الاجتهاد:مسألة بداية تحديد أوائل الشهور القمرية أخذت جدلاً في كلام الفقهاء بين نظرة تقليدية تجمد على النص الوارد (صوموا للرؤية وافطروا للرؤية) وبين فهم متحرك للنص ينظر إلى عمق النص في أن المطلوب هو تحصيل بداية دورة قمرية جديدة للشهر الهجري فعندئذ تفهم الرؤية على أنها طريق لإحراز بداية دورة قمرية
من جهةٍ ثانية، إنّ تطوّر العلم يفرض على الناس أن يستفيدوا منه، وخصوصاً بما يتعلّق بمسائل حساسة ترتبط بأمور شرعية تتوقف عليها بعض العبادات الأساسية في الإسلام، ومن هذه المسائل “رؤية الهلال وثبوته ووسائله”.
والسؤال الذي يُطرح: هل يصح الاعتماد على أهل الخبرة في مجال الدراسات الفلكية، وأقوالهم في ولادة الأشهر، وبالتالي تأسيس الرأي الفقهي عليها بما يتعلق بحياة الناس وعباداتهم؟
اختلف الفقهاء المعاصرون في جواز الاعتماد في ثبوت الهلال على التوليد الفلكي، على الرغم من الاعتماد على الحساب الفلكي الحديث كوسيلة لمعرفة دخول الشهر وثبوته، من الأمور العلميّة الثابتة والدقيقة والأمنية في نظامها وطريقتها ونتائجها.
وممّن تناول المسألة في الفقهاء المعاصرين، آية الله المرحوم الشيخ الفضلي(رض)، حيث قال: “لا خلاف بين الفقهاء.. وإن من يحصل له العلم ـ يقيناً أو اطمئناناً ـ من نتيجة الحساب الفلكي بدخول الشهر، له أن يعتمد على علمه، ويرتّب الأثر الشرعي بدخول الشهر”.
ويتابع الشيخ الفضلي عن مسألة “الرؤية”: “إن الرؤية لم تكن هي الغاية، فلا يحاد عنها، وإنما ذكرت كوسيلة توصل إلى غاية هي ثبوت الهلال، فدخول الشهر”… (1).
ويتقاطع مع هذا الرأي، ما قاله المرحوم العلامة الشيخ محمد جواد مغنية(قده)، حيث يقول: “..فمتى حصل العلم من أقوال الفلكيين، وجب على كل من علم بصدقهم أن يعمل بأقوالهم، ولا يجوز له إطلاقاً الأخذ بشهادة الشهود ولا بحكم الحاكم، ولا بشيء يخالف علمه”.. وتقول: إنَّ قول الشّارع “صوموا للرؤية وافطروا للرؤية”، يدل على أنَّ العلم الذي يجب اتباعه في ثبوت الهلال، هو خصوصاً العلم الناشئ عن الرؤية البصرية، لا العلم من أي سبب حصل.
ويقول الشيخ مغنية: “إن العلم حجَّة من أي سبب تولّد، وليس للشارع ولا لغير الشارع أن يفرّق بين أسبابه، لأن حجية العلم ذاتية وغير مكتسبة، وليس لأحدٍ أياً كان أن يلغيها أو يتصرف بها بالتقليم والتعديل.. أجل، للشارع أن يعتبر العلم جزءاً من موضوعات أحكامه ـ كما تقرّر في الأصول ـ ولكن الذي نحن فيه أجنبي عن ذلك، لأن الشارع إنما اعتبر الرؤية كوسيلة العلم بالهلال لا كفاية في نفسها”… (2) .
ثم خلص إلى نتيجة وهي أنه إذا جاء الزمن الذي تتوافر فيه للعلماء أسباب المعرفة الدقيقة الكافية، بحيث تصبح كلمتهم واحدة في التوليد، ويتكرَّر صدقهم المرة تلو المرة حتى تُعد أقوالهم من القطعيات تماماً كأيام الأسبوع، فيمكن، والحال هذه، الاعتماد عليهم والرجوع إليهم في أمر الهلال وثبوته.
ومن الفقهاء الذين يتفقون مع هذه النتيجة: المرحوم المرجع السيد محمد رضا الكلبيكاني(رض)، حيث سُئِل: هل يمكن الاعتماد على الرصد الجوي في تعيين الوقت وأول الشهر؟ فأجاب: “يجوز إن أوجب الاطمئنان ولم يمكن الاستفسار، ومع ذلك يُستحسن الاستفادة”… (3).
من جهته، يقول الشهيد السيد محمد الصدر: “…يمكن الاستفادة من المراصد الحديثة من الناحية الفقهية في عدة موارد:
ـ أولاً: يمكن أن يثبت بها أن الهلال لا وجود له أصلاً، الأمر الذي يوفّر الجهد للناظرين محاولة رؤيته..
ـ ثانياً: أن يثبت بها أن الهلال صغير جداً، بحيث لا يكون قابلاً للرؤية، الأمر الذي يوفر الجهد أولاً، ويثبت عدم إمكان بدء الشهر ثانياً.
ـ ثالثاً: أن يثبت أن الهلال كبير بحيث يكون قابلاً للرؤية، الأمر الذي يمكن به إثبات أول الشهر، وإن لم يره بالعين المجردة.
ـ رابعاً: أن يثبت بالمرصد جهة وجود الهلال وإحداثياته، حتى ينظر نحوها الناظرون ويركزوا بها دون أن يبذلوا ضائعاً في الأطراف الأخرى”… (4).
ومن الفقهاء المعاصرين أيضاً، والذين أعطوا رأيهم وفصلوا في الحديث عن الموضوع، سماحة المرجع الإسلامي السيد محمد حسين فضل الله (رض)، فيقول عن ثبوت الهلال:
“يعتبر “الشهر” ظاهرة زمنية خاضعةلنظام الزمن الكوني. يتكرر حدوثه منذ خلق الله السموات والأرض في وقت معين لا يزيدولا ينقص أبداً، وذلك حين يبدأ بولادته بالخروج من ظل الأرض المصطلح عليه بـ”المحاق” وحين ينتهي لحظة ولادة الشهر التالي، بعد أن يمضي عليه تسعة وعشرون يوماً وحوالىثلاث عشرة ساعة، لا يتخلف فيها عن موعده الدائم هذا ثانية واحدة منذ أن كان، وهوبذلك ظاهرة متكررة الوجود ولا علاقة لوجودها برؤية البصر، تماماً كما هو الليل والنهار، فإذا شهد أهل الخبرة من الفلكيين الذين يفيد قولهم الاطمئنان بولادة الهلال وخروجه من المحاق، فهذا يعني أن الهلال قد وجد في الكون قطعاً، ولن ننتظر حتى نراه لنحكم بوجوده.
علماً أننا، ومن أجل الزيادة في تأكيد هذا الوجود، قد أضفنا إلى التوليد نفسه عنصراً آخر، هو ضرورة مضي بضع عشرة ساعة على لحظة ولادته، يصير خلالها على درجة من قوة الضوء تجعله قابلاً للرؤية بالعين للناظر إليه من الأرض، إذ حينها نحكم ببداية الشهر القمري الجديد فعلاً، حتى لو لم يُر بالعين، وذلك في المنطقة التي يمكن رؤيته فيها، وفي كل منطقة تشترك معها في جزء من الليل، والذي هو حينئذ سيشمل معظم العالم، إلا بلداناً قليلة.
هذا الرأي هو الرأي نفسه الذي ذهب إليه أستاذنا السيد أبو القاسم الخوئي “قده” في كتاب خاص له حول هذه المسألة، لكنه كان قد توفي دون أن يفتي بمقتضاه.
وأما من ذهب إلى خلاف هذا الرأي من العلماء، فإنهم قد فهموا من الحديث الشريف الذي يقول:”واليقين لا يدخله الشك، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته”، أن رؤية العين مطلوبة بذاتها للحكم ببدء الشهر القمري من حيث إن الرؤية تمثل بذاتها حالة موضوعية دخيلة في بداية الشهر، فلا يحكم به بدونها حتى مع اليقين بولادة القمر وبلوغه درجة عالية من قوة الضوء،
في حين نرى أن لا خصوصية للرؤية البصرية بذاتها، بل هي مجرد طريق ووسيلة للتحقق من وجود الهلال وثبوت عنوان الشهر، لأن القرآن الكريم اعتبر عنوان الشهر موضوعاً للحكم بوجوب الصوم، وهذا العنوان سيتحقق، سواء ثبت برؤية البصر أو من خلال الشهادة القاطعة لعلماء الفلك بتحققه ووجوده.
وهذا المعنى للرؤية هو الذي يفهمه منه االعرف العام، فلو قال شخص آخر: “إذا رأيت سعيداً في منزله فأخبرني”، وصادف أنه علم بوجود سعيد في المنزل من خلال الاتصال التلفوني، فإن عليه حينئذ أن يخبر بوجوده رغمأنه لم يره بعينه، لأن العرف يفهم من كلمة “رأيته” العلم بوجوده، لا نفس مشاهدته بالعين، بل يمكننا تأكيد هذا المعنى من الحديث الشريف نفسه الذي يفيد مطلعه “اليقين لا يدخله الشك”، بأن المعوّل عليه في هذا المقام هو تحقق اليقين بوجود الهلال، وأن رؤيته بالعين هي إحدى وسائل اليقين التي كانت متوافرة، فلو حصل اليقين من طريق آخر، لزم الأخذ به والحكم بمقتضاه، لأن اليقين لا يدخله الشك.
هذا وينبغي الالتفاف إلى أنه لايقتصر الاختلاف بين الفقهاء على هذا الجانب فقط من جوانب موضوع ثبوت الهلال، فثمة جانب آخر هو موضوع وحدة الأفق وتعدده، وهو الذي يختلف فيه العلماء حتى لو اتفقوا في المسألة الآنفة. وقد أشرنا في كلامنا الآنف إلى أن رأينا في ذلك وحدة الأفق لجميع البلدان التي تشترك في جزء من الليل، مهما كان طريق ثبوت بداية الشهر،
في حين يرى آخرون أن الآفاق تتعدد بتعدد أوقات غروب الشمس، فما لم يكن للمنطقة الأخرى وقت غروب بلد الرؤية نفسه، لا يحكم فيها بثبوت الهلال، رغم تجاورهما في الموقع، كما وأنه ثمة رأياً ثالثاً لغيرهم، وهو أن البلاد الواقعة غرب بلد الرؤية تشاركه في الأفق دون الواقعة بشرقها وهكذا”.
وفي معرض إجابته عن بعض التساؤلات المتعلقة بالموضوع، والتي تضيء أكثر على جوانبه المتعدّدة، يقول سماحة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض):
إن الشهر يمثل ظاهرة كونية تتصل بالنظام الكوني للزمن الذي ينتهي بدخول القمر في المحاق، ويبدأ بخروجه منه، وهو الذي اصطلح عليه بولادة الهلال، ولا علاقة للرؤية ببدايته ونهايته، تماماً كما هي مسألة الليل والنهار،
وقد أثرنا ملاحظة إمكانية الرؤية الخاضعة لزمن معين محدود، اتباعاً لأستاذنا السيد الخوئي(ره) الذي استفاد من قوله تعالى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}، باعتبار أنه لا بد من أن يصل إلى مستوى في كمية الضوء، بحيث يمكن للناس أن يروه.
ولذلك، فإنَّ حكمنا بكفاية ثبوت الولادة مع إمكانية الرؤية لصدق دخول الشهر علمياً حسب تأكيد قول أهل الخبرة، الذين يفيد قولهم الاطمئنان الذي هو حجة معتبرة شرعاً، وإذا صدق الشهر كموضوع شرعي، فلا بدَّ من ترتيب آثاره، وهذا الرأي بجملته موافق لرأي أستاذنا المعظم السيد الخوئي(ره)، الذي حرره في كتاب مسألة رؤية الهلال المطبوع في طهران في حواره مع أحد العلماء المحققين.
أما لماذا وقف الكثير من علماء المسلمين موقفاً سلبياً من رأي السيد فضل الله(رض) حول الرؤية الفلكية العلمية، فيجيب سماحته:
إنّ العلماء المسلمين توقفوا عند الحديث النبوي الشريف “صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته”، فاعتبروا أن الرؤية تمثل حالة موضوعية، بحيث يكون حكم الصوم أو الإفطار تابعاً للهلال المرئي، لا لمجرد عنوان شهر رمضان، حتى لو ثبت بطريقة علمية، ونحن نرى أن للرؤية طريقته في ثبوت الشهر، لأن القرآن الكريم اعتبر عنوان الشهر موضوعاً للحكم، سواء ثبت بطريقة علمية قاطعة أو رؤية،
وهذا هو الذي يفهمه العرف العام من الرؤية، فلو قال شخص لآخر إذا رأيت فلاناً فأخبرني، وكان الواقع أنه لم يره عياناً بل اتصل به تلفونياً أو عرف وجوده بطريقة أخرى، فإن العرف يطلب منه إخباره بوجوده، لأنهم يفهمون من كلامه أنك إذا عرفت بوجوده فأخبرني، ولعلَّ ما يؤكد ذلك هو أن الفقرة الأولى من الحديث هي قوله: اليقين هو اليقين بدخول الشهر واعتبار الرؤية وسيلة من وسائل اليقين.
ويتابع: لقد ذكرنا أن أستاذنا المعظم السيد الخوئي هو صاحب هذه النظرية من علماء المسلمين، ونحن اتبعناه، ولكنه لم يفتِ بها لأنه لم يتابع دراسة وثاقة قول أهل الفلك في إثبات الصغرى، أما علماء الفلك، فإنهم يؤكدون صدقية الحسابات الفلكية، ولكنهم ليسوا أصحاب فتوى للإفتاء بذلك.
ويخلص سماحته : نحن نعتقد أنه ليس هناك أي طريق للحفاظ على وحدة المسلمين سوى الرجوع إلى الرأي العلمي بالأخذ بالقانون الفلكي في إثبات الشهر، الذي ينسجم مع النظام الكوني للزمن في تنظيم الشهور، أما الأخذ بنظام الرؤية فسوف يبقى مثاراً للخلاف حسب اختلاف المراجع والمفتين، ولا سيما مع عدم التدقيق في الشهادة التي قد تنطلق من شهادة البعض بالرؤية مع استحالة ذلك بإجماع الفلكيين.
الهوامش:
(1) : [مبادئ علم الفقه، العلامة الفضلي، ج2، ص:36]
(2) : [فقه الإمام جعفر الصادق(ع)، الشيخ محمد جواد مغنية، ج2، ص:48]
(3) : [مجمع المسائل، ج1، الكلبيكاني، 242].
(4) : [ما وراء الفقه، ج1-117، ط:1994، دار الأضواء]
المصدر:بينات