الاجتهاد: إنّ المُتابع لحياة الثقافيّة للسيدة نصرت أمين يظنّها امرأة مُتفرّغة، لا همّ لها ولا تلد، ولكنّها كانت أُمًّا ثكلى إذ فقدت ستة من أبنائها وهي لما تتجاوز الثانية والعشرين وعاش لها ابن وحيد، وذلك بسبب تفشي الأوبِئة، والأمراض المعديَة./ تابعت دراسة الفقه والأصول والحكمة على يد أستاذها علي نجف آبادي حتى الأربعين ولما بلغت الأربعين من عمرها، حصلت لها قوة لاستنباط الاحكام الفرعيّة من أدلتها التفصيليّة فاستجازت من بعض العلماء الأعلام وبعد اختبارهم لها في مسائل الأصول والفروع أجازوا لها العمل مما استنبطته من الأحكام وأن تروي عنهم ما صحّت لهم روايته بالطُرق المتّصلة إلى المعصومين. قراءة: نسرين الرجب.
نادرة هي الكُتب التي تتحدّث عن إنجازات المرأة، وتتعامل معها ككائن وجودي فاعل في الحيّز التاريخي والثقافي والسياسي للمجتمع، والسيدة نصرت أمين )1895-1983م(، هي نموذج قُدوة جذبت اهتمام نِساء ورجال عصرها، فاهتمّوا بعلمِها ودفعهم فضولهم لزيارتها ومناقشتها في مسائل فلسفيّة ودينيّة صعبة.
الكتاب الصادر عن دار المحجة البيضاء، هو سيرة غيريّة عن حياة السيّدة نصرت أمين المُلقبة بـ “بانو إيرانى”، أي السيّدة الإيرانيّة، اعتمدت المؤلّفة الدكتورة دلال عباس، عدّة مصادر في استيفاء المعلومات التي تحدّثت عن السيّدة وأهمّها إضافة إلى كُتب العالِمة، كتاب أولى تلميذاتِها السيّدة علويّة همايوني الّتي كتبت سيرة حياتها وتذكُر همايوني في الهامش أنّ السيّدة خافت أن يلحَق بسيرتها شيء من المبالغة فدوّنت بعض تفاصيل حياتها في مخطوط صغير وأودَعته لدى السيدة همايوني، لتفادي الافتراءات التي قد تطال سيّدة بمقامها وشُهرتها، وحيثُ رأت فيها مثالاً أعلى للسيّدات في عصرها وفي كل العصور، وهي المعروف عنها تواضُعها، وإيثارها من خلال كُتبها، فتُشير إلى أنّه »عندما طلب أحدهم، من السيّدة أن تعطيه نبذة عن حياتها، أجابته أنّها لا تحب أن تكتب سيرتها في كتاب لأن حياتها عادية، ومن يريد أن يذكرها فليعدد كُتبها ».
وهذا ما اتّبعته الدكتورة في مؤلّفها حيث اعتمدت في فصول كتابها على ذكر كُتبها والتحدُث عن محتوياتها، وأغنَت الدراسة بالكثير من الاسشهادات التي تتناول الحوادث التاريخيّة والعوامل الكامنة وراء تأليفها، وأشارت في مكامن عديدة لحياة السيّدة والمواقف المُشرّفة والمثاليّة التي أظهرتها، تفانيها في العلم، حواراتها مع العلماء والمُهتمين بعِلمها، وارتفاعها عن هموم الدنيا والابتلاءات التي أصابتها من بلاء المرض وفقد الأبناء، وكُل ذلك لم يقِف عائقًا أمام اجتهادها وتفانيها في تحصيل العلم والمعرفة وتوصيلها.
الزمن الصعب
نشأت العالمة في زمن عصيب من الناحية الإجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، أيضًا، في آواخر القرن التاسع عشر الميلادي، حيث كانت الأميّة متفشيّة كان الناس ينقسمون بين طبقة الفقراء وطبقة الأغنياء، وفي عصر تشكّلت فيه ملامح التيار القومي الآري المتعصّب، الّذي دعا إلى العودة الى الحضارة الفارسيّة قبل الإسلام، تبنّى الشاه رضا خان التيّار القومي الآري المتعصّب للإسلام، وقاد ما يُسمى بالتحديث حيث انجذَب إلى سياسات كمال أتاتورك زعيم تركيا فصرّح أنّه سيُحارب الدين كما فعل أتاتورك، 1933، وعندما واجهه العلماء بخطاباتهم كان الرد على العلماء مهينا، واتُّبِعت اجراءات قمعيّة بحق النساء الّلواتي رفضن السفور، ونشأ صرع بين المتدينين والمناهضين، في إصفهان التي كانت مركزًا لعددٍ كبير من علماء الدين. فتقول المؤلِفة »كانت النساء في زمنها ضحيّة التحديث الفوقي القشري، والتغريب المُمنهج، يسعين للوصول إلى نموذج المرأة الدُميَة، وكان موقف تيار العُلماء ضعيفًا في تلك الحقبة«.
السيّدة العالِمة العارِفة
دخلت السيدة نصرت أمين الكُتّاب مُنذ الصِغر، وظلّت طوال حياتها، حريصة على مُطالعة الكتب العلميّة، تعلّمت العربيّة على يد آية الله زفره وبذلت جهودًا لاتقانها وكتبت ثلاثة كتب بها، منها: )الأربعون الهاشمية، النفحات الرحمانية، جامع الشتات.(، تعلّمت الفقه والأصول، وتتلمذت على يد كبار علماء عصرها، علوم الهيئة، والنجوم، والرياضيات والطبيعيات وكانت تميل الى الصرف والنحو والفلسفة والحكمة.
إنّ المُتابع لحياتها الثقافيّة يظنّها امرأة مُتفرّغة، لا همّ لها ولا تلد، ولكنّها كانت أُمًّا ثكلى إذ فقدت ستة من أبنائها وهي لما تتجاوز الثانية والعشرين وعاش لها ابن وحيد، وذلك بسبب تفشي الأوبِئة، والأمراض المعديَة.
»تنقل عنها، مريدتها وتلميذتها همايوني، قولها كنت جالسة وحدي أبكي فإذا بي أتذكر جواب إبراهيم ؛ »إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين«، سورة البقرة 131، شعرت أنّني كإبراهيم عاشقة لله تعالى وقلبي لا يجب أن يتّسع لعزيزٍ غير الله فجفّ دمعي »، كانت تؤمن أنّها يجب أن تتعلم لتُعلّم من حولها. تقول: »من المستحيل ألّا ينتاب الإنسان في حياته ولو لحظات في هذا العالم المضطرب شعور بالغربة ، ففي العمر لحظات نشعر فيها أننا غرباء عن أنفسنا ، وما من شيء يمكن أن يبدل هذه الغربة الموحشة باليأس مثل الذكر«
تابعت دراسة الفقه والأصول والحكمة على يد أستاذها علي نجف آبادي حتى الأربعين ولما بلغت الأربعين من عمرها، حصلت لها قوة لاستنباط الاحكام الفرعيّة من أدلتها التفصيليّة فاستجازت من بعض العلماء الأعلام وبعد اختبارهم لها في مسائل الأصول والفروع أجازوا لها العمل مما استنبطته من الأحكام وأن تروي عنهم ما صحّت لهم روايته بالطُرق المتّصلة إلى المعصومين، كانت تعامل الناس على قدر عقولهم، وتصبرعلى الانتقادات والاتهامات، بحيث لم تدرك رفعتها في زمن غلبت فيه الماديّة، كما تُوضّح الدكتورة في مؤلّفها، فعلى الرغم من الأفق الثقافي الضيق إلا أنها ظلّت تسعى إلى توعية النساء شارحةً لهم قيمة العلم والعمل.
بدأت بتأليف التفسير العظيم للقرآن بعد أن تجاوزت الستين. كتبت في العرفان، وفي كتابيْ معاد يا آخرين سير بشر »المعاد أو آخر مسير البشر« وكتاب النفحات الرحمانية، أهميّة أن يكون الايمان عن علم ومعرفة وليس تقليدًا، تحدّثت عن الإنسان الكامل صفاته ومقاماته مزاجه وكمالاته النفسانيّة، التحرّر من ربقة الشهوات الحيوانيّة، تحدثت عن أنواع المحبة، و»عرّفت الزُهد بأنّه ليس بتضييع المال أو تحريم الحلال، إنّما الزهد في الدنيا هو ثقة الإنسان بأنّ ما في يده أقل مما هو لدى الله«، تقول إن أولى خطوات الإنسان على طريق التكامل والسعادة والطمأنينة هي معرفة جسده الترابي وروحه الأفلاكيّة، أي أن يُميّز بين البدن الذي هو من عالم المادة والروح التي نزلت من عالم المجرّات..« كل شخص يرى أمور العالم في بحيرة قلبه، صفّ باطنك من أدران الأخلاق القبيحة، لترى العالم جميلا ونقيًا. ورأت أنّ كل شخص يُعطى الطريق التي تناسب قدراته .
اخلعي حجابك فتكوني حرة!!
تؤكّد الدكتورة دلال في كتابها من أنّ المُزعج، في ذلك الزمن، لم يكُن ظاهرة السفور بل الخِواء الثقافي، الأُميّة، والجهل. نظرت السيّدة الى موضوع الحجاب كواجب شرعي وباعتباره هويّة دينيّة وثقافيّة، وسِمة قوميّة، فكان موضوع إجبار النساء على خلع الحجاب وفق المرسوم الذي أصدره رضا خان يفرض فيه على الرعايا الايرانيين ارتداء لباس موحّد للرجال السترة النصفية والقبعة التي سُميّت البهلويّة وللنساء السفور، فانتشر شعار »اخلعي حجابك فتكوني حُرّة«.
فالحجاب لم يكن موضوعًا دينيًّا واجتماعيًّا فحسب وإنما كان موضوعًا سياسيًّا وثقافيًّا بالدرجة الأولى، وهو يشكل جزءًا من قضية أكثر أهميّة بين تيارين؛ مُحافظ على هويّة ايران الاسلاميّة، وبين من يريدون محوَ أربعة عشر قرنًا من تاريخها فرأى أنّ الإسلام هو العائق أمام الاستقلال السياسي، يتضمن كتاب طريق السعادة، الأُسس الدينيّة التي يجب أن تعرفها كل امرأة أيًّا كان مستواها العلمي والثقافي تحدثت فيه عن وجوب ارتداء الحجاب باختصار وبساطة.
رأت السيدة نصرت أمين أنّ من مهامِها بوصفها عالمة أن توقظ الناس من كبوتهم، حثّت على العِلم والمعرِفة بِواسطة القِراءة وسؤال العارفين؛ »إن كل هذه التعاسة على الأرض ناجمة، عن فقدان معرفة النفس وعدم معرفة الروح الانسانيّة ودرجات تكاملها..«، واعتمدَت على العقل والوجدان وهي معرفة النور القلبي والإدرك الحضوري، زخرَت مُصطلحاتها المُستخدمة في كتبها بالمفاهيم الفلسفيّة والعلميّة والحكمة والأشعار الجميلة، والمنظومات الخالدة لجلال الدين الرومي.
في كتابها طريق السعادة، وجّهت خطابها للنساء قائلة: »السعادة ليست في الأشياء التي تتصورنها وتتمنيْن الحصول عليها ، ثم بعد كل أمنيَة أمانٍ أُخرى لا تنتهي أبدًا، وتقضين أعماركن على هذا النحو، إنها أماني الأطفال، لا أماني العقلاء« ثُمّ تقول: »ابحثن عن جذور السعادة والتعاسة في أعماقكن، التعاسة تأتي من الداخل وبكيفية النظر إلى عالم االطبيعة..«، تكلّمت عن أركان الدين، وعن المُمكن والواجب، وعلى معرفة الله بأوصاف جماله وجلاله وعلى صفاته الثبوتيّة التسع وعلى أقسام التوحيد في مقام الأفعال والتوحيد في مقام العبادة، وكان لها ردود على المقالات التي كتبتها نساء تتضمن إساءة إلى الاسلام والى شخص النبي، »إن كنت مسلمة فليس هذا هو طريق المسلمة، وإن كنت مُلحدة فأعلني ذلك كي لا يبعث عملك هذا الجرأة لدى الأخريات«.
لقد كان لدى السيدة رؤيّة علميّة وإجتماعيّة مصدرها ديني، لقد جعلت من أحكامها وتنظيراتها التي انطلقت من مبدأ ديني إسلامي، أسلوبًا للحياة، فلم تقع في التحجّر والعناد العصبي، وهي لم تتخذ موقِفًا مُعاديًا من المرأة التي تمرّدت على الأحكام والأعراف بل توجّه كلامها للرجال وتقول إن سبب تفلّت النساء مردّه إلى عدم تقدير الرجل لها وعدم معرفة حقوق الزوجية، وجراء تعدّي بعض الرّجال على حقوق النساء وعدم تنفيذ ما أمرهُم به الشرع.
مُحاربة الخُرافات
تُشير الدكتورة دلال عبّاس أنّ السيّدة الفاضلة كانت تُحذر المؤمنين من الغلو وتطلب إليهم أن ينتبهوا ولا ينسبوا إلى النبي والأئمة ما هو خاص بمقام الألوهيّة، وأن لا يطلبوا حاجتهم منهم، فقاضي الحاجات هو الله، وتحدّثت عن الشِرك الخفي ورأت أنّ العوام ارتكبوا الخِلاف من حيث لا يشعرون، وهم الذين يحسبون أنّهم يُحسنون صنعًا.
بدأت السيدة نصرت أمين التدريس في الأربعين من عمرها، محاضِرة أسبوعية في منزلها للنساء والشابات، »في رأيها أنّ المرأة كلما كانت أكثر علمًا وفهمًا ابتعدت عن الخرافة وعن كُل ما يُنافي العفة والحياء. والعاقلة تحترم نفسها وترى أرفع مكانة وقيمة من أن تضع نفسها في موضع الشبهة« كانت تُقيم الجلسات التثقيفيّة في منزلها، وأثارت إعجاب الحاضرات اللواتي رأين فيها مثالاً قُدسيًّا ، ففي أحدى المرّات جاءتها امرأة تطلُب منها أن تُوقّع لها السيّدة اسمها على كفنِها للتبرُّك به فكان جواب السيّدة: »سيدتي هذا الكلام اكتبيه على صفحة قلبك لا على الكفن«.
العالِمة المُثيرة للجدل
تذكُر المؤلفة الانتقادات التي طالت العالِمة، فتتحدث عن دأب الرجال في كل زمان لانتقاص من قيمة إنجاز المرأة ، شاكين بقدرة امرأة مُحجبة وتُلازم بيتها على إنتاج ما أنتجت، ما دفع أستاذها علي نجف آبادي إلى القول »إن كل ما أتت به هو من رشحات فكرها وليس مستمدا من تعاليمي«، حصلت على إجازة الاجتهاد والرواية من آية الله العظمى الشيخ كاظم الشيرازي، والحائي، الذي يعد المؤسس الحقيقي لحوزة قم. بهرت السيدة نصرت أمين بما أنجزته في مختلف العلوم ولا سيما الفقه والتفسير والحكمة كثُر في النجف وقُم، وأعطت إجازات في الرواية والاجتهاد لعُلماء منهم آية الله مرعشي النجفي .
زار الكاتب العراقي عبدالله سبيتي إيران لفته كتاب الأربعون الهاشميّة واستعجب من أنّ مؤلف الكتاب امرأة، نظرا للأوضاع السائدة في عصره والتي ألحقت الظلم بالمرأة، فدخلن مُعترك الحياة قبل أن يتسلّحن بالعلم والفضيلة، وعندما علم أنّها حيّة من خلال صديق مشترك قام بزيارتها.
أثارت دهشة وإعجاب العديد من علماء عصرها الّذين كانوا يتساءلون كيف بامكان امرأة أن تُدرك المسائل المعقدة والفلسفيّة، واستبعدوا وجود كل هذه المعرفة عند السيدة فينقل آية الله الموسوي الزنجاني أنّ الشهيد مطهري ذهب للقائها وطرح عليها النقاش في مسألة فلسفية وهي قاعدة »المصادر لا تصدر إلا عن الله الحامد«، وكان جوابها مُفحِمًا كما عبّر الشهيد مُطهري.
في كتابها جامع الشتات اختارت من بين الرسائل التي وصلتها من مفكرين وعلماء كبار طالبين منها أجوبة فقهيّة تفسيريّة لا أصوليّة فلسفيّة، وكان من تواضع السيدة وعدم ادّعائها المعرفة، أن توضّح في بعض المسائل العسيرة عدم امتلاكها بيّنة قويّة، ولكنها تذكُر الأمثلة الداعمة والموافِقة للسؤال.
يهدف كتاب الدكتورة دلال عباس إلى تعريف القارئ بنموذج إنساني جدير بالمعرفة وأخذ العِبر منه، فهي ليست سيّدة عاديّة كما كانت السيّدة تتواضع وتقول عن نفسها، بل هي مثال يُحتذى به في الصبر وحُب العلم والتعلّم، لقد وجدت طريقها بذاتها وصمّمت على مُتابعته على الرّغم من الظروف المُعاديَة، ولم تُثنها عن عزمها انتقادات المُشككين بل أثبتت قوّتها وصلابتها العلميّة والعمليّة في المُناقاشات التي كانت تدور بينها وبين العلماء، آمنت بهويتها الدينيّة وسعت لنشر العلم والمعرفة بين النساء. إنّ ما يُمكن تعلمه من حياة السيّدة ،لا ينحصر في المجال الديني والعرفاني فقط، بل يمتد إلى الإمكانيات الهائلة التي يُمكن للمرء اكتِسابها وتحصيلها لإثبات ذاته في هذا العالم المُضطرب مهما ضاقت به الأحوال.
نصرت أمين مجتهدة عالمة في زمن الصعب ” إصدار جديد للدكتورة دلال عباس / تحميل
المكانة العلمية للمجتهدة السيدة نصرت أمين .. بقلم الدكتورة دلال عباس