الاجتهاد: إنّ الناظر في فتاوى العلماء وروايات الواردة في وجوب الخمس في الركاز الذي هو الكنز عند الحجازيين والمعدن عند أهل العراق يقف على أنّ إيجابه من باب انّه فوز بالشيء بلا بذل جهد ، كالغنائم المأخوذة في الغزوات ، وهذا يعرب عن أنّ مدلول الآية أوسع ممّا يتصوّر في بدء الأمر.
يقول ابن الأثير ناقلاً عن مالك : الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا والذي سمعت أهل العلم يقولون : إنّ الركاز إنّما هو دفن يوجد من دفن الجاهلية ، ما لم يطلب بمال ولم يتكلّف فيه نفقة ، ولا كبير عمل ولا مئونة ، فأمّا ما طلب بمال ، وتكلّف فيه كبير عمل فأصيب مرة وأخطئ مرة ، فليس بركاز.
والركاز عند أهل الحجاز كنز الجاهلية ودفنها ، لأنّ صاحبه ركزه في الأرض ، أي أثبته وهو عند أهل العراق ، المعدن ، لأنّ الله تعالى ركزه في الأرض ركزاً ، والحديث إنّما جاء في التفسير الأوّل منهما ، وهو الكنز الجاهلي على ما فسّره الحسن وإنّما كان فيه الخمس لكثرة نفعه وسهولة أخذه ، والأصل فيه أنّ ما خفت كلفته كثر الواجب فيه ، وما ثقلت كلفته قلّ الواجب فيه.
ويؤيد (٢) ذلك ما رواه الإمام الصادق ـ عليهالسلام ـ عن آبائه ـ عليهمالسلام ـ في وصية النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ لعلي ـ عليهالسلام ـ قال : «يا علي إنّ عبد المطلب سنّ في الجاهلية خمس سنن أجراها الله له في الإسلام … ووجد كنزاً فأخرج منه الخمس وتصدّق به فأنزل الله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ)». إلى غير ذلك من الأخبار. (٣)
ترى أنّ النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ جعل الكنز من مصاديق الغنيمة الواردة في الآية المباركة ، وهذا يعرب عن سعة مفهوم الآية.
غير أنّ الشيعة الإمامية عمّمتها إلى أرباح المكاسب ولكن السنّة خصصتها بالركاز والكنز والمعدن ، وسيوافيك ما يدلّ على وجوب الخمس في أرباح المكاسب في روايات أهل السنّة.
هذا هو بيت القصيد في المقام ، والهدف من عنوان المسألة هو إثبات ذلك ، حيث يظهر من غير واحد من الروايات أنّ النبيّ الأكرم أمر بإخراج الخمس من مطلق ما يغنمه الإنسان من أرباح المكاسب وغيرها ،
وإليك بعض ما ورد في المقام :
١. قدم وفد عبد القيس على رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ فقالوا : إنّ بيننا وبينك المشركين وإنّا لا نصل إليك إلاّ في شهر الحرام ، فَمُرْنا بأمر فصل ، إنْ عملنا به دخلنا الجنة وندعو إليه مَن وراءنا» فقال ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ : «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع ؛ آمركم : بالإيمان بالله ، وهل تدرون ما الإيمان؟ شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وتعطوا الخمس من المغنم». (4)
ومن المعلوم أنّ النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ لم يطلب من بني عبد القيس أن يدفعوا غنائم الحرب كيف وهم لا يستطيعون الخروج من حيّهم في غير الأشهر الحرم ، خوفاً من المشركين. فيكون قد قصد المغنم بمعناه الحقيقي في لغة العرب وهو ما يفوزون به فعليهم أن يعطوا خمس ما يربحون.
وهناك كتب ومواثيق ، كتبها النبيّ وفرض فيها الخمس على أصحابها وستتبيّن بعد الفراغ من نقلها ، دلالتها على الخمس في الأرباح وإن لم تكن غنيمة حربية ، فانتظر.
٢. كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن :
«بسم الله الرحمن الرحيم … هذا … عهد من النبي رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن ، أمره بتقوى الله في أمره كلّه ، وأن يأخذ من المغانم خمس الله ، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار عُشر ما سقى البعل وسقت السماء ، ونصف العُشر ممّا سقى الغرب». (5) والبعل ما سُقِيَ بعروقه ، والغَرَبَ : الدلو العظيمة.
٣. كتب إلى شرحبيل بن عبد كلال ، وحارث بن عبد كلال ، ونعيم بن عبد كلال قيل ذي رعين ، ومعافر وهمدان: «أمّا بعد ، فقد رجع رسولكم وأعطيتم من المغانم خمس الله». (6)
٤. كتب إلى سعد هُذيم من قضاعة ، وإلى جذام كتاباً واحداً يعلّمهم فرائض الصدقة ، ويأمرهم أن يدفعوا الصدقة والخمس إلى رسوليه أُبيّ وعنبسة أو من أرسلاه». (7)
٥. كتب للفُجَيع ومن تبعه : «من محمد النبيّ للفجيع ، ومن تبعه وأسلمَ وأقام الصلاةَ وآتى الزكاة وأطاع الله ورسوله وأعطى من المغانم خمس الله …». (8)
٦. كتب لجنادة الأزدي وقومه ومن تبعه: «ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطاعوا الله ورسوله وأعطوا من المغانم خمس الله وسهم النبي وفارقوا المشركين ، فإنّ لهم ذمّة الله وذمّة محمد بن عبد الله». (9)
٧. كتب لجهينة بن زيد فيما كتب : «إنّ لكم بطون الأرض وسهولها وتلاع الأودية وظهورها ، على أن ترعوا نباتها وتشربوا ماءها ، على أن تؤدّوا الخمس». (10)
٨. كتب لملوك حمير فيما كتب : «وآتيتم الزكاة ، وأعطيتم من المغانم : خمس الله ، وسهم النبي وصفيّه وما كتب الله على المؤمنين من الصدقة». (11)
٩. كتب لبني ثعلبة بن عامر : «من أسلم منهم وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأعطى خمس المغنم وسهم النبي والصفي». (12)
١٠. كتب إلى بعض أفخاذ جهينة: «من أسلم منهم وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأطاع الله ورسوله وأعطى من الغنائم الخمس». (13)
إيضاح الاستدلال بهذه المكاتيب
يتبيّن ـ بجلاء ـ من هذه الرسائل أنّ النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ لم يكن يطلب منهم أن يدفعوا خمس غنائم الحرب التي اشتركوا فيها ، بل كان يطلب ما استحقّ في أموالهم من خمس وصدقة.
ثم إنّه كان يطلب منهم الخمس دون أن يشترط ـ في ذلك ـ خوض الحرب واكتساب الغنائم.
هذا مضافاً إلى أنّ الحاكم الإسلامي أو نائبه هما اللّذان يليان بعد الفتح قبض جميع غنائم الحرب وتقسيمها بعد استخراج الخمس منها ، ولا يَملِك أحد من الغزاة عدا سلب القتيل شيئاً ممّا سلب وإلاّ كان سارقاً مغلاّ.
فإذا كان إعلان الحرب وإخراج خمس الغنائم على عهد النبيّ ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ من شئون النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ فما ذا يعني طلبه الخمس من الناس وتأكيده في كتاب بعد كتاب ، وفي عهد بعد عهد؟
فيتبيّن أنّ ما كان يطلبه لم يكن مرتبطاً بغنائم الحرب. هذا مضافاً إلى أنّه لا يمكن أن يقال : إنّ المراد بالغنيمة في هذه الرسائل هو ما كان يحصل الناس عليه في الجاهلية عن طريق النهب ، كيف وقد نهى النبيّ ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ عن النهب والنهبى بشدّة ، ففي كتاب الفتن باب النهي عن النُّهبة عنه ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ : «من انتهب نهبة فليس منّا» (14) ، وقال : «إنّ النهبة لا تَحِلّ». (15)
وفي صحيح البخاري ومسند أحمد عن عبادة بن الصامت : بايعنا النبيّ ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ أن لا ننهب. (16)
وفي سنن أبي داود ، باب النهي عن النهبى ، عن رجل من الأنصار قال : خرجنا مع رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ فأصاب الناس حاجة شديدة وجهدٌ ، وأصابوا غنماً فانتهبوها ، فإنّ قدورنا لتغلي ، إذ جاء رسول الله يمشي [متّكئاً] على قوسه فأكفأ قدورنا بقوسه ، ثمّ جعل يُرمِّل اللحم بالتراب ، ثمّ قال : «إنّ النُّهبة ليست بأحلَّ من الميتة». (17)
وعن عبد الله بن زيد : نهى النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ عن النهبى والمثلة. (18)
إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في كتاب الجهاد.
وقد كانت النُّهبة والنهبى عند العرب تساوق الغنيمة والمغنم ـ في مصطلح يومنا هذا ـ الذي يستعمل في أخذ مال العدو.
فإذا لم يكن النهب مسموحاً به في الدين ، وإذا لم تكن الحروب التي تُخاض بغير إذن النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ جائزة ، لم تكن الغنيمة في هذه الوثائق غير ما يفوز به الناس من غير طريق القتال بل من طريق الكسب وما شابهه ، ولا محيص حينئذ من أن يقال : إنّ المراد بالخمس الذي كان يطلبه النبيّ ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ هو خمس أرباح الكسب والفوائد الحاصلة للإنسان من غير طريق القتال أو النهب الممنوع في الدين.
وفي الجملة : إنّ الغنائم المطلوب في هذه الرسائل النبويّة أداء خمسها إمّا أن يراد بها ما يُستولى عليه من طريق النهب والإغارة ، أو ما يستولى عليه من طريق محاربة بصورة الجهاد ، أو ما يستولى عليه من طريق الكسب والكد.
والأوّل ممنوع ، بنصّ الأحاديث السابقة فلا معنى أن يطلب النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ خمس النهبة.
والثاني يكون أمر الغنائم بيد النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ مباشرة ، فهو الذي يأخذ كل الغنائم ويضرب لكلّ من الفارس والراجل ما له من الأسهم بعد أن يستخرج الخمس بنفسه من تلك الغنائم ، فلا معنى لأن يطلبه النبيّ ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ من الغزاة ، فيكون الثالث هو المتعيّن.
وورد عن أئمّة أهل البيت ـ عليهمالسلام ـ ما يدلّ على ذلك ، فقد كتب أحد الشيعة إلى الإمام الجواد ـ عليهالسلام ـ قائلاً : أخبرني عن الخمس أعَلى جميع ما يستفيد الرجل من قليل وكثير من جميع الضروب وعلى الصنّاع وكيف ذلك؟ فكتب ـ عليهالسلام ـ بخطّه : «الخمس بعد المئونة».
(19) وفي هذه الإجابة القصيرة يظهر تأييد الإمام ـ عليهالسلام ـ لما ذهب إليه السائل ، ويتضمّن ذكر الكيفية التي يجب أن تراعى في أداء الخمس.
وعن سماعة قال : سألت أبا الحسن (الكاظم) ـ عليهالسلام ـ عن الخمس؟ فقال : «في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير». (20)
وعن أبي علي ابن راشد (وهو من وكلاء الإمام الجواد والإمام الهادي ـ عليهماالسلام ـ) قال : قلت له (أي الإمام الهادي ـ عليهالسلام ـ) : أمرتني بالقيام بأمرك ، وأخذ حقّك ، فأعلمت مواليك بذلك فقال لي بعضهم : وأي شيء حقّه؟ فلم أدر ما أُجيبه؟
فقال : «يجب عليهم الخمس» ، فقلت : وفي أي شيء؟ فقال : «في أمتعتهم وصنائعهم» ، قلت : والتاجر عليه ، والصانع بيده؟ فقال : «إذا أمكنهم بعد مئونتهم». (21)
إلى غير ذلك من الأحاديث والأخبار المرويّة عن النبيّ الأكرم ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ وأهل بيته الطاهرين ـ عليهمالسلام ـ التي تدلّ على شمول الخمس لكلّ مكسب.
ثمّ إنّ هنا سؤالاً وهو إذا كان إخراج الخمس من أرباح المكاسب فريضة إلهية فلما ذا كان أمراً متروكاً قبل الصادقين عليهما السلام ـ؟
فانّ الأخبار الدالة عليه مروية عنهما ـ عليهماالسلام ـ وعمّن بعدهما من الأئمّة ، بل أكثرها مروية عن الإمامين الجواد والهادي ـ عليهماالسلام ـ ، وهما من الأئمة المتأخّرين ، فهل كان هذا الحكم مهجوراً عند الفريقين بعد عصر النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ إلى عصر الإمام الصادق ـ عليهالسلام ـ؟
والجواب هو انّه قد عرفت تضافر الروايات النبوية على وجوب الخمس في كلّ ما يربح الرجل ويفوز ، وأمّا عدم قيام الخلفاء به فلأجل عدم وقوفهم على هذا التشريع ، كما أنّ عدم قيام النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ بهذه المهمة على رءوس الأشهاد لأجل تفشّي الفقر بين المسلمين يوم ذاك ، والناس كانوا حديثي عهد بالإسلام ، وكانت المصلحة تقتضي تأخير إجراء التشريع إلى الأعصار اللاحقة.
وأمّا عصر الصادقين ـ عليهماالسلام ـ الذي ورد فيه بعض الروايات ثمّ وردت تترى إلى عصر الجوادين ـ عليهماالسلام ـ ، فلأجل تكدّس الأموال بين المسلمين ، الأمر الذي اقتضى الإجهار بالحكم ودعوة الشيعة إلى العمل به ، وإلاّ فأصل تشريع الخمس كان في عصر النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ كما عرفت.
الهوامش
(١) الخراج : ٢٢.
(٢) جامع الأُصول : ٤ / ٦٢١٦٢٠.
(٣) الوسائل : ٦ ، الباب ٥ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٣.
(4) صحيح البخاري : ٤ / ٢٥٠ ، باب «والله خلقكم وما تعملون» من كتاب التوحيد ، وج ١ / ١٣ و ١٩ ، وج ٣ / ٥٣ ؛ صحيح مسلم : ١ / ٣٥ ـ ٣٦ باب الأمر بالإيمان ؛ سنن النسائي : ١ / ٣٣٣ ؛ مسند أحمد : ١ / ٣١٨ ؛ الأموال : ١٢ وغيرها.
(5) فتوح البلدان : ١ / ٨١ باب اليمن ؛ سيرة ابن هشام : ٤ / ٢٦٥ ؛ تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك : ١ / ١٥٧.
(6) الوثائق السياسية : ٢٢٧ برقم ١١٠. (ط ٤ بيروت).
(7) الطبقات الكبرى : ١ / ٢٧٠.
(8) المصدر نفسه : ٣٠٤ ـ ٣٠٥.
(9) المصدر نفسه : ٢٧٠.
(10) الوثائق السياسية : ٢٦٥ برقم ١٥٧.
(11) فتوح البلدان : ١ / ٨٢ ؛ سيرة ابن هشام : ٤ / ٢٥٨.
(12) الإصابة : ٢ / ١٨٩ ؛ أُسد الغابة : ٣ / ٣٤.
(13) الطبقات الكبرى : ١ / ٢٧١.
(14) سنن ابن ماجة : ٢ / ١٢٩٨ برقم ٣٩٣٧ و ٣٩٣٨ ، كتاب الفتن.
(15) سنن ابن ماجة : ٢ / ١٢٩٨ برقم ٣٩٣٧ و ٣٩٣٨ ، كتاب الفتن.
(16) صحيح البخاري : ٢ / ٤٨ باب النهب بغير إذن صاحبه.
(17) سنن أبي داود : ٣ / ٦٦ برقم ٢٧٠٥.
(18) رواه البخاري في الصيد ، راجع التاج : ٤ / ٣٣٤.
(19) الوسائل : ج ٦ الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ١.
(20) المصدر نفسه ، الحديث ٦.
(21) المصدر نفسه ، الحديث ٣.
المصدر كتاب: الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف – الجزء الثاني آية الله الشيخ جعفر السبحاني (هنا )