الاجتهاد: استند القائلون بعدم مواكبة الاحكام الإلهية للتطور الزماني والظرف المكاني للمكلف إلى أن الحياة الانسانية ليست ثابتة، بل هي متغيرة، وهذا يمنع أن تحكمها قوانين ثابتة وخالدة لا تتغير ولا تتبدل. فإن مقتضى كون الحياة البشرية حياة متغيرة متبدلة، يمنع أن يسودها قانون ثابت في جميع الظروف مهما تباينت وتغايرت، فالحياة البدوية لا تنسجم قوانينها مع الحياة المدنية.
من الأمور المثارة حول الشريعة الإسلامية وحول الاحكام الإلهية عدم مواكبتها للتطور الزماني والظرف المكاني للمكلف، ذلك ان التشريعات الإلهية للمكلف قد جعلت في ظرف زماني مغاير لما عليه الإنسان اليوم، وفي مكان يختلف عن المكان الذي يتواجد فيه.
وهذا يحول دون تلبيتها لرغباته، لأنها لا تكون منسجمة وما هو عليه واقعه اليوم. ويتضح هذا بملاحظة ما يستجد في كل يوم في حياة البشر من عناوين جديدة لم تكن معروفة في عصر التشريع، ولم تكن متداولة في زمانه، كموضوع التأمين سواء كان تأميناً على المال، أم كان تأميناً على الحياة، فإنه لم يكن معروفاً خلال عصر التشريع، ما يوجب التساؤل عن كيفية التعامل معه اليوم.
وكذا مسألة التبرع بالأعضاء، فإنها من المسائل المستجدة التي لم تكن معروفة في تلك الأزمنة، فكيف يكون الحكم فيها.
وبالجملة، كيف يمكن للشريعة أن تلبي الاحتياجات الانسانية انطلاقا من قوله(ص): حلال محمد حلال الى يوم القيامة، وحرام محمد حرام الى يوم القيامة.
ولا ينحصر الأمر في خصوص ما ذكرناه، بل هناك العديد من العناوين التي تطرأ بين فينة وأخرى في حياة الناس، مع التقدم الزمني، وتطوره مثل: عيد الام أو يوم الام، وغير ذلك.
وقد استند القائلون بذلك إلى أن الحياة الانسانية ليست ثابتة، بل هي متغيرة، وهذا يمنع أن تحكمها قوانين ثابتة وخالدة لا تتغير ولا تتبدل. فإن مقتضى كون الحياة البشرية حياة متغيرة متبدلة، يمنع أن يسودها قانون ثابت في جميع الظروف مهما تباينت وتغايرت، فالحياة البدوية لا تنسجم قوانينها مع الحياة المدنية.
ولا يخفى أن غاية هذا الإشكال هو التخلص من قيود الدين، والقيم الأخلاقية ظناً من هؤلاء أن تغير الحياة يوجب تصادماً مع ثبات التشريع وخلوده. فالحجاب الذي نصت عليه الشريعة الإسلامية لصون المرأة وحفظها أصبح اليوم يمثل بنظر هؤلاء عنصر إعاقة لها، ويحول دون ممارستها حريتها، ويمنعها من الانطلاق في حياتها الاجتماعية، وإبراز طاقاتها، ويغفل هؤلاء عن أنهم يدعون إلى تحلل المرأة، وتجردها عن القيم الأخلاقية.
ولا ينحصر الأمر في خصوص هذا النموذج، بل هناك نماذج أخر يقف عليها القارئ حال متابعته لكلمات هؤلاء، وما يطرحونه.
والحاصل، إن الغاية التي يسعى هؤلاء للوصول إليها هي اثبات عدم صلاحية التشريعات السماوية التي جاء بها النبي الأكرم محمد(ص) لكل زمان ومكان، لأنها تتصادم والحياة البشرية المتطورة، والتي تتغير وفق القانون الحياتي، فلا يمكن أن تكون التشريعات خالدة وثابتة.
ومن الطبيعي أن يكون هذا الطرح موجباً لإثارة سؤال مهم في البين، حاصله: هل أن التشريعات السماوية تتأثر بتغير الزمان والمكان، فيمكن أن تتبدل وفق ذلك، أم لا.
ومن الواضح، أن الإجابة عن ذلك تحتاج تأسيس جملة من الأمور، التي تبتني الإجابة عليها.
مصدر التشريع:
يتفق المسلمون على حصر التشريع في الباري سبحانه وتعالى، فلا يوجد مشرع سواه، وما تضمنته بعض النصوص من ثبوت ذلك للنبي الأكرم محمد(ص)، فإنه بإذن الله تعالى وليس على نحو الاستقلال، فيكون ثبوت هذا الحق له(ص) بالتبع.
ويدل على أن المشرع هو الله سبحانه وتعالى، قوله تعالى:- (إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه)[1]، حيث حصرت الحكم في الباري سبحانه وتعالى دون من سواه، فلا مشرع في البين إلا هو، وما يصدر عن النبي(ص) من تشريع يعتبر امتداداً لتشريعه سبحانه وتعالى.
خلود الشريعة الإسلامية:
إن مقتضى كون النبي محمد(ص)، هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وأنه ليس بعده نبي، يستوجب أن تكون رسالته خالدة وثابتة مستقرة، دون أن يعرضها تغير أو تبدل، وهذا يستدعي أن تكون ملبية لكافة الاحتياجات البشرية على الحياة الزمنية، سواء في عصر النبي(ص)، أم في الأزمنة اللاحقة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
تأثير الزمان والمكان:
لابد من تحديد محل النـزاع في المسألة، بتحديد المقصود من مدخلية الزمان والمكان في عملية الاستنباط، لوجود محتملين متصورين في المقام:
الاحتمال الأول: أن يكون المقصود من دخالتهما في عملية الاستنباط، ملاحظة الظروف المحيطة بالمكلف حال تطبيقه للحكم الشرعي الوارد في الدليل، فإن كانت الظروف ملائمة عمد إلى تطبيقه، وإلا فلا. فالآية الدالة على وجوب الوضوء مقيدة بعدم وجود مانع يمنع من استعمال الماء حال توفره، فلو كان هناك مانع منه، فلن يكون الوضوء واجباً، ووجب الانتقال إلى التيمم، وكذا مسألة تقديم الأهم على المهم، فإن المبادرة إلى أداء الصلاة، معلق على عدم وجود نجاسة في المسجد، وإلا كان تطهير المسجد من النجاسة مقدماً عليها، وكذا مسألة النذر، واليمين أيضا، وما شابه ذلك من القواعد المعبر عنها بالأحكام الثانوية في الفقه.
الاحتمال الثاني: أن يكون المقصود من ذلك ملاحظة الظرف الحياتي الذي يعيش فيه الإنسان دون مدخلية للدليل في ذلك أصلاً، فما دل على نجاسة الدم، وحرمة بيعه لا زال باقياً لم يتغير، إلا أن نكتة المنع من بيعه بالأمس كانت نتيجة عدم ثبوت منفعة محللة مقصودة له، فلما ثبت اليوم وجود المنفعة، لأن نقطة دم واحدة كفيلة بإنقاذ حياة إنسان، لم يعد هناك ما يمنع من بيعه.
وبالجملة، إن الفترة الزمنية التي يعيش فيها الإنسان الأن صارت سبباً لأن يتغير الحكم من حرمة بيع الدم، إلى مشروعية بيعه وجوازه.
والظاهر أن المقصود منهما هو الاحتمال الثاني، بحيث يكون الملحوظ هو الظرف الموضوعي والوضع الزماني والمكاني الذي أوجب تبدل الحكم وتغيره من دون مدخلية للدليل نفسه بحيث يكون الدليل دالاً على حكمين، يستقل كل واحد منهما عن الآخر بلحاظ موضوعه.
والحاصل، إن منشأ تغير الحكم وتبدله هو نفس تغير الموضوع والزمان والمكان، لا أن الدليل بما هو دليل أوجب تغير الشيء من شيء إلى شيء آخر.
واقعية الأحكام:
لا يذهب عليك أنه يلزم تحديد موضوع الأحكام التي تكون عرضة لدخالة الزمان والمكان فيها حال الاستنباط، ذلك أن الأعلام قد قسموا الأحكام الشرعية إلى قسمين، إلى أحكام واقعية، وأحكام ظاهرية، وذكرو أن الظاهرية هي التي يحصل للمكلف شك في ثبوتها وعدمه، فلو شك المكلف في وجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة المظلمة، أو حرمتها، فإن النتيجة التي يصل الفقيه إليها سواء كانت وجوبها، أم حرمتها، يعبر عنها بالحكم الظاهري.
وأما الأحكام التي لا شك في ثبوتها كغسل الجنابة مثلاً، فإنه حكم واقعي، وأقصى ما يكون من الفقيه هو النظر في الأدلة لمعرفة الأسباب الموجبة لوجوبه، كممارسة العلاقة الطبيعية بين الزوج وزوجته مثلاً.
ثم إن الذي يكون مورداً لدخالة الزمان والمكان فيهما من القسمين السابقين، هو خصوص الأحكام الواقعية دون الأحكام الظاهرية، والوجه في ذلك واضح. فعيد الأم مثلاً لما لم يكن هناك شك في أن حكمه الإباحة، يبنى على كونه حكماً واقعياً، وليس ظاهرياً.
حقيقة الزمان والمكان:
ثم إنه سواء بني على مدخلية الزمان والمكان في العملية الاستنباطية أم لا، لابد من تحديد المقصود منهما وأنه معناهما الحقيقي، أو المقصود منهما معنى كنائي. فإنهما عنصران من عناصر الفلسفة، فمع البناء على أن المقصود منهما هو التغير الحقيقي، يلزم أن يكون المقصود منهما الحقيقة الفلسفية، لتغير الزمان والمكان. فالزمان عندهم هو مقدار الحركة، وأما المكان فهو الذي يملأه الجسم.
وعليه، لو بني على دخالة الزمان والمكان في عملية الاستنباط، وأن المقصود منهما معناهما الحقيقي، سوف يكون المقصود من ذلك هو مقدار الحركة أو البعد الذي يملأه الجسم.
والصحيح، أنه ليس المقصود منهما المعنى الفلسفي الحقيقي، فليس المقصود من الزمان مقدار الحركة، وليس المقصود من المكان البعد الذي يملأه الجسم، كما أنه ليس المقصود منهما وعاء الأحداث والتغير.
وإنما المقصد منهما عبارة عن التأريخ والجغرافيا، بمعنى تطور أساليب الحياة والظروف الاجتماعية حسب تقدم الزمان، وتوسع شبكة الاتصالات. وهذا يتضح بملاحظة الأمثلة التي ذكرناها في مطلع البحث، من التبرع بالأعضاء الذي لم يكن معروفاً في عصر التشريع، وكذا التلقيح الصناعي، وما شابه ذلك. وهذا يساعد على أن المقصود من هذين المفهومين في المقام هو المعنى الكنائي، وليس المعنى الحقيقي.
تحرير محل النـزاع:
ثم إنه بعد الفراغ عن الإحاطة بأن هناك أموراً ثابتة في التشريع، وحقيقة الزمان والمكان، يلزم الحديث عن محل النـزاع، من خلال عرض السؤال التالي:
هل أن جميع التشريعات السماوية تنالها يد التغيـير، أم أنها ثابتة لا تتغير، أو يفصل فيلتـزم بثبوت التغيـير في بعضها دون بعض، ويقرر أن بعض التشريعات خالدة ثابتة، وبعضها يمكن تغيره؟ في المقام ثلاثة احتمالات:
الأول: أن يبنى على أن جميع التشريعات السماوية خالدة لا تقبل التغير ولا التبدل، فكل ما صدر عن النبي الأكرم محمد(ص)، يكون ثابتاً منذ عصره(ص) إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.
الثاني: البناء على قابلية كافة التشريعات السماوية الصادرة عنه(ص) للتغير والتبدل.
الثالث: الالتزام بالتفصيل في التشريعات السماوية، فيحكم بقابلية بعضها للتغير والتبدل، وعدم قابلية البقية لذلك.
ولا ريب أن ما ينطوي عليه الإنسان من غرائز وصفات له مدخلية في تحديد أي واحد من الاحتمالات السابقة، لأن جملة من التشريعات الصادرة عن الشارع المقدس، قد وضعت على وفق قانون الفطرة الموجودة في الإنسان، وبعضها وضعت على وفق معطيات دعت إلى جعلها، توضيح ذلك:
من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وزوده بمجموعة من الصفات والغرائز، التي قد فطر عليها، وهي لا تنفك عنه ما دام متصفاً بصفة الإنسانية، ومن الطبيعي أن هذه الغرائز تحتاج تشريعاً ثابتاً يدوم بدوامها، ويثبت عبر القرون ما دامت موجودة، ولذلك نماذج متعددة:
منها: الحاجة لحفظ الوجود البشري، فإنه يحتاج إلى تكوين الحياة العائلية، فقال تعالى:- (وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم)، فإن تكوين الأسرة أحد الأسباب الرئيسة في بقاء العنصر البشري واستمرار وجوده على وجه الأرض، وهذا يعني أنه لا مجال لأن يصدر تشريع يمنع من استمرار العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة، خصوصاً وأن ذلك حالة فطرية غريزية في كليهما.
ومنها: العدالة الاجتماعية، فإنها توفر مصلحة المجتمع وتبعد عنه الفساد والفوضى والانهيار، قال تعالى:- (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي). ومتى وجدت هذه العدالة في مجتمع ما كفلت له الدوام والبقاء، بخلاف ما إذا كان المتفشي في المجتمع هو البغي والظلم، فإن ذلك يعجل بانهياره وانتهاء أمده، وعدم استمراره.
ومنها: الاختلاف التكويني في البعد الجسدي والنفسي بين الرجل والمرأة، فإن قوله تعالى:- (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله)، يشير إلى وجود اختلاف تكويني بينهما في البعد الجسدي والنفسي، وما دام هذا الاختلاف موجوداً لابد وأن يكون الرجال قوامين على النساء، وتنتفي الحاجة لهذه القيومية متى أصبحت المرأة مشابهة للرجل في البعد التكويني والنفسي.
ومنها: الروابط العائلية، كالعلاقة الموجودة بين الأب وولده، فإنها قضية موجودة في كافة الحيوانات وليست مختصة بالإنسان فقط، وهذه القضية الفطرية لا يتصور من أحد أن يدعو إلى تغيـيرها وفق مقتضيات الزمان والمكان، فيقرر أنه لا يلزم الأب الشفقة والرأفة بولده، ولا يكون الولد مطالباً بالإحسان إلى أبيه، لأنه لا يتوهم أحد أن ينفك موجود حي منها.
ولما كان التشريع في جميع ما تقدم من نماذج مجعولاً على وفق الفطرة، وقد وضع على وفق ملاكات واقعية، فالموضوعات تلازم أحكامها ملازمة العلة لمعلولها، فلا تنالها يد التغيـير أبداً.
ومقتضى ما ذكر، أن هناك تغيـيراً، إلا أنه سوف يكون في الأمور التي لم يكن جعلها منسجماً مع العناصر الفطرية والغريزية الموجودة عند الإنسان. وهذا الذي ذكرناه، هو المقصود من الحديث النبوي المعروف الوارد عن النبي الأكرم محمد(ص): حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة. فإنه يشير إلى أن التشريعات الصادرة وفق مقتضيات الفطرة والغريزة البشرية ثابتة لن تنالها يد التغيـير مهما تقدمت الحياة البشرية وتطورت، لأنها تابعة لما يكتنـزه الإنسان من غرائز وفطرة داخلية عنده.
ويقابل ما ذكرناه من مجعولات في التشريع، ما يجعل من الشارع المقدس لغاية التنظيم وحسن الإدارة، وهو ما يكون من الأحكام آخذاً لصفة التوجيه والإرشاد، وهي المجعولات التي لم يلحظ في جعلها ما يملكه الإنسان من غرائز وشهوات، ورغبات، فليست الغاية من جعلها سد حاجة وتلبية رغبة.
وهذا النوع من التشريعات لا مانع من أن تناله يد التغيـير والتبدل وفق ما تقتضيه المصلحة، والظروف الحياتية المعاصرة والزمان والمكان، فتتبدل من حال إلى حال آخر، وهكذا.
وقد اتضح من خلال ما تقدم، أن الأحكام الشرعية الصادرة من الشارع المقدس نوعان، بعضها يقبل التغيـير والتبدل وفق مقتضيات الزمان والمكان، وهذا ما يمكن التعبير عنه بالمقررات، والآخر لا يقبل ذلك، ويمكن التعبير بالقوانين.
تلبية الأحكام الشرعية للحاجات البشرية:
لا ريب في أن أي مقنن أو مشرع يريد لقوانينه وتشريعاته أن تكون واقعية وليست مثالية، خالدة، وليست مؤقتة، لا يمكنه إغفال الطبيعة الحياتية المتغيرة، ومن الواضح أن المشرع الإسلامي لا يشذ عن ذلك، خصوصاً وأن الأحكام الإلهية تابعة للمصالح والمفاسد، وليست مجرد أوامر ونواهي اعتباطية ومزاجية، ويساعد على ما ذكر جملة من الأمثلة التي تضمنتها الشريعة السمحاء، مثل ما ورد في شأن اللباس، ومما شابه ذلك.
وبالجملة، إن منطق العقل والعقلاء، يقرران أنه لا يمكن أن يجعل قانون من القوانين دون أن يلحظ فيه المتغيرات الحياتية الخارجية والتي يعبر عنها بالزمان والمكان، حتى يكون هذا القانون صالحاً للاستفادة منه.
ولا يتوهم أحد أن هذا التغير الحاصل في الأحكام الشرعية ينفي قابليتها لتلبية الحاجات الإنسانية، لأن المفروض أن التغير يكون وفق مصلحة تقتضي ذلك، وهذا يعني أن الذي أوجب التغير هو ملاحظة الحاجة الإنسانية التي جاءت الأحكام الشرعية لتلبيتها. فمثلاً قد ورد أن النبي(ص) كان يطيل شعره، إلا أن الوارد في سيرة الإمام الصادق(ع) أنه كان يحلق شعره، وما هذا إلا بسبب تغير العادات والتقاليد التي كانت في عصر الإمام الصادق(ع) عما كانت عليه في عصر النبي الأكرم محمد(ص)، وهكذا.
وكذا في مسألة اللباس، فقد دخل رجل على الإمام الصادق(ع)، وقد وجده قد لبس لباس طيباً، فاعترض عليه بأنه كيف تلبس هذا اللباس المغاير لسيرة أمير المؤمنين(ع)، والذي كان يلبس الخشن من الثياب، فأجابه الإمام(ع) بأن أمير المؤمنين(ع) لو كان في زماننا للبس مثل هذا اللباس، وهذا يشير إلى تبدل اللباس الذي كان في عصر الإمام الصادق(ع) عن اللباس الذي كان في عصر أمير المؤمنين(ع).
ومن الأمثلة أيضاً ما جاء في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين(ع) من ذكره مسألة سوء الظن، وأنه إذا صلح الزمان والناس كان سوء الظن ممنوعاً، وإذا فسد الزمان والناس كان سوء الظن مطلوباً. ما يشير إلى أن سوء الظن قد يكون قبيحاً في بعض الأوقات والأزمنة والأماكن، ولا يكون ذلك في وقت ومكان آخر، فيحسن متى كان المجتمع سيئاً، ويقبح متى كان المجتمع صالحاً.
كما يمكن البناء على منع حرمة التجسيم اليوم، على أساس أن ما دل على الحرمة ناظر لتلك الفترة الزمنية التي كان الناس فيها عاكفين على عبادة الأصنام، وهم ومن جاء بعدهم لا زالوا حديث عهد بالابتعاد عن ذلك، وكذا مسألة استحباب تخضيب الشيب التي كانت في عصر النبي(ص)، على أساس أنه(ص) أراد أن يُظهر المسلمين أمام اليهود شباباً، فكانت الدعوة للخضاب، أما اليوم فلما لم تعد حاجة لذلك، فإن وجود الشيب في كريمة الرجل يزيده بهاءاً وجمالاً وهيبة ووقاراً.
ثم إن تغير الأحكام الشرعية قد يكون في الحكم، وقد يكون تغيراً في الموضوع، وقد يكون تغيراً في المتعلق، بل قد يكون التغير أحياناً في فهم النص الديني، بل توسع بعضهم فذكر دخالة الزمان والمكان حتى في فهم القرآن الكريم، وليس في خصوص عملية الاستنباط للأحكام الشرعية. لأن الأحكام التكليفية تتكون من عناصر ثلاثة:
1-الحكم، وهو الإلزام الشرعي.
2-المتعلق، وهو فعل المكلف الذي ينصب عليه الإلزام، من الوجوب، أو التحريم، ويتعلق به.
3-الموضوع، هو ما به فعل المكلف ولا يكون الحكم بدونه فعلياً.
تغير موضوعات الأحكام:
وقد كانت الأمثلة التي عرضناها سابقاً مرتبطة بتغير الحكم الشرعي، فتبدل من شيء إلى شيء آخر.
وأما تغير الأحكام الشرعية نتيجة تغير موضوعاتها، فأمثلتها كثيرة أيضاً، نشير لبعضها:
منها: الاستطاعة، فإنها كانت في عصر النبي(ص) تتمثل في قربة الماء، وحاجة الإنسان إلى كمية التمر، بالإضافة إلى قدرته على السير من بلده إلى مكة المعظمة، أو أنه يحتاج دابة كوسيلة للنقل، إذا لم يكن الإنسان قادراً على المشي. وقد اختلف الحال تماماً اليوم فأصبحت الاستطاعة مختلفة تماماً لأن المريد للحج يحتاج أن يوفر مبلغاً معيناً من المال حتى يستطيع الذهاب، بحيث اختلفت الاستطاعة عما كانت عليه.
ومثل ذلك عنوان الفقير، فإن هذا العنوان يطلق سابقاً على كل من لا يملك قوت سنته بالفعل ولا بالقوة، بينما يمكن أن يطلق اليوم على من لا يملك سيارة مثلاً، فيقال له بأنه فقير مع كونه مالكاً لقوت سنته، وهكذا.
ومثل ذلك موضوع العشرة بالمعروف، فإنه يختلف حاله اليوم عما كان عليه الأمر بالأمس، إذ يمكن أن يعتبر اليوم من مصاديق عدم العشرة بالمعروف الزواج الثاني، لما يلحق بالزوجة من أذى وضرر نفسي مثلاً، وهذا يستدعي اختلاف موضوع الحكم، وهكذا.
تغير النص الديني:
وكما أن موضوعات الأحكام تتغير، ما يوجب تغير الأحكام الشرعية نتيجة اختلاف الزمان والمكان، بل إن الأحكام الشرعية نتيجة انتهاء أمدها، وتحديد مدة تشريعها، فهل يتصور حصول التغير في النص الديني أيضاً، فيلتـزم فيه بالتغير أيضاً، أم لا؟ فعندما يأتي نص من النصوص الصادرة عن المعصوم(ع)، هل يمكن تصور التغير فيه نتيجة اختلاف الزمان والمكان، فعندما تأتي رواية تخبر بأن أعياد المسلين أربعة، فهل يمكن القول باختصاص الحكم الذي تضمنته بزمان خاص، ليلتـزم بإمكانية حصول أعياد جديدة مثلاً.
