صدر حديثاً كتاب «الفنون في ضوء مقاصد الشَّريعة الإسلامية» في 544 صفحة من القطع الكبير، قام بتحريره وتقديمه الدكتور إبراهيم البيومي غانم، ويتضمن تسعة فصول والذي يضم مجموعة من الأبحاث الثرية التي شارك فيها باحثون من مختلف التخصُّصات العلمية في الندوة الدولية التي أقامها مركز دراسات مقاصد الشَّريعة الإسلامية، التابع لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، وذلك في مدينة اسطنبوليومي 5و6 نوفمبر 2016
الاجتهاد: يوماً بعد يوم، تتّسع دائرة الدّراسات والأبحاث المقاصدية لتشمل حقولاً معرفية قد يتوهّم كثير من الناس أنها لا تنطوي على جملة من الأبعاد المقاصدية، أو لا تمتُّ لها بصلةٍ من قريب أو من بعيد. ولعلَّ مردّ ذلك يعود- في جانب منه- إلى اقتصار البعض، في تصوُّرهم لمقاصد الشريعة الإسلامية، على الضروريات أو الكلِّيات الخمس، والتعامل معها بظاهرية شديدة تنْزع عن فلسفة المقاصد غائيتها، مثلما تحدُّ من عامل مُرونتها.
ضمن هذا السِّياق العام يتنزَّل الكتاب الذي صدر حديثاً بعنوان: «الفنون في ضوء مقاصد الشَّريعة الإسلامية» الذي يضم مجموعة من الأبحاث الثرية التي شارك فيها باحثون من مختلف التخصُّصات العلمية في الندوة الدولية التي أقامها مركز دراسات مقاصد الشَّريعة الإسلامية، التابع لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، وذلك في مدينة اسطنبول يومي الخامس والسادس من تشرين الثاني(نوفمبر) 2016.
الكتاب الذي صدر في ما يقارب خمسمئة وخمسين صفحة من القطع الكبير، قام بتحريره وتقديمه الدكتور إبراهيم البيومي غانم، ويتضمن تسعة فصول بالإضافة إلى كلمة افتتاحية قدَّمها الدكتور عصام البشير بين يدي المشاركين في الندوة.
وفاتحة هذه الدراسات لنور الدين الخادمي بعنوان: «الفنون الخادمة للمقاصد، والمقاصد الخادمة للفنون» والتي قارب فيها موضوع الفنون من زوايا الشريعة الإسلامية والعلوم الإنسانية كالآداب والاجتماع والفلسفة وغيرها. أما عن صلة الفنون بمقاصد الشريعة؛ فتتأتَّى – وفق الخادمي- من اعتبارها جزءاً لا يتجزأ من حقيقة الإسلام الكبرى في أصوله ونصوصه، ومنظومة قيمه الإنسانية والكونية والحضارية.
وسعياً منه وراء الربط بينهما (الفنون والمقاصد)؛ منهجياً وموضوعياً وسياقياً على اختلاف المسالك والروافد، قصد الخادمي إلى توسيع معنى الفنون والمقصود منها لتشمل مختلف أنواع التعبير، والانتقال بمُدارستها من «فقه النصوص» بألفاظها ودلالاتها وأحكامها وسياقاتها، إلى «فلسفة ومنطق علم المقاصد» موضوعاً ومنهجاً وسياقاً.
ففيما يقتضي «فقه النصوص» النظر فيها برؤية شاملة وجامعة لمدركاتها، يتغيّا «فقه المقاصد» النظر في الموضوع المقاصدي الذي يُعرف بالمصلحة ومشتملاتها، جلباً ودرءاً، جمعاً وترجيحاً، حالاً ومآلاً، وسيلة وذريعة. كما يراد بفقه المقاصد أيضاً منظومة مناهجه التعليلية والغائية والمآلية والوسائلية القائمة على إعمال الحقيقة الجامعة للشكل والمضمون معاً، لكلٍ من الفنون ومقاصد الشريعة الإسلامية.
في الفصل الثاني من الكتاب، تناول البيومي غانم: «إشكالية الفنون الجميلة في علاقتها بمقاصد الشريعة»؛ بخاصة ما يتعلّق بجملة وظائفها ومقاصدها، وعلائقها بمكارم الشريعة ومقاصدها. فمن جهة أولى، يكشف النظر إلى مقاصد الشريعة عن أن الفنون بكل صورها داخلة بالضرورة في خدمة المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية؛ ليس باعتبارها وسيلة من بين وسائلها فحسب، وإنما بوصفها تلبية لنداء الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها.
ومن جهة أخرى، يمكن النظر إلى الفنون الجميلة باعتبارها وسيلة خادمة لمقاصد الشريعة؛ نظراً الى أنها تُساهم في بناء الوجدان، وترقية الذوق، والسمو بالعواطف الإنسانية، وتغذية الروح، وصولاً إلى تحقُّق أحوال ومقامات: الأَمَنَة، والطمأنينة، والسكينة في النفس الإنسانية.
ومما يزيد من ضرورة إيلاء موضوع الفنون الجميلة أهمية كبرى في سياق «فقه المقاصد»؛ أنَّ كلَّ النظم الشرعية ومؤسَّساتها التي عملت في خدمة المقاصد العامَّة للشريعة الإسلامية استفادت من الفنون على اختلاف أنواعها؛ بل إن بعض هذه النظم -كالوقف مثلاً- أسهمت بشكل مباشر في إبداع كثير من أشكال الفنون الجميلة، وفي استثمارها.
على أن علاقة الفنون بمقاصد الشريعة لم تحظ بما تستحقه من عناية الباحثين حتى اللحظة، على رغم كثرة البحوث والدراسات المتعلقة بكلا الموضوعين: الفنون والمقاصد. إذ لا تزال أغلب البحوث المتعلقة بالفنون الإسلامية معنية بالجوانب التاريخية، أو الفقهية، أو المعمارية، من دون أن تسعى إلى مقاربة موضوع الفنون في سياق ارتباطها بالمقاصد العامة للشريعة الإسلامية.
صحيح أن المعتزلة على سبيل المثل أولوا اهتماماً وعناية بفلسفة الجمال مع ربط الأخلاق والجمال بكل من العقل والشرع، لكن البحوث الحديثة على كثرتها لم تسع بشكل جاد أو مكثّف إلى محاولة التأصيل النظري والفلسفي للفنون وفقاً لمعايير المرجعية الإسلامية.
ومن شأن ذلك أن يتطلّب تجديداً في البحث عن إشكالية علاقة الفنون بالمقاصد العامة للشريعة الإسلامية، وإعادة النظر في تصنيفها مقاصدياً بحيث تُنقل من حيِّز «التحسينيات» أو «الحاجيات» إلى حيز «الضروريات». أيضاً لا مناص في رأي البيومي غانم من ضرورة استيعاب وإدماج النظريات الفلسفية الكبرى السائدة في الحضارات الأخرى، والاشتباك معها فكرياً، من أجل استكناه القواسم المشتركة، والوقوف على ما يميزها من خصوصيات عن فنون وحضارات الشعوب الأخرى.
على الجانب الفقهي، كانت الفنون من حيث هي صنعة أو حِرْفة أو أثر قائمة بقوة في حياة المسلمين وحضاراتهم، وخضعت بعض ظواهرها الاجتماعية المتعلقة بالبناء والعمارة بشكل مباشر لفقه «النوازل»، وخضع بعضها الآخر المتعلق بالصناعات والحِرَف المتعلقة بفنون الكتاب، كالتجليد مثلاً، بشكل غير مباشر لفقه «الحسبة»، كما أسهم الوقف بشكل فعَّال في تطور الفنون والعمارة والصنائع الإسلامية.
وفي ورقته المعنونة بـ «فقه الحُسْن: التأصيل المقاصدي لمفهوم الفن الإسلامي وحدوده المعرفية» سعى الدكتور إدهام محمد حنش إلى إبراز أهمية الفن من حيث هو موضوع بحدّ ذاته، اذ لم يحظ هذا الجانب بكبير اهتمام في الدراسات الإسلامية التراثية؛ وبخاصة منها الدّراسات الشرعية؛ سواء ما تعلق منها على العموم بالسياسة الشرعية والعمران الإسلامي، أم ما تعلق منها على وجه الخصوص بعلم الفقه وأصوله الذي لم ينشغل بهذا الموضوع، ولم يُفرَد له مبحث يُذكر بين مباحث الفقه العديدة المتعلقة بالعبادات والمعاملات والأحوال الشخصية… إلخ.
على أنَّ فريقاً من علماء الشريعة المحْدثين؛ وبخاصة الأستاذ الإمام محمد عبده (ت 1905م) وتلميذه محمد رشيد رضا (ت 1935م)، بذلوا جهوداً محمودة في ما يتعلق بالتصدي الشرعي لمسألة الفن الحضارية، كما كان لبعض المؤسسات الدينية الإسلامية دور رائد في معالجة الظاهرة الفنية وآثارها الاجتماعية.
وقد كان لمحمد عبده ورشيد رضا بصفة خاصة فضل السبق الشرعي الحديث والمعاصر في التعامل مع الفنون التصويرية؛ كالنحت والرسم، بكل أريحية فقهية مقاصدية، وذلك في ضوء تفهُّم فوائدها الثقافية المتمثِّلة في الحفاظ على هوية الأمة ونهضتها الحضارية، وفي ضوء الحقيقة التي تجعل «الشريعة الإسلامية أبعد من أن تُحرِّم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين؛ لا من جهة العقيدة، ولا من جهة العمل».
الحاجة ماسَّة وضرورية إذاً إلى «فقه الفن» اذ لم ينضج هذا النوع من أنواع الفقه الشرعي العام بعد، أو لم يصر هذا المجال من مجالاته؛ على غرار ما يشيع في الأوساط الدينية والثقافية والاجتماعية من أنواع الفقه ومجالاته المعرفية المتعددة والمتنوعة بشكل خاص؛ مثل: فقه الواقع، وفقه التحولات، وفقه الأقليات، وفقه الأولويات، وغير ذلك من تخصُّصات الفقه وملحقاته.
ولعلَّ السبب في ذلك يعود إلى صعوبة الإحاطة المعرفية الدقيقة بطبيعة الفن وحوادثه ووقائعه وأعماله، واستعصاء فهمها على أكمل وجه، ومن ثمَّ تقرير الحكم الشرعي في شأنها من خلال علم وأدوات أصول الفقه.
في السياق ذاته، عالج الدكتور أحمد الريسوني في ورقته «المسألة الفنية في النظر المقاصدي من خلال مدخل التكييف والتوظيف»، داعياً إلى ضرورة التمسك بالتوسعة واستصحاب الإباحة في الفنون كافة، إلا ما يكتنفها ويُلابسها ويلحق بها من أفعال وأحوال ومقاصد قد تغيّر حكم الإباحة إلى التحريم أو غيره. ووفق الريسوني؛ فإنه لا غنى عن النظر المقاصدي في المسألة الفنية، تكييفاً وتوظيفاً، في أي نظر فقهي شرعي يبغي السداد والرشاد؛ بل هو من صميمه وركن من أركانه.
وكما يقول ابن عاشور فإن «أدلة الشريعة اللفظية لا تسْتغني عن معرفة المقاصد الشرعية». وتبعاً لذلك، عالج الريسوني المسألة الفنية من خلال مدخلين رئيسين هما: مدخل التكييف، ومدخل التوظيف، ثم خصَّص المبحث الثالث للحديث عن «الفنون بين التحسينيات والحاجيات»، منتهياً إلى القول – في ما يتعلق بمسألة الغناء- «إنَّ مدار الأمر كلّه على العوارض التي تعرض للغناء، فمن رأى أنه يغلُب عليه أنه يؤدِّي إلى الفساد والمحرمات حرَّمة».
وقد سبق وحدَّد الإمام الغزالي العوارض الخمسة التي تعرض للغناء فتجعله حراماً، في كل من: «عارض في المُسْمِع[المغنِّي/المغنية]، وعارض في آلة السماع، وعارض في نظم الصوت، وعارض في نفس المستمِع أو في مواظبته، وعارض في كون الشخص من عوام الخلق؛ لأن أركان السماع هي: المُسْمِع، والمستمِع، وآلة السماع». ونتيجة لذلك، مال الغزالي إلى عدم التوسُّع في استخدام قاعدة «سدّ الذرائع» بهذا الخصوص، وأن يُتَّبع مثار الفتن ويُقصر التحريم عليه، وقال: «هذا هو الأقيس عندي».
في الفصل الأخير: «روح العمارة الدِّينية: أنموذج جامع السليمانية»، قدَّم الدكتور رجب شنتورك لوحة فنية للفن المعماري الإسلامي بعامة، والعثماني بخاصة؛ مؤكِّداً أن للأثر المعماري وجوداً رمزياً وإيحائياً يكمن وراء صورته التي نشاهدها بالعين المجردة من حيث التقنية.
فالنظام الرمزي في جامع السليمانية مُركبٌ من خمسة عناوين رئيسة هي: «المكان، والصورة، والسطح، واللون، والمعدَّات». وتبعاً لذلك؛ لا يمكن حلّ الرموز في العمارة العثمانية إلا بكسب فهمِ التأويل والمعْنى عند العثمانيين أولاً. فإذا كان المعنى ينقسم إلى قسمين: ظاهر وباطن، حيث علم الفقه يتعمَّق في طرائق تأويل المعنى الظاهر، وعلم التصوف يتعمَّق في فهم وتأويل الباطن؛ فكذلك الأمر بالنسبة الى بنية المعنى التي تتكون من مراتب مختلفة، تكتمل مرتبةً بعد أخرى.
والمهندس المعماري سنان كان يتخيَّل آثاره المعمارية كما يتخيَّلُ الكتاب، وابتعاد الباحثين المعاصرين الذين يشتغلون بنظرية الرمزية في آثاره عن فهم واستيعاب هذا الأمر، يجعلهم يعوّلون على الرمزية الحديثة التي تبقى في المستوى الظاهري دائماً فلا تتجاوزه إلى المعنى القارّ فيه، ولا تعبُر إلى المرتبة الباطنة المحايثة له.
ومن أجل استكناه البنية الرمزية في جامع السليمانية، سعى شنتورك إلى إقامة الاعتبارات، أو توظيف الأسس الأربعة وهي: الموازنة، والمماثلة، والخلاف، والضدية، التي تُستعمل في تأويل رمزية المساجد، من أجل إظهار العلائق الكائنة ما بين الرمز والمعنى، مؤكداً أنه انطلاقاً من تلك النقاط الأربع، فإننا لن نفهم ما كان عليه الجامع فحسب؛ بل إننا سنفهم ما لم يكن عليه أيضاً! فمسجد السليمانية وعالم الكون مُتماثلان؛ إذ المسجد مستورٌ بقبَّة واحدة تمثّل السَّماء.
والقبَّة التي ترمز لتلاوة القرآن، مُماثلة للنبي الذي يعبِّر عن الوحي. ومن ثم لا مناص من التفكير في العلاقة المماثلة الرمزية بين الإنسان وعالم الكون من جهة، وبين الكعبة والإنسان في علم التصوف من جهة أخرى. كما يتعين على الباحثين أن يؤولوا العلاقات المتشابهة بين الكون والكعبة والمسجد من نقطة النظر تلك أيضاً. ومن أجل الابتعاد عن التأويلات الخاطئة المتعلِّقة بمعاني الرموز في جامع السليمانية، اعتمد شنتورك على تأليفات سنان نفسه التي أملاها على كاتبه ساعي جلبي، والتي يقول في أحدها:
«والكعبة هي المثال الذي استُقي منه هذا الجامع، وتَمَثَّلَ الخلفاء الأخلَّاء الأربعة فيه في أربعة أركان، وبيتُ الإسلام أيضاً على أربعة أركان؛ بيتٌ قد استُحْكِمَ بوجود الأخلَّاء الأربعة. ويودُّ هذا العبدُ المناجي الرَّاجي عفوَ ربِّه بحبِّه لهم أن يُصْبح ريحاً ينسِّم ليلَ نهار، وقدوةُ همِّه الرِّبحُ العظيم يومَ القرَار».
الكتاب: الفنون في ضوء مقاصد الشَّريعة الإسلامية
تأليف : مجموعة من العلماء الأفاضل
تاريخ النشر :02/06/2017
الناشر: دار ابن حزم
عدد الصفحات : 544 صفحة
الطبعة : الأولى
عدد المجلدات : 1
تقديم: محمَّد حلمي عبدالوهَّاب