الاجتهاد: روى حديث الغدير عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نحو المائة وعشرين من الصحابة، ولا أظنّك تجد في السنّة النبوية الشريفة كلها حديثاً آخر روتهُ هذه الكثرةُ من الصحابة بل ولا نصف هذا العدد، فحديث الغدير رواته كثيرون للغاية.
ومن جانب آخر نرى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يقل ذلك في بيته ولا في مسجده ولا في قلّة من أصحابه، بل أعلنها صرخة مدوّية في جمع لم تسعهم المدينة كلّها! في جمع ملأوا البيداء المترامية الأطراف في أكبر تجمع اسلامي شهده التاريخ على عهد النبوة.
قال ابن سعد في الطبقات 2/171: فأجمع صلّى الله عليه وسلم الخروج الى الحج وآذن الناس بذلك فقدم المدينة بشر كثير يأتمون برسول الله صلّى الله عليه وسلم في حجّته..
وذكر نحو ذلك ابن حبَّان في الجزء الثاني من كتاب الثقات ص124.
وهذا مأخوذ من حديث لجابر فيما أخرجه مسلم في صحيحه ج2 ص886 رقم 1218 باب حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكث تسع سنين ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجّ، فقدم المدينة بشر كثير كلّهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويعمل مثل عمله فخرجا معه حتّى أتينا ذا الحليفة…
فصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد ثم ركب القصواء حتّى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك… وابن أبي شيبة في المُصَنَّف قال جابر فقدم المدينة بشر كثير كلّهم يلتمس أن يأتَمّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويعملَ مثلَ عملِه وفي مسند الحميري 1288 عن جابر قال: أذن في الحج ان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد الحج فامتلأت المدينة.
وفي حديث آخر لجابر أخرجه أبو يعلى في مسنده مرّتين في الجزء الرابع ص24 رقم 2027 والجزء الثاني عشر ص106 رقم 6739 قال جابر: فنظرت بين يديّ ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي مدّ بصري والناس مشاة وركبان…
وقال ابن شاكر في الجزء الأول من عيون التواريخ ص394: وحجّ معه صلّى الله عليه وسلم من الصحابة مائة ألف ويزيدون حتى حجّ معه من لم يره قبلها ولا بعدها ونالوا بذلك نصيباً من الصحبة..
وقال سبط ابن الجوزي في تذكرة خواص الأمة في كلامه على حديث الغدير ص30: ” وكان معه صلّى الله عليه وسلم من الصحابة ومن الأعراب ممن يسكن حول مكة والمدينة مائة وعشرون ألفاً وهم الذين شهدوا معه حجّة الوداع وسمعوا منه هذه المقالة… “.
فعندما نقيس عدد الصحابة الرواة لحديث الغدير ـ وهم نحو مائة وعشرين صحابياً ـ الى عدد الحضور ممن حضر وشهد وسمع ورأى تكون النسبة نسبة الواحد في الألف!! فرواة حديث الغدير قليلون للغاية.
على أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أكّد عليهم في غير موقف وفي موقفه هذا بالذات بقوله: ألا فليبلّغ الشاهد منكم الغائب.
وقوله صلّى الله عليه وآله: نضّر الله إمراً سَمِعَ مقالتي فوعاها ثم أدَّاها الى من لم يسمعها(1).
فإن لم يكن قاله في موقفه هذا، فقد كان قاله في خطبته في الخيف من منى ولم يمض عليه سوى بضعة أيام.
ولكن لما تُوفي صلّى الله عليه وآله ولم يُنفَّذ ما أراده كفَّ الناس عن رواية هذا الحديث وكفّوا عن رواية أمثاله، بل فُرِض التعتيم على رواية فضائل أمير المؤمنين عليه السلام ومناقبه ومُنِعَ الناس صراحة عن التحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله.
بل اُمر الناس بسبِّ أمير المؤمنين عليه السلام وعُرِضوا على سبّه، وقد كان عليه السلام أخبرهم بذلك قبل وقوعه فقال: ألا أنكم ستُعرَضون على سَبِيّ والبراءَةِ مني أما السبُّ فسبّوني..
فتناسى الناس كلّ مزية لعلي فضلا عن حديث الغدير والنصّ على استخلافه فهذا البخاري يحدّثنا في تاريخه الكبير 4/193 عن سهم بن حُصَين الأسدي أنه حجّ مع صاحب له يسمّى عبدالله بن عَلْقمة، وكان سَبَّابةً لعليٍّ دهراً (لم يقل كان يَسُبُّ عليّاً وإنما قال: وكان سبابةً لعلي دهراً) ولما دخلا مدينة الرسول صلّى الله عليه وآله قال سهم بن حُصين لصاحبه: هل لك أن نُحدثَ عهداً بهذا الرجل؟ (يعني أبا سعيد الخِدْري) فذهبا إليه، يقول سهم بن حصين: قلت لأبي سعيد، هل سمعت لعلي منقبة؟! ترى أن الأمر أدّى إلى هذه الحال، والصحابة بعد متوفّرون فيسأله: ألعليَّ منقبة!!
فأجابه أبو سعيد: نعم، إذا حدثتُك فسل المهاجرين والأنصار وقريشاً: قام النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم غدير خم فأبلغ فقال: ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم. اُدْنُ يا علي فدنا فرفع يده ورفع النبي صلّى الله عليه وسلم يده حتى نظرتُ إلى بياض إبطيهما فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه.
فقال عبدالله بن عَلْقمة: أنت سمعت هذا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟! قال أبو سعيد: نعم، وأشار إلى أذنيه وصدره وقال: سَمِعَتْهُ أُذُنايَ ووعاهُ قلبي.
وإبداؤهم التعجّب الشديد من سماع هذا الحديث وتأكدهم منه: أنت سمعت هذا من رسول الله؟ ومبالغة أبي سعيد في الجواب، كلّ ذلك لأنهم يفهمون منه النصّ على الاستخلاف ويتعجبون مما حدث بعد ذلك!
وفي حديث أخرجه النسائي في السُنَنِ الكبرى ج5 ص130 رقم 8464 وفي خصائص علي عليه السلام ص96 رقم 79 عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم في حديث الغدير وفيه: (فأخذ بيد علي فقال: من كنت وليّه فهذا وليُه، فقلت لزيد: سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟
قال: ما كان في الدوحات أحدٌ إلا رآه بعينيه وسمعه بأذنيه).
ويوم الدوح دوحِ غدير خمّأبان له الولاية لو اُطيعا ولم أرَ مثل ذاك اليوم يوماًولم أرَ مثله حقّاً أُضيعا
فترى أبا سعيد الخِدْري يقول: إن حديث الغدير يعلمه الناسُ كلّهم: فسل المهاجرين والأنصار وقريشاً. فلم يستثن ممن كان حيّاً في ذاك العهد أحداً، فكلّهم سمعوا هذا الحديث.
وقريش، إما يقصد بني أمية بالذات أو يقصد أهل مكة كلّهم ممن لم يهاجروا إلى المدينة.
وأخرج حديث سهم بن حصين عن أبي سعيد الخِدري كلٌّ من الحافظينَ ابن عقدة في كتاب الولاية والمحاملي في أماليه، وأخرجه ابن عساكر في ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخه برقم 566 و567 من طريقهما بلفظ أطول مما رواه البخاري في التاريخ الكبير ولفظ البخاري أوجز، وأنا دمجت الألفاظ وربما زدت زيادات توضيحية، ومن شاء فليراجع لفظ البخاري في التاريخ الكبير ج4 ص173.
وأرى أن النبي صلّى الله عليه وآله لم يكتف بقوله: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه حتى أخذ بضَبْعِه ورفعه أعلى ما أمكنه حتى بانَ بياض إبطيهما، ليراه كلُّ الملأ الحضور كما في حديث زيد بن أرقم: ما كان في الدوحات أحدٌ إلا رآه بعينيه وسمعه باُذنيه.
فعل ذلك صلّى الله عليه وآله اهتماماً بأمر الخلافة واحتجاجاً على الأمة لئلا يؤوّلونه فيما بعد! فيقولوا: أراد بقوله من كنت مولاه فعليٌّ مولاه أي إن مولاه عال من كنت أنا مولاه فله مولى عال، وليس هذا في شأن أحد!!
كما فعلوا ذلك في قوله صلّى الله عليه وآله: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) قالوا أي عال بابُها!
هذا ما وسعنا الإفاضةَ فيه بشأن رواةِ حديثِ الغديرِ من الصحابة.
وأمَّا في طبقة التابعين فقد استمرّ التعتيم مخيماً على حديث الغدير وعلى غيره من فضائل أمير المؤمنين عليه السلام ومناقبه، حتى إذا كان في أُخْرَيَاتِ حياته عليه السلام أحْيا رمائم هذا الحديث واستخرجه من تحت الأنقاض المتراكمة عليه، فجمع المتواجدين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله يومئذ بالكوفة وجمعَ الناس وناشد الصحابة بحديث الغدير وقال:
ناشدت الله من سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.. فليقم وليشهد ولا يشهد إلا من رآه وسمعه، فقام ثلاثون من الناس كما في مسند أحمد(1) وفي بعض الروايات: فقام إثنا عشر بدرياً(2) ولا تنافي بين الروايات فالشهود ثلاثون، اثنا عشر منهم كانوا من أصحاب بدر.
ولكن يبدو من الروايات أن المناشدة قد تكررت منه عليه السلام فتارة ناشدهم في الرَحبة رَحبةِ مسجد الكوفة، وفي بعض الروايات أنه عليه السلام ناشدهم من على المنبر فقام من هذا الجانب ستة ومن ذاك الجانب ستة، والمناشدة من على المنبر لا تكون إلا في داخل المسجد.
ولكن بقي التعتيم والخوف من إذاعة أمثال هذا الحديث ساري المفعول حتى في هذا الموقف، نعم شهد قوم وكتم آخرون! فدعا عليهم فاستجاب الله دعاءه فيهم فكل منهم أُصيب ببليّة وآفة.
واعجباه، هذا أمير المؤمنين عليه السلام في عهد خلافته يناشد الناس بحديث الغدير وهو خليفة وإمام ورئيس دولة فيكتمهُ البعض على علم منه ولا يؤدي الشهادة!! فلو كان ناشدهم به قبل ذلك يوم السقيفة أليس كان يُجابَه بالإنكار والردّ والتكذيب أو كان يتناوله السلب والايجاب والنفي والاثبات، فيزيدُ تنازع على ما كان من منازعات، فالأجدر به هناك هو السكوت إلى أن يجد جوّاً ملائماً.
ومهما كان، فأمير المؤمنين عليه السلام أحيا بمناشداته حديث الغدير وبرز بعد الكتمان وظهر بعد الإخفاء وفشا الحديث في التابعين ورووه لمن بعدهم.
هذا أبو اسحاق السبيعي يقول في روايته لحديث الغدير: حدثني سعيد بن وهب وزيد بن يُثَيع وعمرو ذو مُرّ ومن لا أُحصي! أن عليّاً استنشد الناس في الرحبة…
فأمير المؤمنين عليه السلام هو أوَّل من احتفل بحديث الغدير وجمع الناس لإحياء ذكرى الغدير، وهو الإمام والقدوة والرائد والأسوة يلزمنا متابعته في الإحتفال بالغدير في كل عام وفي كل مكان.
والكوفة أول بلد أقيم فيه احتفال الغدير فكان الأولى والأجدر بمهرجان الغدير أن يقام على مقربة منها، يقام في النجف الأشرف بلد أمير المؤمنين عليه السلام، فالبلد بلده واليوم يومه وكان أول الاحتفالات أقيم بالقرب منه.
أعاد سبحانه وتعالى الى النجف الأشرف كيانها وعزّها، لتستمر مشعلا في طريق الاسلام ومناراً للهدى ومدرسة كبرى للعلوم الاسلامية ومركزاً من مراكز إشعاع الفكر الاسلامي ورحلة لطلبة العلم وموئلا للعلماء.
وأُهيب بمناشدي الوحدة الإسلامية أن يسعوا قبل كل شيء في وضع حدّ لهجمات خصومنا، فلا زالت في تصاعد وتزايد وفي السنين الأخيرة نشروا مئات الكتب في مهاجمتنا والرد علينا وتشويه سمعتنا، يكيلون لنا الاتهامات ويفترون علينا الأقاويل وينشرون ملايين منها بشتى اللغات ولا وازع! ولا دافع! وإلى الله المشتكى وهو المستعان، وآخر دعوانا قول رسول الله صلّى الله عليه وآله في أمير المؤمنين عليه السلام: اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله.
اعتاد المحدّثون والحفّاظ ـ خاصّةً القدامى منهم ـ أنّهم إذ رأوا حديثاً كثرت طرقه وتوفّرت أسانيده وتنوّعت وتجمعت لديهم وفرة من الطرق والروايات بألفاظ مختلفة أو متقاربة، أفردوه بالجمع والتأليف ودوّنوه في جزء يخصّه، مثل حديث الطير وحديث ردّ الشمس وغير ذلك، وقد ذكرنا في مقالنا أهل البيت عليهم السلام في المكتبة العربية المنشور متسلسلا ـ ولا زال ـ في مجلة ” تراثنا ” الصادرة في قم عن مؤسسة آل البيت لإحياء التراث حيا الله العاملين عليها، من ذلك الشي الكثير، ومن ذلك حديث الغدير وهو أولاها بذلك وأكثرها إسناداً وطرقاً.
وكان هذا الأمر في القدامى منهم أكثر من غيرهم، ولذلك ترى التأليف في حديث الغدير مثلا في القرن الرابع أكثر منه في القرون التي تليه.
ومكتبة الغدير في التراث الإسلامي أصبحت على مرّ العصور مكتبة غنيّة تستحقّ العناية بالسرد والعرض ثم الدراسة والبحث، فقد أفرد حديث الغدير بالتأليف كثير من العلماء والمحدِّثين والكُتّاب والمؤرّخين والأُدباء والمتكلّمين.
وهذا عرض متواضع حسب التسلسل التأريخي لما ألّفوه في هذا الصدد على اختلاف قوميّاتهم ولغاتهم ومبادئهم واتّجاهاتهم، ولذلك سمّيته: الغدير في التراث الإسلامي ليعمّ الجميع.
ونحن نذكر هنا ما بلغه علمنا ونالته يدنا، ونحن على يقين بأنّ ما غاب عنّا علمُه أو كُتِم عنّا خبرهُ أكثر وأكثر ممّا عثرنا عليه واحتفظ لنا التاريخ ولو بمجرّد اسمه وعنوانه.
والله من وراء القصد، وهو وَليّ التوفيق والهادي لمن يشاء إلى سواء السبيل، وهو نعم المولى ونعم الوكيل.
1- المعجم الأوسط 2 / 180 و363.
1- 4/370 وفضائل الصحابة رقم 1167 ومناقب علي رقم 290 وفيها: وقال أبو نعيم فقام ناس كثير فشهدوا وأخرجه الضياء المقدسي في المختارة ج1 ورقة 82 / أ وابن عساكر في ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام رقم 504 و505 وابن كثير في البداية والنهاية 5/211.
2- مسند أحمد 1/88 و119 وأمالي المحاملي ص162 رقم 133، البداية والنهاية 7/348 ومجمع الزوائد 9/106.
المصدر : مجلة الموسم العدد السابع