحوا باب الاجتهاد على مصراعَيْه([3])، بحيث أباح حتّى الجهلاء وغير الكَفُؤين لأنفسهم ادّعاء الاجتهاد، فأدّى ذلك إلى ضررٍ كبير على الإسلام والمسلمين.

وكما تلاحظون فإن كاشف الغطاء ينتقد هذا الإفراط والتفريط في فتح وغلق باب الاجتهاد بشدّةٍ، ويراه مضرّاً بالإسلام والمسلمين. وهو انتقادٌ في محلِّه، حيث نشاهد التبعات السيِّئة لهذا الإفراط والتفريط واضحاً وجليّاً في المجتمعات الإسلامية.

نظرةٌ جديدة إلى أغراض الأحكام وجامعية الإسلام

إن من إبداعات كاشف الغطاء بحثه في علل الأحكام وأهدافها. وقد صنف في ذلك الكتب، وله كلماتٌ رائعة في هذا الشأن، في مقدّمة كتاب «تحرير المجلة» أيضاً. ومن ذلك:

1ـ البيان العامّ: وقد رأى في هذا البيان أن غرض تشريع الأحكام الفرعية وفلسفتها في ثلاثة أمور على النحو التالي:

أـ الحفاظ على نظام المجتمع البشري.

ب ـ توثيق الصلة بين العبد وخالقه.

ج ـ إقامة جسور التواصل والارتباط بين الإنسان وإخوته في الإنسانية.

2ـ البيان التفصيلي: وفي هذا البيان يتمّ تناول أغراض تشريع الأحكام الفرعية بتفصيلٍ أكبر. ومن باب المثال:

ـ تشريع العبادات: تنوير القلوب، وتربية الروح، وتهذيب الأخلاق، وترفُّع الإنسان عن الصفات الحيوانيّة، وبلوغ أعلى درجات سلّم الإنسانية.

ـ تشريع المعاملات: الحفاظ على النظام.

ـ تشريع الحدود والقصاص والديات: الحفاظ على النفوس.

ـ تشريع الجهاد: الحفاظ على الدين.

ـ تشريع حرمة المسكرات: المحافظة على العقل.

ـ تشريع حرمة الزنا واللواط وما إلى ذلك من الموبقات: حفظ الأنساب.

ـ تشريع حرمة الغصب والسرقة وقطع يد السارق: حفظ الأموال.

ـ تشريع حرمة الغيبة والقذف والبهتان: حفظ الأعراض.

ـ تشريع القضاء: قطع الخصومات والنزاعات.

إن هذه الموارد تمثِّل جانباً صغيراً من أحكام شريعة الإسلام وفلسفة التشريع، وأمثلةً عن أسرار وحكم الدين.

ثمّ قال: هل يمكن لك أن تعثر على دينٍ أكثر جامعية من الإسلام في الحفاظ على مصالح المجتمع والفرد، من خلال جعل الأحكام وتشريعها؟!

تبويب أحكام الفقه برؤيةٍ جديدة

إن للفقهاء آراء مختلفة بشأن هندسة الفقه وهيكلته وبنيته. وقد قال الشيخ كاشف الغطاء في هذا الشأن: «معرفة الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية». ثم أضاف قائلاً: إن هذا التعريف، بغضّ النظر عن سلامته من النقد والإشكال أو عدم سلامته من ذلك، يقدِّم لنا تصوُّراً إجمالياً عن علم الفقه.

وقال في مقام التفصيل:

أـ إن الأحكام الشرعية أحكام شرّعها الله تعالى من طريق رسولٍ ظاهري (النبيّ الأكرم|)، أو رسول باطني (العقل).

ب ـ إن الغرض من تشريع الأحكام أمور ثلاثة، وهي:

أوّلاً: الحفاظ على نظام المجتمع البشري.

وثانياً: توثيق الصلة بين العبد وخالقه.

وثالثاً: إقامة جسور التواصل والارتباط بين الإنسان وإخوته في الإنسانية.

ج ـ إن الأحكام الشرعية إمّا أن تتعلَّق بعملٍ نتيجته إقامة الارتباط بين الإنسان وخالقه، أو إقامة الارتباط ومدّ جسور التواصل بين أبناء الإنسانية أنفسهم.

أما المورد الأوّل فعبارةٌ عن ضابطة الأحكام العبادية التي تشمل جميع الأحكام العبادية، وبذلك يكون العمل مشتملاً على مصلحة تؤدّي إلى محبوبية العبد عند الله سبحانه. وهذا ينقسم إلى ثلاثة أنواع([4]):

الأوّل: العمل العبادي الذي تتوقَّف صحته على قصد القربة، وهذه هي العبادة بالمعنى الأخصّ، من قبيل: الصلاة والزكاة والحجّ وما إلى ذلك.

الثاني: العمل العبادي الذي يكون في ذاته راجحاً ومقرِّباً من الله، دون أن يتوقَّف على قصد القربة، وهذه هي العبادة بالمعنى الخاصّ، من قبيل: الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقضاء والشهادة وما إلى ذلك.

الثالث: العمل الذي لا تتوقّف صحّته على قصد القربة ـ كما هو الحال في النوع الأول ـ، ولا هو في ذاته راجحاً ومقرِّباً ـ كما هو الحال في النوع الثاني ـ، بل إذا تمّ قصد القربة كان هناك إمكانية لقصد التقرُّب به، وهذه هي العبادة بالمعنى الأعمّ، من قبيل: أيّ عمل يحتوي على الرجحان الديني أو الدنيوي، والذي إذا جاء به العبد بقصد القربة كان مصداقاً للعبادة.

والنوع الأول من العبادة ينقسم بدوره إلى ثلاثة أقسام أيضاً، وهي:

الأوّل: العبادة الجسدية البحتة، من قبيل: الصوم والصلاة والطهارة والاعتكاف.

الثاني: العبادة المالية الصِّرْفة، من قبيل: الزكاة والخمس والكفّارات.

الثالث: العبادات الجسدية والمالية، من قبيل: الحجّ والعمرة المفردة([5]).

والمورد الثاني، وهو الذي تكون نتيجته إقامة الارتباط بين الإنسان وبني جلدته، الغرضُ منه حفظ الأعراض. وإن أهمّ مصاديق الأعراض ثلاثة أمور،

وهي: الأموال؛ والأعراض؛ والأنفس.

أـ الأموال: والأحكام المتعلِّقة بالأموال لها صور؛ فإن تحصيل المال إما أن يكون بسبب قولي؛ أو بسبب فعلي.

أما الأول، وهو السبب القولي، فإنْ توقَّف على طرفين كان عقداً، ومورد العقد إذا كان مالاً من الطرفين سُمّي معاوضة، من قبيل: البيع والإجارة؛ وإنْ كان مالاً من طرفٍ واحد فقط، كان عقداً مجّانياً، من قبيل: الهبة والصدقة؛ وإنْ كان تحصيل المال قوليّاً، وتوقّف على طرفٍ واحد، كان اسمه إسقاطاً وإبراءً والتزاماً ابتدائياً.

وأما الثاني، وهو الذي لا يتوقّف تحصيل المال فيه على القول، فله صورتان:

الأولى: أن يكون سبب تحصيل المال عملاً اختيارياً، من قبيل: الحيازة والصيد وإحياء الموات.

الثانية: أن يكون سبب تحصيل المال عملاً قهرياً، من قبيل: الإرث والوصية والوقف الخاصّ والزكاة والخمس والنذر.

ومن الواضح أن تحصيل المال في جميع هذه الموارد لا يتوقَّف على القول، بل يحصل بشكلٍ تلقائي.

ب ـ الأعراض: والأحكام التي تتعلّق بالأعراض هي من قبيل: النكاح والطلاق والظهار وما إلى ذلك. ولم يُبْدِ سماحته مزيداً من التوضيح في ما يتعلَّق بالأعراض.

ج ـ النفوس: والأحكام التي تتعلَّق بالنفوس لها صورتان:

الأولى: فكّ أو تحرير نفس، من قبيل: عتق الرقبة.

الثانية: تدارك النفس، من قبيل: الديات والقصاص والحدود([6]).

وقال سماحته في ختام هذا التبويب: حيث إن كلّ واحدٍ من هذه الوسائل يستتبع معاشرة، والمعاشرة تؤدّي أحياناً إلى الخصومة، عمد الشارع المقدَّس إلى تشريع القضاء؛ لرفع هذه الخصومة.

ومن الواضح أن هذا النوع من تبويبات وتقسيمات الأحكام الفقهية من مبتكرات وإبداعات الشيخ كاشف الغطاء. وبعبارةٍ أخرى: في مقام هندسة وهيكلة الفقه، وبعد بيان التقسيم المشهور القائم على التقسيم الرباعي: المبادئ والمعاملات والإيقاعات والأحكام، قال: العقد على قسمين:

أـ العقد الإذني المجّاني: من قبيل: الوكالة والعارية والوديعة والهبة وما شاكل ذلك. وإن إطلاق عنوان العقد على كلّ واحد من هذه الموارد طبقاً للمصطلح الفقهي صحيح؛ لكونه متقوِّماً بطرفين، وإلاّ فإن إطلاق العقد عليه من زاوية الشرع واللغة مشكل، ومن هنا لا يشمله إطلاق ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة: 1)؛ لأنه يقتصر على العقود التي يكون من طبعها الجواز وعدم اللزوم.

ب ـ العقد الالتزامي، وهو على قسمين:

الأوّل: العقد الالتزامي، وهو الذي يكون حصول أثره في تقديرٍ خاصّ، من قبيل: المزارعة والمساقاة والمضاربة والسبق والرماية والجعالة.

الثاني: العقد الالتزامي التحقُّقي، وهو الذي يكون فيه حصول الأثر منجَّز وفعليّ، من قبيل: البيع والإجارة.

إن بعض العقود يكون إذنياً من ناحيةٍ، والتزامياً من ناحيةٍ أخرى، من قبيل: الإجارة. فحيث يكون المستأجر مالكاً لمنفعة العين المستأجرة تكون على نحو الإلزام والالتزام، وحيث يقبض المستأجر العين، وتكون له الولاية عليها، تكون إذنيّة؛ لأن العين المستأجرة أمانة بيد المستأجر([7]).

تدوين قانون الفقه

يمكن القول: إن فقه الشيعة ـ رغم ثرائه ـ ظلّ مهجوراً في العصور الماضية، وخارجاً عن دائرة التطبيق، إلاّ في الحوزات العلمية والحلقات التنظيرية، وفي هامشٍ ضيّق من العبادات التي كانت تبيَّن للناس من قبل الفقهاء على مستوى الرسائل العملية.

بَيْدَ أنه بعد تدوين كتاب «تحرير المجلة»، وطرح الأبحاث الفقهية في قالب جديد، وعلى شكل مواد قانونية، نُفخت في جسد الفقه المسجّى روحٌ جديدة، وأدخل الفقه في مرافق المجتمع وأروقة المحاكم القضائية، ومنحه شكلاً مجدياً وحيوياً وقادراً على إدارة المجتمع والدولة، وقرَّب الفقه النظري ـ الذي عبّر عنه الإمام الخميني& بأنه يواكب حياة الإنسان من المهد إلى اللحد ـ خطوةً من التطبيق العملي.

إن إبداع الشيخ كاشف الغطاء لم يقتصر على أبواب المعاملات بالمعنى الأعمّ ـ الذي عمد مؤلِّفو مجلة الأحكام العدلية إلى تبويب مسائله على شكل المواد القانونية ـ، بل شمل حتّى مضامين الكتب الفقهية المتكفِّلة بمعالجة الأحوال الشخصية، من قبيل: كتب النكاح والطلاق والظهار والإيلاء واللعان والدَّيْن والوصيّة والوَقْف أيضاً، وبنفس الأسلوب، ولكنْ مع رفع النواقص، وذلك في إطار المجلَّد الخامس من تدوين الموسوعات الإسلامية.

الرؤية إلى الفقه في حدّه الأقصى (الشامل)

إن من الأسئلة التي تثار في العصر الراهن بشأن موقع وجدوائية الفقه: ما هي الحدود التي يتكفَّل الفقه فيها ببيان وظائف المكلَّفين؟ وبعبارةٍ أخرى: هل العلاقة القائمة بين الفقه وأفعال المكلَّفين وسلوكيّاتهم في مختلف الأبعاد تقتصر على الحدّ الأدنى فقط، أم تشمل الحدّ الأقصى أيضاً؟ يطرح هذا السؤال حالياً في المحافل العلمية، ويصرّ بعض المغتربين على تعريف الفقه في حدِّه الأدنى، واعتباره ناقصاً بالنسبة إلى إدارة المجتمع والدولة.

ذهب العلاّمة كاشف الغطاء إلى اختيار الشقّ الثاني، وقال في معرض ردِّه على المادة الثانية والثلاثين من المجلة، تحت عنوان «الحاجة تنزَّل منزلة الضرورة»: إن هذه المادة ليست صحيحة من ناحية الفقه الإمامي؛ لأن قاعدة لا ضرر وإنْ كانت ترفع الأحكام الواقعية إذا كانت ضرريّة، بَيْدَ أنها لا تشرِّع حكماً جديداً. وعليه إذا كان البيع ربوياً وحراماً فإن الضرورة سترفع الحرمة عن هذا الحكم التكليفي، ونتيجة لذلك ترتفع العقوبة، ولكنها لا تصحِّح المعاملة الباطلة. ثمّ قال: يقوم فقه الإمامية على قاعدة: حلال محمد حلالٌ إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرامٌ إلى يوم القيامة([8]). وإن الاضطرار لا يغيِّر الحكم الواقعي.

إن الفارق الجوهري بين فقه الشيعة وفقه أهل السنّة يكمن في أن الفقه الشيعي يقول: ما من واقعة إلاّ ولله فيها حكمٌ مجعول بالعنوان الخاصّ أو العامّ. وبعبارةٍ أخرى: إن رؤية الفقه إلى وظائف المكلَّف رؤية في الحدّ الأقصى (رؤية شاملة لجميع أبعاد الحياة).

وعليه فإن الواقعة لا تخلو إما أن يكون لها حكمٌ خاصّ؛ أو لم يَرِدْ فيها حكم خاصّ. وفي الحالة الثانية يستنبط حكمها من القواعد العامة المستفادة من الكتاب والسنّة والإجماع. وعليه يكون هناك حكمٌ فقهي لكلّ واقعةٍ يمكن أن تواجه المكلَّف في هذه الحياة. ولكنّ الفقه السنّي لجأ في مثل هذه الحالات إلى موارد القياس والاستحسان والمرجِّحات الظنية والمناسبات الزمنية؛ بغية استنباط حكم تلك الواقعة.

بَيْدَ أن هذه الأمور لا تعتبر حجّةً في فقه الإمامية. وإن عدم حجية هذه الموارد لا يستوجب تحديد الشريعة السهلة السمحاء؛ لأن باب الاجتهاد مفتوحٌ من وجهة نظرنا، وإن دائرة الاجتهاد والاستنباط لا تقتصر على الأحكام المنصوصة، مثل: حرمة الرِّبا والخمر فقط، وإنْ كان شرب الخمر يباح إذا توقَّف عليه العلاج، بَيْدَ أن هذا الجواز ليس حكماً عامّاً([9]).

الرؤية التطبيقيّة لبحث الشروط

إن من الأبحاث الهامّة والمحورية التي لها تطبيقات كثيرة في دائرة المعاملات بالمعنى الأعمّ، ويمكن حلّ الكثير من المشاكل والعقد العلمية والتنفيذية على المستوى الفردي والاجتماعي، بحث الشروط. ولذلك فقد أَوْلى الفقهاء أهمّيةً مضاعفة لهذا البحث.

وقد خاض العلامة آل كاشف الغطاء في هذه الأبحاث برؤيةٍ مختلفة عن سائر الفقهاء في موارد التبويب الحديث والناجع.

المورد الأوّل: قال في ذيل القاعدة الثامنة عشرة، تحت عنوان «الشرط جائز بين المسلمين، إلاّ ما أحلّ حراماً أو حرَّم حلالاً»([10])، وكذلك في ذيل القاعدة التاسعة عشرة، تحت عنوان «المؤمنون عند شروطهم، إلاّ ما خالف كتاب الله»([11])، قال في مقام بيان الشرط المخالف لكتاب الله، الذي هو من الأبحاث المعقَّدة، والتي وقع الخلاف فيها بين الفقهاء: ما هو المراد من الشرط المخالف لكتاب الله؟ هناك عدّة احتمالات:

أـ إن المراد من الذي يحرِّم حلال الله بمعنى التشريع، كأنْ يشترط إباحة الخمر في ضمن البيع.

ب ـ أن يكون المراد ارتكاب المحرَّمات وترك الواجبات، كأنْ يقول: اشرَبْ الخمر، أو اترُكْ الصلاة.

ثمّ يذكر أمثلةً، من قبيل: اشتراط عدم إرث الأولاد، واشتراط ترك الزواج من الأغيار، واشتراط عدم السفر، أو اشتراط عدم إخراج الزوجة من بيت والدها. ويطرح السؤال القائل: ما هو الشرط المخالف لكتاب الله منها؟ وما هو الملاك في المخالفة وعدم المخالفة؟

وقال في مقام حلّ الإشكال: إن للشرط في ضمن العقد أقساماً، وهي:

الأوّل: اشتراط ارتكاب محرّم من المحرَّمات الأعمّ من المحرّم الذاتي، مثل: شرب الخمر، أو المحرّم العرضي، من قبيل: مجامعة الزوجة أثناء الحيض. إن هذا النوع من الشروط باطلٌ؛ لأنه من مصاديق الشرط الذي يحلِّل حراماً، وهو بالتالي مخالفٌ لكتاب الله قطعاً.

ولكنْ هل يؤدي هذا الشرط الباطل إلى بطلان العقد أيضاً؟ وقع الخلاف بين الفقهاء. والصحيح هو القول بعدم بطلان العقد.

الثاني: اشتراط ترك مباحٍ من المباحات، من قبيل: اشتراط عدم طلاق الزوجة، أو عدم الزواج من الثانية، أو عدم السفر. ولهذا القسم صورتان:

الأولى: أن يكون متعلَّق الشرط هو ذات العمل، بغضّ النظر عن الحكم المعيّن الذي اشترط فيه فعل أو ترك المباح بما هو هو.

إن هذا النوع من الشروط لا إشكال في أنه ليس مصداقاً للشرط المخالف لكتاب الله، ولا إشكال في صحّته، وبالتالي فإن نتيجته أنّ فعل أو ترك المباح يغدو بالشرط لازماً.

الثانية: أن يكون متعلَّق الشرط الإتيان بالفعل أو تركه باعتبار الأحكام الشرعية ـ الأعمّ من الأحكام الوضعية أو التكليفية ـ، وبعبارةٍ أخرى: أن يكون الدافع إلى الشرط هو تغيير الحكم الشرعي، وليس مجرّد فعل أو ترك المباح. كأنْ يشترط حُرمة الزواج من المرأة الثانية. إنّ مثل هذا النوع من الشروط باطلٌ على غرار القسم الأول؛ لأنه مصداق للشرط المخالف لكتاب الله.

المورد الثاني: عمد سماحته في هامش القاعدة الرابعة والعشرين، تحت عنوان «كلّ عقد شرط فيه خلاف ما يقتضيه فهو باطلٌ»، إلى بيان الشرط المخالف لمقتضى العقد، والشرط غير المخالف لمقتضى العقد. وهو بحثٌ معقّد اختلفت فيه الآراء وتشابكت. وقال:

1ـ إن الشرط المنافي والمخالف لمقتضى العقد، والذي يكون باطلاً، ويُبْطِل العقد أيضاً، هو شرطٌ يُخالف جوهر العقد وحقيقته، كأن يشترط في ضمن عقد بيع الثوب عدم امتلاكه من قبل المشتري، أو أن يشترط في ضمن عقد إجارة البيت عدم تمكُّن المستأجِر من الانتفاع بالعين المستأجَرة، فإن هذا النوع من الشروط باطلٌ، ويُبْطِل العقد أيضاً؛ لرجوعه إلى ما يشبه التناقض، فهو في قوّة أن تقول في ضمن عقد واحد: «بعتُكَ البيت، ولم أبِعْه لك».

2ـ وأمّا إذا اشترط ترك بعض آثار الملكية، كأنْ يشترط في ضمن عقد البيع أن لا يبيع المبيع، مع الحفاظ على سائر آثار الملكية، أو أن يشترط في ضمن عقد الإجارة أن لا يعطي حقَّ الانتفاع بها إلى الآخرين، واقتصار الانتفاع على المستأجِر فقط، كان الشرط صحيحاً. وقد أدخل كاشف الغطاء هذا الأمر تحت ضابطةٍ، وقال: إن متعلَّق الشرط تارة يكون نفياً لمطلق السلطة، ففي مثل هذه الحالة يكون الشرط مخالفاً لحقيقة وجوهر العقد، ويكون الشرط باطلاً، وكذلك العقد أيضاً؛ وأحياناً يكون متعلَّق الشرط نفياً للسلطة المطلقة، بمعنى أن يكون المنفيّ هو جزء من السلطة، وفي مثل هذه الحالة يكون الشرط صحيحاً، وكذلك العقد أيضاً.

المورد الثالث: عمد الشيخ كاشف الغطاء في مقدّمة الكتاب إلى تقسيم بيع الشرط إلى: شرط تنجيزي؛ وشرط تعليقي.

إن الشرط التعليقي عند فقهاء الإمامية باطلٌ؛ لأن صحّة العقد مشروطة بالتنجيز، والتعليق ينافي التنجيز، إلاّ إذا كان التعليق صورياً، كأن يعلِّق العقد على أمر متحقّق، كأن يقول في وسط النهار: بعتُكَ بشرط أن يكون الوقت نهاراً.

وأما الشرط التنجيزي، فعلى قسمين:

1ـ الشرط الابتدائي.

2ـ الشرط التَّبَعي في ضمن العقد.

هناك إجماعٌ في فقه الإمامية على عدم وجوب الوفاء بالقسم الأوّل. وأما القسم الثاني، الذي هو التزامٌ في ضمن الالتزام، فله أقسام:

الأوّل: أن يكون الشرط مطابقاً لمقتضى العقد، كأنْ يكون مقتضى العقد أن يُسلِّم المبيع إلى المشتري عند تسليم الثمن، وعليه فإن اشتراط مقتضى العقد لم يكن سوى تأكيدٍ للعقد لا أكثر، وإنّ تخلُّف الشرط وإنْ أوجب خياراً، ولكنْ ليس له هذا الأثر هنا؛ لأن الخيار إنما هو نتيجة لأثر العقد، لا لتخلُّف الشرط.

الثاني: أن يكون الشرط مخالفاً لمقتضى العقد. وإنّ هذا النوع من الشروط باطلٌ ومبطلٌ أيضاً.

الثالث: أن يكون متعلَّق الشرط أموراً يقتضيها العقد، وليست مخالفة لمقتضى العقد، بل هي أمورٌ مباحة لا ربط لها بالعقد. وهي على قسمين أيضاً:

1ـ شرط الفعل: كأن يشترط في عقد ثمنه مؤجّل الرهن أو الكفالة، فلا شَكَّ في أن هذا النوع من الشروط صحيح، إلاّ إذا حرَّم حلالاً، أو حلَّل حراماً، أو كان مخالفاً للكتاب.

2ـ شرط النتيجة: كأن يشترط في ضمن البيع عتق عبده أو وقف داره. وهذا الشرط بناءً على أصحّ الأقوال صحيحٌ أيضاً.

المورد الرابع: إن من جملة مشاكل الفقه هو تشتُّت الأبحاث، وعدم خضوعها لقاعدة ثابتة، إلاّ في بعض الموارد الخاصّة.

بَيْدَ أن من إبداعات العلامة آل كاشف الغطاء، والتي هي ثمرة لتضلُّعه الكبير وهيمنته على الأبحاث الفقهية، وإدراكه العميق للفقه، وَضْعَه الأبحاث الفقهية المتناثرة والمتشتِّتة ضمن قاعدة وضابطة موحَّدة.

ومن باب المثال: إن موارد فقدان بعض شروط العقد التي توجب البطلان تختلف عن الموارد التي توجب خيار الفسخ، إلاّ أنه؛ ومن خلال إبداعه، تمّ بيان ضابطة لكلّ واحدٍ منهما، حيث قال سماحته في هذا الشأن: إن حقيقة البيع الذي هو مبادلة مال بمال من المفاهيم النسبية وذات الإضافة، ومن هنا فإنها تتقوَّم بطرفين، وإن هذين الطرفين هما الثمن والمثمن، وبعبارةٍ أخرى: العوض والمعوَّض، دون البائع والمشتري، على خلاف باب النكاح الذي يكون الطرفان فيه هما الزوج والزوجة، دون المهر وتوابع المهر.

وعلى هذا الأساس فإن العوض والمعوَّض والصيغة الدالّة على الالتزام في عقد البيع من أركان العقد. وبالتالي لو اختلّ في العقد شرطٌ من الشرائط الركنية كان العقد باطلاً، وأما إذا فقد شرط من الشرائط غير الركنية، مثل: البائع والمشتري، كان العقد صحيحاً، ولكنْ يكون هناك خيار الفسخ. وعليه تكون الشروط على قسمين: الشرائط الركنية، التي يؤدّي الخلل فيها إلى بطلان العقد؛ والشرائط غير الركنية، التي يؤدي الخلل فيها إلى خيار الفسخ، دون البطلان. وهذا التحليل بهذه الصيغة يجب اعتباره من إبداعاته التي انفرد بها، دون غيره.

الإبداع في تبويب البحوث

لقد بحث الفقهاء كثيراً من المسائل في المكاسب. ومن ذلك: ما إذا كانت الخيارات على الفور أو التراخي. وقد بحث الشيخ كاشف الغطاء الخيارات بمزيدٍ من التفصيل، حتّى استغرق بحث الخيارات ما يقرب من ثلث الكتاب. وقد قسَّم العلامة كاشف الغطاء مجموع الخيارات إلى ثلاثة أقسام:

أـ الخيارات المجعولة لذاتها على التراخي، من قبيل: خيار الحيوان، وخيار المجلس، وخيار تأخير ردّ الثمن أو المثمن، وأمثال ذلك.

ب ـ الخيارات المجعولة على الفَوْر، من قبيل: خيار الرؤية، طبقاً لمشهور الفقهاء.

ج ـ الخيارات التي تصلح أن تكون على الفَوْر، وعلى التراخي أيضاً، من قبيل: خيار الشرط.

وهناك من الخيارات ما اختلفت الآراء بشأنها بين الفقهاء؛ فمنهم مَنْ قال: إنها على الفَوْر؛ ومنهم مَنْ قال: إنها على التراخي، من قبيل: خيار العيب، وخيار الغبن. والمشهور هو القول الأوّل. ولا بُدَّ من تحقيق هذا البحث في موضعٍ آخر.
الإبداع في أبحاث الأصول

إن ابتكاراته وإبداعاته الجديدة لا تقتصر على علم الفقه فقط، وإنما تشمل العلوم الأخرى، ومنها: علم الأصول أيضاً. وإنّ من المسائل المحورية لعلم الأصول ما يلي: هل النهي في العبادات والمعاملات يوجب الفساد أم لا؟

عمد الأصوليون في مقام بيان الشقّ الثاني، أي النهي في المعاملات، إلى بيانه بشكلٍ عامّ، دون تشقيق ولا تفصيل. في حين أن العلامة آل كاشف الغطاء ـ خلافاً للمتقدِّمين ـ قد عمد إلى بيان مختلف صور المسألة، وقدَّم تقريراً مبْتَكَراً في هذا المجال.

وبعد أن قال: إن النهي في العبادة يوجب الفساد؛ لأن روح العبادة تعني قصد القربة، والنهي ينافي قصد القربة، قال: غير أن للنهي في المعاملات صوراً، وهي:

الأولى: النهي عن ذات المعاملة، من قبيل: قول رسول الله|: «لا تَبِعْ ما ليس عندك»([12]).

الثانية: أن يتعلَّق النهي بأركان البيع، من قبيل: قول الإمام×: «ثمن الكلب سُحْتٌ»([13]).

الثالثة: أن يكون متعلَّق النهي هو الأجزاء غير الركنيّة، من قبيل: النهي عن بيع غير البالغ.

الرابعة: أن يكون متعلَّق النهي هو الأوصاف اللازمة في العقد، من قبيل: النهي عن امتلاك الوالدين. ومن الواضح جدّاً أن الملكية، التي هي من الآثار التي لا تنفكّ عن البيع، هي التي تعلَّق النهي بها في هذه الصورة.

الخامسة: أن يكون متعلَّق النهي صفةً من الصفات غير اللازمة، من قبيل: النهي عن لزوم العقد الخياري. ومن الواضح جدّاً أن اللزوم من الصفات التي يمكن فصلها عن العقد.

السادسة: أن يكون متعلَّق النهي أمراً خارجاً عن البيع، من قبيل: النهي عن البيع عند النداء.

وقد عمد سماحته في بيان كلّ واحدةٍ من هذه الصور إلى القول:

إن الصورة الأولى توجب الفساد قطعاً. وأما الصورة السادسة فهي لا توجب الفساد قطعاً. وأما الصورة الرابعة فقد وقع الخلاف فيها، ويجب فيها ملاحظة لسان الدليل، لنرى ما إذا كان النهي يوجب الحرمة الوضعية ـ أي البطلان ـ، أو يوجب الحرمة التكليفية فقط؟ وقد ترك سماحته تفصيل البحث إلى موضعه.

أقسام البيع

وقد عمد سماحته ـ انطلاقاً من تلك الإبداعات في تبويب المسائل ـ إلى تقسيم البيع، من جهاتٍ عديدة، إلى أقسام مختلفة. وإن لهذا التبويب دوراً أساسياً في استيعاب المسائل.

التقسيم الأول: بلحاظ أن يكون العوضان من النقود أو لا. وهناك ثلاثة أقسام؛ لأن العوضين لا يخرجان من إحدى صور ثلاث، وهي:

1ـ أن يكون الثمن والمثمن من النقدين، من قبيل: بيع الذهب بالفضّة، وهو بيع الصَّرْف.

2ـ أن لا يكون الثمن والمثمن من النقدين، بل كلاهما من الأموال، وهو بيع المقايضة.

3ـ أن يكون أحدهما من النقدين، والآخر من العروض والأموال، وهو المسمّى بعقد البيع.

التقسيم الثاني: باعتبار أن يكون للعوضين مدّة أو لا يكون لهما مدّة. ولهذا القسم أربع صور؛ إذ لا تخلو المسألة من إحدى صور أربع:

1ـ أن يكونا حالّين (معجَّلين)، وهو المسمّى ببيع السَّلَم أو المعجَّل.

2ـ أن يكون الثمن معجَّلاً، والمثمن مؤجَّلاً، وهو المسمّى ببيع السَّلَم.

3ـ أن يكون الثمن مؤجَّلاً، والمثمن معجَّلاً (عكس الصورة الثانية)، وهو المسمّى ببيع النسيئة.

4ـ أن يكون لكلٍّ من الثمن والمثمن مدّة، بمعنى أن يكونا مؤجَّلين (عكس الصورة الأولى)، وهو المسمّى بالبيع الكلّي، أو بيع الكالي بالكالي. وبطبيعة الحال فإنه لا يختص ببيع الكلّي فقط، ويشمل حتّى الجزئي أيضاً.

التقسيم الثالث: بلحاظ أن يذكر البائع القابض للثمن مقدار السعر أو لا يذكره. وهو على أربعة أقسام أيضاً:

1ـ أن يذكر البائع مقدار رأس المال الذي اشترى به المبيع، وأن يبيعه بنفس ذلك المقدار، دون زيادةٍ أو نقصان، وهو المسمّى ببيع التولية.

2ـ أن يذكر البائع مقدار رأس المال الذي اشترى به المبيع، وأن يبيعه بزيادةٍ عليه، وهو المسمّى ببيع المرابحة.

3ـ أن يذكر البائع مقدار رأس المال الذي اشترى به المبيع، وأن يبيعه بنقيصةٍ، وهو المسمّى ببيع الوضيعة.

4ـ أن لا يذكر البائع مقدار رأس المال الذي اشترى به المبيع، وهو المسمّى ببيع المساومة.

ثمّ قال سماحته: هناك تقسيمات أخرى أيضاً، سنذكرها في محلِّها([14]).

ذكر الفقهاء أن من شرائط المبيع أن يكون معلوماً، بَيْدَ أنهم اكتفوا ببيان أن متعلَّق العلم هو مقدار المبيع أو صفاته، مستعرضين الأبحاث بشكلٍ عامّ.

أما العلامة آل كاشف الغطاء فقد عمد إلى التدقيق في هذا الشرط من مختلف الزوايا إجمالاً. وبعد أن استدلّ على وجوب أن يكون كلا العوضين معلوماً، بحيث ترتفع الجهالة الموجبة للغرر، قال: إن معلومية المبيع واجبة من خمس جهات، وهي:

1ـ الوجود: وعليه لا يقع الحمل في البطن أو اللبن في الضَّرْع مثمناً إذا كان وجوده مشكوكاً.

2ـ الحصول: وعليه إذا كانت السلطة على المال المعلوم مشكوكة لا يمكن أن يقع مثمناً. من قبيل: العبد الآبق، والمال الغارق، وتكون المعاملة باطلة.

3ـ الجنس: وعليه إذا لم يكن جنس المبيع معلوماً، وتردَّد بين أن يكون ذهباً أو حديداً، لا يقع البيع.

4ـ الوصف: وعليه إذا لم يعلم أن القمح أو الحنطة من النوع الجيِّد أو الرديء لا يقع البيع.

5ـ السلامة: ذهب الفقهاء إلى عدم اعتبار العلم بسلامة المبيع شرطاً في الصحّة، بل قالوا بصحة المعاملة حتّى مع الجهل بسلامة المبيع، ولكنْ إذا كان المبيع معيباً سيكون هناك في البين خيار العيب، خلافاً للأمور الخمسة الأخرى التي يكون كلّ واحد منها شرطاً في صحّة البيع.

لا شَكَّ في أن هذا التقسيم والتبويب من ابتكارات وإبداعات العلاّمة آل كاشف الغطاء.

نقد كتاب المجلة وشروحه

كما عمد سماحته إلى نقد كتاب المجلة في جميع مواضعه، ومن كافّة الجهات، ومن ذلك:

ـ إنه رأى تكراراً للمسائل في الكثير من الموارد، وقال بأن محتوى ومضمون العديد من المسائل واحد، ومنها: المواد التالية: 20، 21، 25، 26، 27، حيث يتمّ إرجاعها إلى المادة التاسعة عشرة. كما يرى المادة الثانية والثلاثين والمادة الثالثة والثلاثين مادة واحدة. ويرجع المواد 43 و44 و45 إلى المادة الثانية والأربعين، ويعتبر المادتين السادسة والسبعين والسابعة والسبعين مادة واحدة.

ـ وفي الكثير من الموارد نجده يعمد إلى نقد المواد من الناحية المضمونية، قائلاً: إن هذه المادة لا توافق فقه الإمامية، من قبيل: المادة الثانية والثلاثين (الحاجة تنزل منزلة الضرورة)، والمادة السادسة والثلاثين (العادة المحكمة)، بمعنى أن العادة ـ عامّة أو خاصّة ـ تجعل حكماً لإثبات حكم شرعي، والمادة الثانية والأربعين (العبرة للغالب الشائع)، والمادة الثالثة والستّين (ذكر ما لا يتجزّأ يذكر كلّه)، والمادة التاسعة والستّين (الكتاب كالخطاب).

ـ ويرى في الكثير من الموارد أن المواد الواردة فيها هي من قبيل شرح الاسم، ولو أن المؤلِّفين كانوا من العرب لما ذكروا هذه الموارد تحت عنوان المادّة، ومنها: المواد التالية: 133، 134، 135، 136 إلى المادة 162.

 

الهوامش

(*) أستاذٌ وباحثٌ في الحوزة العلمية. من إيران.

([1]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة، كتاب الصلح 12: 452، ح1.

([2]) رويت هذه الرواية في كنـز العمال 5: 827، عن الرسول الأكرم|، في باب الأقضية. ورُويت عن الإمام عليّ× أيضاً.

([3]) كتاب تحرير المجلّة: 114.

([4]) المصدر السابق: 121.

([5]) المصدر السابق: 293.

([6]) المصدر السابق: 121.

([7]) المصدر السابق: 296.

([8]) انظر: الكليني، الكافي 1: 58.

([9]) كتاب تحرير المجلّة: 150.

([10]) وسائل الشيعة 18: 211، ح17، 18.

([11]) المصدر السابق: 276، ح2.

([12]) المصدر السابق 17: 357، ح12؛ البيهقي، السنن الكبرى 5: 267.

([13])وسائل الشيعة 17: 118، ح5.

([14]) كتاب تحرير المجلّة: 313.

 

المصدر: نصوص معاصرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky