الشأن

دور الزمان والمكان في عمليّتي الاستنباط والاجتهاد عند المرحوم النائيني

من الضروري للفقيه مراعاة دور الزمان والمكان في عمليّتي الاستنباط والاجتهاد مضافاً إلى الأدلّة الأربعة – القرآن والسنّة والعقل والإجماع- ومراعاة دور الزمان والمكان ضروريّة للفقيه في مرحلتين: 1 – عند فهم کلام المعصومین والظروف التي صدر فيها. 2 – عند تطبيق الدين والأحكام الفقهية على حياة الإنسان المعاصر والعالم المتمدّن.

الاجتهاد: يوجد مضافاً إلى الأدلّة الأربعة في عمليّتي الاستنباط والاجتهاد – القرآن والسنّة والعقل والإجماع – عنصران مهمّان هما الزمان والمكان. ومراعاة دور الزمان والمكان ضروريّة للفقيه في مرحلتين:

1 – عند فهم کلام المعصومین والظروف التي صدر فيها. 2 – عند تطبيق الدين والأحكام الفقهية على حياة الإنسان المعاصر والعالم المتمدّن.

ففي القسم الأوّل يجب الأخذ بنظر الاعتبار أن رسول الله (ص) والأئمّة المعصومين (ع) قد أصدروا وبيّنوا بعض التوجيهات والأحاديث في ظروف زمانيّة ومكانيّة معيّنة، لا بعنوان القاعدة والمبدأ الدائم والثابت.
وبعبارة أخرى: إن الأحكام الصادرة منهم تكون على نوعين: أحكام تبليغية وأحكام ولائية، وهذا يستند إلى مبدأ آخر هو أنهم كان لهم مقامات ثلاثة، هي: تبليغ الأحكام والقضاء والزعامة”.(۱)

إن التمييز بين هذين القسمين من النصوص والأحاديث هو المفتاح للكثير من الصعوبات الفقهيّة، فأحياناً كان المعصومون يتكلمون باعتبارهم قادة اجتماعيّين يمتلكون الولاية والإشراف، وأحياناً كانوا يتكلّمون من زاوية تبيين و تبلیغ أحکام الله.

وعدم التفات الفقيه إلى هذه المسألة يجعل منه أحادي النظرة، فيقع أسيراً في حدود المسائل الفردية، ويجد نفسه أمام الكثير من الروايات في مفترق طريقين، إمّا أن يحملها على التقيّة، أو يجمع بينها ويصل إلى حكم مستحب، ويقف عاجزاً عن تفسير الاختلافات القوليّة والعمليّة للمعصومين.

ومن أمثلة ذلك ما في باب الزكاة من أنّه هل تتعلّق الزكاة بتسعة أشياء أم أكثر ؟ والروايات على أنواع، فبعض منها تعتبر الزكاة خاصّة بتسعة أشياء، وبعض أكثر من ذلك، وفي بعض منها تصريح واضح بأنّ رسول الله (ص) قد وهب ما زاد على الأشياء التسعة”.(2)

وهنا تظهر فائدة النقطة السابقة، أي هل أنّ هبة رسول الله (ص) صدرت من مقام الولاية والقيادة، أم من جهة مقام تبيين الأحكام ؟ فاختيار أيّ واحد من هذين الجوابين ستكون له نتائج مختلفة.

وفي كلام النائيني إشارات إلى هذه النقطة: ففي بحث ولاية رسول الله (ص) والأئمة المعصومین یشیر أوّلاً إلى الولاية التكوينيّة والتشريعيّة وإمكان وقوعها لهم، ويرى أنّها قابلة للإثبات بالأدلة الأربعة. وهو يرى أنّ ولايتهم التشريعيّة تتضمّن جهتین:

1 – الناحية التبليغية وتوضيح الأحكام والقيّم الدينيّة.

2 – الناحية الولائيّة والحكوميّة.

وهو يعتقد أنّ كلام وأفعال المعصومين (ع) يجب النظر إليهما ومعرفتهما من زاويتين :

1 – من جهة أنّهم في مقام بیان حکم من احکام الاسلام.

2 – من جهة أنهم ولاة المجتمع والمشرفين عليه، وقولهم وعملهم يصاغ على أساس حاكميّتهم. وكما هو الحال في المقام الأوّل حيث يكون كلامهم حجّة شرعيّة والتخلف عنه غير جائز، كذلك في الأحكام الولائيّة و الحکومیة ایضا، حیث یکون عصیان اوامرهم والتخلّف عن توجیهاتهم ذنباً لا یمکن الاغضاء عنه.

إنّ قبول القسم الأول ورفض القسم الثاني ليس مقبولاً بأيّ وجه من الوجوه، وهو ما يؤكّده النائيني حيث يقول: إنّ أولئك الذين يعتبرون الولاية التشريعية للمعصومين منحصرة في صفتهم التبليغية، ويرفضون صفتهم الولائية ولزوم طاعة أوامرهم في هذا المجال، هم على خطأ كبير. إنّ هؤلاء لم يفهموا الولاية بمعناها الصحيح.

ألا يعلمون أنّ الولاية هي الرئاسة على الناس في أمور الدين والدنيا والمعاش والمعاد ؟ وألم يقل رسول الله (ص) في خطبة الغدير: (ألست أولى بكم من أنفسكم) ؟ هل هذا مظهر تبليغيّ أم ولائي ؟ إنّ هنا أخباراً متواترة وكثيرة أكتفي هنا بهذه الإشارة لها(3).

وعلى هذا، فإن الأحاديث والأخبار الواصلة إلينا عن المعصومين، أحياناً تكون منبعثة من زاوية كونهم مبلّغين، وأحياناً من زاویة حاکمیّتهم و ولایتهم. ومعرفة هذه النقطة تساعد الفقيه مساعدة مهمّة فى استنباط الأحكام الفقهيّة. فما أكثر ما تکلّم رسول الله (ص) أو الأئمة (ع) بناءاً علی المصلحة واحتیاجات الزمان والمکان کلاما نابعاً من ولایتهم وحکومتهم دون أن يكون بعنوان المبدأ الدائم الذي لایقبل التغییر.

إلّا أنّه وكما قلنا سابقاً، فإنّ التمييز بين هذين البعدين يعدّ أمراً ضروريّا للوصول إلى الفهم الصحيح لحديثهم. وإذا لم يميّز الفقيه بين هذين البعدين في مقام الاستنباط، فلا يستطيع أن يفتي بصورة صحيحة.وربما جابهه شيء من الاختلاف في حدیثهم و سیرتهم أيضاً، فلا يكون مؤهّلاً لرفعه دون الالتفات إلى هذين البعدين.

والأمر الآخر الذي يجعل دور الزمان والمكان فى استنباط الأحكام ضرورياً، هي مسألة معرفة الفقيه بالقضايا. فكثيراً ما كان لمسألة في السابق حكم فقهي ما، واليوم أصبح لهذه المسألة نفس حكم جديد نظراً إلى العلاقات الجديدة المؤثّرة على سياسة واجتماع واقتصاد نظام ما، فتصبح هذه القضية ذات شکل من الاتّساع والضيق.

انّ عمق وعی الفقیه لعنصريّ الزمان والمکان هو الذي یمکّنه من حلّ هذه العقدة، فيتمكّن بسهولة من تطبيق الدين على حياة الإنسان المعاصر والعلاقات المسيطرة عليه. وفي هذا المجال كان النائیني أیضاً مبتکراً و طلیعیّاً و استفاد کثیراً من هذین العنصرین في استنباط الأحكام الفقهية.

لقد كان ينظر إلى أحكام الإسلام من منظار كلّي ويقسّمها إلى قسمین :

1 – الأحكام والأفعال المنصوصة التي لا تقبل التغيير في أيّ زمان أو مکان.

2 – الواجبات والاحکام التي لا دلیل صریح علیها و تتوقّف علی رأي الفقيه الذي يبيّن حالها وفقاً لما تقتضيه المصلحة والزمان والمکان.

ویری النائیني ان القسم الثاني من احکام الاسلام قابل للتنسیق. مع أيّ بيئة وظرف، و یعتقد أنّه یمکن في کلّ زمان و مکان تطبیق تلك الروح الكلية على الموارد والنماذج الجديدة، كما يمكن تغييرها أيضاً:
«بعد أن علمت أنّ القسم الثاني من السياسات النوعية لا يندرج تحت ضابطة أو ميزان معين بل يختلف باختلاف المصالح والمقتضيات، ولهذا لم تنصّ عليه الشريعة المطهرة وأوكلت أمره إلى مشورة و ترجیح (من له ولاية النظر). إذن، فلا بدّ أن تكون القوانين الراجعة إلى هذا القسم مختلفة وفي معرض النسخ والتغيير تبعاً لاختلاف المصالح والمقتضيات باختلاف الأعصار….

و من هنا یتّضح أنّ القانون المتکفّل بوظیفة نسخ و تغییر القوانین منحصر بالقسم الثاني ، ويظهر مدی صحّته و ضرورته، وأنّه جزء من الوظائف الحسبيّة”.(4)

و تأسیساً علی هذا الأصل الکلّي یستخرج النائیني فروعاً من المسائل الحكومية والاجتماعية الإسلامية :

1 – جواز وضع القوانين والرسوم الاجتماعية في أي عصر؛ وفقاً للقسم الثاني.

2 – مشروعية استشارة الشعب وقبول رأي الأكثرية، استناداً إلى هذا الأصل نفسه.

3 – إن إجازة الفقيه الجامع للشرائط تعطي المشروعية للكثير من القوانين والمعتقدات العرفية والاجتماعية.

4 – إنّ الكثير من القوانين والأحكام كانت على مرّ الزمان تمرّ بمراحل مختلفة من السعة أو الضيق.

ونشاهد على مدى تاريخ الحوزات العلمية الكثير من الأمثلة على هذا النوع من الفهم والاتّجاه الفقهي، حيث يفتي أحد الفقهاء في أحد المواضيع في فترة وجوده خارج السلطة بشکل يختلف عمّا یفتي به في فترة حکومته. ویمکن الاشارة في هذا المجال الی الفتاوى المتطوّرة والمصيرية للإمام الخميني.

ففي مسألة التسعير کانت له فتویان، احداهما:
« لا یجوز تثبیت سعر الأجناس ومنع مُلاکها عن البیع بالزيادة(5).
إلا أنّه مع افتراض حاكمية الإسلام واقتدار الفقيه، يقول عن الموضوع نفسه هکذا :
للإمام(ع) و والي المسلمين أن يجعل ما هو صلاح المسلمين من تثبيت سعر أو صنعة أو حصر تجارة أو غيرها ممّا هو دخيل في النظام وصلاح الجماعة(6)

وربما يمكن القول إنّ شكل الحكومة وأسلوب إدارة المجتمع أيضاً من القضايا التي يلعب الزمان والمكان فيها دوراً أساسياً مهمّاً. ولهذا نرى النائيني في فترة الحركة الدستوريّة لم يكن مصراً على الولاية المطلقة للفقيه، بل كان يرى كفاية إجازة الفقيه للسلطان كي يقوم بإدارة النظام في إطار الدستور، ويكتفي في إقرار مشروعية الحاکم ، إذا كانت حكومته بإجازة وتولية من « لهم ولاية النظر).
وخلاصة الكلام إنّ الشيخ النائيني يثبت دور الزمان والمكان من الناحية العلمية والنظرية، كما يثبته من الناحية العمليّة والواقعيّة، ویراه من الادوات الفعالة والمفيدة في الفقه.

الهوامش

(1) الشهيد الأول، القواعد والفوائد، مكتبة المفيد، قم ، ج 1، ص 214.
2 – وسائل الشيعة ، ج6، ص 32.
3- المكاسب والبيع ،ج2، ص 333
(4) تنبيه الأمة وتنزيه الملة، ص 98.
5 – الإمام الخميني، تحرير الوسيلة، ج2، ص 623.
6 – المصدر نفسه.

المصدر: مقالة بعنوان: إبتكارات النائيني في الفقه للباحث : أبوالقاسم اليعقوبي في كتاب ” محمد حسين النائيني وتأسيس الفقه السياسي – مجموعة باحثين..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky