الاجتهاد: قام محقّقنا الخراساني “قدس سره” في كتاب كفاية الأصول مشمّرّاً عن ساعد الهمّة فلخّص الأبحاث الأصوليّة وحصيلة نتاج المدرستين في شطري الألفاظ والأدلة العقليّة في رسالته المختصرة بعبارات موجزة تاركاً للكثير من القيل والقال، وما لا خير فيه من وجوه الإستدلال، مسقطاً لجملة من البحوث التي لا تظهر لها ثمرة إلا في النّذر المبتدع بالخيال، وفي نفس الوقت لم يخل الكتاب من ذكر أهمّ الأقوال، وعمدة ما احتجّ به الأعاظم من أرباب المقال. بقلم: الأستاذ المحقق السيد محمد حسن الموسوي العباداني*
تقدم: أن الحوزة العلمية بصفة عامّة بعد الشيخ الأعظم كانت تعاني في مادة الأصول من تضخّم البحوث عرضاً و استدلالاً؛ لأنه لم يكن بُدٌّ للباحث من الجمع بين الأصول القديمة ولو في شطر من الأصول، وبين الأصول الجديدة في شطرها الثاني.
وقد بُذلت جهود عظيمة في سبيل فهم الأصول الجديدة التي نَظَّر لها الشيخ وابتدع منهجتها ورسم خريطتها، وتهافت عليها تلامذته حتی كُتِبَت مئآت الحواشي والشروح النقديّة والتوضيحيّة لبيان بنات أفكاره.
ولهذا وذاك اشتهر أن الدورة الأصولية التي يلقيها الشيخ حبيب الله الرّشتي – لو قُدّر له ـ – تطول إلى خمسمائة أو ستمائة سنة.
وهو لا يخلو من مبالغة بكلّ تأكيد، والمقصود من وراء ذلك: أن الرّشتي طويل النفس في الأبحاث الأصوليّة فيكثر القول في تحرير محلّ النّزاع ويستقصي الأقوال وأدلّتها ومناقشة كلّ دليل دليل في كلّ قولٍ قول، ولا يخرج بالنتيجة إلّا بشقّ الأنفس بعد أن لايُبقي مجالاً للكلام ولا مناقشة في المرام.
وهذا أيضاً فيه شيء من المبالغة ويكفيك أن ترجع إلى بدائع أفكاره، لكي تعرف الحقيقة عن كثب، وهي أنه طويل النفس إلا أنّه ليس بتلك المثابة العالقة في الأذهان، ولعلّ زميله المحقق الآشتياني أطول منه نفساً كما هو المشاهد في “بحر الفوائد”.
ومما يقضي بالعجب أن بعضهم لمّا شاهد “البدايع”، وضخامته ولاحظ أوّل الكتاب فوجده يتكلم في تعريف الأصول، ونظر إلى خاتمته(1) فوجدها معقودة لبيان مبحث التعارض، فتصوّر انه دورة كاملة شاملة لمباحث الألفاظ والحجج والأصول العملية والتعارض،
ثم التفت إلى أرقام الصحائف فوجد أنها تجاوزت الستّين والأربعمائة، وكان قد عَلِق بذهنه: المشهور من تطويلات الرشتي في بحوثه فقال: لو طبع هذا الكتاب بالطبع الحروفي الحديث أو كتب بخطّ الخطّاط الماهر طاهر خوشنویس على غرار كتاب “الكفاية” المطبوعة في مجلدين وطبع طبعة وزيرية فلايبعد أن يظهر بعشرين ضعف “الكفاية”، يعني أنه يصبح أربعين مجلّداً (2).
مع أنّ هذا الكتاب منضد الحروف بين يدي بالطبعة الحديثة ولم يتجاوز الثلاث مجلّدات بالقطع الوزيري المعمول، وكلّ مجلّد أقلّ من ستمائة صفحة والمجموع ألف وثمانمائة على أكثر التقادير، فأين الأربعون مجلّداً؟!!
وقد يقول قائل: هذا حال الكتاب وهو لم يتضمّن مجموع الأبحاث الأصوليّة فكيف بما لو كان جامعاً لها من الدفّة الى الدفّة ؟ فلعله كان يبلغ هذا المقدار المقدّر في لسان القائل.
ولكنّه وَهَم، لا ينبغي الاعتناء به، فإنه لو سار إلى آخر البحوث على نفس الوتيرة لَما بلغ الكتاب الى خمسة عشر مجلّداً، فأين الأربعون ؟!!
وكيف كان: فقد أورثت هذه المفصّلات ملالة لطلبة العلم، بل صدّت الأعلام عن التفرّغ للفقه وكتابة الموسوعات – كما تقدّم – حي اقتصر الأكثر منهم على تنقيح المباحث الأصوليّة ولو بلغ ما بلغ من استهلاك الأعمار، والاقتصار على المهمّ من الأبحاث الفقهيّة
كبحث المكاسب المحرّمة والبيع والخيارات والشروط التي وضع فيها الشيخ كتابه “المتاجر”، الذي أصبح من بعده محوراً للدراسات وصار – لاشتماله على الأبحاث المعمقة والقواعد الكثيرة – بمنزلة الأصول لسائر الأبحاث الفقهيّة، وقد مرّت الإشارة إليه.
فالطالب آنذاك يبدأ بـ”المعالم”، ويثنّي بـ”القوانين”، ويثلّث بـ”الفصول” ثم يتربّع عند الشيخ لكي يقرأ “رسائله” الفريدة ومنهم من يضيف إليها “التقریرات”، المشهورة بـ”مطارح الأنظار”؛ لكون “الفرائد”، خالية من مباحث الألفاظ، ثم يجلس بعدها عند بعض مشائخه لكي يخرج عندها من ربقة التقليد إلى نعمة الاجتهاد والتحقيق، فيصبح بعد کدّ شدید وعمر مدید محققاً أصوليّاً – لو ساعدته المقادير الإلهيّة – فمتی يرتع في رياض الفقه؟ أم متى يتبحّر في الرجال والحديث والتفسير والكلام والتاريخ وسائر الفنون بتشعّباتها؟!!
هنا قام محقّقنا الخراساني “قدس سره” مشمّرّاً عن ساعد الهمّة فلخّص الأبحاث الأصوليّة وحصيلة نتاج المدرستين في شطري الألفاظ والأدلة العقليّة في رسالته المختصرة بعبارات موجزة تاركاً للكثير من القيل والقال، وما لا خير فيه من وجوه الإستدلال، مسقطاً لجملة من البحوث التي لا تظهر لها ثمرة إلا في النّذر المبتدع بالخيال،
وفي نفس الوقت لم يخل الكتاب من ذكر أهمّ الأقوال، وعمدة ما احتجّ به الأعاظم من أرباب المقال، ثم يعمد لمناقشتها بأتمّ وجه من دون تطويل و استرسال، إلا فيما تقتضيه الضرورة عنده، أو وجد متّسعاً من المجال لبيان حقيقة الحال ولم یکن تقدّمه أحد في تحقيق الموضوع أو خطر في بال.
فنجز القسم الأول منها – كما مرّ – في سنة (۱۳۲۱هـ) بعد أن كان قد كتب بحث (المشتق) و (اجتماع الأمر والنهي) قبل عقدين من تأليف “كفاية الأصول”، فأدرجها فيها بتغيير يسير، کما أدخل بحث “استعمال اللفظ في أكثر من معنى”، ويحث “الطلب والإرادة” المكتوبين عنده قديماً أيضاً فيها ولكن بتحرير جديد، فاستنسخها طلبة العلم وروّاد الفضيلة، وبدأ هو بتدريسها من على منبره والمجلس غاصّ بأهله،
كما شرع في نفس الوقت أو بعده بقليل بكتابة الجزء الثاني منها فنجزت وطبعت عام (۱۳۲۴ هـ) و طبع الكتاب في حياته وبمباشرته، وكان قد استنسخه زرافات من أهل الفضيلة قبل أن يطبع، ووسموه حين الطباعة بـ(كفاية الأصول) كما يظهر من مقدّمتها فراجع.
وحينما كان يباشر تدريسه وَجَد الفضلاء قد استعدّوا لا لخصوص فهم الكتاب ومضامينه، بل قد صوّبوا سهام مناقشاتهم تجاهه، فلابدّ له من الدّفاع، أو الاعتراف بورودها وإصلاح الرأي أو الإستدلال، أو إدخال المناقشات المهمّة في متن الكتاب والإجابة عنها، أو في الهامش.
وبما أنه درس الكتاب ثلاث دورات على اكثر التقادير – كما يقال: من أنّ كلّ دورة كانت تستغرق ثلاث سنين – فقد كثرت الإصلاحات والتصويبات في الكتاب، بل وزاد عليه جملة من الإشكالات وأجوبتها في الهامش مما كان يصدر من فضلاء تلامذته من أمثال الشيخ علي القوچاني والسيد البروجردي(رحمهما الله).
ولأجل ذلك اختلفت النّسخ، بل التصويبات زيادة ونقيصة، وتقديماً وتأخيراً، وهذا واضح بأدنی تأمّل في حواشي وشروح تلامذته على كتابه.
ومن هنا التبس الأمر على جماعات من شرّاح كلماته من أكابر تلامذته، فكيف بمن جاء بعدهم ولم يأخذها مباشرة من لسانه؟!
حتّى کثرت الأقوال والإحتمالات والوجوه، واختلفت الأنظار من مَهَرَة الفنّ، وأصبح الكتاب الذي غولي فيه حتى قيل:” بأنه کالکتاب العزيز يفسّر بعضه بعضاً”، لا يخلو من إبهام وإجمال، بل اعترف جماعة من الأكابر بعدم وضوح مراد المصنّف؛ لقصور عبارته أو مناقضته لما سبق أو يلحق.
واستعصت العبارات لِوَجازتها المفرطة المقرونة بالإهمال للمقدّمات والمقارنات والمؤخّرات الكاشفة عما هو المقصود بالذّات، مضافاً إلى الإهتمام بالجانب اللفظي من رعاية المحسّنات البديعيّة لا سيّما التسجيع ولو ضاع في سبيله التمهيد في فهم المراد.
هذا وذاك كلّه شجّع الأبطال من تلامذنه؛ لكي يشمّروا عن ساعد الجدّ فيكتبوا الشرح الوافي لكلماته، وبالفعل فقد نجزت بهذه المناسبة عشرات الشروح فضلاً عن الحواشي كما سيأتي التعرّض لها قريباً إن شاء الله عزّوجلّ.
هذا مضافاً الى ما قرّر من بحوث على مستوى الخارج مما هو بمنزلة الشرح لآراء صاحب كفاية الأصول، ومبانيه ومن ثمّ مناقشتها بكلّ ما أوتوا من قوّة في الفهم، وجدارة في النقد، ودقّة في الفكر، وعمق في التحليل، وأصالة في الرأي، وحرّيّة في الإختيار.
وعلى هذا:
فليس من السّهل أن يتقدّم أحد لتحقيق هذا الكتاب وتصحيحه وضبط نصوصه وتخریج أقواله وأحاديثه، – خصوصاً وأنّ المصنّف لا يهتمّ بالضمائر قَلَّت أو كثرت، مع كثرة الجمل المعطوفة والمعترضة، وإيجاز واختصار، وإكتفاء بإشارة وإشعار، زيادة على التسجيع الذي يُفتدى من أجله ـ ونظائره ـ إرجاع الضمير بتذكير أو بتأنیث ولو لم يتناسب مع الحديث بحيث أدّى إلى التباس وتلبيس – ما لم يقتلها خُبراً ويشرف على مصادرها من قریب،
ويستحضر نسخها المختلفة من مخطوطة ومطبوعة ويشفعها بأهمّ شروح وتعاليق أعاظم تلامذته وأبناء مدرسته، ويروّض نفسه على تلك العبارات المختزلة ترويضاً رفيقاً بأناة وتؤودة، والا عاد بخُفّي حنين، ولم يخلص إلى نتيجة في البين. كيف! وهي أبكار بنات أفكار شيخ “كفاية الأصول”، ذلك الرجل العظيم الذي تخرّج به الكثير من أعاظم الطائفة كما رأيت.
هذا، والنّسخ مختلفة بتقديم و تأخير وحذف وإبدال، وتصويبات مختلفة من الرّجال.. الى غير ذلك من وجوه الإشكال التي ساعدت على عدم بروز كفاية محقّقة مضبوطة في الترقيم والتقطيع والتشكيل، مضبوطة النصّ لاتحتاج الى توجيه و تأويل.
إلى غيره مما يحتاجه النصّ الدراسي من الدقّة الكافية لعرض المادّة في أصح النصوص بالخصوص.
ورغم أنّ الكتاب مرّ بمائة عام ودخل في المائة الثانية وتجدّدت خلال ذلك آلات الطباعة وتطوّرت صور التحقيق بشكل واسع وطبع الكتاب عشرات المرّات إلا أنّه لا يزال بحاجة ماسّة إلى الاهتمام البالغ من جهة المعنيّين بهذا الأمر الخطير كما سنشير إليه في فصل لابدّيّات “الكفاية”.
ولعلّك من خلال ما شرحناه لك استوضحت الحال من أنّ الذي رامه شيخنا الخراساني من تقليل المسافة، واغتنام الأعمار خوفاً من تضييع الوقت وإتلافه، عاد من بعده على خلافه، وأصبحت دراسات الخارج التي تلقی عادة على ضوء “كفاية” الآخوند بعيدة المدى لا ينتهي الأستاذ منها إلا في خلال عشرين عاماً، فهو لايوفّق لتدريسها أكثر من دورتين لو وفّق قبل ذلك بأن يبدأ التدريس في مقتبل العمر وهو في سنّ الأربعين، وإلا فأين ثمّ أين ؟!
وقد يقال: هذا شأن الدراسات العليا على مستوى الخارج، فما بال من يدرس متن “الكفاية” عند مهرة الفنّ لا يخلص منها إلا بعد أربع سنوات على التحقيق إن لم يزد على ذلك؟
وقد قلت: أن الآخوند قدس سره كان يدرّسها خارجاً في سنتين أو ثلاث !!
فنقول: إن لذلك أسباباً
أهمّها: الإشتغال بالدرس والبحث في طول أيّام السّنة إلا في أيّام عاشوراء ونظائرها، فتكون الأوقات مغتنمه، ووجود قابليّة القابل مزيداً على كفاءة الباذل، بخلاف أيّامنا هذه التي كثرت فيها العُطَل وزدنا عليها المَطل على ما في القابل من تشويش في البال وعدم استعداد ولا تهيّؤ لفهم المقال بالإطلاع المسبق والإشراف الكامل على مراجع البحث.
الفصل الثاني: مصادر «الكفاية»
جرت عادة المؤلفين في مثل هذه الفنون على أن يجعلوا کلمات بعض الأساطين محوراً لأبحاثهم وغرضاً لسهام مناقشاتهم و اعتراضاتهم، فتكون هي المدار وعليها المطاف والمسار، وبذلك الأخذ والردّ والكرّ والفرّ تتمخّض البحوث وتتجرّد عن الزوائد والفضول، ويتبيّن الرأي الصحيح فيستقرّ ويتلقّی بالقبول.
فها هو المحقّق القمي “قدس سره” قد جعل “المعالم”، محور أبحاثه في “القوانين المحكمة”، كما أنّ “الفصول” جعل “القوانين” غرضاً لما رسمه بمراسمه.
وقد ارتضی المرتضی “هداية المسترشدين”، بـ”ضوابط” “الفصول”، و”مناهج الأصول” “الوافية”، لـ”كشف القناع” و”لغطاء” عن “مشارق الشموس” بـ”فوائد” “مفاتيح” “القوانين”، “المدنيّة”، و”الدروس الحائرية”.
و أمّا كفاية الأصول»، أو فقل: “من لاتحضره الفحول”، فعلى غرارها سار المصنف في المقاصد والفصول.
بيان ذلك باختصار:
انّ کتاب “الفصول الغرويّة في الأصول الفقهيّة”، للمحقّق الأصولي الشيخ محمد حسین الحائري الأصفهاني المتوفى حدود سنة ۱۲۵۵ – ۱۲۵۰ هـ – قُدّر له – و كلّ شيء عنده بمقدار – أن يصبح كتاباً دراسيّاً في الحوزات العلمية في مختلف البلدان من الحائر الشريف والنجف الأشرف إلى أصفهان وطهران لمدّة لاتقلّ عن مائة عام منذ ولادته و إلى عقدين أو ثلاث من ظهور “كفاية الأصول”، إلى أن انسحب تلقائيّاً عن الساحة ببركة هيمنة “الكفاية”، على المحافل وتلقّيها بالقبول؛ حيث استغنوا بها عن المفصّلات وما هو في التطويل كالفصول من الإشارات والمحصول من البشارات.
والإقبال على هذا الكتاب وفي طول هذه الفترة غير القصيرة يكشف عن مدى أهميّة الكتاب وما يحمل في طيّاته من غزارة في المادة وقوّة في الدليل ووضوح في البيان، علی الرغم من انه حينما عرض على شيخ المحققين صاحب “هداية المسترشدين” – أخ “الفصول” – قال في تقريظه – على ما قيل – : تعوزه نقطة، أي: ليكون بالصاد المعجمة دون المهملة فيصبح فضولاً لا حاجة إليه، ولا عبرة به.
وهو إن صحّ – وربّ مشهور لا أصل له – ففيه الجفاء بادياً غير خاف وتعدٍّ على الحقيقة من غير إنصاف.
کیف ! وهو في المتون الدراسيّة معدود خاتمةً للأصول الجعفريّة التي وضع لبنتها أسطوانة الفقه والأصول الشيخ الأكبر جعفر كاشف الغطاء الذي لم يرتض المرتضى أن يذکره إلا بالكناية دون التصريح – وهي أبلغ منه – فيشير إليه بتعبيره الرائج ب”بعض الأساطين” ، ولايمرّ به إلا بتعظیم و تکریم و تقديم.
ففصول صاحب «الفصول» تمثّل الأصول القديمة، كما أنّ “الفرائد” الشيخ طليعة بديعة للأصول الجديدة، فكفاها بذلك ميزة على غيرها.
وأنت إذا تأملت وجدت “الهداية”، بعيدة عن الوغول في المتون الدراسيّة؛ لعدم اشتمالها على دورة كاملة في الأصول، وعدم تحريرها في ابتداء الدخول لأجل أن تكون محوراً للدرس والبحث في هذه الحقول.
ومن هنا أصبحت من كتب الأمّ التي يرجع إليها الباحث عند الضرورة، فلم يقلّ عنها “الفصول” أهمّيّة؛ لكونه من المتون، ومعدوداً في عداد المصادر والعيون، لمن أراد الرجوع إلى المفصّلات في هذه الفنون.
من أجل ذلك – وهو خاتمة الأصول القديمة – جاءت “الكفاية”، في ألفاظها بالخصوص – وهي فاتحة الأصول الجديدة بعد “الفرائد” – محتذية على مثال “الفصول” في المنهجة والقواعد، حتى كأنها تكاد أن تكون تلخيصاً لفصوله بطرح زوائده وفضوله، مقتبسة من أدلّة الكتاب ومغتنمة لجملة من الفوائد، محرّرة فيها بعنوان التنبيهات من الألقاب، وهي في واقعها نفس الفوائد المفصولة عن الفصول في “الكفاية” و”الفصول”.
فهذا أوّل مصادر “الكفاية”، ولا يمكن الاستغناء عنه، بل هو الطليعة والبداية، وفي إشارتنا هذه وفاء بالغرض وكفاية.
وأما ثاني المصادر: فهو کتاب: “التقريرات” الموسوم بـ”مطارح الأنظار” للأصوليّ المتضلّع والفقيه البارع الشيخ أبي القاسم الكلانتريّ الطهرانيّ أحد فحول مدرسة الشيخ ومقدّميهم في هذا المضمار المولود سنة (۱۲۳۶ هـ) والمتوفى سنة (۱۲۹۲ هـ)، حضر على شيخنا الأنصاري لمدة لاتقلّ عن عشرين عاماً وكان من الأوائل ممّن لازمه وتخرّج به وحصل على شهادة بالاجتهاد منه وكفاه بذلك فخراً واعتزازاً وعبقريّة ونبلاً.
كما كان ممّن اهتمّ بدروس شيخه فقهاً وأصولاً ولم يفلت منه شيء من تلك البحوث إلا وقيّدها على الورق لكنّها لم تبرز الى النور ولعبت بها يد الزّمان فلم يُعلم مصيرها سوى هذه التقريرات التي اهتمّ بها نجله العلّامة المفضال الشيخ أبو الفضل (۱۳۱۶ هـ) و طبعها بعد وفاة والده المحقّق رضوان الله تعالى عليهما باسم “مطارح الأنظار”
فشاعت وذاعت وتهافت على اقتناءها الفضلاء والمحصّلون وتقبّلها الأعلام والمدرّسون بقبول حسن، فاشتغل أهل العلم وأرباب الفضيلة بمدارسها ومذاكرتها ولقيت من الإقبال بحيث أصبحت من المتون التي يعتزّ بدراستها الطالبون؛ حيث وجدوا ضالّتهم التي ينشدون؛ ذلك لأنّ الأصول الجديدة لم تكن تتجاوز الأدلة العقليّة فانضمّت إليها بـ”مطارح الأنظار” مباحثها اللفظيّة.
وأما ثالت المصادر – وإن كان أوّلها لثاني الجزئين: فهو “فرائد “شيخنا الأنصاري المشتمل على رسائله في القطع والظن والأصول العمليّة و تعارض الأدلة، بضميمة ما كتبه مسبقاً بعنوان الحاشية عليه المعروفة بـ”درر الفوائد”.
هذه هي أهم مصادر الكفاية الخراسانية.
ويأتي من بعد هذه الأمّهات وفي رتبة أدون کتابا “هداية المسترشدین” و “بدايع الأفكار” لشيخ المحققين محمد تقي الرازي الأصفهاني (۱۲۴۸ هـ) وأستاذ المجتهدين حبيب الله الرشتي قدس سرهما.
وإذ قد عرفت مضخّة “الكفاية” وأمّهاتها فلنعد للإشارة الى نکتة ربما يغفل عنها النّابهون فضلاً عن غيرهم وهي:
انّ طلبة ذلك العصر – وكما سلف أن أشرنا إليه – كانوا يتدارسون “الفصول” و “المطارح”، و “الفرائد” ولم يكن شيء منها بخاف عنهم – خصوصاً إذا أخذنا بعين الإعتبار أنهم أهل دراسة معمّقة، لايهمّهم من دنياهم إلا طلب العلم وليس لهم شغل شاغل سواه –
فلمّا جاءتهم “الكفاية” بما فيها من اختصار لألفاظ “الفصول”، ومعانيه، واقتباس من “المطارح” و”فرائده”، لم تصعب عليهم استصعابها اليوم ؛ حيث تُركت تلك الكتب اکتفاءً بها لاشتمالها على مهامّ مطالبها واستغناءً بها عن غيرها، فكان الترك منهم لها في محلّه؛ لاستحضارها عندهم بمراجعة هذه الرسالة،
ولذا كان الآخوند الخراساني يدرّسها خارجاً في سنتين أو ثلاث؛ إذ الفضلاء آنذاك بمدارسة تلك الكتب بطولها وعرضها – من دون اختزال ولا طفرة، ومن دون خشية أن يفوتهم موعد الامتحان من مراكز الإمتهان، وبتلك الكيفيّة العليا من الدقة والعمق من جهة الأستاذ والتلميذ – كانوا مراهقي الاجتهاد إن لم يكونوا مجتهدین فوَجَدَ الفاعل من القابل تماميّة الاستعداد وفعليّة القبول (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) (3).
ولو جاءنا الآخوند الخراسانيّ اليوم لامتحن بمشقّة تدريسنا أطول ممّا امتحن به أستاذنا الخراسانيّ دام ظلّه، ولبکی علی توحّده وغربته واستغرب جدارته على تذليل الصعاب.
فكيف بنا والكثير من أهل العلم لا يعرف منها إلا الأسماء؟!
وتَرْك هذه الكتب وعَزْلها يساوق طلسمة “الكفاية” التي لاتكفي من دونهنّ ولا تقي من غيرهنّ ولاتفي إلا بهنّ.
من أجل ذلك وخدمة لأهل العلم والدّين قمت وبتوفيق من الله عز وجل بتحقيق كتاب “الفصول”، وأنجزت منه شطراً من العمل بعد أن تمّت مقابلته بأكثر من نسخة، لكنّي توقّفت ريثما تصل إلىّ بعض النسخ القريبة من زمان التأليف وهي ذات أهميّة بالغة لكن بعض أرباب المخطوطات – حاشا أهل الشيم منهم – لا يتعاملون على أساس الخدمة للتراث فيمتنعون من بذل تصوير النسخ إلى أهلها والمشتكي إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وآله.
الهوامش
(1) وهي رسالة مستقلة ليست من أصل الكتاب وإنما أضيفت إليه في الطبع.
(2) بعض مقالات مؤتمر تكريم الآخوند الخراساني.
(3) النور، ٣٥.
المصدر: مقالة بعنوان ” دراسة حول الكفاية ” للأستاذ المحقق السيد محمد حسن الموسوي العباداني حفظه الله.
تحميل المقالة