الميرزا النائيني

جذور الفكر السياسي عند الميرزا النائيني رحمه الله

الاجتهاد: يحتلّ إثبات قانونية ومشروعية الحكومة الدستورية وعدم قانونية ولا مشروعية الاستبداد القسم الأعظم من كتاب تنبيه الأمة. ويشابه (الاستبداد) في مفهوم النائيني ني تقریباً ما ورد في نظریة مونتیسکیو”(14) وروسو”(15) حول الطغیان (Tyranny) والحکم المطلق (Despotism) ،

وقد احتل مصطلح (الاستبداد) في القرون الأخيرة مكانه في اللغات الإسلامية كالعربية والفارسية والتركية بدلاً من هذه المصطلحات الغربية.

وهنا یطرح هذا السؤال نفسه، وهو عن مصدر وکیفیة النظرية الجديدة للحكم وخصوصاً المفهوم الحديث للاستبداد إلى افکار النائیني؟ و کما أشرنا في الفصل الثالث من کتابنا عن التشیع والمشروطة هذا، فقد كانت هناك العديد من المصادر ومنابع المعلومات المتنوّعة موجودة في محیط النائيني وفی متناول يده بما يتيح له إمكانية الاستفادة منها لتكوين آرائه السياسية.

وبما أنّ النائيني كان يعيش في أحد البلدان العربية، فمن الطبيعي أن يكون مطّلعاً على الجرائد والمجلات العربية. وكانت مجلّتا الهلال والمنار العربيتان اللتان كانتا قد صدرتا منذ مدّة طويلة تنشران بين الحين والآخر فی تللک الفترة مقالات حول المبادئ الدستوریة والحکومات الدستورية القائمة آنذاك”. (16)

وينعكس تأثير اطلاع النائيني على الكتابات السياسية العربية واضحاً على أسلوبه من خلال استخدامه المصطلحات السياسية العربية.

و من المؤكّد وجود العدید من النشریات التي کانت تصدر في تلك الفترة باللغة التركية”،(17) إلّا أنّ الأكيد أيضاً أنّ المصادر التى استفاد النائيني منها کانت تنحصر في الكتابات العربية والفارسية ؛ إذ إنّه لم يكن يعرف اللغة التركية ولا غيرها من اللغات على حدّ ما نعلمه.

وفي تلك الفترة كانت الأفكار السياسية لأنصار التجديد من العرب والترجمات العربية لبعض الكتب الأوروبية في مجال التاريخ، والقانون ، والجغرافيا، والفلسفة، والمنطق ، والاجتماع ، والسياسة في متناول قرّاء اللغة العربيّة. ومن أمثلة ذلك ما تحتويه كتب الطهطاوي من معلومات عن المفاهیم السياسية الجديدة وبحوث عن المنظمات السياسية الفرنسية التي كان قد اطّلع عليها من قرب. كما أنّ كتّاباً مثل أحمد فارس الشدياق، وفرانسيس مراش، ومحمّد بیرم، و خیر الدین پاشا کانوا قد أشبعوا مثل هذه الموضوعات بحثاً وتنقيباً من خلال دخولهم ميدان الصحافة العربية”.(18)

وقبيل اندلاع الثورة الدستورية في إيران صدر كتاب مهمّ في العالم العربي ينبغي الالتفات له بصورة خاصّة في بحثنا هذا، و هذا الكتاب هو طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد لعبد الرحمن الكواكبي الذي طبع أوّل مرّة في القاهرة في العام 1905م/ 1323 هـ، وترجم إلى الفارسية وطبع في إيران في العام 1907م/ (2) 1325 ه“(19).

سعی الکواکبي في هذا الکتاب الی الترکیز علی أضرار الاستبداد و مساوئه، و طرح في الفصل الأخير تساؤلات حول حاكمية القانون والعدالة والأسلوب الصحيح للحكم وغيرها.

ورغم أنّ المؤلف لم يعمل على تقديم إجابات صريحة وواضحة على هذه التساؤلات، إلّا أنّنا نعتقد أن مجرّد طرح مثل هذه التساؤلات يعدّ أمراً في غاية الأهمية”.(20)

وانّ القول باعتماد النائینی فی تألیف کتابه تنبیه الاًمة علی الكتب المذكورة بصورة مباشرة هو مجرّد احتمال لا يبدو منطقياً إلا من الناحية التاريخية، بينما يختلف الأمر مع كتاب طبائع الاستبداد الذي تؤكّد الدلائل القوية والواضحة استفادة النائيني من محتوياته بصورة مباشرة.

وشهدت هذه الفترة أيضاً انتشار بعض الكتابات الفارسية التى أصدرها مثقفون إيرانيون وتناولوا فيها مختلف المواضيع الاجتماعية، وهو ما يشير إليه النص التالى :في الأيام الأخيرة من عصر الاستبداد… كانت الاشتراكات المسجلة على جريدة الحبل المتين الصادرة في كلكتّا في حدود 500 نسخة سنوياً، وكان تقياف الباكوئي يدفع بدلات اشتراكها من جيبه، وکان يعمل علی إيصال نسخ هذه الجريدة مجاناً الی العلماء والطلبة في الحوزات العلمية الشيعية في النجف وكربلاء…”.(21)

ومن الخطوات المؤثرة الأخرى التى ساهمت فى إيقاظ الشعب والتي قام بها العلماء أنفسهم هذه المرّة هو تأسيس مكتبة عامة في كربلاء أثناء قيام الثورة الدستورية”.(22)

فقد جری الترکیز منذ شروع الحركات التجديدية والتحديثية في إيران، أي من العقد الأوّل للقرن التاسع عشر الميلادي، على ترجمة الكتب الأوروبية المختلفة إلى اللغة الفارسية وطباعتها فى إيران. وبدأت هذه الحركة الفكرية متزامنة مع خطوات تحديثية أخرى قادها عباس ميرزا. ورغم أنّ خطواته التأسيسية لم تجد من يواصلها بصورة جدّية، إلا أن القرن التاسع عشر شهد صدور عدد ضخم من الكتب في حقول التاريخ ، والسياسة، والتقنية، والعلوم العسكرية، والحكمة الطبيعية وغيرها من المواضيع، التي إما كتبت باللغة الفارسية، أو ترجمت من اللغات الأوروبية إليها.

وفي بحثنا حول رؤية المثقفين الإيرانيين في القرن التاسع عشر للحركة الدستورية ذكرنا أسماء كتب ورسائل مختلفة احتملنا استفادة النائيني منها، ونضيف إليها ظهور كتب عديدة أخرى ساهمت كثيراً في اطلاع الإيرانيين على ما يدور حولهم في العالم الخارجي”.(23)

وقد انتشرت خلال فترة الثورة الدستورية فى إيران – خصوصاً سنوات 1906 – 1909م/ 1324 – 1327هـ – أعداد ضخمة من الکتب و الرسائل حول مبادئ الحکم الدستوري والقانون الدستوري في إيران. ورغم كون العديد منها مجرّد دعايات سياسية، إلّا أنّها لم تکن تخلو من فائدة فی حرکة التوعیة. و من جانب آخر کان فی متناول الناس أيضاً كتب ومقالات ورسائل رصينة غنية المحتوى، ما كان دون له بلا شك آثار واسعة على الحركة الدستورية وأنصارها”.(24)

الهوامش:

(14) مونتیسکیو 1689 Montesquieu – 1755 م : کاتب وفیلسوف سیاسی فرنسی۔ اشهر آثاره کتاب (روح القوانین) الذي صدر عام 1748 م. (المترجم)

(15) جان جاك روسو 1712- 1778م
Jean Jacques Rousseau
کاتب فرنسی، کان لآرائه السياسية أثر كبير في تطوّر الديموقراطية الحديثة. (المترجم)

(16) انظر على سبيل المثال : جرجي زيدان ، «حرية المطبوعات والصحافة المصرية»، الهلال، 8، 1899 – 1900، ص 542 – 549؛ الکاتب نفسه، «تاریخ الأحزاب السياسية من قديم الزمان إلى الآن)، 16، (1907 – 1908)، ص 141 -148 صالح بن علي اليافعي، «أسباب ضعف المسلمين وعلاجها، المنار،7، (1904)، ص 540 – 550 ؛ الكاتب نفسه، شكل حكومة الإسلام وضعف المسلمین باستبداد الحکام»، المنار، 7، (1904)، ص 899 – 912.

Mardin, Ottoman Thought. (17)

Ibrahim Abu Lughod, Arab Rediscovery of Europe: A Study in Cul- (18)
tural Encounters, (Princeton, 1963), pp. 72-73, 105.

(19) الکواکبي ، طبائع الاستبداد، ترجمة عبد الحسین قاجار ، طهران)،1907 1325 هـ

(20)الکواکبی ، طبائع ، حلب، 1957 ، ص 167 – 185 . ویمکن الاطلاع على ملخص لهذا الكتاب في المصدر التالي : Sylvia G. Haim, “Alfieri and al-Kawakibi”, OM, xxiv, (1954), p. 323 ff; Sami A. Hanna and George H. Gardner, Arab Socialism: A Documentary Survey, (Leiden, 1969), pp. 217 – 224.
وللاطلاع أكثر على الكواكبي انظر أيضاً : أحمد أمين، زعماء الإسلام في العصر الحديث، (القاهرة، 1948)، ص 146 – 183 ؛
Khaldun Al-Husry, Three Reformers: A Study in Modern Arab Political Thought, (Beirut, 1966), p. 55 – 112; N. Tapiero, Les idees reformistes d’al-Kawakibi, 1265 – 1320 / 1849 – 1902, (Paris, 1956).

(20)Brown, Press and Poetry, p. 25
و عن تقیاف انظر: الکسروی، مشروطه، ص 39؛ المیرزا صادق سيّاح، شرح حال تقياف، 1902م / 1320 هـ) الرضواني، علل مشروطه ) ، ص 137 وما بعدها.

(21) L. B. “La Presse Persiane”, RMM, xi, (1910), p 341.

(22)Browne, Press and Poetry, pp. 1 – 153.

الصفحة 113 من كتاب ” محمد حسين النائيني وتأسيس الفقه السياسي – مجموعة  باحثين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky