الاجتهاد: إن الصراع حول الماء هو صراع وجود وبقاء، فعلى الدول إصدار مدونة تشريعية عالمية، تضع الضوابط والأحكام الملزمة لحل مشكلات أي صراع مائي بما يتفق مع الشرع الشريف.
صدر عن ندوة “تطور العلوم الفقهية في عُمان” في نسختها الخامسة عشرة حول “فقه الماء.. أحكامه الشرعية وآفاقه الحضارية وقضاياه المعاصرة” في ختام أعمالها “وثيقة الماء”، وهي الوثيقة التي انبثقت من توجيهات ومباركة حضرة صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- لندوة تطور العلوم الفقهية “فقه الماء وأحكامه الشرعية”، وهي من نوع خاص، تتجلى فيها علاقة الشريعة بالحياة، وتُقرأ فيها الأحكام الفقهية قراءة تاريخية، وتقرأ فيها النصوص قراءة حضارية اجتماعية، ترسم خريطة متكاملة، وتتفاعل فيها علاقة الطبيعة بالإنسان، والدين بالعمران، والنظر بالعمل في سياق جدلية حاكمة لحضارة نابعة من دين، تربط نصوصه بين الماء والإنسان من عالم الشهادة إلى عالم الغيب.
ونصَّت الوثيقة على أن الحياة الإنسانية- وقد أصبح واضحا ارتباطها الوجودي بالماء الذي لا حياة بدونه، ولا وجود بغيره، بل ولا سلام بدون توافق على قواعد التعامل معه لا تستقيم إلا من خلال المبادئ والموضوعات الآتية التي يُوصي العلماء وأهل الاختصاص بتبنيها ودراستها دراسة متعمقة ومقارنة:
أولا: إن الماء نعمة ربانية وضرورة حياتية، فلا ينبغي النظر إليه باعتباره ملكية مشتركة فحسب، بل إنه حق من حقوق الإنسان، لذلك أكدت المواثيق الدولية المعاصرة على الحق في الماء.
ثانيًا: إن الصراع حول الماء هو صراع وجود وبقاء، فعلى الدول إصدار مدونة تشريعية عالمية، تضع الضوابط والأحكام الملزمة لحل مشكلات أي صراع مائي بما يتفق مع الشرع الشريف.
ويحكم البحار حالياً اتفاقية الأمم المتحدة لسنة 1982م لقانون البحار، ويتحدث الجزء الثاني عشر منها عن حماية البيئة والحفاظ عليها، كذلك تتحدث الاتفاقية عن أهم استخدامات البحار، خصوصاً في الملاحة، واستخراج ثرواتها الطبيعية واستغلالها، وقد حلت هذه الاتفاقية محل اتفاقات جنيف الأربعة لعام 1985م الخاصة بالبحار.
ثالثا: تفعيل معاهدات منع الاعتداء حول مصادر المياه، وتجريم تلويثها محليا وإقليميا وعالميا.
رابعا: الاستفادة من التجربة الإسلامية في التعامل مع قضايا الماء ملكية ومعاوضة ووقفا واحتكارا، وذلك بالرجوع إلى قواعد كتب الفقه والنوازل المتصلة بقضايا الماء.
خامسا: العمل على إصدار تشريعات وطنية، تجرم الاعتداء على الماء بأية صورة من الصور.
سادسا: وضع ضوابط تشريعية للمقاسمة في المياه، تقوم على مبادئ عادلة في توزيع الأنصبة والأعباء على حد سواء.
سابعا: توجيه المؤسسات الإعلامية، ومراكز صنع الرأي العام على إيجاد ثقافة إيجابية في التعامل مع الماء الذي قد تزيد قطراته في الأهمية على قطرات الدماء.
ثامنا: توجيه المؤسسات التعليمية للعمل على تكوين بنية ثقافية تحمي الماء في مختلف مراحلها، وتعدّه القضية الأساسية في بقاء الحضارة الإنسانية، وربما كان مهماً أن تفكر الجامعات العربية والإسلامية في اعتماد الفقه الحضاري للمياه مقررا دراسيا.
تاسعا: تعميم ثقافة ترشيد المياه على كل إنسان سواء في إقامة عباداته، أو الالتزام بعاداته، أو محاولته التي لا تتوقف من أجل الاستفادة من المياه في مجالات الزراعة والري وفقه البيئة والنظافة والطهارة، وما تقتضيه الحياة المنزلية والدينية، ومجالات الرياضة المائية بكل صورها، وكذلك الفنون المائية بكل أشكالها.
ويمكن – في هذا الصدد- الاستعانة بالإعلام في هذا الترشيد عن طريق البرامج الجاذبة، والكتيبات المؤثرة التي تستلهم من تاريخ المياه ما يدعم رسالتها.
عاشرا: إن فقه الماء باعتباره فقه الحياة يقتضي إقامة دورات وبرامج للوعاظ والمرشدين والدعاة والعاملين في مجال الفتوى والإعلام للعمل على تعميم هذه الثقافة ونشرها.
حادي عشر: إنشاء أقسام في كليات الهندسة والعلوم والآداب والحقوق والأكاديميات البحرية لدراسة قضايا الماء، فكليات الهندسة تعمل على تطوير آلات الاستفادة من المياه، وطرق مقاسمة المياه، ودور المياه في نشأة المدن وإعمارها.
ونصت الوثيقة على ضرورة تفعيل هذه الوثيقة من خلال: تخصيص مجال في الجامعات والمراكز والمعاهد المعنية لأبحاث قضايا الماء لاستيعاب الأحكام الفقهية والنواحي الاجتماعية والاقتصادية المتعلقة بالمياه وآثارها الدولية.
والدعوة إلى معاهدة دولية عادلة تشمل جميع دول العالم حول القضايا المعاصرة عن الماء، تحوي آليات لحل النزاع، ووضع خُطط التنمية ورسم خرائط التعاون بين العالمين العربي والإسلامي، وتبادل المعلومات والخبرات المتعلقة بها. وأكدت الوثيقة في نهايتها أنَّ حلّ مشكلات المياه وصراعاته مبدأ ديني، وهي أهم مقومات السلام العالمي والإقليمي في الوقت المعاصر.
ختام الندوة
واختتمت أمس أعمال الندوة، وتضمنت أعمال الندوة في يومها الثالث والختامي تقديم 20 ورقة عمل متنوعة الموضوعات والقضايا في ست جلسات. ولاقت الأوراق المُقدمة في الجلسات تفاعلاً من الحضور الذين طرحوا نقاشاتهم واستفساراتهم في كثير من المداخلات.
وتضمنت الجلسة الأولى من اليوم الختامي تقديم 3 أوراق عمل شارك فيها الدكتور أحمد عوض هندي بورقة عنوانها “المجتمع المدني ودوره في المحافظة على الماء في الفقه والقانون”، كما قدم الدكتور خالد سعيد تفوشيت ورقة عمل بعنوان “البعد الاقتصادي لمشاكل الماء في ضوء المقاصد الشرعية”، فيما اختتمت الجلسة بورقة بعنوان “البُعد الاجتماعي لمشاكل الماء في ضوء المقاصد الشرعية” قدمها الشيخ أحمد المتوكل.
أما الجلسة الثانية فتضمنت 3 أوراق عمل، وقدم الدكتور محمد عبدالستار عثمان ورقة “أثر فقه الماء في نشأة المدينة الإسلامية وتطوراتها المعاصرة”، وشارك الدكتور عبدالرحمن الكيلاني بورقة “فتاوى الماء وعلائقها بالمجتمع الإقليمي والدولي في الفقه الإسلامي الحديث”، واختتمت بورقة عمل قدمها الدكتور محمد الشيخ عنوانها “الأبعاد الثقافية لفقه الماء”.
وحملت الجلسة الثالثة عنوان “فقه الماء والصراعات المعاصرة”، واشتملت على 3 أوراق عمل شارك فيها الدكتور محمود مصطفى هرموش بورقة عمل عنوانها “التفسير الفقهي للنزاع حول الماء”، فيما قدم الدكتور عبدالله بن مبارك العبري ورقة “التفسير الاقتصادي للنزاع حول الماء”، واختتمت بورقة قدمها الدكتور محمد الغزالي تحت عنوان “التفسير الاجتماعي للنزاع حول الماء”.
أما الجلسة الرابعة التي أدارها المُكرم حاتم بن حمد الطائي عضو مجلس الدولة، فقد تضمنت 3 أوراق عمل، قدم فيها الدكتور عبدالله بن سيف الغافري ورقة عمل بعنوان “الأفلاج ووسائل الري في عُمان.. قراءة تحليلية نقدية”، وشارك الدكتور محمد المنتار بورقة عمل عنوانها “فقه الماء وأثره في الملكية في الدراسات المعاصرة.. النوازل والمجتمع”،
واختتمت الجلسة بورقة عمل حملت عنوان “الفهم الدولي لفقه الماء في الإسلام” قدمها الدكتور عبدالحي أبرو. وعقدت الجلسة الخامسة تحت عنوان “أحكام البحر في الفقه الإسلامي”، وتضمن تقديم 4 أوراق عمل قدم خلالها الدكتور إبراهيم أحمد عبدالعزيز ورقة بعنوان “القواعد الفقهية الحاكمة للبحار في الفقه الإسلامي”، فيما قدم الدكتور أحمد أبو الوفا ورقة عمل بعنوان “اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982.. رؤية فقهية”. وقدم الدكتور محمد المنسي ورقة عمل بعنوان “السفتجة (نوع من المعاملات المالية) وتطور الضمانات البحرية في الفقه الإسلامي”، واختتمت الجلسة بورقة:حقوق المسافرين وواجباتهم في النقل البحري” للدكتور الحسان شهيد.
واختتمت أعمال الندوة بالجلسة السادسة عبر تقديم 4 أوراق عمل شارك فيها الشيخ عبد الله السليمي بورقة عن “الأحكام الفقهية للمأكولات البحرية” والدكتور عبد الله الشحري بورقة “أثر البحر على بعض الأحكام الفقهية في العبادات والمعاملات”، وتحدث الدكتور أشرف أبو الوفا حول “الحصار البحري وموقف الفقه الإسلامي والقانون الدولي”، فيما أبحر صلاح الطالب في موضوع “الثروة البحرية في الفقه والقانون والاقتصاد”.
إلى ذلك، وفي نهاية الندوة بالمساء، ألقى الشيخ الدكتور إدريس الفاسي الفهري كلمة المشاركين في الندوة، قال فيها إن من واجب المشتغلين بالفقه الإسلامي اليوم أن يشحذوا وسائلهم الاجتهادية، ومناهجهم الدراسية، لمواجهة تحديات عصرهم، وذلك ابتداءً بترتيب البيت الفقهي، ونفض الغبار عن كنوزه، وضبط معطيات موارده ومصادره.
وأضاف أن الدراسات الفقهية وغيرها، تُلقى وتُتداول في عالم مفتوح ثقافياً، لا يمكن لأحد أن يختص فيه بركن قاصرٍ على من يشاركه قناعاته العقدية، وخلفياته الفكرية. فإن عولمة المعارف هي واقع لا يمكن الانفكاك عنه.
وأوضح أنَّ ندوة تطور العلوم الفقهية في نسختها الخامسة عشرة ناقشت فقه الماء، وانصبت في اتجاهات ثلاثة: الأحكام الشرعية، والآفاق الحضارية، والقضايا المعاصرة، معرباً عن أمل المشاركين في أن تكون الندوة إثارة لاستمرار البحث في موضوعها، وألا ينتهي الاهتمام بما أثير من هذه الشؤون والشجون بانتهاء أشغالها.
الرؤية- محمد قنات