وكذا النصوص التي تضمنت البكاء على المولى أبي عبد الله(ع)، وأن من خرج من عينه مقدار جناح ذبابة، فله الجنة. وكذا النصوص التي ورد فيها أن من قال فينا بيتاً من الشعر له الجنة، فهل يمكن البناء على اختصاص هذين الحكمين بالزمان الذي صدرت فيه هذه النصوص، ولا مجرى لها في زماننا مثلاً. ما يعني تأثير الزمان والمكان فيهما.
لا يذهب عليك أن بيان الحق في هذا المطلب يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة حجية الظهور، ومن أفضل البحوث التي عقدت في هذا المجال ما جاء في تقرير بعض الأساتذة(دامت بركاته) لبحث بعض الأكابر(قده)، حيث تعرض هناك إلى نكتة، وهي أن الظهور ذاتي شخصي، أو أنه موضوعي، يعني عنواني مجموعي. فلو بني على كونه شخصياً، فإنه سوف يتغير من شخص لآخر، بخلاف ما إذا كان موضوعياً ومجموعياً، فإنه يكون عرفياً اجتماعياً، ما يجعله أمراً ثابتاً غير متغير، لوجود جملة من الأسس العامة التي يقوم العرف والمجتمع عليها، ويتوافق عليها الجميع. وقد قرر(ره) أن المقصود من الظهورات هو المعنى الثاني، أعني العرفي الاجتماعي، دون الشخصي.
ومع البناء على الثاني من المحتملين المذكورين، فهل يختص ذلك بعصر صدور النص، وهو زمان المعصوم(ع)، ومن يأتي بعده، وعندها سوف يبنى على التغير في العصور الزمانية اللاحقة، فضلاً عن الأماكن.
والثابت أن المدار على زمان عصر الصدور، مع ملاحظة أنه لم يتغير الظهور الموجود للألفاظ عما كانت عليه، بمعنى أن الظهورات التي كانت في عصر النص، هي عينها الظهورات الموجودة في زماننا، استناداً لأصالة عدم النقل، أو غيرها من الأصالات.
ومن هنا يتضح بطلان نظرية تعدد القراءات للدين، لأن الفهم واحد، والبقية خاطئة، ولا يوجد عندنا نسبية في الحقيقة، بل الحقيقة عندنا شيء واحد لا يختلف.
ومقتضى ما تقدم، يتضح أنه لا مدخلية للزمان والمكان في فهم النص الديني، بحيث أنه يلتـزم بتغير ما تضمنه النص نتيجة الزمان والمكان.
نعم هناك جملة من القواعد التي يمكن الركون إليها للاستفادة منها في ثبوت جملة من الأحكام المستجدة والمستحدثة، فعيد الأم مثلاً، أو غيره من الأعياد المستجدة، لا يمكن إثبات مشروعيته بالتعدي من خلال النص الذي تضمن أن أعياد المسلمين أربعة بالبناء على مدخلية الزمان والمكان، نعم هذا النص المحدد للأعياد في أربعة لم يحكم بحرمة غيرها من الأعياد، وهذا يعني فتح باب الاجتهاد للبناء على مشروعية بقية الأعياد وعدمه، خلافاً لما عليه فقهاء الجمهور من إغلاقهم باب الاجتهاد، والبناء على أن كل شيء محرم وبدعة.
ومن خلال ما تقدم، يتضح أن الفقهاء محيطون بالظروف الزمانية والمكانية، وأنهم واقفون على ذلك في كل حكم من الأحكام التي تصدر عنهم، وليسوا بعيدين عن ذلك كما ربما يتوهم البعض.