الاجتهاد: الترجمة الكاملة لزعيم الطائفة المرحوم الشيخ مرتضى الأنصاري (رضوان الله عليه)، من كتاب تكملة أمل الآمل المجلد السادس، للعلامة الكبير السيد حسن الصدر (طاب ثراه).
شيخ الطائفة شيخنا المرتضى بن الشيخ أمين بن مرتضى بن شمس الدين بن أحمد بن نور الدين بن محمد صادق الأنصاري الدزفولي النجفي أنار اللّه برهانه، شيخ الطائفة، وعلاّمة وقته، صاحب التحقيقات والتدقيقات والتأسيسات والتنقيحات التي لم يسبقه أحد من المتقدّمين و المتأخّرين إلى مثلها، إليه اليوم ينتهي علم علماء الإمامية، والكلّ من بحره يغترف، و هو الأستاذ الاستناد لسيدنا الأستاذ ومن في طبقته من علماء البلاد.
مصنّفاته و إملاءاته في الفقه و الأصول لا يعرف الفضل إلاّ بدراستها.
قال العلاّمة النوري عند ذكره: خاتم الفقهاء و المجتهدين، و أكمل الربّانيين من العلماء الراسخين، المتجلّي من أنوار درر أفكاره مدلهمات غياهب الظلم من ليالي الجهالة، و المستضيء من ضياء شموس أنظاره خفايا زوايا طرق الرشد و الدلالة، المنتهى إليه رئاسة الإمامية في العلم و الورع و التقى، الشيخ مرتضى بن المرحوم السعيد المولى محمد أمين الأنصاري، لانتهاء نسبه الشريف إلى جابر بن عبد اللّه بن حزام الأنصاري، من خواصّ أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، وأمير المؤمنين، والحسن والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي الباقر (صلوات اللّه عليهم) .
إخلاصه وإيمانه
ومن آثار إخلاص إيمانه وعلائم صدق ولائه أن تفضّل اللّه عليه، وأخرج من صلبه من نصر الملّة والدين بالعلم والتحقيق، والدقة والزهد والورع والعبادة والكياسة، بما لم يبلغه من تقدّم عليه، ولا يحوم حوله من تأخّر عنه.
وقد عكف على كتبه ومؤلّفاته وتحقيقاته كلّ من نشأ بعده من العلماء الأعلام والفقهاء الكرام، وصرفوا هممهم وبذلوا مجهودهم، وحبسوا أفكارهم وأنظارهم فيها وعليها،وهم بعد ذلك معترفون بالعجز عن بلوغ مرامه، فضلا عن الوصول إلى مقامه، جزاه اللّه تعالى عن الإسلام والمسلمين خير جزاء المحسنين [1] .
ولادته ونشأته وأساتذته
أقول: كان تولّده-قدّس اللّه روحه-في دزفول سنة 1214 (أربع عشرة بعد المائتين و الألف) الهجريّة، و أنشأه اللّه سبحانه منشأ مباركا، و اشتغل في طلب العلم هناك حتّى صار يحضر عالي مجلس درس جدّه الأمّي العلاّمة الفقيه، أحد تلامذة العلاّمة السيد صاحب الرياض السيد مير سيد علي الطباطبائي.
فلما كانت سنة 1234 و قد بلغ من العمر عشرين سنة هاجر به أبوه المولى محمد أمين إلى كربلاء إلى السيد صاحب المفاتيح الطباطبائي للحضور عليه لشهرته في ذلك العصر، فلمّا دخل به عليه و استقرّ به المجلس قال للسيد: إنّي قد جئت بابني هذا لأودعه عندكم يشتغل بالعلم عليك، فأرجو من فضلكم قبوله.
فقال السيد: ماذا كان يقرأ في دزفول؟ فقال المولى محمد أمين:
اسأل منه. فقال: كنت أحضر في الفقه و الأصول الخارج عن السطوح على المولى الجدّ فلان، فقال السيد: كيف كان حاله ذاك من محقّقي العلماء الأجلّة.
فأخبره عن حاله فقال له السيد: لمّا فارقته ماذا كان يدرّس في الفقه؟ فقال الشيخ: كان يدرّس مبحث الخلل الواقع في الصلاة، فصار السيد يسأل الشيخ عن بعض مسائل الخلل، ويقول: ماذا صنع في مسألة كذا؟ و ما قال في مسألة كذا؟ و صار الشيخ يتكلّم في ذلك. فالتفت السيد إلى المولى محمد أمين و قال له: أودعه عند سيدنا الحسين (عليه السّلام) ، فأنا غير قابل لأن أكون كفيله لأنه من أفاضل العلماء الفاهمين.
وبالجملة، صار الشيخ عند السيد في مباحث الخلل أيضا لأنه كان قد شرع في تدريس ذلك فحضر الشيخ تمام مبحث الخلل، و لم يحضر غيره لاشتغال السيد بفتنة القوقاس حتّى رحل إلى جهادهم، و توفّي بقزوين عند رجوعه سنة 1242، و الشيخ صار يحضر على شريف العلماء (قدّس اللّه روحه) و بعدما كمل، رحل إلى كاشان و حضر على المحقّق النيراقي صاحب المستند و بقي هناك مدّة، كتب النيراقي فيها المناهج و العوائد بإعانة الشيخ ثمّ استجازه الشيخ فأجازه.
ثم رحل إلى أصفهان و حضر على السيد العلاّمة السيد صدر الدين العاملي عمّ والدي و استجازه فأجازه و طريقه منحصر بهما.
و حضر على السيد حجّة الإسلام السيد محمد باقر صاحب مطالع الأنوار، و رجع إلى العراق و جاور في النجف، و صار يحضر على الشيخ المحقّق الشيخ علي بن شيخ الطائفة كاشف الغطاء.
حدّثني الشيخ الفقيه الأستاذ الشيخ مهدي بن الشيخ علي المذكور، قال: جاءت إلى أبي مسألة من تركستان من فروع مسألة (من ملك شيئا ملك الإقرار)، وعنونها الشيخ الوالد، وصارت الأفاضل تتكلّم فيها، فأرسلني والدي بالمسألة إلى الشيخ مرتضى، وقال لي: قال له يكتب ما عنده فيها، و دلّني على منزله في محلّة المشراق، فأتيته فأعطيته المسألة.
وبعد أيام جاء إلى أبي و أنا حاضر عنده، فقال له: ما ذا صنعت؟ فأخرج كرّاسة قد كتب فيها المسألة مفصّلا، و أخرج ورقة صغيرة فيها جواب الاستفتاء، فأول ما نظر أبي إلى جواب الاستفتاء، قال: الحمد للّه.
الآن حصحص الحقّ. هذا واللّه رأيي و اعتقادي.
ثم صار ينظر إلى ما في الكرّاسة، و هي الرسالة التي طبعت مع باقي رسائله خلف مكاسبه و طهارته، و هي الآن عندي بخطّه الشريف فقلت لوالدي: هذا الشيخ فاضل. فقال: يا ولدي هذا من أرجو أن يكون المرجع العام للإماميّة في الدين.
قال الشيخ مهدي: و أنا ما كنت أعرفه حينئذ بهذا الفضل لأني كنت أراه يحضر درس أبي و لا يتكلّم أبدا.
و بقي يحضر درس الشيخ علي المذكور إلى أن توفّي-قدّس اللّه روحه-و هو عمدة أساتيذه في الفقه، كما أن شريف العلماء عمدة أساتيذه في الأصول.
حضوره مجلس درس صاحب الجواهر
و بعد وفاة الشيخ علي صار يحضر مجلس درس صاحب الجواهر احتراما له لأنه شيخ الطائفة بعد الشيخ علي بن الشيخ جعفر، و الشيخ مرتضى يومئذ عظيم في قلوب فضلاء العصر، لا نظير له، بل لا يرون أفضل منه في كلّ علماء العصر، و كلّما يطلبون منه التصدّي إلى الفتوى لا يقبل حتّى أن السيد الوالد طلب منه أن يفتي في مسألة جزئيّة سرّا فلم يقبل، و قال: لا ينبغي لأحد الفتوى مع وجود هذا الشيخ.
بل كان لا يرضى بكثرة الاجتماع في بحثه، و لم يجعل وقتا معيّنا لتدريسه بحيث يعرف وقت تدريسه خوفا من اجتماع الطلبة عليه، بل كان يغيّر وقت تدريسه بمجرّد أن يرى اجتماع الطلبة، و يغيّر المكان على ما حدّثني به شيخنا المحقّق صاحب البدائع، قال: لا يدع مبحثه ينتظم ما دام الشيخ صاحب الجواهر حيّا، كلّ ذلك تعظيما و احتراما للشيخ، لأنه كان يعلم أنه إذا عيّن وقت مجلسه و مكان تدريسه، و انتظم وقته و مكانه، اجتمعت عليه الفضلاء و العلماء و وجوه أهل الفضل لاشتياقهم سماع مطالبه، و ذلك يخل في جلالة الشيخ صاحب الجواهر و استقلاله.
و لمّا مرض الشيخ صاحب الجواهر و عرف أن مرضه مرض الموت أرسل خلف الشيخ بمحضر جماعة من الأفاضل، ولمّا حضر الشيخ صار الشيخ يلتمسه بألطف بيان على التصدّي لأمور الشيعة والإقامة بالرئاسة الشرعيّة ويوصيه بالرفق وعدم التشديد عليهم بكثرة الاحتياط، وسأله أن يصلّي على جنازته، والتفت إلى من حضر وقال: هذا نائب الإمام وأفقه علماء الإسلام وأورعهم و أتقاهم.
وتوفّي الشيخ صاحب الجواهر غرّة شعبان سنة 1266 (ست و ستين ومائتين بعد الألف)، فصلّى عليه الشيخ في الصحن الشريف عند الحجر القبليّة. وكان الصحن قد امتلأ بتمامه من المشيّعين، وصلّى الجميع خلف الشيخ على الجنازة وكانت صلاة مشهورة، قام فيها جماعة في الأواوين لإعلام الناس بالتكبيرات الخمس.
واستقلّ الشيخ حينئذ بالرئاسة الشرعيّة، فسلك فيها مسالك الربّانيين حتّى صار يضرب به المثل في العلم والعمل، والسياسة والكياسة، والزهد و الورع، حتّى قال قونسل الإنكليز ببغداد: هذا شبيه عيسى بن مريم.
وقد رأيت كيفيّة انكباب الناس عليه لمّا جاء إلى بلد الكاظمين قبل وفاته بسنة في شهر ربيع الأول سنة ثمانين و مائتين بعد الألف، وكيفيّة تعظيمهم له وتصاغر الأعيان والشاهزادات له، وكانت بلد الكاظمين يومئذ مشحونة بأولاد فتح علي شاه، و في بغداد الأعيان و الأعاظم، و الكلّ كالعبيد.
و هو رجل إلى الطول أقرب منه إلى القصر، أحمر اللون، نحيف الجسم، ضعيف العينين، بين عينيه سجّادة، قد خضّب بالحنّاء كريمته، على رأسه عمامة كرباس أبيض، ليست كبيرة، و عليه قباء كرباس أبيض، و عباءة صوف أحمر خفيفة، صلّى في جهة صحن قريش، فامتلأ من الناس.
و كان في استطراقه بغداد لزيارة سلمان للناس على اختلاف مللهم اجتماع غريب للنظر إليه و التطلّع عليه. و كان يوما مشهورا، و هو على حمار و معه أصحابه راكبين على حمر كذلك، كأنّهم أنوار قدس.
حدّثني بعض علماء أهل السنّة من الأشعريّة الحنفيّة ببغداد، قال:
وصل خبر مرض الشيخ مرتضى الأنصاري إلى السلطان عبد العزيز خان العثماني في إسلامبول، أمر السلطان الخطيب يوم الجمعة أن يدعو اللّه في الشفاء للشيخ مرتضى، وأن يؤمّنوا على دعائه، فدعا على المنبر وأمّن المسلمون على دعائه، فقلت: و لم أمر بذلك؟فقال: لأنه كان عزّا للإسلام و فخرا لهم، اشتهر اسمه، و بعد صيته.
قلت: كان مرضه مرض البطن، و طال به المرض، و خرج إلى التاجيّة لتغيير الهواء مدّة.
حدّثني الشيخ الفاضل الشيخ عباس بن الشيخ الأعظم الشيخ حسن صاحب أنوار الفقاهة بن شيخ الطائفة صاحب كشف الغطاء، قال: جئت بخدمة ابن عمّي الشيخ الأجل فقيه النجف الشيخ مهدي بن الشيخ علي ابن الشيخ كاشف الغطاء إلى التاجيّة لعيادة الشيخ، شيخ مرتضى.
فلمّا وصلنا إلى باب البستان التي هو فيها رأينا جماعة من الأعاظم جلوسا على باب البستان منهم السيد العلاّمة السيد حسين الترك، و الفاضل الإيرواني، فقلنا: ما جلوسكم؟فقالوا: إنا لا نجسر على أن نطرق الباب، فلعلّ الشيخ بالقرب من الباب. فقلنا: لا بدّ لنا من ذلك.
فتقدّمت أنا و طرقت باب البستان، فجاء خادم الشيخ الحاج ملاّ رحمة اللّه الشوشتري، فقلنا له: إنا جئنا لعيادة الشيخ، فإن كان يسهل عليه دخولنا دخلنا، و إلاّ رجعنا. و لا نرضى أن يتكلّف من جهتنا بشيء.
فدخل، وبعد هنيئة خرج وأدخلنا وإذا حوض ماء، وفي أطرافه حصر مفروشة في طرف منها دوشك جالس عليه الشيخ، فدخلنا و سلّمنا عليه، فردّ السلام، و رحّب بنا.
فجلس الجماعة على غاية من الأدب كلّ على ركبتيه مخرجا ليده من العباءة مطرقا برأسه إلى الأرض. فالتفت الشيخ إليّ و قال: يا شيخ عبّاس، ما عند عجائز بيت الشيخ من الدواء لهذا الإسهال؟
فقلت: شيخنا إن عجائز البيت يصفون له السمّاق و الكشك، و أمثال هذه القوابض، لكن الدواء العمدة-الحمد للّه-حاصل لكم فإنه لا ينعقد اليوم مجلس في الدنيا إلاّ فيه الدعاء لكم بالشفاء، و لا يصلّي مؤمن إلاّ و هو يدعو بالشفاء، و لا يزور أحد المشاهد المشرّفة زائرا إلاّ و يدعو في شفائكم، و هذا غير الختوم و التوسّلات المخصوصة من الخواص في طلب الشفاء و الدعاء لكم.
فقال: يا شيخ عباس، جزى اللّه المؤمنين خيرا. ما الحياة والموت إلاّ حالتان للنفس، ولكن الخوف من سواد الوجه هناك.
قال: ولم تطل الشيوخ الجلوس هناك، وقمنا من عنده ورجعنا إلى النجف، ولم يتفق لأحد من علماء الإماميّة ما اتفق للشيخ من الهيبة والعظمة في النفوس، مع أنه لم يكن له تجمّلات صوريّة، لاخدم، ولاحشم، ولاأبّهة، ولاشيء من آثار الرؤساء، إنما هو رجل شوشتري وضعا و لباسا.
زهده
وأمّا زهده فشيء عجيب. كان له أربع نساء، أخذهن برجاء أن يكون له ولد ذكر، فلم يرزق. ومع ذلك كانت تركته كلّها قيمة سبعين قرانا، وداره دار أقلّ الطلبة مع أنه كان يجيئه من الهدايا و التحف ما شاء اللّه. لكنّه كان يؤثر بها إخوانه، و يبذلها في الأمور المستحبّة عند اللّه، حتّى حدّثني بعض إخوته أنه لم يترك مستحبّا شرعيّا ماليّا أو عمليّا إلاّ فعله، حتّى كتابة المصحف. كتب مصحفا بقلم يده لمحض استحباب كتابة المصحف.
وكان يقيم عزاء الحسين (عليه السّلام) في كلّ ليلة جمعة، يبذل فيه الخبز مع ماء اللحم لمن يطلب حضوره.
وكان يرسل من خالص ماله إلى خراسان في فكاك من يأسره التركمان في طريق خراسان من الزوّار. و بسببه فتح على علماء العتبات أمران عظيمان أحدهما رجوع عامّة الشيعة في التقليد إلى علماء العتبات، و هذا لم يكن قبل الشيخ، كانوا يقلّدون من عندهم من الفقهاء، والثاني إرسال الوجوه و الحقوق إلى العلماء المراجع في العراق، وهذا أيضا لم يكن قبل الشيخ حتّى أن الشيخ علي سبط الشيخ صاحب الجواهر الذي كانت كلّ أمور جدّه الشيخ بيده، هو حدّثني أنه في تمام مدّة رئاسة الشيخ صاحب الجواهر لم يرسل إليه دفعة واحدة أكثر من خمسة آلاف قران، غير مسألة الجري.
وكانت الوجوه التي ترد على الشيخ مرتضى الألوف من التوامين، فضلا عن القرانات؛ كلّ ذلك لما كان عليه من العظمة في القلوب و الربّانيّة، و حسن التدبير.
وأمّا تأسيساته في كيفية الاشتغال، وكيفيّة الوصول إلى المطالب، وتحقيق الحقائق، فشيء ظاهر لا يخفى حتّى على العوام.
ومن تأسيساته أيضا التي عندي أنها أعظم ما يكون من آثاره الباقية في الدين تمرين الشيعة على العمل بالاحتياط في مقام العمل في عباداتهم ومعاملاتهم و تمرينهم على ما هو الأقرب إلى الواقع، وهذا ممّا لم يسبقه فيه أحد من العلماء الإماميّة.
و من تأسيساته تمرين طلبة العلم على الزهد و الورع و الاقتصاد و المواظبة على الطاعات حتّى صار شعار أهل العلم في عصره الزهد، و إن كان من المثرين في الدنيا.
وكانت له مقامات وأسرار لم يطّلع عليها أحد مدّة حياته. حدّثني السيد حجّة الإسلام السيد محمد كاظم اليزدي الطباطبائي دام ظلّه، عن العبد الصالح، الثقة العدل، الحاج مولى حسن اليزدي، العابد الزاهد، المتوطّن في النجف، جدّ أولاد السيد المذكور، لأن السيد-دام بقاه- كان صهره على ابنته، قال أنه سأل السيد الأجل جمال السالكين، زبدة العلماء الربّانيين، السيد علي بن السيد محمد التستري، وصي الشيخ، و صاحب أسراره، والذي لم يكن يفارقه في حضر ولا سفر، مذ سكن النجف، وكان في الجلالة و المعارف الرّبانيّة و المنامات ما كان يظنّ أن الشيخ من مردته [2] و المنقطعين إليه في السر: هل رأيت من الشيخ كرامة أو نحوها في مدّة معاشرتك له؟
قال: فأطرق برأسه مدّة ثمّ رفع رأسه إليّ، و قال: زرنا بخدمته سيدنا أبا عبد اللّه الحسين (عليه السّلام) في بعض الزيارات المخصوصة، فجئنا من النجف إلى كربلاء و أنا زميله في المحمل، فنزلنا في الدار التي لا زلنا ننزلها إذا جئنا كربلاء حتّى انقضت أيام المخصوصة، فقلت للشيخ: هل تأذن في استئجار الدواب للرجوع إلى النّجف؟فقال لي: اصبر قليلا.
فلمّا كان نصف الليل أو أكثر من نصفه، وأنا نائم في فراشي إذ سمعت حركة باب الدار، و أنها فتحت، فرفعت رأسي فلم أر الشيخ في فراشه، فعلمت أنه هو الذي فتح الباب، و خرج فتعجّبت من ذلك، و خفت عليه في خروجه في هذا الوقت من الليل، فقمت و عجّلت بالخروج خلفه، فرأيته من بعيد متوجّها إلى جهة باب بغداد فتبعته و أنا متخفّ عنه، فرأيته وقف على باب دار محقّرة هناك، فسمعته يقول:
السلام عليكم أهل بيت النبوّة. هل تأذنون لعبدكم بالرجوع إلى النجف؟
فسمعت قائلا يقول له: إذا كان غد تفعل (كذا)، و لم أفهم المطلب. فرجع الشيخ فرجعت مسرعا من حيث لا يراني، فدخلت الدار، ونمت في فراشي كي لا يعرف حالي. فجاء وصعد السطح، وأيقظني لصلاة الليل على عادته كلّ ليلة، فقمت و لم أظهر شيئا حتّى كانت الليلة الثانية.
فلمّا كان آخر الليل رأيته خرج، وأنا في فراشي، وهو لا يدري إلاّ أني نائم، فقمت وخرجت خلفه، فرأيته توجّه إلى تلك الجهة، فتبعته حتّى انتهى إلى تلك الدار، فسلّم كسلامه ليلة أمس، فسمعت قائلا يقول له: قد قضيت الذي قلنا لك؟فقال: نعم.
ولم أسمع باقي الكلام، فسلّم ورجع مسرعا،فأسرعت أنا من طريق آخر، ودخلت الدار، وطرحت نفسي في فراشي حتّى لا يعرف حالي.
فدخل و صعد السطح الذي ننام عليه فناداني: آقا سيد علي، على عادته، و قال: ألا تجلس. فجلست، و أخذ هو في النافلة، و صرت أنا أتنفّل أيضا حتّى إذا صار الصباح، قال لي: إذا تحب تستأجر دوابا فلا بأس.
فقلت له: من كان في تلك الدار المحقّرة من أهل بيت النبوّة؟و ما الحاجة التي أمرت بقضائها في الليلة الأولى؟و لم لا يكونون في الحرم الشريف، لا في مثل هذا المنزل المحقّر؟
فتغيّر لونه و قال لي: ما تقول؟فقلت: أنا كنت معك، و حكيت له الحال من أوله إلى آخره، فقال لي: أمّا من كان فلا أخبرك به، و لا أخبرك بالحاجة التي قضيتها، و أحرّم عليك أن تنقل ما رأيت في مدّة حياتي. ثمّ قال: آقا سيد علي، حرم خانه نيست كه انجا منزل كنندا. انتهى.
وفاته
و حدّثني غير واحد من الأجلّة عن الآقا الحاج سيد علي المذكور (قدّس اللّه سرّه) أنه قال عن الشيخ: عاش وحيدا، و مات فقيدا، و أنه كان له من العلوم و المقامات ما لم يطلع عليها أحد حتّى مات، قدّس اللّه سرّه.
و كانت وفاته ليلة السبت الثامنة عشرة من شهر جمادى الثانية سنة 1281 (إحدى و ثمانين و مائتين و ألف) في النجف الأشرف، و دفن في إيوان حجرة الصحن التي فيها الشيخ الأجل الحسين النجف.
حدّثني والدي أن الشيخ لم يعيّن مكان دفنه، لكن الشيخ جواد نجف هو الذي دفنه في حجرتهم المذكورة المتصلة بباب القبلة على يسار الداخل منها الصحن الشريف.
و صنع شهاب الملك أرسي و شبابيك و أخرج الإيوان من الحجرة المذكورة، و هو مكان قبر الشيخ، و عمّره، و وضع على القبر الشريف صخرة مرمر، و كتب عليها اسم الشيخ (قدّس سرّه) و هو إلى اليوم مزار معروف.
مصنّفاته
و أمّا مصنّفاته الشريفة فالذي طبع منها لا حاجة إلى ذكره لشهرته، و تكرّر طبعه. و له ما لم يطبع كثير، فإن الذي رأيته أنا بخطّه الشريف من ذلك جملة منها:
1- حاشية على القوانين من أول حجّية الأخبار، و تمام الأدلّة العقليّة، و تأمّلت فيها فرأيت مطالبها مطالب كتابه الفرائد، أعني الرسائل الأربع، و كان كتبها أولا بعنوان حاشية على القوانين، ثمّ بدا له و كتبها رسائل مستقلّة.
و منها ما رأيته أيضا بخطّه الشريف مسوّدة:
2- كتاب القضاء.
3- جملة من مباحث الألفاظ.
4- رسائل متفرقة في مسائل مهمّة، يطول شرح موضوعها جميعا.
5- كتابه في الرجال الرواة، اقتصر فيه على نقل ما في صه و جش و كش و جخ [3] لا غير. و ذكر بعد باب الكنى و الألقاب مشيخة الشيخ الصدوق و صحّح منها ما رواه صحيحا و غير ذلك من الأنواع الأربعة للحديث، و لم أر فيه له تحقيقا أو غير ذلك.
و حدّثني السيد العالم الجليل السيد محمد بن السيد أحمد بن السيد حيدر الكاظمي (رحمه اللّه) أنه سمع الشيخ (ره) يقول: إني كنت قد كتبت في الفقه أكثر أبوابه في أوائل أمري، و أنا في الولاية، يعني دزفول، و تركتها هناك في الزنابيل، و خرجت إلى كربلاء للاشتغال على العلماء. انتهى كلامه.
وقد عرفت أن عمره يوم خرج من الولاية عشرين سنة، ولا غرو فإن الشيخ صاحب الجواهر شرع في كتابة الجواهر وعمره أربع و عشرون سنة.
تقريراته
و أمّا إملاءاته في مجلس الدرس في الفقه و الأصول فأمر عظيم.
وقد كتب أفاضل تلامذته من ذلك. كتب شيخنا المحقّق الحاج ميرزا حبيب اللّه الرشتي جميع ما باحثه الشيخ في الفقه والأصول، وهو أحسن من كتب، ثمّ الفاضل المحقّق الحاج ميرزا أبو القاسم الطهراني، كتب كلّ ذلك أيضا.
وقد رأيته بخطّه عند ابنه الميرزا أبي الفضل تمام مباحث الأصول وتمام ما حضره في الفقه، وهو أبسط من كتابة الميرزا الرشتي.
وكان الحاج ميرزا أبو القاسم أحد المقرّرين لدرس الشيخ، و بعده الشيخ الفاضل الميرزا حسن الأشتياني، رأيت له تمام دورة الأصول الّتي حضرها على الشيخ، وتمام دورة الفقه بعنوان التقرير لا غير في غاية البسط. كان يكتب كلمات الأفاضل الذين كانوا يتكلّمون مع الشيخ أيضا.
ورأيت تقريرات أخر لأفاضل أخر لكن الدائرة بين الأفاضل تقريرات هؤلاء الذين ذكرتهم، وتقدّم أن الفاضل الآخوند المولى محمود العراقي كتب إملاءات الشيخ في الفقه وسمّاها اللوامع، وفي الأصول وسمّاها الجوامع، وكلّ في عدّة مجلّدات.
الهوامش
[1] مستدرك الوسائل 3/382.
[2] المردة جمع مريد.[3] صه/خلاصة الأقوال في الرجال، للعلاّمة الحلي. و جش/رجال النجاشي. و كش/رجال الكشّي، و جخ/رجال الشيخ الطوسي.