الفكر الأصولي

ملاحظات على تسرّب الفكر الأصولي للإماميّة من أهل السّنة /آية الله هاشمي الكلبايكاني

خاص الاِجتهاد: قد ذكروا أنّ أوّل من فتح باب الاجتهاد وبصورته العلميّة ابن أبي عقيل، وتبعه ابن الجنيد، ثمّ تطور على يد الشيخ المفيد والسيّد المرتضی والشيخ الطوسيّ قدّس سرّهم، واستمرّ تطوّر الفكر الاجتهادي حتّى عصرنا الحاضر. / العلامة الحلي هو أوّل من قسّم أحاديثنا إلى الأقسام الأربعة المشهورة، ووافقه الشهيد الأوّل والشيخ عليّ الكركيّ والشهيد الثاني وولده والشيخ البهائيّ، والسبب في ذلك غفلة من أحدثه عن کلام قدمائنا لألف ذهنه بما في كتب غيرنا. بقلم: آية الله السيد هاشم الهاشمي الكلبايكاني.

يظهر من المصادر أن الفكر الأخباري والأصولي كان لهما وجود حتّى في زمان الأئمة عليهم السلام، وقد ذكرنا ذلك سابقًا؛ وذلك لأن بعض الأصحاب كانوا يعتمدون الاستنباط من الروايات، أمثال يونس والفضل بن شاذان، لذلك قالوا عن بعض الأشخاص أنّه (يونسيّ)، أي من أتباع يونس في قبول الروايات،

فلا يكتفي بقوة السند وضعفه، وإنّما كان يقوم بعمليّة النقد الداخليّ لمتن الرواية، ومدى موافقته لكتاب الله والسنّة الصحيحة، أو أنّه كان يعتقد بالوثوق بالصدور لا مجرّد كون الراوي ثقة، ولعلّه لما ذكرناه من الملابسات التي تعرّضت لها الروايات.

ولكن بعضهم كان يتشدّد بالروايات ويتقيّد بها، وربّما لأجل ذلك اعترض البعض على يونس بن عبد الرحمن في طريقته في العمل بالروايات، ومن أجل ذلك صدر النصّ من الإمام “عليه السلام” في وثاقة يونس واعتباره، تأييداً لطريقته الاجتهاديّة في فهم النصوص، حيث لا يقبل كلّ رواية ما لم يحقّق فيها سنداً ودلالة، وخاصّة في الدلالة والمضمون، بأن يعرضها على كتاب الله فإن وافقه أخذ بها وإلّا فلا،

فلا يكتفي باعتبار السند أو ضعفه، وإنّما كان يخضع مضمون الرواية للنقد الداخليّ، ومدى موافقة مضمونها لكتاب الله والسنّة القطعيّة، أو أنّه كان يعتقد بالوثوق بالصدور لا مجرّد كون الراوي ثقة، ولعلّه لما ذكرناه من الملابسات التي تحيط بالروايات، وربّما كان هذا معنى القياس الذي نسب لبعض الأصحاب العمل به، وانّ معناه ما دلّت عليه روايات أخرى من أنّ الروايات وخاصّة المشكوكة يعرض مضمونها على كتاب الله «فقسه على كتاب الله عزّ وجلّ(۱) كما في الروايات، وليس المراد القياس الاصطلاحيّ.

كما انّ أهل السنّة قسّمو الطائفتين : أصحاب الرأي وأصحاب الحدیث.
وكذلك يظهر من علمائنا السابقين انقسامهم لجماعتين: جماعة تعتمد الاجتهاد في الفقه والأصول، أمثال: الشيخ المفيد والسيّد المرتضى والشيخ الطوسيّ قدّس سرّهم، وجماعة تعتمد الأخبار والتعبّد بها فحسب، أمثال الشيخ الصدوق.

وقد ذكروا أنّ أوّل من فتح باب الاجتهاد وبصورته العلميّة ابن أبي عقيل، وتبعه ابن الجنيد، ثمّ تطور على يد الشيخ المفيد والسيّد المرتضی والشيخ الطوسيّ قدّس سرّهم، واستمرّ تطوّر الفكر الاجتهادي حتّى عصرنا الحاضر، حيث انّ الغالبيّة من الإماميّة يتبنّون هذا الاتّجاه، وهو العامل الأهمّ في ثراء الفكر الإماميّ، بل في ثراء الفقه الإسلاميّ وعطائه و تطوّره، فإنّ في انسداد باب الاجتهاد الكثير من المضاعفات تذكر في محلّها.

وكان هناك خلاف في الرأي بين المدرستين في بعض المسائل العقائديّة – کمسألة سهو النبيّ صلی الله علیه وسلم – والفقهيّة والأصوليّة، واستمرّ هذا الخلاف بينهما، ولكنّه لم يكن حاداً ومتطرّفاً ، وإن كان لكلّ اتّجاه أتباع خلال هذا التاريخ الطويل.

ولكن الاخباريّة كمدرسة لها معالمها بحيث حدث الصراع بين أنصارها، وأنصار المدرسة الأصوليّة الاجتهاديّة، ظهرت من الملّا محمّد أمين بن محمد شريف الاستراباديّ، صاحب كتاب الفوائد المدنيّة (المتوفى سنة ۱۰۳۶ هجريّة)، كما أشار لذلك السيّد محسن الأمين في أعيان الشيعة، قال: « ويظهر أنّ أوّل من أثار المقالة الاخباريّة هو الملّا محمّد أمين بن محمد شریف الاستراباديّ صاحب الفوائد المدنيّة (المتوفی سنة ۱۰۳۶)، فإنّه زعم أنّ أوّل من قال بالاجتهاد واتّبع أصول الفقه من الإماميّة الحسن بن أبي عقيل العمانيّ، ومحمّد بن أحمد بن الجنيد الاسكافيّ، وكلاهما من أهل المائة الثالثة إلى الرابعة، وينسب إلى ثانيهما العمل بالقياس، وانّ الشيخ المفيد لما أظهر حسن الظن بتصانيفهما بين أصحابه ومنهم المرتضى والشيخ الطوسيّ شاعت طريقتهما بين متأخّري أصحابنا،

حتّى وصلت النوبة إلى العلّامة فالتزم في تصانيفه أكثر القواعد الأصوليّة، وهو أوّل من قسّم أحاديثنا إلى الأقسام الأربعة المشهورة، ووافقه الشهيد الأوّل والشيخ عليّ الكركيّ والشهيد الثاني وولده والشيخ البهائيّ، والسبب في ذلك غفلة من أحدثه عن کلام قدمائنا لألف ذهنه بما في كتب غيرنا »(۲).

ولعلّ الاستراباديّ يشير في ذلك إلى أنّ الفكر الأصولي ومسائله تسرّب للإماميّة من أهل السنّة لكثرة دراسة وقراءة قدمائنا لكتبهم.

ولكن يلاحظ على ذلك:
۱– وجود الفكر الاجتهادي والأصوليّ في بداياته لدى أصحاب الأئمّة علیهم السلام كما ذكر ذلك السيد الأمين، والشواهد كثيرة في ذلك، وذكرنا بعضها في قولهم (يونسيّ).

٢. لا يمكن إهمال علم الأصول والقواعد الاجتهاديّة والفقهيّة في زمان الغيبة، في فهم الأحاديث والتوصّل للأحكام الشرعيّة، بعد عدم إمكان الأخذ من المعصوم نفسه، وهل يمكن للاخباريّين أنفسهم إهمال الأصول والاعتماد على الأخبار فحسب في فهمها والتوصّل للأحكام منها، لو لم يدرسوا الأصول والقواعد الأصوليّة والفقهيّة وغيرها من البحوث التي لها تأثيرها في معرفة الأحكام الشرعيّة، وهل يمكن إلقاء الأخبار بنفسها للعوامّ لأخذ الأحكام منها، مع عدم معرفتهم بالكثير من القواعد والأصول المؤثّرة في فهم الأحكام منها، لا بدّ من وجود ضوابط معيّنة لفهم النصوص الشرعيّة، وإلّا فانّنا سوف نفتح الباب لكلّ أحد لكي يفسّر النصوص والدين حسب معلوماته ورغباته.

وهذه الضوابط والقواعد ذكرت في علم الأصول خاصّة، وفي مختلف بحوث علم الفقه، بل انّ الاخباريّين يعتمدون في بحوثهم الفقهيّة على علم الوصول وضوابطه وقواعده ومسائله، وإنّما إشكالهم على بعض هذه المسائل الأصوليّة .

ولكن يمكن القول بأنّ ما يماثل بعض هذه المسائل ممّا اختلف فيها الأصوليّون، وإن اتّفقوا على مسائل أخرى خالفوا فيها الاخباريّين.

٣. هناك فرق بين الاجتهاد عند أهل السنّة والاجتهاد عند علماء الإماميّة، كما يذكر ذلك في الكتب الموسّعة أمثال معالم المدرستين، والأصول العامّة للفقه المقارن، وأعيان الشيعة. فكيف يقال بتأثّر الاجتهاد الإمامیّ بالاجتهاد السنّيّ؟

۴. هناك بعض الروايات عن أئمّتنا المعصومين عليهم السلام تحثّ على الاستنباط والتفقّه بمعناها المصطلح، وانّهم علیهم السلام يلقون الأصول والقواعد ويلزم على العلماء والأصحاب استنباط الأحكام منها، والتفريع فيها مع تعليمهم الطرق في ذلك، أمثال: «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع »، وغيرها، ممّا يوجب معرفة الأصول، ولا يكفي مجرّد الأخبار في كيفيّة التفريع، بل لا بدّ من وجود قواعد وأصول فيه، وكذلك هناك روايات تصرّح بأن ليس كلّ أحد يصلح أن يكون فقيه يعرف كلام الأئمّة علیهم السلام، ويفهم منه الحكم فهماً دقیقاً، بل لا بدّ أن يتعرّف على أساليب الأئمّة علیهم السلام في الكلام.

فرّبما كانت لهم أساليب مختصّة بأمثالهم من رؤساء الملل والنحل، من کون أقوالهم امّا على نحو الفتيا أو التعليم، أو الاعتماد على القرائن المنفصلة واستعمال التقيّة والتورية أو إلقاء الخلاف، أو المداراة وأمثالها من الأساليب، يجب أن يعرفها الرجل حتّى يكون فقيهاً،

فقد ورد عنهم علیهم السلام : « ولا يكون الرّجل منكم فقيهاً حتّى يعرف معاريض كلامنا »(۳)، أي أساليبهم في الكلام. « فربّ حامل فقه إلى مَن هو أفقه منه»(۴)، وأمثالها من الأحاديث التي تؤكّد على التفقّه ، التي لا يمكن لكلّ أحد معرفتها، بل لخصوص الفقهاء وأهل الخبرة في معرفة كلام الأئمّة وأساليبهم، وقد وضّحنا هذه الفكرة أكثر في علم الأصول.

۵. وقد ذكروا – ووافق على ذلك الاخباريّون – أنّ أوّل من فتح باب الاجتهاد هو ابن أبي عقيل ، وتبعه ابن الجنيد. وربّما يقال: إنّ ابن الجنيد متأثّر بآراء أهل السنّة؛ لأنّه كان في السابق منهم كما قيل، وأمّا ابن أبي عقيل فلم يقولوا في حقّه ذلك، فلم يتأثّر الاجتهاد في بداياته بأهل السنّة، بالإضافة لما ذكرناه من وجود الاجتهاد والمجتهدين في زمان الأئمّة علیهم السلام، كما ذهب لهذا الرأي السيّد البروجردي قدس سره والسيّد السيستاني (حفظه الله).

ويذكر السيّد الأمين بعد كلامه السابق: « ثمّ قال بمقالة الاخبارية من مشاهیر العلماء أصحاب الوسائل والوافي والحدائق وغيرهم»(۵).

 

الهوامش

(۱) بحار الأنوار: 2/ 224.

(2) أعيان الشيعة: 3 / 122.

(3) معاني الأخبار: 2.

(4) تحف العقول: 42.

(5) أعيان الشيعة: 3 / 222.

 

المصدر: كتاب أضواء على علمي الدراية والرجال لآية الله السيد هاشم الهاشمي الكلبايكاني. الصفحة 567

 

رابط تحميل الكتاب

أضواء على علمي الدراية والرجال

 

 

الفكر الاجتهادي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky