الاجتهاد: إن التغيّر كالثبات في الشرائع والملل، من الأمور المسلّمة ولا نقاش فيها، فهو سنّة كلّ شريعة إلهية أو أرضية؛ وهو ضروري بمستوى ضرورة وجود الثبات في الشريعة، وعدمه يُعدّ نقصاً ووجوده كمال؛ وضرورته لا لنقص في التقنين يمنعه من الثبات والمقاومة، بل لمواكبة الزمان وتغيّراته ولعدم تحجيم الشريعة بزمان خاص ولعدم تجريدها من العناصر التي تجعلها مقاومة رغم تطوّر الزمان وتحوّله.
إن التغيّر تارةً يكون كلياً بحيث يبلغ مستوى الهجر والنسخ، كما كان للشرائع الإلهية السابقة، مثل شريعة نوح % وإبراهيم % وغيرهما، بل وحتى على مستوى فرق ومذاهب إسلامية حيث كانت وبلغ بها التغيير إلى مستوى لا تُعدُّ هي نفسها التي كانت، ونحن نقرأ عنها في كتب الملل، ولا وجود لها أكثر من ذلك.
وتارة يكون التغيير جزئياً ينال بعض الشريعة بالنسخ والتحوّل، وهو تارةً يطال التعاليم الأساسية مثل أصول العقائد واللاهوت، وتارةً لا يطال التعاليم الأساسية من الشريعة بشيء من التغيير والتحوّل.. والقسمان الأخيران حصلا لشرائع معاصرة فضلاً عن غير المعاصرة.
ما يهمّنا هنا هو دراسة المسألة على صعيد الشريعة الإسلامية كأنموذج تطبيقي لما ذكر من فروض في المقطعين السابقين، ومعرفة التغييرات التي قد تحصل أو حصلت للإسلام في أيّ نوع من أنواع التغيير، مع استثناء الخوض في أصول العقائد الإسلامية، لنخصّ البحث بفروع الدين أو الفقه، وفي مجال تمييز المشروع عن غيره من التغيير، ونتعرّف في النهاية على رأي السيد محمد باقر الصدر في هذا الموضوع، من خلال قراءة أخرى لكتاب: اقتصادنا.
من تاريخ التغيّر في الشريعة الإسلامية
بداية التغيّر في تعاليم الشريعة يعود تاريخه إلى أوّل حكم نسخ في القرآن في السنوات الأولى من نزوله.. فالمعروف أنّ هناك عدّة أحكام صدرت من دون قيد زمني، ونسخت بعد فترة من نزولها؛ نأتي هنا ببعضها:
1 ــ عدّة المتوفّى عنها زوجها، حيث كانت سنةً كاملة وأقرّتها الآية 240 من سورة البقرة، ونسختها الآية 12 من سورة النساء؛ لتصير أربعة أشهر وعشرة أيام.
2 ــ حكم الفاحشة، حيث كان الحبس والهجر في البيت، كما تشير إلى ذلك الآيتان: 15 و16 من سورة النساء، وقد نُسخت بآيات الحدود من الجلد والرجم كالآية الثانية من سورة النور.
3 ــ حكم التوارث بالمؤاخاة والهجرة، والذي أشير إليه في الآية 72 من سورة الأنفال، وقد نسخ بالحكم بالتوريث بالقرابة والرحم بالآية السادسة من سورة الأحزاب.
هذه بعض موارد التغيير في الشريعة على مستوى النسخ؛ وبعبارة أخرى: تغييرٌ تنزيلي من قبل صاحب الشريعة ذاته.
أما على مستوى الرسول 2، فينقل عنه موارد للتغيير؛ منها: أنه أزاد على الصلوات الرباعية التي كانت ثنائيةً، ركعتين لتصبح رباعية، وعلى المغرب ركعة لتصبح ثلاثاً([1])، ومنها أنه حرّم كل مسكر بعدما حرّم الله الخمر فحسب([2]).
وعلى مستوى الأئمة (، فإنّ التغيير عندهم ملحوظ أكثر من التغيير الذي صدر عن الرسول، وحجمه أكثر بكثير، وإحصاء الموارد جميعها صعبٌ جداً، إلاّ أن المسلَّم به كثرة موارد التغيير وسعتها؛ وقد يكون أوضح هذه الموارد فرض الزكاة على الخيل من قبل الإمام علي %([3])، رغم أنه لا وجود لهكذا زكاة في زمن الرسول 2، وكذا فرض الخمس من قبل الإمام الصادق % على موارد غير التي فرض فيها الخمس عهد الرسول 2 أي غير الغنائم الحربية.
وتحليل هذه التغييرات وغيرها من النماذج الكثيرة؛ ومقارنة بعضها بالآخر يخرجنا بالنتائج التالية:
أ ــ إنّ طروّ التغيير على الشريعة أمر مسلَّم، فالشريعة طرأها التغيير وهي في المهد، كما يلاحظ ذلك في النسخ، وفي تغييرات الرسول 2.
ب ــ إنّ التغيير أمرٌ مشروع ومن صلب الشريعة، ولا إشكال في جوازه، بل صدوره عن ربّ الشريعة ومنزّلها، وكذا رسوله، دليلٌ على ذلك.
ج ــ إنّ التغييرات ماضية الذكر تشترك جميعاً في أنها نالت فروع الدين بالتغيير دون أصوله؛ فلم يلحظ تغييرٌ فيها على صعيد أصل التوحيد أو المعاد مثلاً.
د ــ إنّ النسخ يمتاز بتناوله الأحكام الإلزاميّة، مثل وجوب الاعتداد ووجوب الحبس والهجر ووجوب التوريث، حيث طال التغيير هذه الأحكام رغم إلزاميتها.
هـ ــ يمتاز تغيير المعصومين بأنه طال الأحكام غير الإلزامية دون الإلزامية، فزيادة ركعتين على الصلاة أو النهي عن استخدام كلّ مسكر من قبل الرسول 2، هو تغييرٌ في المباحات من الأحكام؛ وكذا إيجاب الخمس في غير غنائم الحرب، وفرض الزكاة على الخيل، إيجابٌ لما أبيح تخميسه أو زكاته.
وبعبارة أخرى: إنّ التغيير الصادر عن المعصومين كان تغييراً على مستوى توسيع دائرة الواجب أو المحرّم؛ لا تغييراً في نفس الواجب أو المحرم، كما كان في النسخ.
و ــ إنّ تغيير المعصومين لم يُلحظ فيه تغييرٌ على مستوى تضييق دائرة الواجبات والمحرمات أو تعطيلها، فلا يوجد وثيقة ــ من رواية أو غير ذلك ــ تثبت أنّ الرسول 2 أو الأئمة ( ضيّقوا من دائرة الواجبات أو المحرّمات في الحالات غير الاستثنائية، أو أنّهم عطّلوا شيئاً منها، إنّ تعطيل الرسول للحجّ في سنةٍ من السنوات([4])، محمولٌ على حالة استثنائية من قبيل الضرورة أو الاضطرار، ولا يُحمل على صلاحية الرسول 2 في تعطيل أحكام الشريعة الإلزامية، ولا أتصوّر أنّ هناك من يحمل هذا التصوّر عن الرسول؛ والموارد الشبيهة للمورد السابق كثيرة جداً وعدّها من باب تعطيل الأحكام غلطٌ فاحش.
كما أنّ تحليل أكل لحم الحُمر والبغال في أقوال الأئمة رغم حرمته في أقوال وممارسات الرسول 2، ليس تغييراً في الحرام الإلزامي؛ وذلك لأن منع الرسول لم يكن منعاً إلزامياً من الأول، بل ترجيحياً؛ أو أنّ منعه كان بدافعٍ حكومي، وهو من الأحكام الخاضعة للزمان والمكان باعتبار حاجة المسلمين آنذاك لظهور هذه الحيوانات بوصفها وسيلة نقل.
كان ذلك جانباً صغيراً جداً من التغيير الذي طرأ على الشريعة في عهد الرسول والأئمة؛ وقد مضى تحليلنا له، أما التغييرات التي حدثت بعد عهد المعصومين، فهي حاصلة قطعاً، وقد لا تكون قليلةً، إلاّ أنّ ما يهمّنا هنا هو معرفة التبرير الشرعي لها؛ وبعبارة أخرى: صلاحية الفقيه في ممارسة تغييرٍ في الشريعة.
التغيّر عند الفقهاء
عدّ الفقهاء ظروفاً عديدة تؤهل الحكم للتغيّر، لكلّ ظرف مبرّره ودليله الشرعي الخاصّ، كما أنّ أكثرها ــ إذا لم يكن جميعها ــ اتفاقي لا اختلاف فيه، ويدخل جميعها تحت العنوان العام، وهو الأحكام الثانوية، وفرقها عن الأولية أن الأخيرة تُعبّر عن رأي الشارع وموقفه تجاه القضية في الحالات العادية والمستمرة؛ أما الأحكام الثانوية فإنها تعبّر عن موقفه في الحالات الاستثنائية؛ وهذه الحالات هي: 1 ــ الاضطرار. 2 ــ العسر. 3 ــ الحرج. 4 ــ العجز (ما لا يُطاق). 5 ــ الجهل (ما لم يُعلم). 6 ــ الإكراه. 7 ــ النسيان. 8 ــ الخطأ. 9 ــ الضرر. 10 ــ التقية.
هذا فيما يتعلّق بموارد التغيير الخاصّة بالظروف الاستثنائية والأحكام الثانوية؛ وهناك موارد أخرى تفسّر التغيّر الذي طرأ على الشريعة على يد الفقهاء؛ وترجع ــ عمدةً ــ إلى تغيّرٍ في موضوع الحكم واقعاً أو من حيث تغيّر العرف أو القيمة التي يمنحها أو يسلبها عن الموضوع.
أ ــ التغيّر الواقعي لموضوع الحكم: ومثاله: انقلاب الخمر خلاً؛ فإنّ الموضوع هنا تغيّر واقعاً ولا يصدق كونه خمراً، ومثال آخر تحوّل الميتة إلى تراب؛ فإن النجاسة مترتبةٌ على ذات الميتة، أمّا إذا تحوّلت إلى تراب فتخرج عن كونها ميتةً نجسة.
ب ــ تغيّر نظرة العرف للموضوع: وهذا صادق في مجال الأحكام التي علّق الشارع تحديد موضوعها على العرف، مثل نفقة الزوجة؛ حيث كانت تُقدّر في السنة الواحدة بمائة دينار وبلبس ملابس من أقمشة طبيعية وتوفير وسائل بيتية بسيطة؛ أمّا الآن فالنفقة تحتاج إلى أكثر بكثير من المائة دينار وتوفير أقمشة وملابس صناعية أغلى من الطبيعية، وأكثر تنوعاً، وكذا الوسائل المنزلية كالغسّالة الكهربائية والمكنسة الكهربائية وأمثال ذلك.. وتعدّ جميعها من النفقات الواجب توفيرها.
هذا بالنسبة إلى العرف العام وتحولاته الملموسة، وتأثير هذه التحولات على الحكم الشرعي، وكذا الحال بالنسبة للعرف الخاصّ كعرف الأطباء، فإنه في تحوّل دائم ومستمر، ومن الطبيعي أن تختلف الأحكام المترتبة عليه بسبب تغيّره.
ج ــ تغيّر قيمة الموضوع: إنّ الدم قبل القرن الحالي كان فاقداً لأيّ قيمة تُذكر، لذا كان غير مؤهل للبيع والشراء؛ أما حالياً فقد اختلف الأمر بفضل تطوّر الوسائل الطبية، وأصبح ذا قيمة يمكن بسببها بيعه وشراؤه وإجراء المعاملات عليه.
وهناك عاملان آخران لا يرتبطان بالعرف، يبرّران التغيير في جزءٍ كبير من الأحكام الشرعية، ولهما أهمية قصوى من هذه الناحية، هما:
الأول: تطوّر علم أصول الفقه
أصول الفقه مجموعة من الآليات التي يعتمدها الفقيه لاستنباط الحكم الشرعي؛ وباعتبار أنّ جُلَّ هذه الآليات تعتمد العقل ــ بشكل كلي أو جزئي ــ فهي متغيّرة ومتطوّرة بتطور العقل.
إن ملاحظة تاريخ تطوّر هذا العلم يوضح لنا مدى إمكانية تأثيره على تحوّل الأحكام وتغييرها؛ إنّ هذا لعلم بعد ما لم يكن شيئاً مذكوراً ولا وجود له، أصبح يشكّل قسماً من الدراسة الفقهية لعلمائنا المتقدمين، وبعد مراحل من التطور التي مرّ بها أصبح علماً مستقلاً يُدرس بمعزل عن الفقه؛ فآلياته والنظريات المطروحة فيه تتحوّل وتتغيّر بمرور الزمن.
إن الاختلاف في مصداقية آلية ما، أو الاعتقاد بتقدّمها أو تأخرها يؤثر من دون شك في تغيّر الأحكام، إن القول بحجيّة الاستصحاب عند بعض والقول بعدم حجيّته عند آخرين، وكذا القول بمفهوم بعض الجمل وعدمه، أو القول بتقدم أصالة الاحتياط على البراءة عند السيد الصدر وتقدم البراءة على الاحتياط عند غيره، من أوضح نماذج تأثير تطوّر هذا العلم على حصول تغيّر في الأحكام الشرعية وطريقة استنباطها من مصادرها.
الثاني: أهليّة الأحكام للتغيّر
هذه الأهلية ليست ذاتيةً للأحكام، بل تكون بسبب عدم قطعية مصادرها؛ فإن المعروف أن ما يقرب من خمسة وتسعين بالمائة من الأحكام ظنيّ أو ذا مستوى دون الظنّ بكثير، والأمر يرجع بالنسبة إلى القرآن إلى ظهوره في المرادات وعدم نصّه فيها، وبالنسبة إلى السنّة إلى عدم نصّها في المرادات تارةً وعدم قطعية السند والصدور تارةً أخرى([5]).
إن عدم إمكانية القطع بهذه المصادر هو الأرضية المناسبة والخصبة لإيجاد التغيير والتحوّل في استنطاق المفاهيم والتعاليم منها، وحتى لو كانت هذه النسبة من الأحكام من الثوابت في الواقع وعند الله، إلاّ أن ظنيّة مصادرها يفرض شيئاً آخر وهو التحوّل والتغيير حسب تحول عقليّة الإنسان وتفهّمه لها، ولو شاء الله لجعل مصادرها جميعاً قطعية سنداً ونصاً، إلاّ أنه لم يحصل ذلك، وقد يكون متعمداً لإدخال عنصر الزمان وتطوّراته في عملية استنطاق النصوص واستنباط الأحكام منها.
نظرية تغيّر الأحكام عند السيد محمد باقر الصدر
ما مضى من عوامل ومبرّرات للتغيّر في الحكم الشرعي كان من وجهة نظر الفقهاء عموماً، وهي قضايا متفق عليها تقريباً، وما نريد التعرّف عليه هنا هو وجهة نظر السيد الصدر في هذا المجال.
يقرّ السيد الصدر بما تقدّم من عوامل للتغيّر في الحكم الشرعي، وذلك باعتبارها قضايا متفق عليها، ولا أتصوّر أنّ هناك من يشك في شأنها وبخاصّة من أمثال الشهيد الذي يرى مجالاً للتغير أوسع من ذلك، هذا إضافةً إلى أنه لا توجد وثيقة تدلّ على رفضه لمورد من الموارد السابقة كعوامل ومبرّرات للتغير، بل هناك عدّة مقاطع تؤكد ما ذكرناه، مثل: «.. كما زوّد الجانب الثابت من النظام بقواعد تشريعية ثابتة في صيغها القانونية، غير أنها تتكيّف في تطبيقها بالظروف والملابسات، وبذلك تحدّد الأسلوب الصحيح لإشباع الحاجات الثابتة التي تتنوّع أساليب إشباعها بالرغم من ثباتها، وذلك كقاعدة نفي الضرر في الإسلام ونفي الحرج في الدين»([6]).
كما يشير إلى مورد تغيّر موضوع الحكم بسبب تعليق تحديده على العرف، ويذكر أن الفقير الذي تُدفع له الزكاة هو الذي لم يظفر بمستوى من المعيشة لا العاجز عن إشباع البسيط من حاجاته، فعلى التعريف الأول يغدو الفقير مفهوماً مرناً يتغيّر من ظرف إلى آخر، كما يشير إلى وجوب تعلّم الطب على المسلمين، وهو مفهوم متغيّر من زمان إلى آخر وفي حال تطوّرٍ دائم([7]).
هذا، وقد زاد السيد الشهيد على موارد التغيير السابقة مورداً اختلف به مع كثيرٍ من الفقهاء([8])، وهو مورد الأحكام الحكومية، حيث اعتبر بعض الأحكام الصادرة عن الرسول 2 ذات صبغة زمانية أو مكانية خاصّة، ولا تُعد جزءاً من التشريع الثابت، فقد صدرت عن الرسول بوصفه ولي أمر المسلمين وإمامهم، لا بصفته رسولاً، وهو ما سمّاه الصدر بمنطقة الفراغ في التشريع.
ويؤكّد الصدر هذا المعنى أكثر بنصّه التالي: «.. فإنّ المذهب الاقتصادي في الإٍسلام يشتمل على جانبين: أحدهما قد مليء من قبل الإسلام بصورة منجزة لا تقبل التغيير والتدبيل، والآخر يشكّل منطقة الفراغ في المذهب، قد ترك الإسلام مهمّة ملئها إلى الدولة أو (ولي الأمر) يملؤها وفقاً لمتطلّبات الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي، ومقتضياتها في كلّ زمان»([9]).
ثم يأخذ السيد الشهيد ببسط اصطلاح منطقة الفراغ، ويشرحه أكثر فيقول: «ونحن حين نقول: منطقة الفراغ، فإنّما نعني ذلك بالنسبة إلى الشريعة الإسلامية ونصوصها التشريعية، لا بالنسبة إلى الواقع التطبيقي للإسلام الذي عاشته الأمّة في عهد النبوة».
ويقسّم السيد الشهيد الأحكام إلى إلزامية وغير إلزامية، ويرى الإلزامية ثوابت التشريع الإسلامي، وغير الإلزامية متغيّراته وعناصره المتحرّكة، وقد أكّد ذلك في مقاطع عديدة من كتابه: اقتصادنا، نأتي على ذكر بعضٍ منها، حيث يقول: «.. فلا يجوز للدولة أو ولي الأمر أن يحلّل الربا، أو يجيز الغش، أو يعطّل قانون الإرث، أو يلغي ملكيةً ثابتة في المجتمع، على أساس إسلامي.. وإنَّما يسمح لولي الأمر في الإٍسلام بالنسبة إلى التصرّفات والأعمال المباحة في الشريعة أن يتدخّل فيها، ويمنع عنها أو يأمر بها وفقاً للمثل الإسلامية للمجتمع؛ فإحياء الأرض، واستخراج المعادن، وشقّ الأنهار، وغير ذلك من ألوان النشاط والاتّجار.. أعمال مباحة سمحت بها الشريعة سماحاً عاماً، ووضعت لكلّ عمل نتائجه الشرعية التي تترتب عليه، فإذا رأى وليّ الأمر أن يمنع عن القيام بشيء من تلك التصرّفات أو يأمر به، في حدود صلاحياته.. كان له ذلك..»([10]).
وكما هو واضح في عبارته، فهو لا يرى مجالاً للتغيير في مثل الربا المحرّم والإرث الواجب.. بينما يسمح بذلك في مجال ما أباحته الشريعة، «فإنّ النبي الأعظم 2 قد ملأ ذلك الفراغ بما كانت تتطلّبه أهداف الشريعة في المجال الاقتصادي، على ضوء الظروف التي كان المجتمع الإسلامي يعيشها، غير أنه 2 حين قام بعملية ملء هذا الفراغ لم يملأه بوصفه نبياً مبلّغاً للشريعة الإلهية الثابتة في كلّ مكان وزمان، ليكون هذا الملء الخاصّ من سيرة النبي 2 لذلك الفراغ.. معبّراً عن صيغ تشريعية ثابتة، وإنّما ملأه بوصفه ولي الأمر، المكلّف من قبل الشريعة بملء منطقة الفراغ وفقاً للظروف»([11]).
منطقة الفراغ التشريعي، نماذج وأمثلة
بعد شرحه لنظرية منطقة الفراغ واستدلاله عليها، يأتي بنماذج تطبيقية لرؤيته، ونكتفي بذكر اثنين منها:
أ ــ جاء في النصوص أن النبي نهى عن منع فضل الماء والكلأ؛ فعن الإمام الصادق أنه قال: «قضى رسول الله بين أهل المدينة في مشار النخل أنه لا يمنع فضل ماء وكلاء»([12]).
وهذا النهي نهي تحريم كما يقتضيه لفظ النهي عرفاً، وإذا جمعنا إلى ذلك رأي جمهور الفقهاء القائل: بأنّ منع الإنسان غيره من فضل ما يملكه من ماء وكلاء، ليس من المحرّمات الأصلية في الشريعة، كمنع الزوجه نفقتها.. أمكننا أن نستنتج أن النهي من النبي صدر عنه بوصفه ولي الأمر؛ فهو ممارسة لصلاحياته في ملء منطقة الفراغ حسب مقتضيات الظروف؛ لأن مجتمع المدينة كان بحاجة شديدة إلى إنماء الثروة الزراعية والحيوانية، فألزمت الدولة الأفراد ببذل ما يفضل من مائهم وكلأهم للآخرين.. وهكذا نرى أن بذل فضل الماء والكلاء فعلٌ مباح بطبيعته، وقد ألزمت به الدولة إلزاماً تكليفياً؛ تحقيقاً لمصلحة واجبة([13]).
ب ــ ورد عن النبي 2 النهي عن بيع الثمر قبل نضجها؛ ففي الحديث عن الصادق%: أنه سئل عن الرجل يشتري الثمرة المسمّاة من أرض، فتهلك ثمرة تلك الأرض كلّها؟ فقال: «قد اختصموا في ذلك إلى رسول الله 2 فكانوا يذكرون ذلك، فلمّا رآهم لا يدعون الخصومة، نهاهم عن ذلك البيع حتى تبلغ الثمرة، ولم يحرّمه، ولكنه فعل ذلك من أجل خصومتهم»، وفي حديث آخر: «إنّ رسول الله أحلّ ذلك فاختلفوا، فقال: لا تباع الثمرة حتى يبدو صلاحها»([14])، فبيع الثمرة قبل بدو صلاحها عملية مباحة بطبيعتها، وقد أباحتها الشريعة الإسلامية بصورة عامة، لكنّ النبي نهى عن هذا البيع بوصفه وليّ الأمر، دفعاً لما يسفر عنه من مفاسد وتناقضات([15]).
تحديد المباح في نظرية منطقة الفراغ
والذي نلاحظه أنّه عند إشارة الصدر للجانب غير الإلزامي من الشريعة يستخدم مفردة (المباح)، وكما نعلم فإنّ هذه المفردة لها معنيان: عام يشمل المستحبّ والمكروه، وأخصّ وهو ما تساوى فيه ملاك الفعل والترك؛ فهل يشير بهذه المفردة إلى كلا المعنيين أم لا؟ وبعبارة أخرى: هل صلاحيّة الإمام في التغيير تشمل المستحب والمكروه من الأحكام؟
وفي الإجابة نقول: إن عبارات مثل: «.. فأيّ نشاط وعمل لم يرد نصّ تشريعي يدلّ على حرمته أو وجوبه.. يسمح لولي الأمر بإعطائه صفةً ثانوية..»([16]) تحدّد صلاحيّته في الأحكام غير الالزامية ــ أي الوجوب والحرمة ــ ويمكن بإطلاقها القول بأنها تشمل ما استحبّ أو كُرِه من نشاط.
وكذلك النص التالي: «.. فإنّ منطقة الفراغ تضمّ جميع ألوان النشاط المباحة بطبيعتها فلوليّ الأمر أن يتدخّل في هذه الألوان من النشاط..»([17])، فعبارة (جميع ألوان النشاط المباحة) ظاهرةٌ في أنواع المباحات من المستحبّ والمكروه والمباح بالمعنى الخاص.
هذا؛ إضافةً إلى أنّ الأمثلة التي يذكرها مصاديق لمنطقة الفراغ هي مستحبة أو مكروهة في عرف الفقهاء غير السيّد الشهيد؛ فإنّ منع فضل الماء مكروه عند غيره وبالنسبة إلى البيع السماح بموازين عدل وأسعار غير مجحفة مستحب، وصلاحية الإمام في تغييرها صلاحية له في تغيير المكروه والمستحبّ.
إذن، لا يريد السيد الصدر من مفردة (المباح أو المباحة) الإباحة الخاصة، أي التي تساوى فيها ملاك الفعل والترك، بل يريد منها ما هو أعمّ من ذلك؛ ليشمل المستحبّ والمكروه. لكن، يلاحظ على ذلك تبرير عدم استخدامه لمفردتي المستحب والمكروه؛ فلِمَ لم يذكرهما أبداً؟! إنّ في ذلك احتمالات:
الاحتمال الأوّل: إنّ عدم الاستخدام لشأن لغوي بلاغي، أي من البلاغة استخدام مفردة تضمّ معاني كثيرة، ومن غير المستحسن استخدام المفردات (مستحب، مكروه، مباح) وتكرار الاستخدام مع إمكان التعويض عن ذلك باستخدام مفردة واحدة.
الاحتمال الثاني: إنّه لا يرى في مجال الاقتصاد مجالاً للمستحبّ والمكروه؛ وبعبارة أخرى: كلّ ما ورد من روايات استفاد منها العلماء الاستحباب والكراهة في المجالات الاقتصادية هو في الحقيقة مصاديق لنظرية منطقة الفراغ مملوءة من قبل المعصومين؛ فما من نشاط مروي عن المعصومين في هذا المجال يبدو أنه مستحب ومكروه إلا وهو ــ في الحقيقة ــ ملء لهذه المنطقة، وذا سمة حكومية مؤقتة خاصّة بظروف المعصوم وملابسات زمانه ومكانه.
وهذا الاحتمال غير بعيد؛ فإنّ حمل الروايات التي منعت عن بعض الحِرَف ــ مثلاً ــ على الكراهة في الوقت الحاضر يؤدي إلى اختلال النظام الاقتصادي ونظم المجتمع إذا ما تركت هذه الحِرَف وأهمِلت، إضافةً إلى أنّ حمل الروايات الحاثة على العمل والاشتغال في بعض الحِرَف على الاستحباب يؤدّي إلى تضخّم في العاملين في هذا القطاع، وفي النتيجة اختلال آخر في النظم الاجتماعية والاقتصادية. أما حملها جميعاً على أنّها أحكام صدرت عن المعصوم من موقف الإمام والقائد فيحول دون هذه الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية، وقد تترتب اختلالات أخرى على الروايات التي وردت في مجال التجارة والاقتصاد، وذكرها جميعاً ليس محلّ هذا المقال؛ المهم أنه لا يبعد حملها جميعاً ــ باستثناء موارد خاصّة جداً ــ على ملء منطقة الفراغ.
الاحتمال الثالث: إنّ حديثه في كتاب (اقتصادنا) صدر من موقع المبيّن والشارح لنظرية الإسلام ومذهبه في مجال الاقتصاد، ومن الواضح أنّ النظرية لا مجال فيها إلى ما ترجّح فعله أو تركه، بل الحديث فيها دائماً يكون صارماً، إمّا بالمنع البات أو السماح، ومجال المستحبّ والمكروه هو الفقه فقط دون غيره.
إن بيان نظريةٍ أو مذهب ما يعني بياناً لقوانين النظرية والمذهب، ولم يُلحظ في التقنين مجال لاصطلاحات مثل المستحب والمكروه، أو الراجح والمرجوح، فمحلّ هذه الاصطلاحات غير القوانين التي مخاطبها الحكومة أو الشعوب ككل لا كأفراد، ولا يختصّ الأمر بالقوانين الاقتصادية، بل يشمل جميع المجالات؛ لم يلُح في أيٍّ من الكتب الاقتصادية المدوّنة من قبل اقتصاديين غربيين أو شرقيين عبارة الترجيح في الفعل أو الترك، وهي سيرة كلّ من كتب في هذا المجال، وفي محلّها، والسيد الشهيد الصدر تمشياً مع هذه السيرة، لم يستخدم مفردتي: المكروه والمستحب اللتين تُعدَّان من الاصطلاحات الخاصّة بالفقه.
تمييز الثابت والمتغير في الشريعة، المعايير والقواعد
كيف نميّز الحكم الشرعي العام والدائم عن ذي الصبغة الحكومية المؤقتة؟
تساءل السيد الصدر نفسه هنا فقال: «.. فقد جاء في الرواية أنّ النبي قضى بين أهل المدينة في النخل: لا يمنع نفع بئر، وقضى بين أهل البادية: أنه لا يمنع فضل ماء ولا يباع فضل كلاء، وهذا النهي من النبي عن منع فضل الماء والكلاء، يمكن أن يكون تعبيراً عن حكم شرعي عام، ثابت في كلّ زمان ومكان، كالنهي عن الميسر والخمر، كما يمكن أيضاً أن يعبّر عن إجراء معيّن اتخذه النبي بوصفه ولي الأمر المسؤول عن رعاية مصالح المسلمين، في حدود ولايته وصلاحياته، فلا يكون حكماً شرعياً عاماً، بل يرتبط بظروفه ومصالحه التي يقدّرها ولي الأمر»([18]).
ويبدو أن المقياس الأساس للتمييز هو القرائن الذاتية وغير الذاتية للنصوص، فهي التي تعيننا على الكشف عن هذا الأمر؛ وبصيرة المجتهد في هذا المجال وكيفية رؤيته للنصوص تلعب دوراً أساسياً، مع العلم أن القرينة تختلف من مورد إلى آخر؛ ولا يمكن حصر القرينة بشكل معين، كما أنّ وجود تعارض بين نصّين للرسول وأحد الأئمة هو أحد القرائن التي تكشف في كثيرٍ من الأحيان عن عدم عمومية التشريع وثباته أو حكوميته وتوقيته، وقد أشار السيد الصدر إلى هذا المقياس بعد النص المتقدّم، فقال: «وموضوعية البحث في هذا النصّ النبوي تفرض على الباحث استيعاب كلا هذين التقديرين، وتعيين أحدهما على ضوء صيغة النص وما يناظره من نصوص».
نظرية منطقة الفراغ، المستند والشرعيّة
المهم في هذه النظرية ــ باعتبارها تعبّر عن وجهة نظر الإسلام في مجال الاقتصاد، بل وحتى غير الاقتصاد ــ هو الاستدلال عليها لا فذلكتها العقلية أو العرفية، أي الإتيان بما يدلّ عليها من القرآن والسنّة، ولم يغفل السيد الصدر هذا الجانب المهمّ من النظرية؛ فكتب في الاستدلال عليها ثلاثة عشر سطراً تحت عنوان: الدليل التشريعي.
ورغم الإيجاز الذي تضمّنه الاستدلال المتناسب مع كتاب اقتصادي غير فقهي أو استدلالي، إلاّ أنه احتوى على مضامين عالية تفي ــ إلى حدّ ما ــ بما يتبادر لكلّ متفقِّه من إشكالات وتساؤل حول مبرّرات هذه النظرية.
ونحن هنا، وبعد إعادة صياغة الدليل التشريعي الذي ذكره السيد الصدر، نأتي بدليل آخر نرى صلاحيته لتأكيد حجيّة ومصداقية هذه النظرية.
الدليل الأول: الآية الكريمة: >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ< (النساء: 59). يقول السيد الصدر في تفسير الآية والاستدلال بها: «وحدود منطقة الفراغ التي تتسع لها صلاحيات أولي الأمر، تضمّ ــ في ضوء هذا النص الكريم ــ كلّ فعل مباح تشريعياً بطبيعته، فأيّ نشاط وعمل لم يرد نصّ تشريعي يدلّ على حرمته أو وجوبه.. يسمح لولي الأمر بإعطائه صفةً ثانوية بالمنع عنه أو الأمر به؛ فإذا منع الإمام عن فعل مباح بطبيعته، أصبح حراماً، وإذا أمر به، أصبح واجباً.
وأما الأفعال التي ثبت تشريعياً تحريمها بشكل عام، كالربا مثلاً، فليس من حقّ ولي الأمر الأمرُ بها، كما أن الفعل الذي حكمت الشريعة بوجوبه كإنفاق الزوج على زوجته، لا يمكن لولي الأمر المنع عنه؛ لأنّ طاعة أولي الأمر مفروضة في الحدود التي لا تتعارض مع طاعة الله وأحكامه العامة، فألوان النشاط المباحة بطبيعتها في الحياة الاقتصادية هي التي تشكّل منطقة الفراغ»([19]).
وكأنّ السيد الصدر يفرض صلاحية الإمام في التشريع أو التغيير أمراً مفروغاً عنه، ولذا بدأ بالحديث عن صلاحية أولي الأمر مباشرة، ولم يتحدّث عن أصل الصلاحية ومشروعيتها؛ حيث قال: «وحدود منطقة الفراغ..»، وهذا هو الصحيح، فإنه لو لم تكن له صلاحية ولم تكن له قدرة تشريعية لما فرض الله طاعته؛ وإذا كان وليّ الأمر مبلغاً بحتاً، فإن فرض طاعته هنا بلا داعٍ؛ لأنّ كلّ ما يصدر عنه عبارة عن بلاغ من الله لا منه ذاته، وبالنتيجة فإطاعة ما يصدر منه إطاعة لله مباشرةً، لا له، وهو خلاف ما فرضته الآية؛ وعلى هذا، فأصل صلاحيته في التشريع مسلّمة، كلّ ما ينبغي أن ينصبَّ عليه الحديث هو حدود تلك الصلاحية لا غير.
الدليل الثاني: وهو الدليل العقلي؛ فمن المسلّم حصول تطوّر مستمرّ في حياة الإنسان بجميع أبعادها تقريباً من الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها؛ وهو ما يستدعي تطوّراً في القوانين والنظم الاجتماعية، منسجماً ومتناسباً مع نوعية التحوّلات وكميتها، وباعتبار أن التغيير والمساس بالتعاليم الإلزامية للشريعة منهيّون عنه ولا صلاحية لأيٍّ من البشر في تغييره، تبقى التعاليم غير الإلزامية، والتي لا تُعدُّ مخالفتها معصيةً، مؤهلة ومنصاعة للتغيّر والتحول بيد من هو أهل لذلك، أي ولي الأمر أو الإمام.
من جانبٍ آخر؛ تستدعي الولاية والحكومة تنظيم الأمور وتطبيق الشريعة بالشكل الذي يتناسب مع متغيّرات الزمان والمكان، فلو فرضنا أنّ الإمام لا شأن له غير الإشراف والمراقبة دون صلاحيّةٍ له في التغيير والتدخّل لاختلّ النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمجتمع، ولتعذر تطبيق الشريعة بالشكل المطلوب، فلو فرضنا عدم صلاحية الإمام في الوقت الحاضر في إدخال قيود على قانون (مَن أحيا أرضاً فهي له)، لأصبح الجزء المعمور من الأرض بأجمعه بأيدي مجموعة قليلة من الناس؛ وذلك باعتبار تطوّر الآليات ووسائل الإحياء حالياً، الأمر الذي يمكّن بعض الأغنياء من الإحياء بسرعة فائقة باعتبار قدرتهم الشرائية وتمتّعهم بالإمكانيات اللازمة لهذا الأمر، وكذا الحال بالنسبة إلى أحكام وقوانين من هذا القبيل، أشار إليها السيد الصدر في (اقتصادنا)؛ فإنها جميعاً تستدعي تدخل الدولة أو الإمام للحيلولة دون انحصار الثروات وتكدّس الأموال بيد مجموعة قليلة من الناس، وترك الآخرين يعانون من الفقر والفاقة؛ لأنّ ذلك وإن لم يتنافَ مع هذه القوانين المفروضة، إلاّ أنه يتنافى مع مبادئ أقرّها الإسلام وسعى لترويجها، مثل مبدأ العدالة ومبدأ المساواة وأمثال ذلك.
من هم أولو الأمر؟ تساؤل وإشكاليّة لم يتعرّض الصدر بشكل مباشر للإجابة عن هذا السؤال، رغم إشارته إلى شبهة تعيين أولي الأمر بشكل خاطف، حيث يقول: «والأصل التشريعي لمبدأ الإشراف والتدخّل هو القرآن الكريم، في قوله تعالى: >أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ<، فإنّ هذا النصّ دلّ بوضوح على وجوب إطاعة أولي الأمر، ولا خلاف بين المسلمين في أنّ أولي الأمر هم أصحاب السلطة الشرعية في المجتمع الإسلامي، وإن اختلفوا في تعيينهم وتحديد شروطهم وصفاتهم، فللسلطة الإسلامية العليا إذاً حقّ الطاعة والتدخل؛ لحماية المجتمع وتحقيق التوازن الإسلامي فيه، على أن يكون هذا التدخل ضمن دائرة الشريعة المقدّسة..»، وبهذا النص اكتفى الصدر دون تحديد دقيق للموضوع.
وثمّة أقوال أربعة في المراد الأولي من (أولي الأمر) في الآية، وهي: 1 ــ أمراء السرايا زمن الرسول 2. 2 ــ الخلفاء الراشدون. 3 ــ العلماء. 4 ــ الأئمة المعصومون، والثلاثة الأولى لأهل السنّة، فيما الأخير للشيعة.
وبغضّ النظر عمّا يُطرح من أدلة لإثبات صحة كلٍّ من الأقوال الماضية؛ فالمهم هو معرفة رأي السيد الصدر في هذا المجال، حيث لا وجود لنصٍّ أو عبارة في ثنايا كتاب (اقتصادنا) يكشف عن مخالفته للرأي المعروف عند الشيعة هنا؛ فكلّما أراد الإشارة إلى (أولي الأمر) استخدم الاصطلاح نفسه أو مصطلح الإمام مكانه، وكلا الاستعمالين والمصطلحين لا يكشفان عن إنكاره للتفسير الشيعي لأولي الأمر، فإنّ المصطلحين كليهما يُستخدمان للإشارة إلى الأئمة المعصومين.
إلاّ أنّ ما يلفت النظر هنا، عدم استخدامه للتحيّة عند ذكره لأحد المفردتين، كما هو المتعارف عند الشيعة لدى ذكرهم أحد المعصومين؛ فهل يكشف هذا عن اختلافه مع الشيعة في تفسير الآية والمراد منها؛ أو أنّ عدم الاستخدام كان لشأنٍ آخر غير الاختلاف في التفسير؟
يبدو أن عدم استخدام السيد التحيّة هنا ناشيء عن أمرين:
الأول: إنه يرمي باصطلاح أولي الأمر الإشارة إلى السلطة الشرعية بأيّ جهة تمثلت دون لحاظ ما فُسِّرت به، ومن دون لحاظ اختلاف المسلمين في هذا المجال؛ وبهذا فهو لا يريد الإشارة إلى أيٍّ من تفاسير أولي الأمر؛ من هنا ــ كما هو واضح ــ لم يحتج إلى تحية.
الثاني: حتى لو أريد بأولي الأمر الإمام المعصوم، وخُصَّ التفسير به، إلاّ أن هذا لا يتنافى مع إمكانية تعميم المراد وشموله للولي الفقيه بناءً على القول بولايته، وهذا أيضاً لا يحتاج إلى التحية، والقرائن تفيد أنه يقصد الوليّ الفقيه من هذه المفردة دون غيره؛ فحيث يُقرُّ بولاية الفقيه، وبصلاحيته التي تبلغ مستوى صلاحية الإمام المعصوم التشريعية، فإذا كانت صلاحية المعصوم تسع الأحكام المباحة أو غير الإلزامية، فلولي الفقيه تفسير الصلاحية والحقّ في التغيير المتناسب مع ظروف الزمان والمكان.
وفي مجال الحديث عن ولاية الفقيه وصلاحياته، هناك نظريات عديدة، قد يكون أهمّها ما ذهب إليه الإمام الخميني ) من نظريةٍ أطلق عليها ولاية الفقيه المطلقة؛ وهي نفسها التي تُستوحى من كتاب (اقتصادنا) من حيث فرض تساوي صلاحية التغيير للامام المعصوم والفقيه غير المعصوم.
نظريّة منطقة الفراغ، ثغرات وإشكاليات خاصّة
يمكن تقسيم الإشكالات والملاحظات هنا إلى ما توجّه إلى نظرية منطقة الفراغ بشكل خاصّ، وما طال القول بوجود تغيّر في الشريعة بشكل عام، وقد لا تعبّر هذه الإشكالات عن قائل بها، بل تمثل تصوّرات عامّة.
أما ما يمكن توجيهه على نظرية منطقة الفراغ، فهو في المصاديق التي ذكرت نماذج تطبيقية لها، من قبل الرسول 2، فهي في رأي أكثر الفقهاء وبخاصّة مَن تقدّم على السيد الصدر تُعدّ مصاديق للمستحبّ والمكروه؛ أما بناءً على رأي الشهيد فهي خلوٌ من عناوين كهذه، بل هي حكومية وخاصّة بذلك الزمان، وقد تتصف بالإلزام أي الوجوب والحرمة، لكنها تتصف في الوقت عينه بالتوقيت الزماني والمكاني، كما تتصف بعدم الشمولية والثبات، فإلزامها إلزام حكومي ولائي لا أكثر.
وقد أشار السيد الصدر إلى هذا الإشكال؛ حيث قال: «وأمّا أولئك الذين يتخذون موقفاً نفسياً تجاه النص بصورة مسبقة، فهم يفترضون منذ البدء أن يجدوا في كلّ نصٍّ حكماً شرعياً عاماً، وينظرون دائماً إلى النبي من خلال النصوص بوصفه أداةً لتبليغ الأحكام العامة، ويهملون دوره الإيجابي بوصفه ولي الأمر؛ فيفسّرون النص الآنف الذكر([20]) على أساس أنه حكم شرعي عام، ويفرّعون على هذا الأساس أنّ النهي ليس نهي تحريم، وإنما هو نهي كراهة، لأنهم يستبعدون أن يكون منع المالك لفضل مائه حراماً شرعاً، في كل زمان ومكان، وهذا الموقف الخاص في تفسير النصّ لم ينبع من النصّ نفسه، وإنما نتج من اعتياد ذهني على صورة خاصّة عن النبي، وطريقة تفكير معينة فيه، درج عليها الممارس، واعتاد خلالها أن ينظر إليه دائماً، باعتباره مبلغاً، وانطمست أمام عينيه شخصيته الأخرى بوصفه حاكماً، وانطمست بالتالي ما تعبّر به هذه الشخصية عن نفسها في النصوص المختلفة»([21]).
يبدو أن المقطع الأخير من هذا النص يُعبّر عن جوابه بما يمكن أن يصدر من نقدٍ تجاه الاشكال المذكور؛ وكما هو واضح، فإنّ الاختلاف مع الصدر ليس اختلافاً مبنائياً في أصل الاعتقاد بوجود منطقة فراغ في التشريع، بل بنائي في المصاديق فحسب، ناشيء عن الإغماض عن الوجه الآخر لشخصية الرسول، أي كونه ولي الأمر وقائد المسلمين.
إن النماذج التي ذكرها السيد الصدر محمولةٌ على الاستحباب والكراهة، بناءً على ما يُفهم من قواعد الجمع الأصولية عند التعارض بين دليلين، وهي نفسها مجموعة على التوقيت وعدم الشمولية بناءً على قرائن ذاتية أو غير ذاتية لمصادر هذه النماذج تضطرّنا لحملها على التوقيت دون التشريع العام والشمولي، بناءً على رأي السيد الشهيد.
وعلى هذا، فلا وجود لنقد([22]) مباشر لأصل وجود منطقة في التشريع لم تُملأ من الشارع، والاختلاف في هذا المجال في مصاديق هذه الرؤية، ونحن نرى لهذه المنطقة الكثير من المصاديق التي تُغنينا عن النماذج السابقة على فرض عدم أهليّتها لذلك؛ ومن أوضح مصاديق هذه المنطقة المملوءة من قبل المعصوم ــ بوصفه ولي الأمر لا غير ــ هو دعوة الرسول المسلمين لطلب الرزق من مصر([23])، وكذا فرض الإمام علي % للزكاة على الخيل([24])؛ فلابدّ أن مصر كانت تمتاز بمزايا اقتصادية مثل وفرة الإنتاج وقلّة الكلفة؛ بحيث دعت الرسول لتحريض المسلمين للمتاجرة هناك، كما أنّ في عهد الإمام علي لابدّ من وجود ظروف مالية خاصة دعته لفرض الزكاة على الخيل، رغم عدم وجوبها في زمن الرسول 2.
والمثالان السابقان محمولان على الاستحباب عند أمثال صاحب الوسائل، والسبب هو ما ذكره السيد الصدر من أنهم يغمضون العين عن الجانب الآخر من شخصية الرسول أو الإمام، وهو شخصيته بصفته ولي أمر المسلمين.
نظرية منطقة الفراغ، ثغرات وإشكاليّات عامّة
أما الإشكالات التي ترد على أصل وجود تغيير أو إمكان له في الشريعة عموماً، فتنحصر بمعارضة هذه الفكرة لحديث: «حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة»([25])، وكذا لما أجمع عليه المسلمون من أنّ الإسلام خاتم الأديان ولا دين بعده، وفي النهاية لا تغيير ولا نسخ.
1 ـ إشكالية التنافي مع حديث «حلال محمد..»
رغم وضوح ظهور هذا الحديث في التنافي والتعارض مع إمكانية وجود تغيير في الشريعة؛ إلاّ أنّا نرى له محامل تحول دون تبلور هذا التعارض في الذهن؛ وهي:
الحمل الأول: إنه محمول على الثوابت من الأوامر الشرعية دون المتغير أو المؤهّل للتغيير؛ وذلك لأنّ المتغيّرات تثبت لها هذه الصفة بأدلّة تضاهي هذا الحديث اعتباراً، بل قد تكون أكثر وثوقاً، أو تُعدُّ من المسلّمات.
رغم هذا، حَالَ عدم ابتلاء الفقهاء بقضايا العصر دون تنبّههم لوجود منطقة فراغ في التشريع، وهذا لا يعني المخالفة أبداً، وإن اختلفوا مع الصدر في وسم بعض الأوامر بالعموم والشمول، إنّ تغيير الحكم لأجل الضرورة مثلاً أمرٌ لا يشك به أحد؛ وعلى فرض وجود تعارض بين هذا الحديث وما يخالفه، فلابدّ من حمل هذا الحديث على غير ما تثبته الأحاديث والأدلة المخالفة والمثبتة لقابلية التغيير في الحكم، طبقاً لقواعد الجمع الأصولية.
الحمل الثاني: إنه محمول على العبادات دون المعاملات؛ وذلك باعتبار أن المعاملات لا إشكال في قابليّتها للتغيير والتحول.
وهذا مردود بأن في العبادات قابلية للتغيير تشبه القابلية الموجودة في المعاملات دون شك، وأقلّه ذلك الذي يتغيّر بسبب التقية أو الضرورة، وقد مرّت بعض الأمثلة بداية البحث.
من جانب آخر، فإنّ أي تغيير يطال الأحكام ما دام يتصف بالظرفية الزمانية أو المكانية، لا يتنافى مع الحكم ذي السمة الشمولية الدائمة؛ فإن التنافي صادق إذا كان الحكمان المنصبَّان على الموضوع الواحد، متفقين من جميع الجوانب حتى الزمان والمكان، أمّا إذا اختلفا في الصفتين الأخيرتين، فإن التعارض غير مستقر ولا صادق.
2 ـ إشكالية التصادم مع خاتميّة الرسالة
لا شك أنّ الإسلام خاتم الديانات السماوية، وأن الرسول خاتم الرسل، لكن هل وجود قابلية على التغيير في الشريعة يعني منافاة ذلك للخاتمية؟
بالطبع لا؛ فإن الخاتمية لا تعني عدم التغيير، الذي يبلغ مستوى الجمود في التشريع؛ وذلك لأن الشريعة التي هي خاتمة الشرائع تضمّ تعاليم كثيرة جداً، وما يناله التغيير جزء من ذلك الكثير، وهذا لا يعني مسخاً للشريعة وتغييراً لها لكي يتنافى ذلك مع خاتميتها؛ فالأصول الاعتقادية للإسلام أمور لا يُتصوّر فيها تغيير وتحوّل، وكذا الحال بالنسبة لضرورة الدين كالصلاة والصوم والحج وما شابه ذلك، فهي كلّها من الثوابت التي لا يتصوّر التغيير فيها، أمّا بالنسبة إلى ذلك الجزء من الشريعة الذي يطاله التغيير؛ فإن التغيير الحاصل فيه لا يُعدُّ شيئاً أجنبياً من الشريعة نفسها ولا تزريقاً من ثقافات وشرائع أخرى؛ بل إن التغيير هذا ينبثق من صلب الشريعة، وهو داخلها لا خارجاً عنها؛ لأن ذلك حصل بدعم منها، وهي التي فرضت هذا التغيير وتلك القابلية وأكّدت على ممارستهما؛ ولو كان أرباب هذه الشريعة يعدُّون التغيير أمراً أجنبياً وخارجاً عنها لما أجازوه أو فرضوه.
هذا، ومن جانب آخر، إن ضرورة وجود العناصر المتغيّرة في الشريعة كضرورة وجود الثوابت فيها، ولا يمكن حفظ ثبات الثوابت دون هذه التغييرات، فهي لغز الثبات والمقاومة، وفي النتيجة الخاتمية، فهي التي تسهّل تطبيق الشريعة في كلّ زمان ومكان مهما اختلفت الظروف.
كما أنّ الروايات التي أفادت وأخبرت عن إتيان الإمام المهدي (عج) بالجديد والتغييرات في بعض الأحكام، غير قليلة، فلو كانت هذه التغييرات متنافيةً مع الخاتمية لما أقرّتها هذه الروايات ونسبتها إلى المهدي (عج)، وهو الذي يُعدّ من رموز خاتمية هذه الرسالة.
الهوامش
(*) باحث في أصول الفقه المقارن في مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية، من العراق.
([1]) وسائل الشيعة ج3، الباب 13، ح2، طبع دار إحياء التراث العربي.
([2]) المصدر نفسه 17: 222، الباب 1، ح4.
([3]) المصدر نفسه 6: 51، الباب 16، ح1 ـ 4.
([4]) في العام السادس من الهجرة ـ أي عام صلح الحديبية ـ حيث رجع الرسول بالمؤمنين في ذلك العام دون أن يؤدوا فريضة الحج.
([5]) اقتصادنا: 417.
([6]) اقتصادنا: 339.
([7]) المصدر نفسه: 717 ـ 718.
([8]) يأتي ذكر نوعية الاختلاف في أنه مبنائي أو بنائي عند بحث ما يرد على هذه النظرية من ملاحظات.
([9]) اقتصادنا: 400.
([10]) المصدر نفسه: 301 ـ 302.
([11]) المصدر نفسه: 400.
([12]) وسائل الشيعة 17: 33، الباب 7، ح 2.
([13]) اقتصادنا: 726 ـ 727.
([14]) إن الأحاديث بهذا المضمون كثيرة، تجدها في وسائل الشيعة 13: 3 ـ 7، كتاب التجارة، الباب 10.
([15]) اقتصادنا: 727.
([16]) المصدر نفسه: 726.
([17]) المصدر نفسه: 693.
([18]) المصدر نفسه: 414.
([19]) المصدر نفسه: 726.
([20]) وهو قضاء النبي بين أهل المدينة في النخل: لا يمنع نفع بئر، وقضاؤه بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل الماء، ولا يُباع فضل كلأ.
([21]) اقتصادنا: 414 ـ 415.
([22]) لم أعثر على نقدٍ منقول على هذه النظرية، فضلاً عن النقد المدوّن رغم أنه قيل بوجود من ينقدها.
([23]) صدر عن أبي عبدالله % قال: ذكرت له مصر، فقال: قال رسول الله 3: «اطلبوا بها الرزق..»، وسائل الشيعة 12: 342، الباب 56، ح1.
([24]) المصدر نفسه 6: 51، الباب 16، ح1 ـ 4.
([25]) الكافي 1: 58، ح 19.