مناهج الاستنباط

الفروق المهمة بين الأصوليین والأخباريين / آية الله السيد هاشم الهاشمي

الاجتهاد: قد ذكرت فروق كثيرة بين الأصوليین والأخباريين، ذكر في روضات الجنّات انها أربعون فرقاً، تعرّض لها في ترجمة محمد أمين الأسترابادي، وذكر السيّد الأمين في أعيانه في الجزء الثاني حول لفظة (الاخباريّ) أنّ الفروق بينهما ترجع إلى سنة،

ونذكر هنا أهمّ هذه الفروق:

۱. انّ الأصوليّين لا يعملون بجميع ما في الكتب الأربعة والمعتبرة، بل يعملون ببعضها، اما بالخبر الموثوق به أو بخبر الثقة بشروطه، واما الاخباريّون فيظهر من بعضهم العمل بجميع ما في الكتب الأربعة، بل وغيرها من کتب الحديث، فيعملون بالضعاف -باصطلاح المتأخّرين – وغير المنجبر بعمل المشهور.

ولكن ذكرنا أنّ بعض المحقّقين منهم -كصاحب الحدائق والفيض الكاشانيّ – لا يعملون بالأخبار الضعيفة، ويتقيّدون بالتقسيم المعروف.

۲- أن الأصوليّين يعملون بالظنّ إذا قام على اعتباره دلیل خاصّ، وامّا الاخباريّون فلا يعملون بالظنّ حتّى لو قام على اعتباره دلیل خاصّ ويقتصرون في العمل على العلم فحسب.

ولكن يلاحظ على بعض الاخباريين عملهم بكلّ مظنون وبكل حديث ضعيف حتّى لو لم يحصل الظنّ به، ويعتقدون بأنّ عملهم به لأجل حصول القطع به لا الظنّ، لاعتقاد بعضهم بقطعة صدور الأخبار التي تنسب للمعصوم، فلا يكون عملهم بالظنّ برأيهم، أو بالظنّ بما هو ظنّ، وإنما يكون عملهم بالقطع حسب رأيهم، ولكن لا يمكن الإشكال عليهم في الكبرى وهو صحّة العمل بالقطع،

وإنّما الإشكال عليهم في الصغرى وهو مدى قطعيّة الكتب والأحاديث التي اعتقدوا قطعيّتها. وقد ذكرنا انّ الصحيح عدم قطعيّة جميع الروايات في الكتب الأربعة على نحو الموجبة الكلّيّة، وإنّما أمكن القول بذلك على نحو الموجبة الجزئيّة .

۳. انّ الأصوليّين يقولون بأنّ الأدلّة أربعة : الكتاب والسنّة والإجماع والعقل، بينما الاخباريّون ينكرون اعتبار الإجماع والعقل في مجال الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ويأخذون بالكتاب والسنّة، بل ربّما اقتصر بعضهم على السنّة فحسب؛ لأنّهم يقولون بعدم حجّيّة ظاهر الكتاب لأدلّة ذكرها الأصوليّون في الأصول وناقشوها، وإنّما يلزم الأخذ بما ورد في تفسيره من المعصومين،

بينما الأصوليّون يعملون بظاهر الكتاب، ولكن يمكن القول أمّا الإجماع فإنّ المحقّقين من علمائنا يقولون في الكثير من المسائل التي استند فيها للإجماع، أنّ الإجماع أمّا منقول فليس حجّة، أو محصّل وهو ليس بحاصل، بالإضافة إلى أنّ الإجماع هو داخل في السنّة؛ لأنّه إنّما يكتسب اعتباره من دخول المعصوم وإمضائه،

وأمّا الدليل العقليّ، فربّما يقال: إنّرالاخباريّين ينكرون حصول القطع بالحكم الشرعيّ من دليل العقل و حكمه؛ لعدم إحاطته بالمصالح والمفاسد الواقعيّة أو موانعها، فلا يحصل القطع بالحكم الشرعيّ، ومع عدم القطع به فلا تحصل الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

ومن هنا يظهر من بعض الاخباريّين إنكار حصول القطع بالحكم الشرعيّ من خلال دليل العقل و حكمه، كما يظهر من بعضهم إنکار قاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع، وأنّ كلّ ما حكم به العقل حکم به الشرع، ولكن يظهر من كلمات بعضهم أنّه على تقدير حصول القطع بالحكم الشرعيّ من خلال الحكم العقليّ، فلا حجّیّة للقطع بالحكم الشرعيّ الحاصل من الأدلّة العقليّة.

واستدلّوا على ذلك بأدلّة تحدّد الحجّيّة بما صدر من الأدلّة النقليّة، ولكن مع إمكان صحّة الرأيين السابقين على نحو الموجبة الجزئيّة، وأنّ العقل لا يتوصّل الإدراك المصالح والمفاسد الواقعيّة أو مزاحماتها وموانعها، وبذلك ينكر قاعدة الملازمة،

ولكن لا يصحّ الرأي الثالث، وأنّه على تقدير حصول القطع بالحكم الشرعيّ من خلال العقل، فلا بدّ من القول بحجّيّته؛ لأنّ القطع حجّة بذاته، ونحن لا ننكر حصول القطع بالحكم الشرعيّ من خلال الحكم العقليّ في بعض الموارد وإن كانت قليلة(1).
وتوضيحه أكثر في علم الأصول في مبحث حجيّة الظواهر، وظواهر الكتاب خاصّة.

۴. أنّ الأصوليّين يقسّمون الأحاديث لأربعة أقسام كما ذكرناه، بينما يقسّمها الاخباريون لقسمين: الصحيح والضعيف، ويفسّر الأصوليّون الأربعة بما ذكرناه، والاخباريّون يفسّرون الصحيح بالمحفوف بالقرائن التي توجب العلم بالصدور عن المعصوم، والضعيف بما عدا ذلك، كما قال الفيض: « وقد استقرّ اصطلاح المتأخّرين (شكر الله سعيهم) على تقسيم الحديث إلى أربعة أقسام »(2).

كما أنّ صاحب الحدائق قدّس سرّه في مواضع عديدة من كتابه يستخدم مصطلحات الأقسام الأربعة، ويتركون العمل بالأخبار الضعيفة حسب المقاييس المعروفة.

ولكن قد ذكرنا في بداية الكتاب أنّ بعض الاخباريّين -كالفيض وصاحب الحدائق – یذکرون التقسيم الرباعيّ ويأخذون به في كتبهم الفقهيّة، وذكرنا شواهد على ذلك.

۵. انّ الأصوليّين يرون وجوب تحصيل الاجتهاد في زمان الغيبة عيناً أو تخييراً، لذلك يحصرون الناس في صنفين: مجتهد ومقلّد، وإنّما يلزم الأخذ من المعصوم على جميع الناس في زمان حضوره، ويشترطون في درجة الاستنباط علوماّ شتّى أهمّها علم الأصول،

وامّا الاخباريّون فيحرمون الاجتهاد ویرون وجوب الأخذ بالرواية من المعصوم، ويعتقدون أنّ الناس جميعهم مقلّدة للمعصوم، ولا يجوز لهم الرجوع للمجتهد بغير حديث صحيح، ولا يفرّقون في الأخذ من المعصوم بین زمان الغيبة والحضور، ولا يشترطون في الاجتهاد إلّا المعرفة باصطلاحات أهل البيت علیهم السلام مع معرفة كون الخبر غير معارض بمثله، ولا يجيزون الرجوع للأصول.

ولكن ذكرنا الأدلّة على لزوم علم الأصول في الفقه والتعرّف على الأحكام الشرعيّة، وفي فهم الروايات وهو ممّا لا يتلائم وسيرة الاخباريّين في كتبهم، حيث يعتمدون الكثير من القواعد الأصوليّة فيها، وهل يمكن إلقاء الروايات للعوامّ لفهم الأحكام منها.

وربّما نسبة هذا التطرّف في إنكار الأصول والقواعد الأصوليّة والفقهيّة والاعتماد المحض على الروايات وكفاية إلقائها للعوامّ، يخالف سيرة الاخباريّين في كتبهم وسلوكهم العمليّ، حيث يعتمدون في تقليدهم على الفقيه حتّى لو كان ميّتاً. إذن فلعلّ في هذه النسبة تأمّلاً.

۶. أنّ أكثر الأصوليّين لا يرون جواز تقليد الميّت ابتداءاً ، بينما الاخباريّون فيذهبون إلى جوازه.

۷- أنّ الأصوليّين يذهبون إلى جريان أصالة البراءة عند الشكّ في التحريم مع عدم سبق العلم الإجماليّ، بينما ذهب الاخباريّون إلى القول بالاحتياط فيها .

۸- أنّ الأصوليّين لا يجوز عندهم أخذ أصول العقائد من القرآن الكريم وأخبار الآحاد، وإنّما يجوز أخذ الأحكام الشرعيّة الفرعيّة منها؛ لأنّ أصول الدين يشترط فيها العلم والاقتناع والاعتقاد، ولا يجوز فيها التقليد. نعم ربّما كانت الآيات والأخبار من وسائل حصول هذا الاقتناع والاعتقاد بتوضيح يذكر في محلّه ، وامّا الاخباريّون فيعملون في أصول الدين بأخبار الآحاد والكتاب الكريم .

ولكن الملاحظ أنّ الكثير من الاخباريّين -كالفيض الكاشانيّ – يعتمدون التفكير والاستدلال العقليّ في الأصول ، فلعلّ النسبة غير واضحة، أو غير شاملة للجميع؛ لذلك ذكر البعض انّ الاخباريّين أو بعضهم نقلیّون في الفروع وعقليّون في الأصول، ولعلّ صدر المتألّهين من الاخباريّين فقهاّ وهو المعروف بالفلسفة والتمسّك بالاستدلال العقليّ في الأصول.

۹. انّ الأصوليّين لا يطلقون الثقة إلّا على الإماميّ العدل الضابط، والاخباريّون يكتفون في الوثاقة بالمأمونيّة من الكذب.

ولكن يلاحظ – وكما ذكرنا – إطلاق بعض الأصوليّين الثقة على المأمون من الكذب ، ولا مشاحّة في الاصطلاح ، ولكن الاصطلاح كما ذكرنا عندهم المقصود منه الإمامیّ العادل.

وهناك فروق أخرى بين الأصوليّين والاخباريّين ذكرت في الكتب الموسّعة وخاصّة الكتب الأصوليّة -کالرسائل للشيخ الأنصاريّ قدّس سرّه – ويلزم التأكيد على انّ بعض الآراء المنقولة عن الاخباريّين لا يقول بها جميعهم، بل يذهب إليها البعض منهم كعدم حجّيّة ظواهر الكتاب،

وقد ألّف الأصوليّون بعض الكتب في ردّ الاخباريّين، ومناقشة آرائهم مثل کتاب (الحق المبين في الردّ على الاخباريّين) للشيخ جعفر كاشف الغطاء قدّس سرّه،

ولعلّ أقوى من ناقش الاخباريّين وبصورة علميّة وموسّعة الوحيد البهبهاني قدّس سرّه، حيث شعر بتوسّعهم، وامتداد أفكارهم، ممّا يكون له تاثيره في مسيرة الحركة الاجتهاديّة، فناقشهم بقوّة، وله رسالة الاجتهاد والأخبار في الردّ على الاخباريّين طبعت في إيران سنة ۱۳۱۴ في هامش عدّة الأصول، وتعرّض لآرائهم وردّها في الكثير من كتبه وفوائده الأخرى،

وتبعه على ذلك تلاميذه وغيرهم، حيث أدّى ذلك إلى تقلّص الاخباريّين، وربّما لولا هذه المناقشة من العلماء لامتدّت وتوسّعت أكثر؛ لما تملكه هذه المدرسة من أدلّة، وقد شعر علماؤنا المجتهدون المحقّقون ببصيرتهم المستقبليّة النافذة، ما ربّما تسبّبه بعض مبادئ هذه المدرسة، أو بعض أنصارها، من سطحيّة وتجميد لمسيرة الحركة الاجتهاديّة الصاعدة للمذهب الإماميّ، المتميّزة بالعمق والقوّة والحركة والتطوّر،

لذلك تصدّوا لها بمختلف الأدلّة العلميّة والموضوعيّة القويّة، وهذا ما سبّب تقليص نفوذها، وإعادة الاقتناع والأسس الموضوعيّة العلميّة أكثر وأقوى، والتجديد والقوّة والعمق، ممّا أدّى إلى إعجاب وانبهار الكثير بهذه المدرسة من غير المسلمين، ومثل هذا التطوّر والابداع إنّما يتوقّف على وجود مبدأ الاجتهاد.

وقد ذكرنا بعض الروايات – وهناك غيرها – تدلّ على أنّ الأئمّة علیهم السلام يؤيّدون ويدعمون الطريقة الاجتهاديّة في التفقّه والفقه.

كما أنّ بعض علماء الاخباريّين ألّفوا كتباً في مناقشة الأصولیّین وردّهم، ولعلّ أهمّها الفوائد المدنيّة ، وهداية الأبرار ، ومقدّمة الحدائق وغيرها.

 

الهوامش

(1) كبحث الملازمات أو قبح الظلم وحسن العدل ، وأمثالها ممّا ذكره علماؤنا في مبحث دليل العقل ، ولكن السيّد الشهيد الصدر قدّس سرّه في مقدّمة الفتاوى الواضحة يقول: «وأمّا ما يسمّى بالدليل العقليّ الذي اختلف المجتهدون والمحدّثون في أنّه هل يسوغ العمل به أو لا، فنحن وإن كنّا نؤمن بأنّه يسوغ العمل به، ولكنّا لم نجد حكماً واحداً يتوقّف إثباته على الدليل العقليّ بهذا المعنى، بل كلّ ماثبت بالدليل العقليّ فهو ثابت في نفس الوقت بكتاب وسنّة، وأمّا ما يسمّى بالإجماع فهو ليس مصدراً إلى جانب الكتاب والسنّة ، ولا يعتمد عليه إلّا من أجل كونه وسيلة إثبات للسنّة في بعض المجالات ». .
ثمّ يتوصّل أنّ المصادر للفتاوی « عبارة عن الكتاب والسنّة النبويّة الشريفة بامتدادها المشتمل على سنّة المعصومين من أهل البيت علیهم السلام باعتبارهم أحد الثقلين اللّذين أمر النبيّ بالتمسّك بهما .

(2) مفاتيح الشرائع: 1 / 6.

 

المصدر: كتاب أضواء على علمي الدراية والرجال لآية الله السيد هاشم الهاشمي الكلبايكاني. الصفحة 567

 

رابط تحميل الكتاب

أضواء على علمي الدراية والرجال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky