الفقه في زمن الحرب والتهديد: قراءة متجددة للدور والرسالة

خاص الاجتهاد: لطالما أثبت الفقه الشيعي، بصفته نظامًا معرفيًا عمليًا شاملاً للإسلام، قدرته الفائقة على توليد الاستراتيجيات وإنقاذ الأمة من قلب الأزمات الحضارية.

فمنذ فتوى الجهاد التي أطلقها الميرزا الشيرازي لمواجهة الاستعمار الاقتصادي، مرورًا بالدور المحوري للمراجع في الحركة الدستورية (المشروطة)، والنهضة الوطنية لتأميم النفط، وصولًا إلى الثورة الإسلامية، يشهد التاريخ أن مؤسسة الفقاهة لم تكن مجرد ملاحظ أو ناصح في الأوقات العصيبة، بل تحولت إلى قيادة محورية للهداية والتنظيم وتوجيه الأمة برمتها في خضم الهجمات المباشرة التي يشنها الكيان الصهيوني على أراضي إيران العزيزة ومشروعه الصريح لزعزعة الاستقرار، يتوقع الجمهور من الحوزات العلمية والفقاهة ما هو أبعد من مجرد بيانات التعزية والإدانة التقليدية. المطلوب هو حضور منظم، ممنهج، وفاعل على الأرض. ينبغي للفقه أن يُثبت فاعليته ليس فقط في التشريع، بل أيضًا في إدارة الأزمات والتدبير العملي.

تهدف هذه المذكرة، من منظور واقعي ويستند إلى المعطيات العملية الحالية، إلى وضع إطار لإعادة تحديد دور الفقهاء والعلماء ومؤسسة الحوزة العلمية في سياق الحرب المختلطة والأزمات الأمنية التي تمر بها الجمهورية الإسلامية.

يعرض الكاتب في هذا الملخص بعض القضايا دون إصدار أحكام مسبقة، مع الإشارة إلى إمكانية تفصيلها وتحليلها بدقة في مناسبة لاحقة.

1. الواجبات الخاصة للفقهاء من الطراز الأول (المراجع، العلماء، وأساتذة السطوح العليا)

ليس الفقيه مجرد مصدر للأحكام الشرعية الفردية أو مجيبًا على الاستفتاءات. فعندما تواجه الأمة الإسلامية والنظام الإسلامي أزمات تهدد أمنها القومي، يجب أن يتطور الفقه من مجرد رد فعل إلى قوة فاعلة واستراتيجية. وفي هذا السياق، تبرز مهام محددة تقع على عاتق المراجع والعلماء وأساتذة المستويات العليا، وتشمل:

أ. فتاوى سياسية موجهة:
لا ينبغي أن تقتصر هذه البيانات على مجرد الإدانة، بل يجب أن تحمل عمقًا فقهيًا تحليليًا يجيب بوضوح على سؤال: ماذا يجب على الحكومة الإسلامية، الشعوب المسلمة، والمجتمع الدولي فعله إزاء هذه الاعتداءات؟ عبر هذه البيانات، يمكن تحديد الخطوط الحمراء الشرعية، معالم الجهاد المشروع، أحكام التقية، السلام، والمقاومة.

إن الإجابة على سؤال “أي مساومة حرام؟ وأي مواجهة واجبة؟” هي ضرورة ملحة للمجتمع الديني اليوم.

ب. تطوير الفقه في المقاومة والأمن:
يتعين على كبار الفقهاء وضع نظريات فقهية مبتكرة، مثل: “فقه حالة الطوارئ للدولة الإسلامية”، و”فقه العلاقات الدولية بمنظور الحكم الشيعي”، و”فقه مواجهة التهديد الهجين”، و”فقه السلاح، التسليح الدفاعي، الردع، وحكم استخدام الإمكانات الخاصة في الحروب غير المتكافئة”. بالإضافة إلى “وضع الأسس الفقهية لمواجهة حملة تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني في العالم الإسلامي”. هذا التنظير لا يحل المشاكل العاجلة فحسب، بل يعزز موقع الفقه الشيعي كقوة حضارية.

ج. إصدار الفتاوى الاستراتيجية لتقوية جبهة المقاومة:
يجب تصميم الفتاوى المؤثرة بما يتناسب مع الجمهور المستهدف:

للشعب: فتوى الدعم المالي، الإعلامي، والنفسي لجبهة المقاومة.

لأصحاب المهن والحرف: فتوى تحريم التعاون مع المؤسسات المتوافقة مع الصهيونية الدولية.

للحكومة: فتوى وجوب اتخاذ إجراءات ردع مشروعة أو الرد المتناسب على العدو المعتدي، وهذا يمكن أن يتجاوز ذلك بكثير.

2. مهام علماء الصف الثاني والخطباء: جسر الفقه إلى الأمة
هذه الفئة هي حلقة الوصل بين الفقه والناس، وتلعب دورًا حاسمًا في ربط الحوزة بالمجتمع، مما يعمق فهم الأحكام الشرعية. إن تأثيرهم في إدارة الأبعاد النفسية، والعقائدية، والاجتماعية للمجتمع خلال الأزمات حيوي، ولديهم قدرة واسعة على التأثير عبر الإعلام، المساجد، والميدان.

أ. توجيه الرأي العام فقهيًا وثوريًا:
على العلماء في الخطب والمنابر ألا يكتفوا بالإدانة، بل يوضحوا للناس “واجباتهم الشرعية”: هل يكفي مجرد الحضور في المسيرات؟ ما حكم الدعم المالي، التوعوي، أو حتى الصمت؟ ما هو الإعلام المشروع في حرب نفسية؟

ب. تجنب الخطاب الانفعالي أو المبالغ فيه:
يجب على العلماء تجنب الوقوع في فخ الانفعال والخوف، وعدم إضعاف الثقة العامة بحديث غير واقعي. الفقه الواقعي والبيان الملتزم يجب أن يحل محل الشعارات والكلام السطحي.

ج. المشاركة النشطة في الإعلام والفضاء الافتراضي:
إنتاج مقاطع فقهية توضيحية، جلسات أسئلة وأجوبة، والمشاركة الإعلامية ضرورية لتوجيه الرأي العام. المجتمع ينتظر الصوت الموثوق للفقاهة. يمكنهم أيضًا إطلاق منصات للإجابة على الأسئلة الفقهية عبر الإنترنت وفي أماكن التجمعات.

د. التواجد الميداني في الاحتجاجات والفعاليات:
إدارة التجمعات الاجتماعية بقيادة رجال الدين لتعزيز الانسجام الوطني وربط الناس بخطاب المقاومة، والتركيز على بناء نموذج لرجال الدين المجاهدين في عقول الشباب.

3. الواجبات المؤسسية للحوزات العلمية
ليست الحوزة مجرد مكان لدراسة الفقه والكلام، بل هي مؤسسة حضارية يجب أن تكون مصدرًا للحلول والتحول في قلب الأزمات. يمكن تعريف هذه الواجبات في عدة محاور:

أ. إنشاء مقر دائم “لفقه المقاومة” في الحوزة:
يجب أن يضم هذا المقر: “رصد التهديدات الأمنية-الثقافية”، و”التحليل الفقهي-القانوني لأحداث المنطقة”، و”الرد الفوري على الشبهات الشرعية”، و”إصدار البيانات العلمية بالاعتماد على آراء الفقهاء”، و”تفعيل المعاهد البحثية الفقهية لتقديم نظريات أمنية حديثة”.

ب. إعادة تصميم دروس البحث الخارج والمستويات العليا بمواضيع أمنية حديثة:
يجب إدراج عناوين مثل: فقه الأمن القومي، فقه الحرب الهجينة، وفقه المقاومة، بالإضافة إلى كراسي التنظير المرتكزة على الأزمات، والتي يجب أن تدخل المناهج الحوزوية بشكل رسمي ومنظم ليصبح الطلاب مجتهدين متناسبين مع احتياجات المستقبل.

ج. تدريب طلاب متخصصين وفاعلين:
ويشمل ذلك “إنشاء تخصصات أو فروع في فقه الأمن وفقه المقاومة”، و”تحديد ودعم المواهب الحوزوية في مجال التحليل الاستراتيجي”، و”إيفاد الطلاب الأكفاء إلى المراكز الاستراتيجية، الثقافية، والإعلامية في البلاد”.

د. الدبلوماسية الفقهية-العلمية الدولية:
وذلك من خلال إقامة شبكة من فقهاء جبهة المقاومة في إيران، والعراق، ولبنان، والبحرين، وباكستان، وغيرها من البلدان الإسلامية، بهدف التنسيق في المواقف الفقهية-السياسية. يجب أن تكون مؤسسة الحوزة محورًا لانسجام فقهاء جبهة المقاومة في البلدان الإسلامية. يمكن للتنسيق في إصدار المواقف الفقهية، وعقد اللقاءات العلمية المشتركة، وإنتاج البيانات الدولية أن يتحدى مشروع تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني من الداخل.

في الختام، نؤكد أن الاعتداء والإجرام الوحشي والإرهابي اليوم يمثل اختبارًا تاريخيًا لمؤسسة الفقاهة لتُظهر أن فقه أهل البيت (عليهم السلام) ليس مقتصرًا على العبادات الفردية أو المعاملات الخاصة فحسب، بل يمكنه أن يكون محركًا أساسيًا في قلب الأزمات. تحقيق هذا الهدف يتطلب تجاوز الدور التقليدي والتحرك نحو “صناع ميادين الفعل الفقهي”. إذا أرادت مؤسسة الفقاهة أن تحافظ على مرجعيتها الفكرية-الاجتماعية، فعليها أن ترتقي بمستوى التفقه ومستوى الفاعلية في الميدان.

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

Clicky