فتوى منع تكرار الحج والعمرة.. بين الشّيخ الغرياني والشیخ محمد الغزالي

لم تكن الفتوى التي أطلقها مفتي ليبيا الشّيخ الصّادق الغرياني؛ مفاجئة، من حيث الحكم الشّرعيّ في النّهي عن تكرار الحجّ والعمرة، فقد نقل مثلها عن كثيرين من السابقين والمعاصرين على حدٍّ سواء.

ولكن الفتوى كانت مفاجئة وبالغة الأهميّة من أوجه عدّة، منها: تعليلُ الحكم، وزاوية التّناول التي لم يتحدّث عنها أحد في هذا العصر قبلَ الشّيخ الغرياني فيما أعلم، وكذلك صدورها عن شخصيّة علميّة راسخة وقامة سامقة في العلم الشرعي؛ فالغرياني أحد أهمّ أعلام الفقه المالكي في هذا الزمان، إضافة إلى استقلاليّته وجرأته المعروفة عنه، وعدم قبوله الخضوع لأيّ نظام سياسيّ، وموقفه من قلب طرابلس مع بدايات الثّورة في ليبيا وإعلانه وجوب الثّورة على القذافي ونظامه بشكل لا مواربة فيه، يشهد له بذلك، ويقطع الطريق على أيّة محاولة للتشكيك في مواقف الرّجل وصدقها.

ولا تكتسب هذه الفتوى أهميّتها فقط من الأثر الاقتصادي الذي يمكن أن يتساءل البعض عن جدواه، وعن مدى تأثر النّظام السعودي بعدم دفع أموال الحجّ والعمرة له، وإنّما من الأثر السياسي والمعنوي الذي يكسر صنميّة حكّام آل سعود الذين يستمدّون شرعيّتهم السّياسيّة من دعوى خدمة الحرمين الشريفين، واختراق الهالة الموضوعة حول هذا النّظام من قبل كثير من العلماء والدّعاة، خشية منهم على أقدس مقدّسات المسلمين، كما يعلّلون بذلك صمتهم.

نعم، لقد صدرت فتاوى عديدة قديما وحديثا تدعو إلى عدم تكرار الحج والعمرة، ولكنّها في عمومها كانت معلّلة بأنَّ بذل المال في حوائج المسلمين وقضاياهم الضّروريّة من دعم للمقاومة ومساندة للمضطهدين وإغاثة للمنكوبين؛ أولى من بذلها في النّافلة من حجٍ ثانٍ أو عمرةٍ ثانية.

لكنّ هذه الفتوى، وإن كانت تتفق مع هذه الفتاوى من حيث الحكم، وهو الدّعوة إلى عدم تكرار الحجّ والعمرة، غير أنّها تفترق عنها في التّعليل. فالشّيخ الغرياني يطالب بعدم تكرار الحجّ والعمرة، ويقول إنّ الحجّ والعمرة الثّانية إثمهما أكبر من نفعهما، ويعلّل ذلك بقوله: حتى لا يدفع المسلمون هذه الأموال ويضعونها في جيوب حكام السّعوديّة ليقتلوا بها المسلمين في اليمن وفي ليبيا وفي مصر، وسيقتلونهم في السودان، وسيقتلونهم في الجزائر، وسيقتلونهم في تونس، وليس هناك بقعة في الأرض إلّا ويسعون فيها فسادا بأموالهم، على حدّ تعبير الشيخ الغرياني.

وهذه الفتوى بهذا التعليل لم يكن الشّيخ الغرياني هو أوّل من قال بها على الإطلاق، حتّى لا يأتي من يقول: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين.

فقد سبقه إلى هذه الفتوى الإمام أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدّين، حين يتحدّث عن الْآدَابِ الدقيقة والأعمال الباطنة المتعلّقة بالحجّ، ويسوق عشرة آداب، فيقول: “الثاني: أن لا يعاونَ أعداء الله سبحانه بتسليم المكس، وهم الصادّون عن المسجد الحرام من أمراء مكة والأعراب المترصدين في الطريق.

فإن تسليمَ المال إليهم إعانةٌ على الظّلم وتيسير لأسبابه عليهم، فهو كالإعانة بالنفس، فليتلطّف في حيلة الخلاص، فإن لم يقدر فقد قال بعض العلماء، ولا بأس بما قاله: إنّ تركَ التنفُّل بالحجّ والرّجوع عن الطّريق أفضلُ من إعانة الظّلَمة، فإنّ هذه بدعة أحدثت، وفي الانقياد لها ما يجعلها سنّة مطّردة وفيه ذلّ وصَغَار على المسلمين ببذل جزية.

ولا معنى لقول القائل: “إنّ ذلك يؤخذ مني وأنا مضطر؛ فإنه لو قعد في البيت أو رجع من الطّريق لم يؤخَذ منه شيء، بل ربما يظهر أسباب الترفه فتكثر مطالبته، فلو كان في زي الفقراء لم يطالب، فهو الذي ساق نفسه إلى حالة الاضطرار”.

وفي عبارات الإمام أبو حامد الغزالي اتفاقٌ كبيرٌ مع ما ذهب إليه الشّيخ الصّادق الغرياني، ويمكن إيجاز نقاط التّطابق والاتّفاق في:

أولا: حرمة إعانة الظّالمين من أمراء مكّة أي المسيطرين سياسيّا على الحرم بأيّ نوع من أنواع الإعانة الماليّة.

ثانيا: إعانتهم بالمال على ظلمهم مثل إعانتهم بالنّفس على إنفاذ الجور وإيقاع الظّلم.

ثالثا: ترك التنفّل بالحجّ والعمرة والعودة من الطريق مقدّمةٌ على دفع المال لهؤلاء الحكّام الظّلمة، مقابل حجّ وعمرة النّافلة.

على أنَّ فتوى الإمام الغزالي احتوت على معاني إضافية لم يقلها الشّيخ الغرياني، وهي:

أولا: من استطاع التّلطف بحيلة للوصول إلى الحج والعمرة دون أن يدفع الأموال للحكّام الظّلمة، فليفعل.

ثانيا: شبّه الإمام الغزالي المال الذي يدفعه المتنفّل بالحجّ والعمرة للحكّام الظلمة المسيطرين على الحرم بالجزية التي تجرّ الذلّ والهوان على المسلمين.

ثالثا: بيّن الإمام الغزالي أن الانقياد إلى عادة دفع المال إلى الحكّام الظّلمة مقابل حجّ وعمرة النّافلة سيجعل الذلّ عادة مطّردة، وهو ما تأباه الأنفس القويمة.

رابعا: أكّد الإمام الغزالي على أنّه ليس وحده القائل بفتوى الرّجوع من الطريق في حجّ وعمرة النّافلة، وعدم دفع أموالهما للأمراء الظّلمة، بل هو يؤكّد على فتاوى بعض أهل العلم في زمانه.

على أنّ أهمّ ما ستؤثّره فتوى العلامة الغرياني؛ هو كسر الباب الذي حاول حكّام السّعودية إحكام إغلاقه زمنا طويلا، وكسر الباب يعني أنّنا سنرى في الأيّام القادمة نقاشاتٍ كثيرة حول هذه المسألة.

ومجرّد النّقاش في هذا، أيّا كانت ثمرته، فهو مؤرّقٌ لحكّام السّعوديّة لأنّه ينطوي على إقرارٌ ضمنيّ بظلم الحكّام المسيطرين على الحرمين، ويشكّل مساهمة في كسر الصّنميّة التي حرص حكّام المملكة على ترسيخها في نفوس المسلمين، مستندين في ذلك على خدمة الحرمين الشّريفين وضيوف الرّحمن.

محمد خیر موسي/ کاتب و باحث فلسطیني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky