الملكية في الاقتصاد الإسلامي ليست مطلقة، فأياً كان مالك الثروة أو وسيلة الإنتاج،إنما هو مكلَّف شرعياً بتوظيفها وإدارتها لما فيه خدمة الجميع بدون أي استثناء، هذه القاعدة الشرعية تجمع بين الملكية الخاصة والعامة في إطار وظيفي واحد وهو تحقيق الغاية السامية من النشاط والجهد البشري. بقلم : عبدالله محمد العور *
الاجتهاد: في هذه المقالة سنحاول توضيح عدد من المفاهيم الملتبسة عن الاقتصاد الإسلامي خاصةً في ساحة الجدل والثقافة العالمية، وسنحاول برهنة أن النظام الاقتصادي الإسلامي ليس نموذجاً جاهزاً وجامداً بالمطلق، كما يعتقد البعض مما يجعل من عولمته وكأنها محاولات لفرض الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي ولد هذا النظام من رحمها،على بلدان متباينة من حيث الثقافة ومتطلبات التنمية ومن حيث التركيبة الاقتصادية والاجتماعية. كما سندلل على أنه ليس نظاماً مثالياً غيبياً، أو مركزياً من حيث الجغرافيا والعقيدة.
لقد كان الجمود في النظريات الاقتصادية الذي عززته المنافسة على ملكية السوق، سبباً في أزمة هذه النظريات، حتى محاولات الإصلاح التي جاءت لإنقاذها، لم تكن سوى محاولات لفرض القديم بثوب جديد، لذلك رأينا أن النيوليبرالية الاقتصادية تبعت مرحلة الليبرالية بدون محاولة جادة لفهم ما سببته هذه الأخيرة من تفاوت في المداخيل وتهميش اجتماعي وتركيز للثروة في أيدي النخبة، كذلك رأينا كيف عولجت البيروقراطية في نظم أخرى بالمزيد من البيروقراطية، ويمكن توصيف هذه المحاولات بأنها إجبار البشرية على التكيف مع أزمة النظام الاقتصادي، وليس إجبار هذا النظام للتكيف مع حاجات البشر.
لا شك في أن العالم قد دخل منذ مدة ليست قصيرة مرحلة البحث عن نظم اقتصادية مختلفة عن تلك التي أظهرت عجزاً ملحوظاً في مواجهة السيل الجارف من الأزمات المتتالية، ولا شك أيضاً في أن القناعة بالتجديد والإصلاح دخلت ضمن أجندة حتى أولئك الذين قاوموها لعقود طويلة خشية المساس بمكاسبهم وحصصهم في السوق.
إن محاولات النهوض بأسواق العالم من كبوتها التي طالت، هي محاولات محمودة بلا شك، لكن يجب الإشارة إلى ما يعتري هذه المحاولات من أخطاء قد تكون تكراراً لأخطاء الماضي بمنهج جديد.
لا غنى عن التأكيد أن البشر بطبيعتهم يميلون نحو الوصفات الجاهزة عند البحث عن نماذج اقتصادية أو اجتماعية للتطبيق، والسبب في ذلك هو القناعة الخاطئة بأن الفلسفة والعلوم الاقتصادية قد استنفدت كل ما لديها خلال مسيرتها التاريخية الطويلة التي بدأت منذ آلاف السنين، فالبحث عن النماذج الاقتصادية الأفضل لا يجب أن يتوقف عند حدود الوهم بإفلاس الفكر والثقافة عن إنتاج ما هو جديد وجوهري ومختلف، بل أن البعض يرى أن هذا الوهم بات يشكل المعضلة الأساسية للثقافة الاقتصادية التي تحتاج إلى تجديد في جوهرها ومبادئها الأساسية.
الاقتصاد الإسلامي نظام حيوي، ثقافته التي تحدد وظيفته ومقاصده وتجعله إنسانياً بالمعنى الشامل للكلمة، ممثلة بالعدالة والنزاهة والمساواة هي ثوابته الوحيدة، بينما الخطوات التي تمكننا من تحقيق هذه الغاية متغيرة لتناسب خصوصية كل بلد وظروفه الاجتماعية وطبيعة موارده وأسواقه ومهارات قواه الإنتاجية.
من إحدى المقولات التي تتردد باستمرار عند تناول الاقتصاد الإسلامي وتصفه بالنظام الغيبي والمثالي لأنه نابع من عقيدة دينية، إلا أن مراجعة تاريخية بسيطة تشكف لنا أن النظام الاقتصادي الإسلامي لا يعترف إلا بالأصول الحقيقية الملموسة كأساس للثروة، ويعتبر أن الاقتصاد الإنتاجي الحقيقي الذي يرفد الأسواق بناتج العمل من سلع وخدمات حيوية، هو وحده الكفيل بوضع مسيرة التنمية في العالم على بداية مسارها الصحيح.
في المقابل اتسمت الكثير من العمليات الاقتصادية في النظم التقليدية بالاعتماد على أصول غيبية لا وجود لها في الواقع، أي السيولة الوهمية الناجمة عن المضاربة والمراهنة على تذبذب أسعار السلع المادية.
أما المقولة الأخرى والتي يخطئ الكثيرون عند ربطها بالاقتصاد الإسلامي، فهي عدم واقعية تشريعاته لاعتقادهم أن هذه التشريعات عقائدية المصدر وبالتالي فإن كل من يخالفها يرتكب خطيئة ويدخل في المحرمات.
إن التشريعات الثابتة التي يتبناها الاقتصاد الإسلامي هي ذاتها التي تأسست عليها معظم الأنظمة الاقتصادية، وهي تحقيق الرفاهية للبشر وترجمة قيم العدالة والمساواة والشراكة في الثروة وناتجها. هذه القيم تجمع كافة النظريات والأيديولوجيات، لكن نضيف عليها أن الملكية في الاقتصاد الإسلامي ليست مطلقة، فأياً كان مالك الثروة أو وسيلة الإنتاج، إنما هو مكلَّف شرعياً بتوظيفها وإدارتها لما فيه خدمة الجميع بدون أي استثناء، هذه القاعدة الشرعية تجمع بين الملكية الخاصة والعامة في إطار وظيفي واحد وهو تحقيق الغاية السامية من النشاط والجهد البشري.
مثال آخر على واقعية التشريعات، يتمثل في موقف الاقتصاد الإسلامي، من مراكمة الثروة من خلال الفائدة على القروض والمضاربة على أسعار العملات والمعادن، إذ تعتبر وسائل غير مشروعة للإثراء، لأن المال ينمو بدون أن يدخل في عمليات إنتاجية حقيقية توفر وظائف دائمة وسلعاً ضرورية لحاجة الناس. ولم تكن الأزمة الاقتصادية الأخيرة إلا نتاجاً لمضاربة الشركات المالية على أسعار العقارات، وطمع بالناتج المقطوع من القروض السكنية بالمقابل. وهل بقي بعد تجربة أزمة العقارات من لا يتفق مع الاقتصاد الإسلامي بأن هذه الوسيلة للثراء غير شرعية؟
الاقتصاد الإسلامي أيضاً ليس مركزياً، سواء من الناحية الجغرافية أو الناحية العقائدية كما هو حال النظم الاقتصادية التقليدية، فإحدى مشكلات الاقتصاد تمثلت بأن كل نظام كان له مركزه الجغرافي الذي يقوده ويحاول إسقاطه كما هو على دول أطراف هذا المركز لتعزيز مناطق نفوذه إبان الحرب الباردة، حتى وصل الأمر باحتدام الصراع بين هذه النظم والذي اتخذ عدة أشكال جوهرها اقتصادي. الاقتصاد الإسلامي لا يلغي فكرة وجود حاضنة ترعى نموه وتعمل على تطويره، لكن لهذه الحاضنة وظيفة واحدة وهي الخدمة والدعم وليس الاحتكار أو توظيف النفوذ الاقتصادي.
والاقتصاد الإسلامي يراعي القيم الأخلاقية التي تحدد المكانة الاجتماعية للفرد كالديموقراطية والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص من إخلال إعادة توصيف وسائل الإنتاج ومنع احتكارها باعتبارها ملكية اجتماعية أولاً وأخيراً وليست ملكاً لفرد أو مؤسسة بعينها. إن الديموقراطية والعدالة الاجتماعية مرتبطتان بالاقتصاد بشكل عضوي لا فكاك فيه، الكلمة الأولى التي قالتها أوروبا بعد أزمة 2008 كانت “إننا نخشى على منجزاتنا الحضارية بسبب ما قد تنتجه الأزمة من تفكك اجتماعي”.
كيف يمكن الحديث عن العدالة او الديموقراطية في ظل منظومة اجتماعية مختلة يسودها التفاوت في المداخيل وعدم المساواة في الحصول على تعليم وعلاج ورعاية اجتماعية؟
إن المحاكمة الوحيدة لأي نظام اقتصادي هي مدى قدرته على تلمس حاجة البشر للعيش الكريم وترجمتها بثبات ووعي، ومدى قدرته على ترجمة القيم التي بقيت في معظمها مجرد شعارات مؤجلة لم تتحقق حتى الآن، والأهم من ذلك مدى القدرة على استيعاب الخصوصية الثقافية لكل بلد بحيث يأتي استجابة لحاجاته وليس محاولة لفرض واقع غريب عنه.
*المدير التنفيذي لمركز دبي لتطوير الاقتصاد الإسلامي
المصدر: جريدة الرياض