الاجتهاد: لو استدامت حياة المجتمع الإسلامي الذي أسسه الرسول “صلى الله عليه وآله وسلم” على حالته الأولى مدة خمسين عامًا.. فإن جميع المنافقين يتحولون إلى مؤمنين واقعيين في هذه الخمسين سنة، أي أن أولئك الذين كانوا ضعاف الإيمان وفي منتصف الطريق والذين يمزجون الحق بالباطل وهم يومًا مع هذا ويومًا مع ذاك، إن هؤلاء يتحولون إلى مؤمنين مخلصين..
ثمّة خلل مفهومي ضارب بجرانه في موضوع الحاكمية، ناشئ عن خلل أكبر أصاب البنية الاجتماعية في الصميم، شأنه في ذلك شأن سائر المفاهيم التي خضعت لعملية تحوير دلالي مصطبغة في ذلك بواقع البنية الاجتماعية والسياسية السائدة والتي تعود في مجملها إلى الضخ الحضاري الطارئ ومفاعيله المادية تحديدًا.
من هنا كان لا بدّ من إعادة تأهيل للمصطلح بما يتناسب مع الأبعاد الحضارية للبنية الاجتماعية الإسلامية تمهيدًا لاستعادة الصورة الواقعية للحاكمية الإسلامية.
“إن المجتمع الإسلامي هو تلك الجماعة التي ترجع في حاكميتها إلى الله، فهو مصدر تشريعها وواضع قوانينها؛ فقوانين هذه الجماعة قوانين إلهية وحدود الله هي الجارية، والذي يعين القائد أو يعزله هو الله.
فإذا تصورنا المجتمع على شكل هرم كما يشاء بعض علماء الاجتماع فإن الله سبحانه هو قمة الهرم، وقاعدته هي الجماعة المسلمة، والذي يوجد الجماعات والتشكيلات هو دين الله، والقرار الرباني الإلهي هو الذي يحدد وقت الصلح والسلام أو الحرب والقتال.. كما أن دين الله هو الذي يعين الروابط الاجتماعية والاقتصادية، وهو الذي يشكّل الحكومة ويحدّد الحقوق، وكل شيء على الإطلاق يمر من خلال دين الله وشريعته ورسالته، وعلى الجميع أن يتبعوا المنهج الذي يرسمه دين الله ورسالته.. هذا هو المجتمع الإسلامي”[1].
إن كل شيء في المجتمع الإسلامي يبعث على عبودية الله، وهذا بدوره يعد الإنسان العابد للّه عبادة حقيقة، ويبعده عن العبودية لغير الله. والسر في التركيز على هذا الربط بين المجتمع والتوحيد هو أنه:
“لو استدامت حياة المجتمع الإسلامي الذي أسسه الرسول على حالته الأولى مدة خمسين عامًا.. فإن جميع المنافقين يتحولون إلى مؤمنين واقعيين في هذه الخمسين سنة، أي أن أولئك الذين كانوا ضعاف الإيمان وفي منتصف الطريق والذين يمزجون الحق بالباطل وهم يومًا مع هذا ويومًا مع ذاك، إن هؤلاء يتحولون إلى مؤمنين مخلصين..
فالقلوب المنافقة تتحول إلى قلوب ملؤها الإيمان والهدى في مجتمع كالمجتمع الإسلامي الأول لو استمرت به الحياة مدة أطول مما كان، ولو كان عمر ذلك المجتمع طويلًا فإن أولئك الذين لم تعرف أرواحهم المعاني البعيدة للإيمان سيعرفون الله.
والإيمان معرفة رفيعة.. هذا هو مقتضى طبيعة المجتمع الإسلامي، وهذا هو مبتغى الأنبياء وهدفهم، وهذا المجتمع هو المصنع الذي يعد وينتج الإنسان المتكامل، وتخرج من هذا المجتمع مجاميع تعمل بالإسلام في سطحها الظاهر وتؤمن بالإسلام في قلبها وأعماقها وواقعها. ولهذا الهدف أُرسل النبي، ولمثل هذا الهدف كان يعمل ويدعو..”[2].
ولترسيم الإطار المفهومي للحاكمية في الإسلام، كان لا بدّ من إعادة استجلاء النمط القرآني أو النبوي في كيفية التعاطي مع مفردة “الحاكم الإسلامي”، على ضوء الأهداف النبوية من الاستقامة والتكامل المعنوي. وذلك في مقابل المجتمع التقني والحاكم الأدائي الذي توكل إليه مهمة إدارة الأزمات في عصر التكنولوجيا المتوحشة، وجشع المصالح المتهالك.
فمنذ البدء عمل الإمام الخميني (ره) على التنبيه من الخلل المفهومي المتعلق بموضوع الحاكمية، وشدد على إرساء المفهوم وفق طابعه القرآني والإسلامي، يقول في هذا الصدد:
“من التغييرات التي يجب أن تحصل، ويجب عليكم أيها السادة أن تبذلوا جهدكم لتحقيقها، أنه عليكم أن لا تغترّوا بكلمة حاكم. فهذه الكلمة تطلق عندما توجد أوامر وحاكم ومحكوم وتنعدم الأخوة وتكون طبقة طاغوتية وأخرى منفذة ومستسلمة لها.
في حين أن هذا غير مطروح في الإسلام.. من البديهي أن استلام الحكم لا يعني سوى توفير الوسيلة، وأنه ليس مقامًا معنويًّا. إذ لو كان مقامًا معنويًّا لما استطاع أحدٌ أن يأخذ هذا المقام غصبًا أو أن يتركه.
وإن قيمة الحكومة والقيادة هي عندما تكون وسيلة لتطبيق الأحكام الإلهية، وإقامة النظام الإسلامي العادل. إن الأئمة (ع) والفقهاء العدول مكلّفون باستخدام النظام والحكومة لتطبيق الأحكام الإلهية وتحقيق النظام الإسلامي العادل وخدمة الناس.
ورغم أن الحكم لا يعني بالنسبة لهم سوى الأذى والتعب والإرهاق، ولكن ما العمل؟ إنهم مكلفون بأداء الوظيفة، فولاية الفقيه مسؤولية وأداء وظيفة. إذن فصيرورة الإنسان حاكمًا بنفسه لا تعني سوى أنه وسيلة، لا قيمة له عند الصالحين إن لم يُستخدم كوسيلة في الخير وتحقيق الأهداف السامية.
ويمكن الاستشهاد على هذه الحقيقة بمادة نصوصية وتاريخية يكتظ بها التراث الإسلامي، وكثيرًا ما كان الإمام الخميني (رض) يثير حقيقة أن رسول الله (ص) كان بشخصه كسائر الناس، فلم يكن له بيت كبير كبيوت الحكام، ولم يكن يمتاز عن الآخرين في الأوساط العامة أبدًا كما يفعل بعضهم، فيرى الناس أن هذا صدر المجلس، وهذا أدنى المجلس. فهذه الأمور غير مطروحة أبدًا.
كان بعض البدو القادمين من خارج المدينة لا يعرفون من هو النبي عند دخولهم إلى المسجد، لأنه كان يجلس بين أصحابه كواحد منهم. يقول الإمام (ع) في نهج البلاغة: “لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، لألقيت حبلها على غاربها”[3]. وقوله (ع) لابن عباس عن الحكم والقيادة بينما كان يخصف نعله بيده “ما قيمة هذا النعل؟” قال ابن عباس: لا قيمة لها.
قال الإمام (ع): “والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقًّا (يعني قانون ونظام الإسلام)، أو أدفع باطلًا (يعني القانون الظالم والأنظمة الجائرة)”[4]. يصرح الإمام علي (ع) عن سبب تصديه للحكم والقيادة بأنه من أجل تحقيق الأهداف السامية، وليقيم حقًّا ويدفع باطلًا: “اللهم إنّك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك”[5].
والذي دفع الإمام ليقبل الحكومة على الناس هو “ما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم”[6]. والإمام (ع) ذهب وأخذ رفشه وفأسه ليعمل في نفس اليوم الذي بايعوه فيه خليفةً للرسول (ص). فكان يعمل، وكانت يده متقرحة.
إلى هنا يتضح البعد الثوري الذي يتخلل المفهوم الإسلامي للحاكمية والمجتمع، وهذا العنصر هو الأساس الذي يدعو إليه مبدأ ولاية الفقيه. إن الحاكم في الإسلام هو هذا الإنسان المخلص والكامل والمؤمن الواقعي الذي خرج من البيئة الإسلامية السليمة والمجتمع الإسلامي القويم.
وفي مثل هذا المجتمع سوف لن يكون لمسألة وحدة أو تعدد الحاكمية أي معنى أو قيمة تذكر، طالما أن الغاية المتوخاة من الحاكمية وفق هذا التصور لا تخضع لاعتبارات سلطوية ذاتية. فالمجتمع الإسلامي يقوم على مبدأ الإحسان لا التسوية، على النوعية لا الكمية، على تنافس المعنويات لا تقاسم الثروات.. القيمة للإنسانية الكاملة لا لما يملكه الإنسان.. وبهذا الاعتبار تغدو الحاكمية وظيفة وتكليف ومسؤولية أمام الله تعالى.
وبهذا الاعتبار، تغدو عملية التقييم ضرورية على مستوى النهج في الدمج بين الدولة والمجتمع، ذلك أن نجاح الحاكم أو فشله في تمثل النهج وفي الحكم عليه، لا يخضع للعائدات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بالضرورة وكيفما كان، كما هو الحال في المجتمعات ذات الطابع المادي، وإنما يعود إلى عامل الترشيد والتبصير في الرسالة التي يؤديها كحاكم، وعنصر الثبات والصمود في الموقف الذي يتماهى مع النهج والمبدأ، وقاعدة الالتحام بين الحاكم والمجتمع على أرضية وعي الأمة وصمودها.. وبهذا الاعتبار، نجح رسول الله (ص) في بناء نواة الأمة الإسلامية الأولى، وكذلك نجح علي (ع) في عملية التأصيل للمجتمع الإسلامي في الحدود التي أتيحت له.
ومع ذلك فقد تكللت التجربة الإسلامية للسلطة في إيران بعنصر النجاح المادي في السياسة والاقتصاد ودفع الدولة إلى مصاف الدول المتقدمة كما في الجانب الصناعي والتكنولوجي والنووي وتحقيق الاكتفاء الذاتي رغم الحصار الاقتصادي والعقوبات.. وما لا يخفى على أحد أن ذلك من مفاعيل تمثل نهج الإمام الخميني (رض) وعلى كافة الصعد.
[1] السيد علي الخامنئي، الإمامة والولاية في الإسلام، الصفحة 9.
[2] السيد علي الخامنئي، الإمامة والولاية في الإسلام، الصفحتان 11و 12.
[3] نهج البلاغة، خطب الإمام على (ع)، الجزء 1، الصفحة 36.
[4] نهج البلاغة، خطب الإمام على (ع)، الجزء 1، الصفحة 80.
[5] المصدر نفسه، الجزء 1، الصفحة 13.
[6] المصدر نفسه، الجزء 1، الصفحة 36.
المصدر: معهد المعارف الحكميّة