الاجتهاد: اهتم الإمام الحكيم بإلغاء حالة الشعور بالامتياز أو التعصب للانتماءات القومية والاقليمية في أوساط الحوزة العلمية، والتي كانت تنشأ أحيانا بسبب قوة الأوضاع الاقتصادية أو النفوذ الاداري أو العلمي أو الإحساس بالمظلومية والحرمان وغير ذلك من الأسباب. و هذه المشاعر بالإضافة إلى آثارها السلبية في العلاقات بين أطراف الحوزة و تماسكها، كان لها آثار سلبية في نموها و تطورها العلمي و الروحي.
تأتي الحوزة العلمية من حيث الأهمية العامة والثابتة في الدرجة الأولى، لأنها هي التي تنتج العلماء والمراجع و القادة، ولكنها من حيث موقع العمل والنشاط والإطار العام للحركة تأتي في الدرجة الثانية من الأهمية، لأنها تمثل المؤسسة التي هي حلقة الوصل بين القيادة (المرجع) والأمة من ناحية، كما تمثل الوسط القادر على التفكير والإبداع والتخطيط و(الكادر) المتقدم في مجمل التحرك الإسلامي، في نظرية المرجعية من ناحية أخرى.
و الحوزة العلمية كمؤسسة لها وجود وامتداد عميق في التأريخ الإسلامي، سواء على المستوي العام حيث بدأت في الوجود والنشوء زمن النبي (صلّى اللّه عليه وآله) عند ما نزل القرآن بذلك في قوله تعالى (ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [1].
أو على المستوي الخاص لاتباع أهل البيت (عليهم السّلام)، حيث أولوا هذا العمل اهتماما بالغا و عناية خاصة، بدأ مع الإمام علي (عليه السّلام)، وتطور بشكل ملحوظ في زمن الإمامين الصادقين محمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق عليهما وعلى آبائهما أفضل الصلاة و السلام.
و أصبحت هذه المؤسسة من مختصات و مميزات هذا المذهب الأصيل في الإسلام و هذه المدرسة المثمرة المعطاء.
وكان لهذه المؤسسة العظيمة المقدسة دور عظيم في مختلف مراحل التأريخ الإسلامي، ولكنها أصيبت ببعض الهزات والمشاكل التي أشرت إليها آنفا بعد الحربين العالميتين الاولى والثانية، حتى أصبحت في ظروف صعبة، وفي بعض الأحيان في عزلة عن المجتمع والأمة.
ولا شك ان أهم حوزة علمية لدى اتباع أهل البيت عليهم السلام على الإطلاق زمن مرجعية الإمام الحكيم هي حوزة النجف الأشرف [2]، والتي كانت تعاني من مشكلات حادة وصعبة خصوصا بعد وفاة المرجع الأعلى آية اللّه العظمى السيد أبو الحسن الأصفهاني (قدّس سرّه).
الأمر الذي زاد في حجم وعمق المشكلات والمصاعب والضغوط الداخلية والخارجية، وكذلك الروحية والمادية. حتى كانت مرجعية الإمام الحكيم الذي أحدثت تطورا ملموسا و مهما في حوزة النجف الأشرف وفي مختلف المجالات والأبعاد. والتي سوف نشير إلى بعضها في اطار بيان الرؤية العامة النظرية والعملية لدى الإمام الحكيم للحوزة العلمية.
1- الحوزة العملية محور العمل الثقافي والسياسي
لقد كان الإمام الحكيم (رحمه اللّه) يرى ان الحوزة العلمية يجب أن تكون محور العمل السياسي، كما هي محور العمل الثقافي والتربوي، وانها المؤسسة الإسلامية التي تمثل القاعدة القوية والصلبة والأصيلة في منهجها، وأسلوبها، وفكرها، وثقافتها، ونقائها، و نزاهتها.
وكان الإمام الحكيم ينعى على بعض أفراد الحوزة العلمية عزلتهم عن المجتمع و انزوائهم في مجالس البحث والدرس والعبادة، دون تطور في الأداء التبليغي وإرشاد الأمة، ودون الاهتمام بمشاكل الناس والقضايا الفكرية والاجتماعية والسياسة التي تعيشها الأمة.
كما انه في نفس الوقت كان يرى من الضروري لأبناء الحوزة أن يكونوا على مستوى عال من التقوى، والأخلاق، والإخلاص، والنزاهة عن الشهوات، أو الارتباطات المشبوهة، و الاحتياط من الشبهات السلوكية الاجتماعية.
وقد أوجد الإمام الحكيم من خلال مرجعيته و نشاطه على مستوى الحوزة العملية وعيا واسعا في أوساطها لهذا التوجه والفهم للحوزة ودورها. و قد ترك هذا الوعي آثاره في مختلف الأوساط الحوزوية المنتمية لمناطق متعددة من العالم الإسلامي الذي يعيش فيها اتباع أهل البيت (عليهم السّلام) و حتى غيرهم من الأوساط.
حيث نلاحظ جذور الوعي الإسلامي لدور الحوزة العملية و العلماء في العراق ولبنان، والباكستان، وأفغانستان، و الهند، و الخليج، و إفريقيا من خلال العلماء الذين كان لهم تأثير كبير في هذه الأوساط، و الذين تربوا في إحضان الحوزة العلمية في النجف الأشرف، زمن مرجعية الإمام الحكيم (قدّس سرّه)، و تأثيرها في هذا الوعي.
وبالرغم من اننا لا بد أن نؤكد ان تطورا عظيما في وجود هذا الوعي كان للثورة الإسلامية في إيران، وبالخصوص قيام الدولة الإسلامية على يد العالم الرباني والإمام المؤيد بنصر اللّه السيد الخميني (قدّس سرّه). الا أن هذا التأكيد للحقيقة والواقع، لا يعني التغاضي عن ذلك الدور العظيم الممهّد و المؤسس لمرجعية الإمام الحكيم في هذه الأوساط.
وحتى في الأوساط الايرانية كان هناك دور واسع و عميق لمرجعية الإمام الحكيم إذا أخذنا بنظر الاعتبار انعكاس الحركة السياسية للإمام الحكيم على الأوساط الإسلامية و تقدمها على المرجعيات الأخرى المعاصرة لها في هذا المجال، و كذلك الدعم و الاسناد الواسع الذي قامت به مرجعية الإمام الحكيم لهذا التوجه و الوعي في إيران و حوزة قم، فضلا عن تبنيها للطلبة الثوريين الايرانيين في حوزة النجف إلى جانب الطلبة الآخرين [1].
2- إسلامية الحوزة العملية
والحوزة العلمية هذه المؤسسة الرائدة المتقدمة، لا بد أن تكون إسلامية ليس في محتواها وهمومها فحسب حيث ان هذا هو أمر طبيعي، بل لا بد أن تكون كذلك في علاقتها و شعورها بالمسؤولية تجاه مختلف العالم الإسلامي فالايراني والعراقي واللبناني والباكستاني والخليجي وغيرهم لا بد أن يحمل كل واحد منهم هموم الآخرين، ويساهم بشكل مناسب في ميدان العمل الآخر إذا سمحت الفرصة أو كان هناك فراغات في العمل.
ومن هنا نجد الإمام الحكيم (قدّس سرّه) بالرغم من الظروف السياسية الصعبة استفاد بشكل واسع من الطلبة والعلماء اللبنانيين و الايرانيين و من غيرهم في الأعمال التبليغية وفي التوعية، في العراق وملأ بعض الفراغات والمناطق المهمة بشكل موقت أو دائم. و كذلك الحال في مناطق اخرى مثل لبنان و الخليج وافريقا و تركيا و سوريا.
وفي بعد آخر من هذا الموضوع اهتم الإمام الحكيم بإلغاء حالة الشعور بالامتياز أو التعصب للانتماءات القومية والاقليمية في أوساط الحوزة العملية ، والتي كانت تنشأ أحيانا بسبب قوة الأوضاع الاقتصادية أو النفوذ الاداري أو العلمي أو الإحساس بالمظلومية والحرمان و غير ذلك من الأسباب. و هذه المشاعر بالإضافة إلى آثارها السلبية في العلاقات بين أطراف الحوزة و تماسكها، كان لها آثار سلبية في نموها و تطورها العلمي و الروحي.
وفي بعد ثالث من هذا الموضوع اهتم الإمام الحكيم بشكل خاص بأبناء الحوزة من البلدان المستضعفة، كما هو الحال في أفغانستان والباكستان والهند ولبنان والعراق، و غيرها على مستوى تنمية العدد، حتى انه بلغ عدة أضعاف في بعض الجاليات، أو على مستوى رعايتهم المعنوية و المادية، و بث روح الاعتماد على النفس و الثقة بالمستقبل، أو على مستوى التحصيل العلمي.
ان هذا الجانب من العمل كان يحتاج من الإمام الحكيم أن يبذل جهودا استثنائية لتحطيم الحواجز النفسية و الاطر الاجتماعية الحوزوية، و تجاوز بعض التقاليد في التعامل مع الحوزة العملية أو بين أبنائها، و قدم تضحيات كبيرة في هذا المجال من أجل الوصول إلى هذا الهدف.
و كان هذا الاهتمام بالغا إلى درجة ان بعض الأوساط كانت تحاول التقليل من أهمية مرجعية الإمام الحكيم بالقول عنه ان جماعته هم التبتية، و النكرية، و البربرية، و الشروقية، و العوامل [1]. و هكذا.
وفي بعد رابع من هذا الموضوع، دافع الإمام الحكيم وإلى النفس الأخير عن بقاء حوزة النجف مفتوحة أمام جميع أقاليم العالم الإسلامي، للاستفادة من ينابيعها الثرية، و مدارسها العلمية الفنية، و منهجها في التربية. وكانت الأوضاع السياسية تضغط من أجل أقلمة النجف أو جعلها عربية على أفضل تقدير.
و قد تحمل الإمام الحكيم في سبيل هذا الفهم للحوزة بكل هذه الأبعاد آلاما و معاناة و محن داخلية و خارجية انتهت به بعد ذلك إلى موتة تشبه موتة الشهداء.
3- وضع أسس الاستقرار و الثبات
من الواضح ان الحوزات العلمية الإمامية تمتاز عن غيرها من المؤسسات العلمية في العالم الإسلامي، بأنها تعتمد في ميزانيتها على اللّه تعالى، والدعم الشعبي للمؤمنين من خلال الحقوق الشرعية، وتدار أيضا بطريقة ذاتية تطوعية، سواء على مستوى المراجع أو المدرسين، أو اختيار المناهج عبر مجموعة من التقاليد و الالتزامات الأخلاقية أو السلوكية العامة، أو الانتخاب الفردي الحر. و لا تمنح شهادات أو وثائق لخريجيها، و لا توجد جهة رسمية تعترف بها، أو تهيمن على شئونها.
و هذه الخصائص في الوقت الذي كانت تمثل امتيازا مهما من الناحية الروحية و المعنوية و في علاقاتها بالأمة، لكنها كانت تشكل نقاط ضعف في بنية الحوزة تجعلها عرضة للهزات و الانتكاسات، و تأثير الضغوط المختلفة النفسية أو الاجتماعية و الاقتصادية، يعرفها أبناء الحوزة العلمية أكثر من غيرهم.
وقد حاول الإمام الحكيم (قدّس سرّه) إرساء بعض القواعد والأسس، وتحقيق بعض الانجازات والمكاسب، بهدف تحقيق المزيد من الاستقرار والثبات في الحوزة العلمية، نشير إلى بعض معالم هذه الأسس و الانجازات.
1- التعامل مع العلماء و الطلبة على أساس العلاقات الحوزوية، العلم و الفضل، التبليغ و التأليف، التقوى و الالتزام، سواء في دفع الرواتب، أم الاهتمام المعنوي، و لعل الإمام الحكيم كان أول مرجع في هذا العصر يدفع ما يصل إليه من حقوق شرعية إلى الطلبة و الفضلاء دون أن يأخذ بنظر الاعتبار انهم ممن يحضرون درسه، أو يقتربون منه في محل العمل، أو ينتمون إليه إقليميا.
كما كان يصنع البعض مثل ذلك في التمييز، و لعله لمبررات شرعية أو عرفية عند عدم القدرة على استيعاب الجميع.
2- محاولة إيصال الطالب إلى مرحلة الاستقلال المالي، من خلال الرواتب التي يحصل عليها طلاب العلوم الدينية في النجف.
3- تأسيس المدارس أو تجديد بنائها أو تأجير الأماكن من أجل تغطية النمو الكبير في عدد الطلبة المجردين و استيعابهم.
4- إرسال الوكلاء إلى المدن والبلاد المختلفة لتغطيتها على المستوي الثقافي والتبليغي، وتنشيط اهتمامهم بالحوزة والطلبة ودعمها.
5- الاهتمام بتنظيم الدراسات الحوزوية و تأسيس المدارس من أجلها، مع إدخال لبعض الدروس و الأبحاث الجديدة، لتغطية حاجة الطلبة الجدد من المدرسين، و تنظيم أمورهم و أعدادهم للقيام بواجباتهم الإسلامية. و كانت (مدرسة العلوم الإسلامية) أول مدرسة حوزوية في هذا المجال.
6- توعية الأوساط الدينية على ضرورة الاهتمام بالحوزة و رعايتها و كفالتها، و كذلك كفالة الطلبة الذين ينتمون إلى هذا البلد أو ذاك.
7- المطالبة بالاعتراف بالدراسات الحوزوية على مستوى الإعفاء من الخدمة في الجيش، أو منح الإقامة، أو غير ذلك من الشؤون ذات العلاقة باستقرار الطالب.
8- تشجيع حركة التأليف و النشر و تأسيس المراكز العلمية لخدمة هذه الأغراض الثقافية.
وقد حقق الإمام الحكيم في مختلف هذه الأبعاد انجازات مهمة، و أرسى قواعد و رسم اتجاهات لا زالت مؤثرة في مجمل الأوضاع الحوزوية حتى الآن.
المصدر: تقديم آية الله السيد محمد باقر الحكيم “ره” لكتاب دليل الناسك تألیف آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم وهي وجيزة على مناسك الحج، الذي ألّفه استاذه المعظّم المرحوم الميرزا حسين الغروي النائيني، قدّس اللّه روحهم.
تحميل الكتاب