خاص الاجتهاد: يُعدّ حادث عاشوراء بلا شك من أشد وأعنف التهديدات التي واجهت التشيع على الإطلاق. لقد ظنّ أعداء أهل البيت في عصر عاشوراء أنهم قضوا على كل شيء في صحراء كربلاء!
ورد في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «ارْتَدَّ النَّاسُ بَعْدَ الْحُسَیْنِ عليه السلام إِلَّا ثَلَاثَهً». هؤلاء الثلاثة هم أشخاص معروفون وقد وردت أسماؤهم في الروايات، وهم:
أبو خالد الكابلي: من أهل كابل، يحيى ابن أم الطويل، جبير بن مطعم: أو، وفقًا لبعض الروايات الأخرى، حكيم بن جبير.
لقد وصلت غربة تيار الحق إلى درجة أن الإمام السجاد (عليه السلام) كان يقول: “لا ندري كيف نصنع مع هؤلاء الناس!” فمن جهة، لا يجوز السكوت واللامبالاة؛ إذ يجب علينا أن نؤدي واجبنا في تعليم وتبليغ المعارف والتعاليم الإسلامية. ولكن من جهة أخرى، ليس الناس مستعدين للاستماع إلى المعارف الإسلامية فحسب، بل إنهم يضحكون حتى عندما ننقل لهم حديثًا عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): مَا نَدْرِی کَیْفَ نَصْنَعُ بِالنَّاسِ إِنْ حَدَّثْنَاهُمْ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص ضَحِکُوا وَ إِنْ سَکَتْنَا لَمْ یَسَعْنَا.
لم تكن هذه التحديات سببًا في يأس الإمام السجاد (عليه السلام) ولا حتى رفاقه القلائل. فقد واصلوا، بكل ما أوتوا من قوة، وبحكمة وصبر، نشر المعارف الدينية. شيئًا فشيئًا، أزالوا الحجب من أمام أعين الناس في تلك الحقبة، ووضحوا الحقائق.
كانت نتيجة هذه الجهود، كما وصفها الإمام الصادق (عليه السلام)، أن عددًا أكبر من الناس انضموا إلى جبهة الحق تدريجيًا، وزاد عدد محبي أهل البيت يومًا بعد يوم: “ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ لَحِقُوا وَ کَثُرُوا”.
كان أهم عمل جهادي قام به الإمام السجاد (عليه السلام) هو تبليغ وتبيين التعاليم الإسلامية الأصيلة. ولم تكن هذه المهمة سهلة بأي حال من الأحوال، بل كانت محاطة بقيود شديدة،
فمن جانب الأمويين: لم تسمح سلطة بني أمية للإمام السجاد (عليه السلام) بأي نشاط علني على الإطلاق.
ومن جانب الناس أنفسهم: كما ذكر الإمام نفسه، لم يكن الناس يملكون الصبر على الاستماع المباشر لتعاليم القرآن والنبي. لقد كان هناك فجوة عميقة وخطيرة تفصل هؤلاء الناس عن الإسلام الأصيل.
هذا الوضع كان سائدًا حتى في المدينة المنورة، التي تحولت، تحت تأثير الانحرافات العميقة التي أحدثتها سلطة بني أمية، إلى مركز للملذات واللهو والغناء، وبؤرة للقول الفاحش والسوقية.
ببراعة وذكاء، اختار الإمام السجاد (عليه السلام) أسلوبًا لا يثير الحساسية لنقل المعارف الإسلامية الأصيلة: “قالب الدعاء والمناجاة”. لقد نقل أعمق طبقات المعارف الإسلامية، وأهم الأفكار السياسية والثورية، وكذلك أنجع أساليب التربية الاجتماعية، ضمن هذا القالب.
لهذا السبب، فإن أدعية الإمام السجاد ليست مجرد أدعية ومناجاة بالمعنى المتعارف عليه. بل هي مصدر مهم وفريد لـ:
فهم المعارف الإسلامية.
معرفة استراتيجيات ومبادئ مكافحة الظلم والجور وطريقة إقامة الحكم الإسلامي.
حلول فعالة لإصلاح فكر وثقافة وأخلاق المجتمع الإسلامي.
على سبيل المثال، يبرز التأكيد على الزهد والابتعاد عن الدنيا كعامل مهم للحرية والاستقلالية السياسية والثورية في أدعية وكلمات الإمام السجاد. حتى في الرسالة العتابية التي وجهها إلى محمد بن شهاب الزهري، والتي وبّخه فيها على تعاونه مع حكام الجور، استخدم الإمام هذا الأدب وهذا القالب.
في رأيي، كان الإمام السجاد (عليه السلام) أحد أنجح الشخصيات التاريخية في بناء الثقافة الإسلامية. ففي خضم أجواء عصيبة، تمكن من إنقاذ أعداد غفيرة من الناس من ظلمات الجهل والجهالة، وحرّرهم من الارتباط والاعتماد على سلطة بني أمية الجائرة، كما أنقذهم من شباك أفكار وتوجيهات العلماء والباحثين المتطلعين إلى الدنيا.
خلال ثلاثة عقود من النشاط الدؤوب، استطاع الإمام السجاد (عليه السلام) تغيير الأجواء السائدة في المدينة المنورة بشكل جذري، حتى أصبحت المدينة في زمن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) تُعرف بأنها أهم قاعدة علمية وثقافية لأهل البيت (عليهم السلام).