السيّد الخراساني… فارس التراث / بقلم: حامد الخفاف

الاجتهاد: قدمت هذه الورقة إلى إدارة الحفل التكريمي الذي أقامته مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث في قم المشرفة سنة 2016، احتفاءاً بالعلامة المحقق المرحوم السيد علي الخراساني طيب الله ثراه، وكان قد أقعده المرض آنذاك…

ونشرت هذه الورقة في كتاب التكريم الذي طبع فيما بعد تحت عنوان “العقد الايماني في تكريم الأستاذ السيد علي الخراساني”.

تعيد وكالة “شفقنا” نشر هذه الورقة بمناسبة وفاة السيد الخراساني رحمه الله…

لا تترجّل …
يا فارس التراث…
فثمّة وريقات أعياها وجع الانتظار… ورجال أسانيد، وكلمات مغلقة تنتظر من يوضح مبهمها، وأخرى مصحفة أولدتها أخطاء النسّاخ…
يا رفيق الجواد وأباه لا تترجّل…
فالطريق طويل… وضوء القمر يندلق من محبرة ملأتها حباً وعلماً ومرحاً وأريحية طبع…

في أواسط عام 1983 م شاءت العناية الإلهية أن أتعرف على مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث في مدينة قم المشرفة، وعميدها ومؤسسها السيد جواد الشهرستاني، في فترة شهدت بدايات نهضة مباركة تعنى بتحقيق التراث الشيعي وتصحيحه ونشره، ولأنني أتيت إلى المؤسسة بعد خلفية عملي عند السيد الأبطحي رحمه الله في تحقيق المخطوطات، وخصوصاً في استخراج الأحاديث والروايات من مصادرها الأصلية، فقد اقترح عليّ السيد الشهرستاني حينها أن أعمل في هذا القسم تحديداً وهو قسم استخراج النصوص.

كانت المؤسسة قد بدأت بتحقيق كتاب مستدرك الوسائل للشيخ النوري، وتراكمت مجموعة من الأحاديث المجهولة، أي التي لم يعثر عليها في مصادرها المشار إليها، وكلّفت باستخراجها أو حلّ لغزها.

حينها عرّفني السيد الشهرستاني _وأنا على مشارف العشرين آنذاك_ على السيد علي الخراساني الذي دلّني على مكان جلوسي وطاولتي في غرفته التي جمعتني وإيّاه والمرحومين الشيخ أحمد حبيب قصير العاملي، والأستاذ أسد مولوي وآخرين.

كانت المؤسسة تحاول أن تبتكر منهجية جديدة للتحقيق، أسمتها فيما بعد منهجية التحقيق الجماعي، وهي بخلاف التحقيق الفردي، تقتضي تضافر جهود مجموعة من المحققين يتوزعون على موضوعات منهج التحقيق من استنساخ المخطوط، والمقابلة بين النسخ، واستخراج النصوص، وتقويم النص، وكتابة الهوامش، والملاحظة النهائية، وإعداد الفهارس والمقدمة.

كل ذلك كان يستدعي احتكاكاً بين المحققين يزيدهم إلفةً تارة وتوتراً أخرى، ويصقل إمكانياتهم العلمية يوماً بعد يوم.

كان السيد الخراساني معنياً بضبط وتقويم العبارة الفقهية، والأستاذ أسد مولوي معنياً بتقويم النص اللغوي.

ولا أبالغ إن قلت أن تلك الأيام _بحلوها ومرّها_ هي من أجمل أيام حياتي بلا تردد، والحديث عنها يطول ويطول…

أما ما لا أنساه عن السيد الخراساني هو جدّيته ومثابرته، فلا أتذكر أنه غاب عن عرينه يوماً، فهو الحاضر دوماً، المتوثب أبداً، لا يشغله عن أداء مهمته شاغل، ولا يثني عزيمته حادث.

وأتذكر أن حبه للكتاب جعل منه صياداً ماهراً للكتب، فلا يمكن أن يفلت من بين يديه كتاب قبل أن يضمه إلى مكتبته الخاصة، بأي وسيلة ممكنة، إقتناء، إهداء… حتى تكونت لديه مكتبة خاصة يندر وجودها عند المحققين.

وأذكر له عميق صبره، وطول أناته في التحقيق، فهو قد يبذل من وقته ساعات أو أيام!! في فكّ عبارة مغلقة، أو محاولة فهم كلمة مصحّفة، وهذه المسألة عند العارفين بمناهج التحقيق من أهم الأمور وأصعبها.

في تلك الغرفة التي جمعتني _أنا الشاب اليافع المندفع_ مع شيوخ قومي علماً ومعرفة وسناً، كانت العلاقة مع السيد الخراساني تتطور وتتعمق، كنا نختلف ونتفق، نرضى ونزعل، نتجهم ونضحك، كنا نغوص في أعماق التراث في الروايات والأسانيد ومعاجم اللغة ونخرج مبتلين من بحر المعرفة التراثية التي لا ساحل لها.

وبعد مدّةٍ من الزمن، ومن وحي الحاجة التنظيمية للعمل، شكل السيد الشهرستاني لجنة مركزية للإشراف على عمل المحققين، كنت أنا والسيد الخراساني وآخرين فيها. وكان ذلك عاملاً لتوطيد العلاقة أكثر.

السيد الخراساني نموذج خاص من المحققين ( منحصر بفرد). فهو على فضله ومكانته متواضع إلى حد التماهي. لا يتردّد في سؤال من هو دونه علماً وفضلاً في مجال التحقيق في سبيل الوصول لغايته.

طيبة السيد الخراساني وعفويته تنسيك مشاكساته اللذيذة التي تذوي أمام براءته وجميل أخلاقه. فهو قريب حبيب، وكم لنا معه من النوادر التي تختزنها الذاكرة، مما لا يقال ولا يكتب … نتذكرها فقط فنبتسم، ونحنّ إليها كلما أتعبتنا دروب الحياة.

من المدرسة الفيضية وتحقيق كتاب الخلاف للشيخ الطوسي وهو يرافق السيد جواد الشهرستاني، مروراً بالغيبة للشهيد الأول، وغنية النزوع لابن زهرة الحلبي… وعشرات المخطوطات في المؤسسة كرّسته محققاً قديراً: مقوّماً للنصّ ومدققاً له، مرّت بين يديه مئات النصوص، وهو قبل هذا وبعده، كما كان لم يتغيّر، مجاهد في خدمة تراث آل بيت العصمة، مكافح لنشر علومهم ومعارفهم. توزّعت اهتماماتنا، وهو صامدٌ في زاويته الأثيرة في مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث. نقصده كلما أتعبنا المسير، نبحث عنده عن صدى السنين، ورحيق الذكريات. فنجدها متجسّدة في شخصه الكريم، يافعة المضمون، نضرة المحتوى.

يا أبا جواد … أيها الحبيب.
ستبقى حيّاً في قلوبنا، لأنك سكنت فيها واستوطَنْت.
لا تترجل ….
فنحن بحاجة إليك على صهوة جوادك.
نحتاجك بوصلة تشير إلى بدايتنا التي أطلقتنا في ميادين الحياة …

بيروت في 10/2/2016م

 

المصدر: شفقنا

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

Clicky