هلالان أم هلال واحد ijtihadnet.net

هلالان أم هلال واحد.. الدكتور عبد الجبار الرفاعي

الاجتهاد: تتجدد مع كل عام في العالم الإسلامي الخلافات حيال تنوع الاجتهادات في ثبوت هلال رمضان، وتحديد موعد عيد الفطر، وهكذا هلال ذي الحجة، وتحديد مواعيد عرفة وعيد الأضحى والحج، وقد تنامت وتطورت هذه الخلافات في العصر الحديث؛ تبعاً لتطور المؤسسة الدينية واتساعها في الإسلام، والصراع على احتكار المقدس الذي تخوضه هذه المؤسسة مع السلطة السياسية. تتجدد مع كل عام في العالم الإسلامي الخلافات حيال تنوع الاجتهادات في ثبوت هلال رمضان، وتحديد موعد عيد الفطر، وهكذا هلال ذي الحجة، وتحديد مواعيد عرفة وعيد الأضحى والحج، وقد تنامت وتطورت هذه الخلافات في العصر الحديث؛ تبعاً لتطور المؤسسة الدينية واتساعها في الإسلام، والصراع على احتكار المقدس الذي تخوضه هذه المؤسسة مع السلطة السياسية.

ربما تبدو هذه الخلافات عند السنة محدودة؛ لأن السلطة الدينية تقع في ظل امتداد إرادة السلطة السياسية، فلا يتخطى المفتي غالباً إرادة السلطان، غير أنها تظهر في هذا العصر بوضوح لدى الشيعة؛ لاستقلال السلطة الدينية عن السلطة السياسية غالباً، منذ مأسسة المرجعية الشيعية قبل قرنين تقريباً؛ إذ تحولت المرجعية منذ ذلك الوقت، إلى مؤسسة تحتفظ لنفسها بمسافة عن السلطة السياسية؛ مضافاً إلى عدم تمركز الثانية بشخص واحد أو هيئة واحدة، لتعدد المرجعيات الدينية وتنوعها شيعياً.

وهذا الاستقلال يشي بحيوية هذه المؤسسة وقدرتها على تكوين سياقاتها الخاصة بها. ومع أن غياب التمركز يمنح هذه المؤسسة ديناميتها المستقلة، إلا أنه يفضي أحياناً إلى مواقف متضادة، تثير التباساً وبلبلة في الاجتماع الشيعي، كما نراها عادة تتكرر سنوياً في تعدد مواعيد أهلة رمضان والأعياد.

في كل عام، نحن على موعد مع دعوات ملحة للعودة إلى ما يقوله الفلكيون في ذلك، والكل يعرف أن قولهم دقيق، ذلك أنه يستقي من المعطيات الحديثة في تطور هذا العلم، وتكنولوجيا التلسكوبات والمناظير الإلكترونية، والحسابات الفلكية المتقدمة جداً، التي من خلالها يمكننا استبصار أوقات الصلاة، ومعرفة بدايات الأشهر القمرية، لسنوات طويلة قادمة.

الديني والدنيوي

قبل أكثر من ربع قرن، كنت من أشد المتحمسين لضرورة تبني رجال الدين لما ينطق به العلم، وما يتفق عليه الفلكيون؛ ذلك الحماس يستقي مما ترسب في ثقافتي الشخصية من مطالعات كتابات، مثل: “الدين في عصر العلم” لمحمد فريد وجدي، و”علم الفلك في القرآن” لعبدالرزاق نوفل، و”التكامل في الإسلام” لأحمد أمين العراقي… وغير ذلك من كتابات مبسطة، أغرقت وعي جيلنا قبل أكثر من أربعين عاماً في هوس تطبيق قوانين ونظريات وفرضيات العلوم الطبيعية على القرآن الكريم.

هذه الكتابات توحي كلها بأن معظم ما يكشف عنه العلم اليوم، قد اكتشفه الدين قبل ذلك، وأن الكثير من نظريات وقوانين العلم الحديث تحدث عنها القرآن، قبل أن يعرف علماء الغرب أي شيء من ذلك.

كنت وغيري من الشباب مأخوذاً بالحنين إلى الماضي، وتمجيد الهوية، والشغف بكل شيء يتضمنه الموروث، بوصفه خزانة أسرار كل العلوم والمعارف البشرية.

وليس للعلم من وظيفة سوى إعادة اكتشاف ما كشف عن بعضه أسلافنا من قبل، وإن مهمتنا هي تطبيق الاكتشافات الجديدة مع ما هو مستتر في نصوصنا الدينية.

تلك إحدى البداهات الراسخة في ثقافتي الدينية أمس، وهي لدي من المسلمات القطعية التي لا تقبل نقاشاً. ما أشد حرصي يومئذ على احتواء مكاسب المعارف والعلوم كافة، والاستيلاء على كل شيء جديد وجميل من منجزات العقل البشري، وإسقاطها على نصوصي الدينية.

وكأني في مباراة مع الآخر، هو ينفق جهوداً هائلة، من التفكير والتجريب والعمل المتواصل، يسلك الدروب الوعرة المنهكة، فيراكم خبرات ثرية، وينجز فتوحات مهمة، ويظفر بما يحلم به، ولن يعرف الفشل إليه طريقاً. يكتشف ويخترع ويبتكر ويتقدم، وأنا مسكون بالاستيلاء على ذلك كله، ودمجه – بالقول لا بالفعل – في موروثي، كيما أغرق في المزيد من كوابيسي وأوهامي.

بدأت أستفيق بالتدريج منذ أكثر من ثلاثين عاماً، بعد سياحتي في مسالك التراث المتنوعة، والتعرف على حقوله الواسعة المتشعبة؛ فتبدت لي حقائق مغايرة لما كنت أتلقاه عبر الأدبيات الشعبوية، والمحكيات المنبرية؛ فما كنت أتلقاه شفاهياً عبر مسموعاتي ليس سوى مفاهيم وآراء سطحية، حجبت عني ما يزخر به التراث من ثراء ومفاهيم حية، وما يشتمل عليه من عناصر ميتة.

منذ ربع قرن، عملت على مراجعة نقدية لأدبيات الجماعات الإسلامية، وبتسمية بديلة “البروتستانتية الإسلامية”، فتبدى لي أن هذه الأدبيات ورطتني وجيلي بمغالطات عديدة،

أبرزها الإصرار على تطابق العلم والدين، وأن ما يقوله العلم اليوم قد قاله الدين قبل ذلك، عبر تمديد مساحة ما هو ديني؛ بدمج ما هو دنيوي محض فيه؛ فالعلوم والمعارف والفنون والآداب بمجموعها، ينبغي أن تولد من الدين كي تصبح دينية.

ومن ذلك مسألة الهلال وتحديده؛ فبعد أن أثبت علم الفلك بالدليل القطعي مواعيد ولادة الهلال وظهوره، ومنازل القمر، لم تعد هناك حاجة للعودة إلى الفقيه للحكم في ذلك.

لقد تبنى هذا الرأي القليل من الفقهاء اليوم، ممن نشأوا وتشبعوا في مناخات أدبيات الجماعات الإسلامية؛ إلاّ أن هذا الرأي مازال شاذاً، رغم أنه يحل مشكلة مزمنة، ويخلّص المسلم من الترقب الممل للهلال، والتفتيش عن ذرائع للخلاص من تذبذب الإعلان عنه، والاختلاف في رؤيته بالعين المجردة.

المفارقة هنا أن “البروتستانتية الإسلامية”، التي حرصت بالتشديد على تديين كل ما هو دنيوي، ومحاولة صبغ العلوم والمعارف والأدب، بل كل شيء بصبغة إسلامية، إلاّ أنها في قضية الهلال تبنت موقفاً مغايراً، وكأنها تنزع إلى إخراج هلال رمضان والأعياد من حقله الديني إلى الحقل الدنيوي، مع أن منطقهم في أسلمة كل شيء، ومنها “أسلمة الهلال” كان ينبغي أن يبقي الهلال في السياق الديني، ولا يُنتزع ويُرحّل إلى السياق الدنيوي.

إلى ماذا يحيل الاختلاف في تحديد ولادة الهلال؟

إلى ماذا يحيل الاختلاف في تحديد ولادة هلال الأعياد ورمضان، ومن أين ينشأ تنوع المواقف في ذلك؟
لتحليل موضوع تحديد موعد ميلاد الهلال، وبيان ما تحيل إليه هذه الاختلافات، ينبغي تفكيك مفهومين للهلال؛ وهما:

الأول: مفهوم الهلال الواقعي الطبيعي، الذي هو هلال ينتمي للحقل الدنيوي، بمعنى أن من يكتشف مواعيد ولادته ومنازل حركته هم الفلكيون، بكل ما يمتلكون من نتائج علمية، وحسابات وجداول فلكية، وتكنولوجيا جديدة، من تلسكوبات ومناظير وغير ذلك من الأدوات. هذا هلال يمتلكه الفلكيون، إنهم وحدهم من ينبئنا عنه، وليس لأحد سواهم أن يرفض قولهم، بوصفهم المختصين في ذلك، ومرجعية العقلاء دائماً هي ذوو الاختصاص والخبرة، كل حسب تخصصه وخبرته.

الثاني: مفهوم الهلال الديني، وهو هلال رمزي ينتمي لحقل المقدس، خارج الحقل الدنيوي، وإن كان منشؤه حقيقة واقعية طبيعية فلكية؛ أي مثلما هناك زمان ديني كرمضان والأعياد، ومكان ديني مقدس مثل الكعبة، هناك أيضاً الهلال الذي مفهومه ديني لا دنيوي.

هذا الهلال هو الذي يحدد مواعيد الأزمنة الدينية، ومادام مفهوم هذا الهلال يندرج في الشأن الديني، فبيان منازله ومواعيده ليست في حيازة واختصاص الخبراء من الفلكيين، وإنما من يمتلك المشروعية الدينية لتداول ما يتصل بمواعيده وميلاده هم المختصون بإدارة الشأن المقدس، وهم رجال الدين والمؤسسة الدينية.

الخروج من الدنيوي إلى المقدس

الهلال مثله في ذلك مثل أي شيء يخرج من حقل الدنيا إلى حقل المقدس؛ فالحجر مثلاً المستعمل في بناء الكعبة، عندما كان جزءاً في جبل أو في مقلع للحجر، قبل اقتطاعه وترتيبه بمواصفات بناء الكعبة؛ أي قبل استعماله في البناء، لم يكن مقدساً، غير أنه بمجرد اقتطاعه وترتيبه، ثم دخوله في البناء، صار مقدساً، بوصفه دخل في فضاء المقدس “الكعبة”.

وهكذا هو الزمان أو المكان قبل تقدسه؛ بمعنى أنه عندما كان ينتمي إلى الفضاء الدنيوي لم يكن مقدساً، لكنه بمجرد انتقاله منه إلى فضاء ديني، أمسى مقدساً.

العالم مليء بالأسرار، والكائن البشري مسكون بالكشف عن هذه الأسرار، نحن نبحث عن تفاسير لكل شيء لا نعرفه في العالم. الذهن اليقظ في نشاط مستديم، إنه بمثابة مرجل يغلي إلى ما لانهاية، يظل يغلي إن لم يجد تفسيراً يستقر عنده. الإنسان يتعبه ذلك؛ فيلجأ عادة إلى أي شيء يمنحه الهدوء والدعة، يتشبث بأي تفسير كان، يتناسب ومحتوى ذهنه واستعداده.

إذا كان ذلك التفسير واضحاً أصيلاً، يشعر الذهن بسعادة كبيرة. وهذا ما يحصل حين نعثر على تفسير ذكي؛ فنهدأ، وندافع عنه، ونصر عليه، ثم يصبح في مرحلة لاحقة ضمن تعريفنا لأنفسنا، حين يغدو مكوناً لهويتنا الذاتية، وبعد أن ننتقل معه إلى طور وجودي جديد. هنا نكون مع حدث أنطولوجي يتصل بكينونتنا الذاتية، إذ إن كل عملية تفسير لنص أو شيء أو ظاهرة، نتحقق فيها ومن خلالها بطور وجودي جديد، وهكذا.

في ضوء ذلك، يتجلى ما يخلعه الدين على الأشياء من مفاهيم بديلة، تخرجها من مجالها الدنيوي إلى مجال المقدس. وذلك ما نراه في كل ما ينخرط في الحقل الديني.

إن هذا العالم يستوعب أشياءً لا حصر لها، لا ندرك معناها. الدين يمعنن ذلك، يفك الألغاز، أو تغدو الألغاز من منظور المتدين ذات مضمون، يفيض بمعان يستقيها من رؤيته الدينية؛ كل ما لا نفهمه من خلال وسائل وأدوات العلم المتاحة، مثل المبدأ والموت وما بعد الموت… إلخ، الدين هو الذي يمنحنا تفسيراً له، يخرجنا من حالة الحيرة والارتياب، إذ إنه يخلع معنى على ما لا معنى له.

المهمة المحورية للدين معننة ما لا نفهمه في الحياة؛ عندما يقدم الدين لنا تفسيراً لما لا نعرفه؛ نتحقق في هذا التفسير ومن خلاله بطور وجودي جديد. الدين يُعد نظاما سيميائيا مكثفاً وخصباً، وإن المعاني التي ينتجها هذا النظام تشتغل على المستوى الرمزي بأعلى طاقاتها، ثم تتحول إلى مستوى الفعل في العالم الخارجي/ الموضوعي.

الدين هنا بوصفه ذلك المعطى الحياتي الذي يتمثله الأفراد، وتظهر تعبيراته في حياة الجماعات البشرية؛ لتعريف وتأطير مجموعة من السلوكيات والروابط المنبثقة عن تحسس الإنسان لبعد مختلف في وجوده، ربما غير قابل للتفسير التجريبي الأمبريقي.

وهذا المعرف والمؤطر اكتسب قوة ونفوذاً من توفيره تفاسير جاهزة واضحة لظواهر في الوجود ما زالت غامضة، وبالتالي مخيفة ومربكة للكائن البشري، لكل ما يحتاجه الفرد، وما تحتاجه الجماعات لبقائها واستمرارها. إنه يحمي من القلق والذعر والعدمية والعبثية والضياع والجنون.

ولفرط احتياج الكائن البشري للدين، وانشغاله بتفسيراته المتنوعة؛ المشتقة من: أحكامه المسبقة، وأفق انتظاره، ونوع احتياجاته، ومعطيات بيئته، وطبيعة حياته، ونمط وجوده، أصبح الدين باباً للسكينة والطمأنية والأمن والسلام، مثلما أضحى على الضد أيضاً، باباً للتسلط وللاستغلال؛ تبعاً لنوع الشخص والجهة التي تتبناه، ولكيفية توظيفها له واستغلاله، في مختلف المواقف والأنشطة والعلاقات الاجتماعية وصراعات الأفراد والجماعات.

كيفية إنتاج الدين للمعنى

أما كيفية إنتاج المعنى، ونمط الدلالات التي يوظفها الدين في ذلك، فإنها تتحقق عبر مجموعة من الوسائل والروافد والميكانزمات، الرموز واحدة من أهمها، ذلك أن الإنسان بطبيعته كائن رمزي، أو حيوان رمزي. حياة الإنسان كلها رموز، كل شيء يرمز لشيء كل شيء علامة على شيء، كل شيء إشارة لشيء. العلامة والرمز والإشارة لغة صامتة، إنها خزّان للدلالات، تكتنز بكثافة وثراء تعبيري، لذلك تغدو منبعاً لتوليد المعانى. تنتشر الرموز انتشاراً واسعاً في المجتمعات البشرية، بنحو لا نعثر على مجتمع يخلو من الرموز والإشارات والعلامات.

وكما يستقي الإنسان المعاني والدلالات من الكلمات والألفاظ في اللغة الشفاهية المنطوقة، هو يستقيها أيضاً من الرموز والإشارات والعلامات؛ أي مما هو صامت. وتوليد ما هو صامت للمعاني يفوق ما هو ملفوظ، فضلاً على أن ما هو صامت لا يتواطأ على حجب الحقيقة وتزويرها.

ففي دراسة قام بها عالم النفس الأمريكي ألبرت ميهرابين، اكتشف أن: 7% فقط من الاتصال مع الآخر يكون بالكلمات، و38% بنبرة الصوت، و55% بلغة الجسد. ويعتقد علماء النفس في الوقت الحاضر بأن 60% من حالات التخاطب والتواصل بين الناس تتم بصورة غير شفهية؛ أي عن طريق الإيماءات والإيحاءات والرموز، لا عن طريق الكلام واللسان، ويقال إن هذه الطريقة ذات تأثير قوي، أقوى بخمس مرات، من ذلك التأثير الذي تتركه الكلمات[1].

ولما كان الدين يهتم بنوع: اللباس، الطعام، المكان، الزمان، وبالكثير من الأشياء، ويضفي عليها دلالاته المقدسة الخاصة، فمثلاً يكتسي اللباس الذي يستعمل في طقس ديني بعلامات وإشارات ورموز، توّلد مفاهيم قدسية جديدة، يخلو منها قبل ذلك، وقتئذٍ يتحول إلى فضاء آخر، يخرج فيه من مجاله الدنيوي إلى المقدس، ملهماً من يرتديه فيضاً من المعاني، التي تغذي مشاعره وعواطفه، وتسقي تجربته الروحية.

اللباس مثلاً الذي يرتديه الحاج في الحج ـ الإحرام ـ ينتقل من كونه قماشاً عادياً إلى لباس محترم مقدس، بمجرد أن يرتدي الحاج ملابس الإحرام ويردد التلبية، يتم ترحيل هذا اللباس إلى فضاء بديل، يصير بحالة دينية خارج فضاء الدنيوي، يصبح ذا مضامين جديدة، بعد دمجه بطقس الإحرام، وارتداء الحاج لهذا اللباس. تغدو لهذا اللباس وظيفة رمزية روحية، تنتج سلسلة من المعاني؛ أصبح له مفهوم مختلف، إنه محترم مصون، يفيض معنى جديداً، لم يكن يتضمنه من قبل أن يغدو إحراماً، تضمن دلالات بديلة، وصار ذا كثافة تعبيرية، تنتج معاني جديدة.

وهكذا الحال عندما يُتخذ زمان معين عيداً، أو مناسبة دينية، أو يُتخذ مبنى أو مكان معبداً. كل ذلك يعني أن الدين منح هذا الزمان أو المكان رمزية خاصة، أعطاه إمكانات تعبيرية أخرى، أضاف إليه إشارات تلمح إلى أنه صار مقدساً. يمسي هذا الزمان مختلفاً عن الزمان الآخر؛ أي الزمان العادي الممل.

الدين عندما يعتبر زماناً ما عيداً مثلاً، فإنه يرتقي ويتسامى به، فيمنحه وظيفة أخرى، وكأنه أعاد الزمان إلى فجره، ذلك الزمان الذي لم يتلوث، لم يستعمل بعد؛ أي إنه يصبح زماناً طاهراً، غير مدنس. العيد مناسبة لأن يجدد فيها الإنسان الزمان، ويتخلص من رتابته المملة، وعبء تكراره، وكأنه ينتقل به من زمان ميت، يفتقد معناه، إلى آخر حي، مشبع بالمعاني[2].

الهلال الديني الرمزي، وكذلك كل عنصر من الممتلكات الرمزية المقدسة، هو أحد المنابع التي يتغذى منها نظام إنتاج المعنى المقدس في المجتمعات الدينية، والاستحواذ عليه هو استحواذ على رافد يسقي هذه الحياة، ويعمل على بناء نمط السلطة الروحية في المجتمع، ويحدد مديات نفوذها واتساعها.

من يمتلك أنظمة إنتاج المعنى يمتلك السلطة

هناك علاقة جدلية بين امتلاك أنظمة إنتاج المعنى وامتلاك السلطة، سواء كانت معرفية، أو سياسية، أو عسكرية، أو روحية. المعرفة تنتج سلطة، السلطة تنتج معرفة، تعززها وترسخها وتغذيها على الدوام؛ كل سلطة تحرص على امتلاك كافة منابع المعرفة. وكما تعمل السلطة على إيجاد المعرفة، المعرفة بطبيعتها تحدد نوع السلطة. وبتعبير آخر؛ التأثير متبادل بين السلطة ونظام إنتاج المعنى، كل منهما يؤثر في الآخر، ويتأثر به؛ فكل من يمتلك أنظمة إنتاج المعنى يمتلك السلطة، وكل من يمتلك السلطة يمتلك أنظمة إنتاج المعنى، أو يحتكر أنظمة إنتاج المعنى.

من يمتلك أنظمة إنتاج المعنى الروحي يمتلك تبعاً لذلك السلطة الروحية، ومن يمتلك السلطة الروحية يعمل على احتكار أنظمة إنتاج المعنى الروحي. وهكذا، من يمتلك أنظمة إنتاج المعنى السياسي يمتلك تبعاً لذلك السلطة السياسية، ومن يمتلك السلطة السياسية يعمل على احتكار أنظمة إنتاج المعنى السياسي، بل يسعى إلى الهيمنة على غيرها، وتوظيفها كلها من أجل ترسيخ سلطته. من طبائع السلطة السياسة، بل كل سلطة؛ إنها تتمدد وتتسع باستمرار، تتغلغل وتخترق كل شيء، تتمكن من اختراقه والاستيلاء عليه.

لذلك تحاول التهام المال والحريات والحقوق، بل كل ما تستطيع أن تطاله وتصل إليه؛ أياً كان، مما يكرس سطوتها على حياة الناس. ما لم تضع السلطة لنفسها دائرة نفوذ مرسومة بوضوح، وتضبط ذلك بقوانين صارمة، فلن يحد من تغولها أي شيء سواها.

تلك هي آلية اشتغال السلطة، حيثما كانت، كيفما كانت، أينما كانت. طبيعة السلطة نسيج متشعب عميق معقد، متغلغل في كل ما هو: كبير وصغير، جزئي وكلي. إنها تتشكل عادة مما هو: ظاهر ومستتر، مباشر وغير مباشر، معلن ومضمر، جلي وخفي، حاضر وغائب، معلوم ومجهول.

لا أريد أن أتحدث أكثر عن شباك وشراك، وأنماط السلطة، وإنما فقط وددت الإشارة بإيجاز إلى شيء من طبائع السلطة، بغية الكشف عن الرأسمال الذي تتداوله، ونوع الأسهم التي تستثمرها، وكيفية تنميتها وتوالدها، وتشعب نسيجها.

الذين يصرون على التوكؤ على آراء الفلكيين، والاستناد إليهم كمرجعية وحيدة نهائية في كل ما يتصل بالهلال، ومواعيد الأعياد، وشهر رمضان، إنما يحاولون الاستحواذ على أحد الممتلكات الدينية، ذات التأثير المهم في إنتاج المعنى الروحي، وتمتين بنية السلطة الروحية.

إنهم يعملون على إخراج الهلال، الذي هو مؤطر بمضمون ديني، وانتزاعه من حقله الخاص، وتفريغه من محتواه، بعد أن يجردونه من مضمونه الديني، حيث يرحلونه إلى السياق الفلكي، ليغدو هلالاً مختلفاً، لا علاقة له بالسياق الديني. بمعنى آخر إنهم يتعاطون معه بوصفه الهلال الواقعي الطبيعي، الذي يقع في حيز الخبير الفلكي، والملحق بالشأن الدنيوي، والذي لا يمت بصلة إلى الشأن الديني.

وطبقاً لما يقوله أصول الفقه، فإن فعلية الحكم الشرعي تدور مدار توفر تمام عناصر موضوعه، وهذه العناصر هي: عبارة عن كافة المواصفات والقيود والشروط المأخوذة في موضوع الحكم، والتي بمجموعها تمثل الموضوع. وذلك ما تقرره القاعدة المعروفة في الأصول: “المشروط عدم عند عدم شرطه، أو المقيد عدم عند عدم قيده”. وما يقع موضوعاً للحكم الشرعي هنا بغرة شهر رمضان وتصرمه وبدء العيد في اليوم الأول من شهر شوال، وهكذا أهلة الحج والأشهر القمرية؛ إنما هو الهلال الديني الرمزي؛ أي الهلال الذي تؤطره المواصفات والشروط والقيود المنصوص عليها دينياً.

وليس الهلال الواقعي الفلكي، العاري من تلك المواصفات والشروط والقيود، ذلك أن الثاني ليس هو موضوع الحكم الذي يتمسك به مشهور الفقهاء، ممن لا يقبلون توظيف الحسابات الفلكية وتكنولوجيا الكشف عن ولادة الهلال، وهو ما يدعوهم للتشبث بالرؤية البصرية المباشرة، والقول بتعدد الأعياد، تبعاً لتعدد الآفاق جغرافياً، حتى وإن لم يتطابق ذلك مع ما يكتشفه علماء الفلك، وحساباتهم العلمية، وأدواتهم الرصدية.

 

[1] ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.
[2] الرفاعي، عبدالجبار، إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين، بيروت: دار التنوير ومركز دراسات فلسفة الدين، 2013، ص ص 21-22

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky