بسط التجربة الفقهيّة النبويّة

بسط التجربة الفقهيّة النبويّة ..القسم الأول / الدكتور أبو القاسم فنائي

الاجتهاد: يعمد هذا الفصل إلى نقد أخلاق الاجتهاد الموجود من زاويةٍ أخرى، ويقترح «التجربة الفقهية» بوصفها واحدة من أركان الاجتهاد بالمعنى الصحيح للكلمة. لا موقع للتجربة الفقهية في أخلاق الاجتهاد الراهن، أو أن موقعها لا يرقى إلى المستوى المطلوب. هذا في حين إن التجربة الفقهية تمثّل واحدة من الأركان الهامّة في أخلاق الاجتهاد المثالي.

إن جوهر كلامنا في هذا الفصل هو أن الشريعة في مقام الثبوت (عالم التشريع) تشتمل على بسطٍ تدريجي وتاريخي، وإن هذا البسط يستمرّ إلى ما لا نهاية، ولا ينقطع بختم النبوّة ورحيل النبي الأكرم‘.

إن هذا المدّعى ينطوي على نتيجة منهجية هامّة، وإن تأثيره على أخلاق الاجتهاد أو أخلاق التفكير والبحث الفقهي تأثير مصيري.

فلو التزمنا بهذه النظرية، التي هي نظرية «أنطولوجية» في مجال «طبيعة» الشريعة و«انسيابيّتها» المستمرّة، نضطرّ إلى الاعتراف بـ «التجربة الفقهية» بوصفها واحدة من الأركان والعناصر الأساسية في الاجتهاد الفقهي، وهي نظرية معرفية في مجال «طبيعة» الاجتهاد الفقهي.

وبعبارةٍ أخرى: إن هذا الفصل يُجري مقارنة بين أسلوبين مختلفين في الاجتهاد الفقهي. ويمكن تسمية هذين الأسلوبين بـ: الاجتهاد «المتمحور حول القانون»؛ والاجتهاد «المتمحور حول النموذج».

وفي الاجتهاد المتمحور حول القانون يتم الاهتمام بشكل وظاهر القانون إلى حدٍّ كبير، ويتمّ تجاهل روحه وباطنه وحكمته وفلسفته.

وأما في الاجتهاد المتمحور حول المثال والنموذج فيتمّ الاهتمام بالحكمة والفلسفة وروح القانون، بينما يتمّ النظر إلى شكله الأوّلي لمجرَّد كونه مصداقاً لـ «نموذجٍ» ومثال من الأمثلة.

وفي الاجتهاد المتمحور حول القانون يحلّ «تأليه القانون» و«تأليه الظاهر» محل «عبادة الله». إن هذا النوع من الاجتهاد «يتمحور حول النص»، و«ينزع باتجاه الظاهر».

في حين إن الاجتهاد المتمحور حول النموذج «يتمحور حول التجربة»، و«ينزع باتجاه الباطن».

وإن ارتباط هذا الموضوع بأخلاق المعرفة الدينية واضحٌ. إن هذين الاجتهادين يتبعان في حقيقة الأمر نوعين مختلفين من أخلاق التفكير والتحقيق، ويقومان على فرضيات مختلفة.

إن الاجتهاد المتمحور حول القانون يعمل على تعريف الشريعة (الأخلاق الدينية) بـ «مجموعة الأوامر السابقة للشارع»، في حين إن الاجتهاد الذي يتمحور حول النموذج يعرّف الأخلاق الدينية من خلال «اقتباس واستلهام واتّباع نموذج مقدّس».

في الفصل الثاني من كتابنا (الدين في ميزان الأخلاق)([1]) عمدنا إلى تعريف الدين بـ «التجربة الدينية، وتفسير وتبيين هذه التجربة»، وفسَّرنا التديُّن بـ:

1ـ امتلاك التجربة الدينية؛

2ـ امتلاك تفسير صحيح لهذه التجربة؛

3ـ السلوك على طبق مقتضيات هذه التجربة (بشكلٍ يتطابق مع «الإيمان» و«العلم» و«العمل»).

إن موضوع ومتعلق التجربة الدينية إما هو حقيقة وواقعية عينية، وفي مثل هذه الحالة يكون تفسير وتبيين تلك التجربة على شكل تعاليم الدين الاعتقادية؛ أو هو حكم وتوصية في مجال السلوك والعمل، وفي مثل هذه الحالة يكون تفسير وتبيين تلك التجربة إما على شكل المعايير الأخلاقية (إرشادياً)، أو على شكل المعايير الفقهية (مولوياً).

إن السنّة الدينية بالمعنى العامّ للكلمة عبارةٌ عن التجربة الدينية لأولئك الذين يعيشون في صُلْب تلك السنّة وتفسير وتبيين تلك التجربة. إن هذه السنّة تشمل التجربة الدينية للنبي وتفسيره لهذه التجربة، كما يشمل البسط التالي لهذه التجربة وشروحها وتفسيراتها اللاحقة من قبل أتباع ذلك النبيّ.

إن الاتّباع الصحيح للسنّة الدينية، وحُسْن الاستفادة منها وتوظيفها في عصر الحداثة، لا يعني الالتزام بالشرح والتفسير الذي قام به السابقون لهذه السنّة، بل بمعنى السعي إلى بسط التجربة الدينية والإصلاح العقلاني للسنّة الدينية على أساس العقلانية الحديثة.

إن سؤالنا الرئيس في بحثنا لهذا الفصل عبارة عن:

1ـ ما هي التجربة النبوية؟([2]).

2ـ كيف يمكن بسط التجربة النبوية؟

من خلال دراسة هذين السؤالين يتضح حكم التجربة الفقهية النبوية، التي هي نوعٌ خاص من التجربة النبوية.

2ـ بسط التجربة النبوية

إن نظرية بسط التجربة النبوية نظرية في مجال النصف البشري والترابي من النبيّ‘، والطبقة الأرضية والتاريخية من الوحي والدين.

يذهب الدكتور سروش إلى الاعتقاد بأن بسط الدين الإسلامي في عصر النبيّ‘ كان بسطاً «تدريجياً» و«تاريخياً»، وكان تابعاً لبسط التجربة في البُعْدين الداخلي والخارجي من النبيّ.

يرى الدكتور سروش أن التصوير الذي يمتلكه منهجنا العرفاني عن نبيّ الإسلام تصوير غير متوازن؛ إذ إن النصف الناسوتي والأرضي من النبيّ قد حُجب في هذا التصوير بنصفه اللاهوتي والسماوي، فلم يبْقَ من النبيّ على حدِّ تعبيره «سوى روح بلا جسد، أو شمس بلا ظلّ، أو صورة تفتقر إلى المادة، أو غيب يفتقر إلى الشهادة، أو تمثال مجرّد من التاريخ والجغرافيا»([3]).

تأتي نظرية بسط التجربة النبوية في الحقيقة في سياق السعي إلى تقويم هذا التصوير، من خلال تبيين نسبة الناحية البشرية والأرضية والتاريخية من النبيّ إلى الوحي والتجربة الدينية والشريعة.

إلاّ أن هذا التفسير يحمل توصيةً هامّة للمتدينين أيضاً، وهي أن بسط التجربة النبوية من قبل المؤمنين ممكنة ومطلوبة، بل ضرورية بمعنى من المعاني؛ لأن الكمال الراهن للدين كمالٌ في «الحدّ الأدنى»، وإن كمال الدين في «الحدّ الأقصى» يتوقَّف على مثل هذا البسط([4]).

ولكننا نرى أن تجاهل النصف البشري من الأنبياء لا يختص بسُنّة العرفان الإسلامي، وإنما يشمل الفلسفة والكلام والفقه الإسلامي أيضاً، حيث تعاني من ذات المشكلة. وفي الأساس فإن التصوير الذي يحمله عموم المسلمين ـ وخاصّة الشيعة ـ عن الأنبياء (والأئمة) تصوير غير متوازن.

فإن فهم الشيعة لـ «العصمة» ـ على سبيل المثال ـ وكأنّ المعصوم بسبب عصمته غنيٌّ عن العقل والتجربة البشرية، وإنه من خلال عصمته يتعطّل عقله، وتلغى تجربته في مقابل الوحي والإلهام الإلهي، ويختفي دور العقل والتجربة خلف الحجاب. في حين إن هذا الشخص مهما كانت خصائصه لا يمكن أن يمثِّل أسوة للآخرين.

أ ـ أركان نظرية بسط التجربة النبوية

يمكن تبويب نظرية بسط التجربة النبوية في إطار القضايا التالية:

1ـ إن النبوة نوعٌ من أنواع التجربة.

2ـ إن التجربة النبوية قابلةٌ للتكامل.

3ـ إن الوحي أو التجربة النبوية تابعةٌ لشخصيّة النبيّ، دون العكس.

4ـ لقد كان لتجربة نبي الإسلام بسط «تاريخي» و«إمكاني» بتأثير «التعاطي مع المحيط» و«الحوار مع المعاصرين». (إن طبيعة الوحي طبيعة حوارية، وليست مونولوجية).

5ـ إن التجربة النبوية غير مختصّة بالأنبياء، ويمكن لغير الأنبياء أن يكون لهم حظٌّ ونصيب من هذه التجربة أيضاً.

6ـ إن البسط التاريخي للتجربة النبوية لا يتوقَّف برحيل النبي، ولا ينبغي لها أن تتوقَّف برحيله، وإن ختم النبوة لا يعني نهاية حضور النبيّ في دائرة الحياة البشرية.

7ـ إن اتّباع النبيّ يعني مشاركته في تجربته.

8ـ إن اتّباع النبيّ يعني بسط تجربته.

عناوين المقالة:

1ـ مدخلٌ؛ 2ـ بسط التجربة النبوية؛ أـ أركان نظرية بسط التجربة النبوية؛ 1ـ النبوة نوعٌ من أنواع التجربة؛ 2ـ التجربة النبوية قابلةٌ للتكامل؛ 3ـ الوحي أو التجربة النبوية تابعةٌ لشخصيّة النبيّ، دون العكس؛؛ 4ـ كان لتجربة نبيّ الإسلام بسطٌ «تاريخي» و«إمكاني»؛ 5ـ التجربة النبوية الدينية غير مختصّة بالأنبياء؛ 6ـ البسط التاريخي للتجربة النبوية لا يتوقَّف برحيل النبيّ؛ 7ـ اتّباع النبيّ يعني مشاركته في تجربته وبسط تلك التجربة؛ ب ـ نقد نظرية بسط التجربة النبوية؛ 1ـ دور الله تعالى في التجارب الدينية للنبيّ؛ 2ـ القيمة المعرفية للتجربة النبوية؛ 3ـ عينيّة القِيَم والمعايير الدينية.

الهوامش

الدكتور أبو القاسم فنائي (أستاذٌ في جامعة المفيد، وأحد الباحثين البارزين في مجال الدين وفلسفة الأخلاق، ومن المساهمين في إطلاق عجلة علم الكلام الجديد وفلسفة الدين)

ترجمة: حسن علي مطر

 

تحميل المقالة

وورد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky