الاجتهاد: سبق ظهور مدرسة الشيخ الأنصاري إعداد علمي ضخم، على مستوى ضخامة المدرسة وأفكارها فقد دخل الأصول مواجهةً فكريةً وصراعاً علمياً قوياً مدة تزيد على قرنين من الزمان، وقد اكسبت هذه المعركة علم الأصول قوة ومتانة واستحكاماً يؤهله الدخول في مثل هذه المواجهة والخروج منها، والذي يتأمل الكتب التي كتبت في علم الأصول في فترة الصراع كالوافية للفاضل التوني، والفوائد الحائرية للوحيد يلمس هذه الحقيقة بوضوح .
وبعد ان تم هذا الصراع اعدّ الله تعالى لهذا العلم عقولاً وافكاراً قوية نهضت بتحقيقات واسعة ونقدت أفكار السابقين وهذبتها وجدّدت في العلم ووضعت مبانيه واُسسه على أصول قوية متينة مثل (القمي) في القوانين وصاحب الفصول وشريف العلماء والنراقي السيد الموسوي (المتوفي١٢٦٣) صاحب (ضوابط الأصول) وغيرهم .
الشيخ الانصاري رائداً للمدرسة
ثم جاء الشيخ مرتضى الانصاري (١٢١٤-١٢٨١) مستفيداً من هذه الجهود جميعاً فوعاها واستفاد وتمكّن منها , ثم استخدم ما اّتاه الله تعالى من المواهب الفكرية والرؤية الثاقبة في النقد والتجديد والبناء في المحتوى والمنهج, وبلغ هذا العلم على يده أرقى ما وصل إليه علم الأصول في تأريخ الإسلام والمسلمين .
وقد جّدد الشيخ الأنصاري في علم الأصول بدون ريب, وجاء بمنهجة جديدة أصبحت هي منهج الأصول في المباحث العقلية من بعده, ولم يتـّفق لاحد من قبله هذا الكشف والفتح الذي فتحه الله على يده . وسوف نرى ان المنهج الجديد الذي ابتكره هذا الفقيه الجليل يقوم على فهم جديد تماماً للأدلة والحجج, وهذا التصور الجديد للأدلة يفتح الباب على منهاج وتنظيم علمي جديد في تنظيم أبواب وفصول ومسائل علم الأصول .
ولهذه المنهجة الجديدة تأثير مباشر في عملية الاستنباط وتقديم الأدلة بعضها على بعض.
ولولا الجهود الكبيرة والضخمة التي بذلتها من قبله العقول الفقهية في هذا العلم لقلنا ان هذا العلم الشريف اكتسب الصيغة العلمية المنظّمة والمقنّنة على يد هذا الشيخ الجليل ولكن لو كان في هذا الكلام مبالغة فمّما لامبالغة فيه ان هذا العلم اكتسب اّخر مراحل نضجه العلمي على يد الشيخ الانصاري ولذلك فهو بحق خاتمة الاصوليين وعلى يده اكتسب هذا العلم آخر مراحل تطوّره العلمي على إنّنا لا ننقص من قيمة الجهود التي بذلها المحقّقون في تطوير هذا العلم من بعد الشيخ من تلامذته وتلامذة مدرسته إلاّ انهم يعترفون بأنهم لم يتجاوزوا منهج ومدرسة الشيخ الأعظم, وهكذا يعبّرون عن الشيخ عادة في تحقيقاتهم ونقودهم ودراساتهم للمسائل التي يطرحها الشيخ في كتابه القيم (فرائد الاصول).
ولا نستطيع نحن هنا في هذه العجالة ان نلم إلمامة مقبولة ومعقولة بما جدّد الشيخ في هذا العلم من حيث المحتوى والمنهج, ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله.
ومن هنا فسوف اشرح بايجاز معنى التصور الجديد الذي اكتشفه الشيخ للادلة وما فتح الله عليه بعد ذلك انطلاقاً من هذا التصور من منهجة ونظم جديدين لعلم الأصول.
ولكي نتناول هذه المسألة – حتى على اجمالها – لابد ّ من ان نستعرض باختصار تأريخ تطور البحث عن (الدليل) في علم الأصول عند الشيعة الإمامية من حيث (القيمة العلمية) و ( المؤدى والمتعلق)، وعندئذٍ نستطيع ان نقيم دور الشيخ رحمه الله في تطوير وتجديد مباحث علم الأصول .
مبدأ الاستناد على الحجة
فقد التزم فقهاء الأمامية بالاستناد الى الحجة في الاستنباط، وما لم يبلغ الدليل حد القطع في الحجية لا يمكن الاستدلال به ولا يجوز الاستناد عليه في الحكم الشرعي ولا يجوز التنزل من الحجة الى اللاحجة ولا يجوز الاستناد إلى غير الحجة، ومهما شككنا في حجية شيء، فانّ الشك فيه يُساوق عدم الحجية لأن قوام الحجية القطع فإذا تسرب الشك إليه انثلم القطع وبه تنثلم الحجية .
وقد التزم فقهاء الامامية بهذا المبدأ في الاجتهاد منذ فجر عصر الاجتهاد إلى اليوم.
والحجج التي يستندون اليها في الاستنباط اربعة: الكتاب والسنة والاجماع والعقل. ولا يجوز الاستناد إلى شئ من هذه الادلة الاربعة إلا في حالة القطع بالحكم الشرعي من خلاله .
وكان الاستصحاب والبراءة يدخلان عند قدماء الفقهاء في الدليل العقلي، وكانوا يقسمون الأدلة إلى عقلية وغير عقلية ويقسمون القسم الثاني إلى الأدلة الثلاثة (الكتاب والسنة والإجماع ), ويذكرون من مصاديق الدليل العقلي البراءة والاستصحاب، بتقريب ان عدم الدليل على الحكم الشرعي دليل الزام شرعي بالحكم المحتمل، وتطورت صياغة هذا الدليل بعد ذلك الى القاعدة العقلية الاصولية المعروفة بقبح العقاب بلا بيان وكان لهم تقريب عقلي في الاستدلال للاستصحاب.
والاستصحاب عند القدماء استصحابان : (استصحاب حال العقل) و (استصحاب حال الشرع).
واستصحاب حال العقل هو استصحاب عدم اشتغال الذمة الثابت بالقطع، بل بالتكليف أو استصحاب عدم التشريع الثابت بالقطع .
وأمّا (استصحاب حال الشرع) فهو استصحاب الحكم الثابت من ناحية الشرع في وقت سابق في ظرف الشك في بقاء الحكم .
وكلا هذين الاستصحابين من الاستصحاب في الاحكام غير ان الاول منهما في استصحاب عدم التشريع والثاني في استصحاب بقاء الحكم الشرعي الثابت يقيناً في وقت سابق.
وقد استدلوا له بما يشبه الدليل العقلي على البراءة الاصلية فقالوا (( إن الذمة لم تكن مشغولة بهذا الحكم في الزمن السابق أو الحالة الأولى، فلا تكون مشغولة في الزمن اللاحق او الحالة الاخرى … ووجه حجيته ظاهر. إذ التكليف بالشئ مع عدم الإعلام به تكليف للغافل وهو تكليف بما لا يُطاق(١).
وهو استدلال عقلي قريب من الاستدلال العقلي للبراءة الاصلية, وقد تكون البراءة الاصلية عندهم مصداقاً لاستصحاب حال العقل, باعتبار ان استصحاب عدم اشتغال الذمة هو معنى براءة الذمة من الإلزام الشرعي ، فيما لو كان الشك في التكليف.
ولكن الذي كان واضحاً لدى الفقهاء منذ فجر تأريخ هذا العلم الى اليوم الحاضر هو ان الحكم الشرعي لا يمكن اثباته إلا بدليل قطعي وهو الاستناد الى الحجة الشرعية او العقلية القطعية .
واذا شككنا في حجية الدليل وقطعيته، فالشك فيها مساوق لعدم الحجية، كما ذكرنا من قبل.
حجية الظن في مدرسة الرأي
وهذا الاساس مما لا يختلف فيه احد من فقهاء الامامية، وليس الامر كذلك في الاصول عند فقهاء اهل السنة، فان الدليل لديهم هو الحجة التي يثبت متعلقها بالقطع كما عند الشيعة، ولكنهم يرون جواز التنزل من الدليل القطعي الى الدليل الظني عند فقدان الدليل القطعي، ومن ذلك الرجوع الى (الرأي) عند فقدان الدليل من الكتاب والسنة، والرأي هنا هو ما يغلب عليه الظن (كالقياس و الاستحسان).
وليس من شك ان فقهاء السنة لا يستندون الى أي رأي بأي درجة من الظن، و أنما يكون العمل بالرأي عند فقدان الدليل القطعي أوّلاً، ويشترط ان يكون الرأي مما يغلب عليه الظن ثانياً وان لا يألوا صاحبه في الاجتهاد والبحث ثالثاً.
ولكن مما لاشك فيه ان هذا الرأي ليس من (القطع)، وليس القطع داخلاً في تعريفه، ولا يلزم ان تستند حجيته الى دليل قطعي، فليس مآل هذا الرأي الى الحجية القطعية.
والذي يذكره القائلون بالرأي من تحديد للرأي لا يشعر بأن حجية الرأي تتوقف على ثبوت اعتبارها من قبل دليل قطعي.
فقد عرفه ابن القيم بـ (ما يراه القلب بعد فكر وتأملٍ وطلبٍ لمعرفة وجه الصواب)(2).
كما عرفه آخرون بالذوق الشخصي والنظر(3).
واستدلوا على حجية الرأي بأن الله تعالى أمر بإنفاذ الحكم بالشاهدين وانما هذا غلبة للظن، اذ قد يكون الشهود كَذَبَة او مغفلين وتكون اليمين كاذبة(4).
وقد ناقش ابن حزم في رسالته في ابطال هذا الاحتجاج(5).
ومن الاحتجاج والمناقشة يتضح لنا ان الذي يقصده هؤلاء الأعلام من الرأي ليس هو الظن المعتبر بدليل قطعي، وانما هو الظن الغالب بعد البحث والتنقيب، ثبت اعتباره بدليل قطعي او لم يثبت.
حجية الظن المعتبر في مدرسة الإمامية
في مرحلة بعد هذه المرحلة ظهر في ابحاث علم الاصول عنوان جديد بعنوان مباحث الظن ودخل الظن في صلب الابحاث الاصولية.
وظهر اتجاهان متعاكسان متطرفان لم يتمكنا من الثبات في ساحة البحث العلمي وهذان الاتجاهان هما:
١ـ استحالة اعتبار الظن واستحالة الزام المكلفين بالتعبد به شرعاً لمحاذير بعضها ملاكية وبعضها خطابية.
٢ـ حجية مطلق الظن، وان لم يدل على اعتباره دليل قطعي من الشرع.
وكان هذا وذاك رأيين متطرفين لم يثبتا امام المؤاخذات الكثيرة التي وجهت اليهما.
والرأي الوسط هو امكان اعتبار الظن بدليل قطعي من ناحية الشارع. وقد ثبت ووقع هذا الاعتبار لجملة من الظنون الخاصة مثل (الاجماع) و (خبر الواحد) وهذه هي الحجج المجعولة.
وبذلك اتسعت دائرة الدليل فشمل الحجج القطعية كالكتاب والسنة المتواترة المحكمة والادلة الظنية التي ثبت اعتبارها بدليل قطعي لاجماع وخبر واحد، وهي الحجج المجعولة
والسيرة والشهرة ـ بناءً على حجتيهما ـ ، الا ان الدليل بقي يحافظ على قيمته القطعية من حيث الحجية في الفقه رغم هذا التوسع النظري، فما لم يكن الدليل حجة قطعاً لا يصح استناده والتمسك به، لأنَّ هذه الطرق والامارات لا تكون حجة بالذات ولا تزيد قيمتها الذاتية على الظن، ولكن تثبت حجيتها بحجة معتبرة شرعاً، فلا يكون التنزل اليها من الحجة الى اللاحجة، ومن القطع الى الظن، كما في التنزل من الكتاب والسنة الى القياس والاستحسان على رأي فقهاء (مدرسة الرأي).
وهذا تطور هام حصل في الدليل في تأريخ الاصول وهذا التطور في قيمة الدليل وحجيته واعتباره. الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشزعي
والتطور الآخر الذي حصل في بحث (الدليل) في تأريخ علم الاصول هو اثبات الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي، وكان للصراع العلمي بين الاخباريين والاصوليين دور مؤثر في انضاج هذا البحث، ولذلك فقد اخذ هذا البحث نضجه الاخير في عصر المحقق القمي (المتوفي١٢٣١هجرية) في الجزء الثاني من كتابه (قوانين الاصول)، والسيد محسن الاعرجي الكاظمي في كتابه (المحصول) والمحقق الشيخ محمد تقي الاصفهاني صاحب الحاشية على المعالم في كتابه القيم (هداية المسترشدين) في التعليق على كتاب معالم الدين.
في هذا العصر يأخذ الدليل العقلي نضجه الكافي الكامل ويدخل البحث في الملازمة العقلية بين الحكم العقلي والشرعي صلب البحث الاصولي.
وليس معنى ذلك ان العقل النظري يدرك الحكم الشرعي مباشرة عن غير طريق السمع وبيان الله ورسوله وخلفائه فهذا مما لا سبيل اليه الا السمع.
ولكن من شأن العقل العملي، إدراك حسن طائفة من الأعمال وقبحها مثل حسن العدل، وقبح الظلم، وحسن أداء الدين وقبح الخيانة، والسرقة وما إلى ذلك، ولا سبيل للشك في ان ذلك من شأن العقل العملي وهو أمر يجده كل واحد منا من نفسه بالنسبة إلى طائفة واسعة من الأعمال .
واذا تقررت هذه الحقيقة، وثبت وجود حكم عقلي (للعقل العملي) بالحسن والقبح لطائفة من الأعمال … تدخل العقل النظري في إدراك الملازمة بين حكم العقل العملي وبين حكم الشرع، كما ان العقل النظري يحكم بنفس الترتيب بالملازمة بين وجوب الشئ ووجوب مقدمته، ويحكم بتقديم الأهم من المتزاحمين، ويحكم بالاجزاء، وغير ذلك من الموارد التي يحكم فيها العقل النظري حكماً قطعياً.
وهذه الملازمة قطعية بين ما حكم العقل وحكم الشرع، فإن ما يقطع العقلاء جميعاً بحسنه ويتفقون على حسنه لابدّ ان يحكم الشرع به ايضاً، فان الشارع هو سيد العقلاء وواهب العقل، ولا يمكن ان يقطع بحسن شئ فيقبحه الشرع، أو يقطع بقبح شيء فيحسنه العقل، الا ان يكون المورد مما لا يناله العقل، ولا يحصل له قطع فيه بحسن او قبح فذلك امر آخر يتعلق بالصغرى، ولا علاقة له بالكبرى الكلية التي ذكرناها آنفاً.
وبهذا الشرح يدخل الدليل العقلي في البحث الأصولي بشكل واضح وقوي وتكون الأدلة أربعة، وليست ثلاثة في منهج علمي دقيق، لا سبيل للتشكيك فيه. وهذا التطور أيضاً كسابقه تطور في قيمة الدليل العلمية وحجيته واعتباره، ولا علاقة له بمتعلق الدليل.
تطور البحث في مؤدى الدليل
والتطور الآخر الذي حصل للدليل في تأريخ علم الأصول هو التطور الذي حصل على يد الشيخ الأنصاري للدليل من حيث المؤدى والتعلق .
فقد كان مؤدى الدليل يتعهد باثبات الحكم الشرعي ,سواء كان الدليل من قبيل الكتاب والسنة او من قبل البراءة والاستصحاب على رأي قدماء علم الاصول.
والتغير الذي حدث في متعلق الدليل في هذه المرحلة هو اكتشاف تعدد متعلق الدليل, فقد اتضح للعلماء ان متعلق الدليل ليس هو الحكم الشرعي دائماً وليست مهمة الدليل هو اثبات الحكم الشرعي فقط أصابه أم أخطأ, وإنما للدليل مهمة اخرى في طول هذه المهمة, وفي ظرف العجز عن الوصول الى الحكم الشرعي وهي بيان وظيفة المكلف الشرعية او العقلية في ظرف الجهل بالحكم الشرعي والعجز عن التماسه, وهذه الوظيفة ليست هي الحكم الشرعي قطعاً, وانما هي وظيفة المكلف االعملية في ظرف الجهل بالحكم الشرعي. وقد تمت هذه الخطوة على يد الوحيد البهبهاني(رحمه الله), حيث اصطلح على الادلة الدالة على الحكم الشرعي بالادلة الاجتهادية وعلى الادلة الدالة على الوظيفة الشرعية والعقلية بالادلة الفقاهتية.
وقد اشار الشيخ(رحمه الله) في بداية المقصد الثالث من (فرائد الأصول) الى ان هذا الاصطلاح من الوحيد البهبهاني لمناسبة في تعريف الاجتهاد والفقه.
ولعل المناسبة أنّهم عرّفوا الاجتهاد بانه تحصيل الظن بالحكم الشرعي وعرّفوا الفقه بانه العلم بالحكم الشرعي .
والمقصود بالحكم الشرعي في تعريف الاجتهاد (الحكم الشرعي الواقعي), وفي تعريف الفقه الاعم من الحكم الواقعي والظاهري حتى يصح تعريف الاجتهاد بالظن, والمقصود بالظن هو المقصود المعتبر فانّ الظن ما لم يعتبر بدليل قطعي لا يكون حجة في استنباط الحكم الشرعي قطعاً.
المنهجية الجديدة لعلم الاصول
ولكن هذا التميز وان جرى على يد الوحيد البهبهاني (رحمه الله) الاّ ان الشيخ الانصاري هو اول من عمّق هذا التميز وفنّنه وجعله اساساً للتنظيم الجديد لعلم الاصول ورتّب عليه اّثاراً ونتائج علمية مهمة كما سنرى.
وعلى هذا الاساس ادخل الشيخ الانصاري الادلة الاجتهادية في المقصد الثاني من كتابه, في بحث الظن كالبحث عن خبر الواحد والاجماع والسيرة والشهرة, وهي الظنون الخاصة التي اعتبرها الشارع وثبت عندنا اعتبارها بدليل قطعي, بينما بحث (الادلة الفقاهتية) وهي الاصول العملية الاربعة في المقصد الثالث التي تجري في ظرف الشك الى أربعة حصراًعقلياً, فقال في أول كتابه (الفرائد):
((فاعلم ان المكلف اذا التفت الى حكم شرعي فإما ان يحصل له الشك فبه او القطع او الظن، فإن حصل له الشك فالمرجع فيه هي القواعد الشرعية الثابتة للشاك في مقام العمل، وتسمى بالاصول العملية، وهي منحصرة في الاربعة أن الشك إما ان يلاحظ فيه الحالة السابقة ام لا، وعلى الثاني فإما ان يمكن الاحتياط ام لا، وعلى الاول إما ان يكون الشك في التكليف او المكلف به.
فالاول مجرى الاستصحاب، والثاني مجرى التخيير، والثالث مجرى اصالة البراءة، والرابع مجرى قاعدة الاحتياط.
وبعبارة اخرى الشك إما ان يلاحظ فيه الحالة السابقة او لا, فالاول مجرى الاستصحاب, والثاني إما ان يمكن الاحتياط فيه او لا، فالاول مجرى قاعدة الاحتياط والثاني مجرى قاعدة التخيير.
وما ذكرنا هو المختار في مجاري الاصول الاربعة، وهو تنظيم جديد و جيد وقائم على اساس علمي متين.
وعلى هذا الاساس استقر علماء الاصول في تنظيم ابحاث علم الاصول منذ عهد الشيخ الانصاري الى اليوم الحاضر.
وهذا التمييز بين الادلة الاجتهادية والفقاهتية وتبويب الادلة على اساس منها مما يختص به فقهاء الامامية المعاصرون منذ عصر الشيخ الانصاري الى الوقت الحاضر… وعندما نراجع كتب الاصول للمذاهب السنية المعاصرة منها والقديمة لا نجد هذا التفكيك ونرى انهم يذكرون هذه الادلة في عرضٍ واحدٍ فالكتاب والسنة والاجماع يذكر في عرض القياس والاستحسان, وهما يذكران في عرض الاستصحاب.
تقديم الادلة بعضها على بعض
ولهذا التمييز بين الادلة الاجتهادية والفقاهتية اثر مهم في تقديم الادلة بعضها على بعض، فليس بين الادلة الاجتهادية والفقاهتية بناءاً على هذا التمييز تعارض، كما لا يكون بين العام والخاص تعارض، فان الامارات ترفع موضوع الادلة الفقاهتية تكويناً وبالوجدان، او بالتعبد والتشريع، وبارتفاع موضوع الادلة الفقاهتية ترتفع الوظيفة العملية الثابتة بالعقل او بالشرع عن هذا الموضوع، فتتقدم الادلة الاجتهادية على الادلة الفقاهتية قهراً. ولابد من تقديم توضيح موجز لهذه النتيجة.
الورود
فلنلاحظ الآن العلاقة بين ( الامارات) و (الطرق) من جانب وبين الاصول العقلية العملية من جانب آخر وهي البراءة العقلية، والاحتياط والتخيير العقليين.
ان خبر الثقة الواحد من الامارات الظنية التي ثبتت حجيتها بالدليل القطعي، بعكس الاخبار المتواترة والمستفيضة فإنها موجبة للقطع بنفسها ولا تحتاج الى دليل من الشرع على حجيتها.
فإذا ورد خبر من ثقة على حكم شرعي بعد ثبوت حجية خبر الثقة يعتبر هذا الخبر بياناً من قبل الشارع على ذلك الحكم، وبه يرتفع موضوع البراءة العقلية، فان موضوع اصالة البراءة هو عدم البيان من ناحية الشارع، بناءً على القاعدة العقلية المعروفة ( قبح العقاب بلا بيان) ومع وصول خبر الثقة الواحد يحصل البيان من ناحية الشارع قطعاً، وينتفي موضوع الاصل، وهو عدم البيان يالضرورة والوجدان.
وكذلك يتقدم خبر الثقة الواحد على اصالة الاحتياط العقلية فان موضوع اصالة الاحتياط هو احتمال العقاب على ترك الوجوب المحتمل او ارتكاب الحرمة المحتملة, ومع وصول خبر الثقة الذي تثبت حجيته من ناحية الشرع يحصل للمكلف الأمن من العقوبة على مخالفة الوجوب المحتمل او ارتكاب الحرمة المحتملة,
لأن المكلف حينذاك يستـند في ترك الواجب المحتمل او ارتكاب الحرام المحتمل إلى ترخيص واذن من الشارع, وبه يأمن من عقوبة الشارع, ولا يبقى موضوع ولا مجال لجريان اصالة الاحتياط من الناحية العقلية, وكذلك يتقدم خبر الثقة الواحد على اصالة التخيير العقلية, فان موضوع التخيير العقلي هو عدم وجود مرجح لاحد الطرفين على الطرف الاخر, وخبر الثقة الواحد يصلح ان يكون مرجّحاً للطرف الذي يدل عليه الخبر على الطرف الاخر, فلا يبقى مع وصول الخبر موضوع ولا مجال لجريان اصالة التخيير العقلية,
وبناءاً على هذا الايضاح فان الامارات والطرق (الادلة الاجتهاديةمتقدمة على الاصول العقلية من البراءة والاحتياط والتخيير العقلي (الادلة الفقاهتية) ولا يكون بينهما تعارض, لأن معنى التعرض هو تكاذب الدليلين, ولا يتكاذب الدليلان إلاّ اذا كانا في عرض واحد واما اذا كان احدهما في طول الاخر فلا يتكاذبان, والامر هنا كذلك فان الاصول العقلية تأتي في طول خبر الثقة وبعد انتفائه, ولا معنى لجريان هذه الاصول مع وجود خبر الثقة (الدليل الاجتهادي) فإن خبر الثقة ينفي موضوع كل من البراءة العقلية والاحتياط والتخيير العقليين, بالشرح الذي ذكرناه, ومع انتـفاء موضوع هذه الاصول تـنتـفي هذه الاصول قهراً, ويسمّي الشيخ الانصاري (رحمه الله) هذه العلاقة بين الادلة بـ (الورود) ويحدده بما لو كان الدليل الوارد ينفي موضوع الدليل (المورود) نفياً تكوينياً ووجدانييأً.
وهذا النوع من العلاقة بين الادلة الاجتهادية والفقاهتية مما اكتشفه الشيخ الانصاري (رحمه الله) في جهده العلمي في المباحث العقلية من الاصول.
الحكومة
والنوع الثاني من العلاقة بين (الادلة الاجتهادية والادلة الفقاهتية) هي (الحكومة) وهي
ايضاً تقتضي تقدم الدليل الاجتهادي على الدليل الفقاهتي ولكن ببيان اخر وطريقة اُخرى تختلف بعض الشيء عن (الورود).
ففي مورد (الحكومة) لا تنفي الادلة الاجتهادية موضوع الاصول العملية نفياً تكوينياً بالوجدان كما في (الورود), وانما تنفيه نفياً تشريعياً وبتعّبد من الشارع.
وهذه (الحكومة)ترد في العلاقة بين الامارات والاصول الشرعية (البراءة الشرعية والاستصحاب) فانّ موضوع البراءة الشرعية بمقتضى حديث الرفع (رفع عن امتي مالا يعلمون) هو الجهل بالحكم الشرعي, وبوصول خبر الثقة يرتفع الجهل ـ بالتعبد ـ من ناحية الشارع, فان المكلف يبقى من الناحية التكوينية ـ لامحالة ـ شاكاً بالحكم الواقعي الشرعي, ولا ينفي خبر الثقة الواحد شكّه تكويناً بالوجدان,
ولكن بما ان الشارع تعبدنا بحجية خبر الثقة, واتم الكشف الذاتي الناقص الموجود في هذه الامارة فان وصول خبر الثقة الى المكلف يرفع الجهل بالحكم الواقعي الشرعي لدى المكلف بتعبّد وتشريع من ناحية الشرع, ومع انتفاء الجهل تعبّداً ينتفي موضوع الاصل فيثبت الدليل الاجتهادي ويتقدم على الدليل الفقاهتي ولا يعارضه الدليل الفقاهتي .
هذه هي (الحكومة) على مصطلح الشيخ (رحمه الله) وهو نحو اخر من تقدم الامارات على الاصول العملية.
العلاقة بين الاصول العملية
ويتحدث الشيخ بعد ذلك عن العلاقة بين الاصول العملية نفسها؛ فمن الممكن ان تتعارض الاصول العملية بعضها مع بعض، وهذا التعارض يكون بين الاستصحاب وسائر الاصول العملية (البراءة والاحتياط والتخيير) أو بين استصحابين.
أما العلاقة بين الاستصحاب والاصول العقلية (البراءة العقلية والتخيير والاحتياط) فالاستصحاب لا محالة هذه الأدلة بموجب مصطلح الشيخ, ورافعاً لموضوعها رفعاً تكوينياً, لأن الاستصحاب عندئذ يعتبر بياناً من الشرع, ومع وجود البيان ينتفي موضوع كل من اصالة البراءة والاحتياط والتخيير فان موضوع البراءة العقلية عدم البيان ومع وجود البيان الشرعي ينتفي موضوع الأصل بصورة تكوينية , وموضوع الاحتياط عدم الامن من العقاب في ارتكاب محتمل الحرمة او ترك محتمل الوجوب, وبالاستصحاب يتحقق الامن من العقاب شرعاً بصورة تكوينية ولايبقى موضوع للاحتياط… وموضوع التخيير عدم وجود مرجح لأحد الطرفين, والاستصحاب يصلح شرعاً ان يكون مرجحاً حقيقياً للطرف الذي يدل عليه الاستصحاب وبذلك ينتفي موضوع التخيير وهو عدم وجود المرجح .
وبناءاً عليه يتقدم الاستصحاب على كلٍ من الاصول العقلية الثلاثة وتكون العلاقة بين الاستصحاب وبينها علاقة (الورود) على مصطلح الشيخ (رحمه الله).
العلاقة بين الاستصحاب والبراءة
وأمّا العلاقة بين الاستصحاب والبراءة الشرعية فهي من (الحكومة) لأن الاستصحاب يرفع موضوع البراءة الشرعية وهو (الجهل بالحكم الشرعي الواقعي) تعبّداً, لأن للاستصحاب نظراً إلى الواقع, ويختلف الاستصحاب بذلك عن سائر الأصول العملية, التي لها صفة وظيفية محصنة, وليس لها نظر إلى الواقع.
الاصول المحرزة
ومن هنا انفتح على هذه المدرسة باب جديد من العلم في التمييز بين نوعين من الأصول العملية (المحرزة وغير المحرزة), فقد وجدوا ان مهمة طائفة من الاصول العملية كالاستصحاب هي تنزيل احد طرفي الشك منزلة الواقع في البناء العملي, بينما وجدوا ان مهمة طائفة اخرى من الاصول العملية تحديد الوظيفة العملية للمكلف في ظرف الشك بمقتضى ما يؤدي إليه الأصل دون النظر إلى الواقع وتنزيل المؤدى منزلة الواقع إطلاقاً.
سمّوا الطائفة الاولى بالأصول المحرزة والطائفة الثانية بالأصول غير المحرزة, وقالوا بحكومة الأصول المحرزة على غير المحرزة, لأن مهمة الاصول المحرزة هي تنزيل مؤدّى الأصل منزلة الواقع في مقام العمل وبهذا التنزيل العملي يرتفع الشك والجهل بالحكم الشرعي الذي يعتبر موضوعاً للاصول غير المحرزة تعبّداً وبذلك تكون الاصول المحرزة حاكماً على الاصول غير المحرزة ومتقدمة عليها, ولا يكون بينهما تعارض لتقدم الاول على الثاني الا ما يبدو لأوّل وهلة بينهما من (التعارض البدوي) الذي يزول بعد النظر والتأمل.
وهذه الانجازات العلمية الضخمة في تطور الدليل في علم الاصول عند الامامية هو بعض ما فتحه الله على يد العبد الصالح من فتوحات علمية كبيرة في الاصول والفقه, اّثره الله تعالى بها .
(١) الوافية للفاضل التوني ( المتوفي ١٠٧٦هجرية):١٧٨تحقيق السيد محمد حسين الكشميري نشر مجمع الفكر الاسلامي.
(2) تأريخ التشريع الاسلامي:٩٤.
(3) مقدمة الرأي السديد:٨.
(4) نظرة في تأريخ الفقه الاسلامي:٢١٣.
(5) احكام الاحكام ٥٣:٧ وما بعدها.
المصدر: الجامعة الإسلامية