الاجتهاد: الشيخ علي الكوراني ليس من الشخصيات التي تركت آثارا كثيرة نقشتها أيدي عناصر الجمعية أو المنظمة التي تترأسها، كما هو حال بعض رجالات هذا العصر المجايلين له، ممن تحركت أفكارهم مستعملة أيدي وألسنة العاملين تحت ادارتهم، وأيضا هو ليس من الأساتذة المتنفذين الذين أين ما أشاروا بكفهم على أرض موات أحييت، ولكنه يفوقهم في الآثار وليس له من معين سوى عنصرين ذاتيين:
١_الانفتاح النفسي الذي جعله قريبا من غالبية عناصر النشاط الديني ومؤسساته يستثمر المتمكنين ماديا والمتقدمين ميدانيا ويستثمرونه أيضاً.
٢_الانفتاح الذهني الذي جعل منه شخصية متكاملة معرفيا وثقافيا وهو ما يختصر اليوم في كلمة “موسوعة”!
الشاب المتطلع:
لا يزال حراكه ولسانه وهو في الستينيات من عمره يروي بعض أوراق السيرة الذاتية لا سيما صفحات الولادة الحوزية لهذا العالم الفاضل وكيف أنه قد كان رجلا لا يحب الحياة داخل الاسوار التقليدية إلا إذا برهنَت على تماسكها أمام تحديه لا سيما في الوجهة العلمية ..
•ففي الفقه لقّن نفسه فكرة أن يبني مشروعا علميا على كتاب مسالك الأفهام للشهيد العاملي. لأنه القاعدة الأساس لاجتهاد متاخري المتاخرين.
•وفي النحو هو الذي أحيا بعض الأسئلة الثائرة على المناهج المألوفة کشرح ابن عقيل وابن الناظم والسيوطي وقطر الندى والجامي وغيرها، فكان يتساءل بأي ذنب وئدت الأخت الرابعة عشر لكان الناسخة وهي “بقي” فانها من الأفعال التي ترفع المتبدأ اسما وتنصب الخبر بلا شرط.
•وفي تلقي البحث الخارج ارتمى في أحضان بعض الفقهاء الاعاظم بالنجف بانيا على رأي بعض الطلبة المميزين ولكنه لم يكن ليقلد في رحلته العلمية. – وهي أولى رحلاته – حتى المميزيين، لذا قد سلّ نفسه بعد سنتين من صف هذا الأستاذ و وقف في صف مَدرَسٍ جديد لفقيه آخر ليكتشف أن الأسبق أستاذ كان يستخرج العسل من آنية الفخار، وهنا أستاذ يسقيه العسل من الشمع الدهني الطبيعي، وذلك كله وفقا لحساباته ومرتكزاته الشخصية، التي فهمتها من لحن روايته ومشافهته لنا بهذه المواقف من حياته.
الانسجام العلمي:
في قم المقدسة وهي أوسع عالم قدر لي أن أدخله في أوائل مرحلة الشباب قد غمرتني الطمأنينة لما كنت ألمسه من نظرة التقدير المتبادلة بين المراجع الفقهاء وأعلام البحث والتخصص – هذا في المجمل العام طبعا – فكثيرا ما كنت اصادف علما أو جماعة من الأعلام المتنافسين على طريق العلم والبحث وهم يشتركون في حضور مأتم أو في ضيافة احدهم، ويتقابلون مستطلعين متشاورين متهادين اطراف الكلام بكل محبة ومودة .
وبعد تعرفي على الشيخ الكوراني ازددت بهجة لهذه الأخلاقية التي هي من أسباب استمرار القوة والعزة في الأوساط العلمية، اذ رأيته يدير علاقاته مع كبار المحققين والاعلام بسماعة الهاتف دون مقدمات المحرجين والمتكلفين .. وانا اخص هذا المقال بحكايتين كان لي شرف الحضور فيهما :
في مدرسة السيد الكلبايكاني:
في العام الأول من اشتباك الثقافات والاديولوجيات في شبكة الانترنت كان الشيخ علي الكوراني اسبق و اعمق شخصية علمية نزلت الساحات الحوارية الفتية آنذاك، والتي قد انفتحت على الخلافات المذهبية والفكرية خاصة.. ولم يسبق للشيعة والسنة أن أصبحوا على صعيد المواجهة الفكرية المباشرة قبل هذا، فكانت هذه هي المواجهة التي لم يُعد لها من قبل أحد من الطرفين لا اقل في السنوات الأولى،
وساعود للحديث عن هذه المرحلة، الا أن ما يهمني نقله هنا أن الشيخ الكوراني العاملي دعانا الى مقر مشروعه (المعجم الفقهي) والذي كان بمدرسة السيد الكلبايكاني وما أن حضرنا حتى كان بين الحضور اعلام من بينهم السيد عادل العلوي – بحسب ذاكرتي الان – والسيد محمد رضا الجلالي ممن رأيت في مجلسهم وحديثهم عدم التكلف فيما بينهم بل وفهمت انه لم يتكلف في دعوتهم اليه بشيء اكثر من مكالمة هاتفية فلبوا نداءه على وجه الاريحية والسرعة!
في مقره بمؤسسة آل البيت عليهم السلام
لقد اسمعه احدنا اثناء زيارتنا له في مكتبه بمؤسسة آل البيت عليهم السلام نقلا يتضمن اثارة على لسان صديقه الشيخ الفضلي، فمد يده الى سماعة الهاتف ليتصل بالشيخ الفضلي مباشرة، ( واعتذاري الشديد لقارئي هنا) فبُعد الزمن قد أنساني كيف انتهت الحكاية ويغلب على ظني أن فنيات الخط الدولي لم تساعد على نجاح المكالمة أو انه أجل ذلك لاعتبارات أخرى.
وتمتد سطور الانسجام العلمي وتتعدد صفحاته الزاخرة بالحكايات واللطائف المعبرة عن روح التعاون بين أبناء الهم الرسالي المشترك، وربما لا تصح المقارنة بين روحية اخوان الامس واخوان اليوم، يدلك عليه ما حُفظ من مراسالات بين اعلام الفكر في تلك المرحلة بعد أن تفرقوا وعادوا الى أوطانهم، من قبيل مراسلات السيد الصدر وطلابه، كما لا يزال هناك ركام من المراسلات بين الاعلام، ولا أظن أن هناك من عني بدراستها حتى الآن!
وفي عالم الفوتوغرافيا صور تستطيع أن تتحرر من جمودها فتبدو متحركة بل انها تتواصل مع الناظر اليها بلغة اخفى من الهمهمة .. وهكذا هي الصورة الفوتغرافية القديمة التي تظهر فيها كوكبة من الطلبة الشباب البارزين في ساحة الصحوة الإسلامية من السبعينيات (وهم آنذاك مأمونين آمنين من أي ملاحظة)، تعرفت منهم على الشيخ الآصفي والسيد فضل الله والشيخ الفضلي وربما كان عنصر رابع لا تسترجعه ذاكرتي الآن (١)، ولكنها توحي بالتقاطها في مقر الباحث والمفكر الكبير الشيخ الفضلي بجدة. ،
وفي احدى جلساتنا التي ألفناها مع سماحة الشيخ علي أشار الى حكاية جعلتني أصدق بما كنت استشعره من أحاديث تلك الصورة، فقال لنا :
بعد انتقال الشيخ الفضلي الى جدة توقف عن نشاط الكتابة وبعد الحج قصدناه في داره ومارسنا معه تحريك بوصلته الشخصية ليعود الى سابق بطولاته الفكرية، فاعتذر بفقدان المصادر في هذا المكان ولكننا -يقول الكوراني – تعهدنا له باحضار ما يلزم وفق ما تسمح به الأوضاع و الأحوال العامة والخاصة.