الشهيد الصدر

الفهم الاجتماعي للنصّ .. الشهيد السيد محمد باقر الصدر”قدس سره”

الاجتهاد: يتعرَّض الشهيد آية الله السيد محمد باقر الصدر في دراسته هذه ( الفهم الاجتماعي للنصّ في فقه الإمام الصادق”عليه ‏السلام”) التي كتبها مقدّمة لكتاب فقه الإمام الصادق (عليه ‏السلام) للعلامة الشيخ «محمّد جواد مغنية» (في مقال له نشر في مجلّة «رسالة الإسلام» عام 1967م،) بالنظر لعمليَّة الاجتهاد كظاهرةٍ تستحقُّ الدرس من خارج.

وإن كانت ملاحظته تعتمدُ بشكلٍ رئيسيّ على النصّ وطُرق فهم النصّ، وينطلق من خلال الأدوات التي يستخدمها الفقيه في محدِّدات الظهور ليُمايز بين دور اللغويّ ودور المجتهد ووظيفته، وهذا التمايز يرجع إلى أمرين: أحدهما يتمثّل في أنَّ اللغويّ يبحث عن الدلالات الوضعيّة والسياقيّة للكلام، وأمَّا المجتهد فيذهب أبعد من ذلك ليبحث عن مفاد النصّ ضمن المرتكزات العامّة التي ترتبط بالحياة الاجتماعيّة، يقول :

« وهكذا نعرف أنّ الفهم الاجتماعيّ للنصّ معناه فهم النصّ على ضوء ارتكاز عامّ يشترك فيه الأفراد نتيجة لخبرةٍ عامّة وذوق موحّد، وهو لذلك يختلف عن الفهم اللفظيّ واللغويّ للنصّ الذي يعني تحديد الدلالات الوضعيّة والسياقيّة للكلام»

يقول الشهيد الصدر في تقديمه للكتاب:

أكبر الظن أنها أول مرة اقرأ فيها لفقيه اسلامي, من مدرسة الإمام الصادق (ع) أوسع نظرية لعنصر الفهم الاجتماعي للنص, يعالج فيها بدقة وعمق الفرق بين المدلول اللغوي – اللفظي – للنص, والمدلول الإجتماعي, ويحدد المدلول الإجتماعي حدوده المشروعة.

وبالرغم من أن الفقهاء في ممارستهم للعمل الفقهي ومجالات الاستنباط من النص, يدخلون عنصر الفهم الإجتماعي ويعتمدون عليه في فهم الدليل, الى جانب العنصر الآخر الذي يمثل الجانب اللفظي من الدلالة.

غير أنهم لا يبرزون في الغالب الجانب اللفظي من علميه فهم الدليل, والجانب الاجتماعي بوصفهما جانبين متميزين لكل منهما ملاكه وحدوده, بل يبرز الجانبان في مجالات التطبيق مزدوجين وتحت اسم واحد وهو الظهور.

كانت هذه المرة الأولى التي قرأت فيها ذلك عن عنصر الفهم الاجتماعي للنص: هي حين قرأت بعض أجزاء المجدد الخالد ( فقه الامام الصادق”ع”(6 أجزاء ) الذي وضعه شيخنا الحجة الكبير الشيخ ( محمد جواد مغنية ) الذي حصل الفقه الجعفري على يده في هذا الكتاب المبدع على صورة رائعة في الأسلوب والتعبير والبيان.

فقد قرأت في هذا الكتاب الجليل التأكيد على عنصر الجانب الإجتماعي من فهم الدليل والتمييز بينه وبين الجانب اللفظي الخالص في مواضع عديدة منه.

ولكي نشرح فكرة الكتاب عن الفهم الإجتماعي للنص ونعرف محتوى هذا الفهم ودوره في استنباط الحكم من النص, يجب أن نتحدث في البداية عن الظهور.

حجية الظهور

من الأمور المتفق عليها بصورة مبدئية في علم الأصول, المبدأ القائل بحجية الظهور, وهو المبدأ الذي يحتم أن نفسر كل خطاب شرعي على ضوء ظهوره ما لم توجد قرينة على الخلاف. والظهور – كما تقرره البحوث الأصولية التي تدرس هذا المبدأ – عبارة عن درجة خاصة من دلالة الكلام, وهي الدرجة التي تجعل المعنى الذي نشير اليه ظاهراً من الكلام وأكثر انسجاماً معه من أي معنى آخر.

فاللفظ قد يصلح للتعبير عن عدد من المعاني ولكنه يظل ظاهراً في معنى خاص من تلك المعاني كلفظ الاسد, قد تستخدمه للتعبير عن الحيوان المفترس, فنقول : الاسد ملك الغابة, وقد تستخدمه للتعبير عن شجاعة الإنسان, فتقول هذا الإنسان أسد ولكن كلمة الاسد حين ينظر اليها بصورة منفصلة عن القرائن الخاصة نجد أنها ظاهرة فى المعنى الأول.

لأن كلمة الاسج بطبيعتها اللغوية تدل على الحيوان المفترس بدرجة أكبر من دلالتها على الإنسنان الشجاع, الأمر الذي يجعل من الحيوان المفترس أكثر المعاني انسجاماً معها وهو معنى الظهور.

تنويع الظهور

والظهور الذي يمثل كما عرفنا درجة معينة من دلالة اللفظ على المعنى يعتبر حصيلة نوعين من الدلالات :

الأول : – الدلالات اللفظية الوضعية أي الدلالات الناتجة عن الوضع في اللغة فكلمة الأسد إنما كانت ظاهرة في الحيوان المفترس دون الإنسان الشجاع لأنها موضوعة للدلالة على ذلك المعنى.

الثاني : – الدلالات اللفظية السياقية أي الدلالات الناتجة عن سياق الحديث, وطريقة التعبير, فحين يقول الآمر مثلاً : اغتسل غسل الجمعة لأنك تثاب على ذلك, نعرف أن غسل الجمعة مستحب وليس واجباً, وأن الأمر أمر ندب لا أمر الزام نظراً الى الطريقة التي اتبعها الآمر في الترغيب في غسل الجمعة, اذ رغب فيه عن الطريق ما يؤدي اليه من الثواب,

وهذا السياق من الترغيب يدل على الاستحباب بالرغم من أن الواجب فيه ثواب أيضاً غير أن الغسل لو كان واجباً لكان الأولى تبديل السياق واستعمال طريقة التخويف من العقاب بدلاً عن الترغيب في الثواب. فالدلالة هنا دلالة سياقية وظهور الكلام في الاستحباب يقوم على أساس هذه الدلالة السياقية.

ومن مجموع الدلالات السياقية والوضعية يتكون الظهور اللفظي للنفس ويتحدد معناه المنسجم مع تلك الدلالات.

أما أن هذه الدلالات الوضعية والسياقية كيف تنشأ وتتكون, وما هي العلاقات المتبادلة بينها, وكيف نثبت ونعين نوع الدلالات الوضعية والسياقية لكل الكلام, وهل يمكن أن يتخذ كل فرد اطاره اللغوي الخاص مقياساً لتعيين تلك الدلالات أو لابد من اتخاذ الإطار العام مقياساً لذلك.

واذا كان الإطار اللغوي الام هو المقياس فأي اطار عام هذا ؟

وهل هو الإطار اللغوي العام في عصر صدور النص, أو يكفي الرجوع إلى الإطار اللغوي العام العاصر, بالرغم من تطور اللغة وحركتها.

كل هذه الاسئلة وغيرها تدرس في حدود متطلبات عملية الاستنباط في البحث الأصولي المرتبط بحجية الظهور, ولا نريد الآن الا اعطاء فكرة موجزة عن الظهور اللفظي بالقدر الذي قدمناه, لنعف الجانب اللفظي, واللغوي من عملية فهم النص, ولكي نصل إلى الجانب الجديد الذي يعالجه كتاب (( فقه الامام الصادق )) وهو الجانب الإجتماعي من هذه العملية.

الجانب الاجتماعي من فهم النص

والسؤال الذي يجب أن نطرحه بهذا لاصدد هو هذا : هل يصل الشخص الذي يحاول فهم النص إلى المعنى النهائي له بكل حدوده, اذا أحصى الدلالات اللفظية من وضعية وسياقية, واستوعب المعطى اللغوي للنص.

والجواب بالايجاب والنفي معاً, فالجواب بالايجاب اذا افترضنا أن هذا الشخص الذي يحاول فهم النص الشرعي انسان لغوي فحسب, أي انسان تلقن اللغة وحياً والهاماً فهو يعرف اللغة ودلالات الالفاظ الوضعية, والسياقية وليسن له أي خبرة من نوع آخر, فإن هذا الانسان اللغوي الذي لا توجد له خبرة سوى الخبرة اللغوية ينتهي عمله في فهم النص عند جمع الدلالات الوضعية والسياقية وتحديد الظهور اللفظي على أساسها.

والجواب بالنفي اذا كان الشخص الذي يحاول فهم النص قد عاش الحياة الإجتماعية مع سائر العقلاء من أفراد نوعه في مختلف المجالات الحياتية فأن الأفراد الذين يعيشون حياة اجتماعية من هذا القبيل تتكون لديهم خبرة مشتركة, وذهنية موحدة, إلى جانب ما يتميز به كل فرد من خبرات, واتجاهات, وتلك الخبرة المشتركة والذهنية الموحدة تشكل أساساً لمرتكزات عامة وذوق مشترك في مجالات عديدة بما فيها المجال التشريعي والتقنيني, والمرتكزات العامة والذوق المشترك في المجال التشريعي والتقنيني هو ما يطلق عليه الفقهاء في الفقه اسم مناسبات الحكم والموضوع.

فيقولون : مثلاً – أن الدليل اذا دل على أن من حاز ماءاً من النهر أو خشباً من الغابة ملكه. نفهم فيه أن كل من حاز شيئاً من الثروات الطبيعية الخام ملكه, دون فرق بين الماء والخشب وغيرها. لأن مناسبات الحكم والموضوع لا تسمح بجعل موضوع الحكم محصوراً في نطاق الخشب والماء فحسب.

مثال آخر اذا جاءت الرواية في ثوب أصابه ماء تنجس وأمرت بغسل الثوب, نعرف أن الماء المتنجس اذا أصاب شيئاً نجسه, سواء أصاب الثوب أو أي شيء آخر. لأن مناسبات الحكم والموضوع المرتكزة في الذهنية العرفية العامة لا تقبل أن تنجيس الماء المتنجس خاصاً بالثوب, فالثوب يعتبر في الرواية قد جاء على سبيل المثال لا التحديد.

ومناسبات الحكم والموضوع هذه هي في الواقع تعبير آخر من ذهنية موحدة, وارتكاز تشريعي عام على ضوئه يحكم الفقيه بأن الشيء الذي يناسب أن يكون موضوعاً للتملك بالحيازة او للتنجيس بالماء المتنجس اوسع نطاقاً من الاشياء المنصوص عليها في الصيغة اللفظية, وهذا هو ما نعنيه بالفهم الإجتماعي للنص.

وهكذا نعرف ان الفهم الإجتماعي للنص معناه فهم النص على ضوء ارتكاز عام يشترك فيه الأفراد نتيجة لخبرة عامة وذوق موحد, وهو لذلك يختلف عن الفهم اللفظي واللغوي للنص الذي يعني تحديد الدلالات الوضعية والسياقية للكلام.

ويأتي دور الفهم الإجتماعي للنص حين ينتهي دور الفهم اللفظي واللغوي له. فأن الفقيه في الدرجة الأولى يحدد المعطى اللغوي واللفظي للنص ثم بعد أن يعرف معنى اللفظ يسلط عليه الارتكاز الإجتماعي ويدرس المعنى بالذهنية الإجتماعية المشتركة, (( مناسبات الحكم والموضوع )) فيظهر له من النص اشياء جديدة, لم تكن تبدو على مستوى الدرجة الأولى في حدود الفهم اللغوي للفظه,

ففي حدود الفهم اللفظي للصيغى القائلة اذا حزت خشباً أو ماء ملكته, أو الصيغة القائلة : اغسل ثوبك اذا أصابه ماء متنجس لا تفهم الا حكم حياءة الخسب والماء وحكم الثوب اذا أصابه ماء التنجس, ولكن الصيغة على أساس الفهم الإجتماعي لها والأخذ بـ (( مناسبات الحكم والموضوع )) تكتسب ظهوراً في تعميم الحكم واتخاذ الخشب والماء في الصيغة الأولى, والثوب في الصيغة الثانية مجرد مثال للحكم العام.

وقد جاء في كتاب (( فقه الامام الصادق )) قاعدة تعين حدود الفهم الاجتماعي الذي يجوز في رأي (( العلامة مغنية )) الاعتماد عليه في استنباط الحكم من النص وتتلخص القاعدة فيما يلي : اذا كان النص مرتبطاً بالعبادات فيجب فهمه على أساس لغوي ولفظي فقط, ولا يجوز أن يفهم على أساس ارتكاز اجتماعي مسبق.

فاذا جاء مثلاً, أن من شك في عدد ركعات صلاة المغرب بطلت صلاته لا يمكننا أن نعمم الحكم لصلاة الظهر مثلاً لأن أبطال الشك للصلاة أمر مرتبط بالعبادة ونظام العبادات نظام غيبي لا تحكم عليه الارتكازات الاجتماعية ول صله لها به, وأما اذا كان النص مرتبطاً بمجال حياتي اجتماعي من قبيل المعاملات فيجيء دور الفهم الاجتماعي للنص لأن للناس في هذا المجال ارتكازهم المشترك وذهنيتهم التي حددتها الخبرة والتعايش.

فاذا وجد الى جانب النص ارتكاز عام بديهي يضع للحكم حدوداً أوسع أو أضيق وفقاً لما يفهمه هذا الارتكاز من مصالح ومناسبات, أمكن الأخذ بالحدود التي يحددها الارتكاز وهو معنى الفهم الاجتماعي للنص وتحكيم مناسبات الحكم والموضوع.

أما المبرر للاعتماد على الاركاز الاجتماعي في فهم النص فهو نفس مبدأ حجية الظهور, لأن هذا الارتكاز يكسب النص ظهوراً في المعنى الذي يتفق معه, وهذا الظهور حجة لدى العقلاء كالظهور اللغوي لأن المتكلم بوصفه فرداً لغوياً يفهم كلامه فهماً لغوياً, وبوصفه فرداً اجتماعياً يفهم كلامه فهماً اجتماعياً,

وقد أمضى الشارع هذه الطريقة في الفهم وتظل هناك اسئلة يجب أن تدرس في مجال أوسع من قبيل ما هو مدى العمومية التي يجب توفرها في الارتكاز ومناسبات الحكم والموضوع, لكي تكتسب هذه المناسبات القدرة على التحكيم في فهم النص, وكيف نستفيد من الارتكاز الاجتماعي مع أن الارتكاز ليس ثابتاً بل هو مختلف تبعاً للظروف الفكرية والاجتماعية.

الفهم الاجتماعي للنص والقياس

وعلى ضوء ما تقدم يمكننا أن نميز بين الفهم الاجتماعي للنص والقياس الذي ثبتت حرمته في الفقه الجعفري, فإن الفهم الاجتماعي للنص لا يعدو أن يكون عملاً بظهور الدليل, وحين نعمم الحكم مثلاً – لغير ما ذكر في النص – لا نريد بذلك أن نقيس غير المنصوص على المنصوص بل نستند في التعميم إلى الارتكاء الذي يشكل قرينة. على أن ما ذكره في النص إنما جاء على سبيل المثال فيكون الدليل نفسه ظاهراً في الحكم العام.

المشكلة التي تحل على هذا الضوء

وبالرغم من أني اتحث الآن عن الفهم الاجتماعي للنص بتحفظ فأني أؤمن أن القاعدة التي وضعها شيخنا الحجة المحقق ( مغنية ) لهذا الفهم الاجتماعي تحل مشكلة كبيرة في الفقه, وهذه المشكلة, هي : أن كثيراً من الاحكام بينت عن طريق الجواب اسئلة الرواة ولم تبين بصورة ابتدائية وبلغة تقنينية, والرواة إنما يسألون في الغالب عن الحالات الخاصة التي يحتاجون إلى معرفة حكمها

فيجيء الجواب وفقاً لحدود السؤال مبيناً للحكم في الحالة المسؤول عنها فإذا اقتصرنا في استنباط الحكم من النص على الفهم اللغوي فحسب, كان معنى ذلك أن نجعل تلك الأحكام في أكثر الأحيان وقفاً على الحالات الخاصة التي مني بها السائل في حياه العملية وابرزها في سؤاله مع أننا قد نكون واثقين بأن الأحكام على تلك الحالات الخاصة لم يكن في جميع الموارد نتيجة لاختصاصها بها, وإنما نشأ عن اختصاص السؤال بتلك الحالات, وأما إذا فهمنا النص فهماً اجتماعياً فسوف نكون أقرب إلى واقع الحدود المحتملة لتلك الأحكام.

 

رابط قراءة وتحميل كتاب فقه الإمام جعفر الصادق عليه السلام

(هنا)

(هنا)

(هنا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky