المنبر الحسيني

المنهج الأصولي والفقهي عند السيد السيستاني “حفظه الله”/ العلامة السيد منير الخباز

خاص الاجتهاد: المنهج الأصولي والفقهي عند السيد السيستاني : اختار سماحته في تحليل الروايات المتعرضة لعلاج التعارض بين الأدلة أنها ليست في مقام الترجيح التعبدي وإنما هي في مقام الإرشاد للمائز بين الحجة والّلاحجة./ إن التركيز في بحثه على مراجعة كتب القدماء في المسألة والتدقيق في عباراتهم عند تناول المسألة حيث أن ذلك دخيلٌ في استكشاف القرائن الإرتكازية المعاشة عندهم والتي لم تصل إلينا بلحاظ أنهم أول من تلقى النصوص وهم أقرب لزمان صدورها وأكثر إحاطة بقرائنها الحالية والإرتكازية.

الحديث هنا عن المنهج العلمي الذي تبناه السيد الأستاذ في محاضراته في الحقلين الأصول والفقه.

الحقل الأصولي:

إن للسيد الأستاذ في علم الأصول منهجاً متميزاً ومساراً يختلف عن مسار كثير من ارباب علم الأصول وأساتذته ويُتبين ذلك باستعراض معالم مدرسته الأصولية.

أ- الرؤية الشمولية:

إن الأستاذ قبل أن يشرع في بحث أي مسألة أصولية وعرض تفاصيلها فإنه يقرأ المسألة قراءة شمولية من أجل اقتناص النكات العامة المؤثرة في بناء المسألة قبولاً أو رفضاً وفرزها عن النكات الثانوية والجزئية مما يُعطي بصيرة لكل باحث يتناول المسألة، وهذا يختلف عن منهج كثيرٍ من الأساتذة الذين يتناولون كل مسألة بمنهج تجزيئي والانتقال من فقرة إلى أخرى بنحوٍ تختلط فيه النكات العامة بالنكات الخاصة.

ب – تنوع الثقافات

إن السيد الأستاذ كما هو فقيه متضلّعٌ وأصولي بارعٌ ورجالي ماهر فإنه متعدد الثقافات، فقد دأب على قراءة بعض العلوم الإنسانية؛ كعلم النفس وعلم الإجتماع وعلم القانون، ودقّق النظر في القانون المصري والعراقي والفرنسي كما أن له إطلاعاً وافراً بالتاريخ، وخصوصاً التاريخ السياسي للدول العربية والإسلامية وهذا التنوع الثقافي تجلى أثره حتى في بحوثه الأصولية.

فقد استفاد من علم الألسُنيات في تقسيم الدلالة في باب المفاهيم وتقسيم الحكومة وتنوع ألسنة التنزيل في النصوص كما استعرض ذلك في بحثه في قاعدة لا ضرر، واستفاد من دليل حساب الاحتمالات الرياضي في تحليل حجية الإجماع والخبر المتواتر، كما استفاد من علم القانون في نظرية الاستبطان التي طرحها في تفسير حقيقة الحكم الوضعي وعلاقته بالحكم التكليفي، كما استفاد أيضاً من علم النفس في تحليل المحركية العقلية من خلال موازنة النفس بين حجم الاحتمال وأهمية المحتمل.

وما زالت روحه الوثّابة نحو معرفة كل جديد مع تجاوزه للثمانين من عمره فهو لا يفتأ أن يقرأ أي كتاب يصل بيده في أي مجال.

ج – روح التجديد

ليس بحث السيد الأستاذ تقريراً لكلمات الآخرين ولا عرضاً تقليدياً لما قيل في شروح الكفاية وحواشيها وإنما تجده يتميز في كل بحثٍ بتجديدٍ إما في صياغة البحث أو إضافة بعض النكات له أو اختیار مبنىً لم يُسبق إليه.

وفي قراءة عاجلة لأبحاثه الأصولية نجد كثيراً من المباني والنكات تميّز بها اما لابتكاره لها أو لقيامه بتعميقها وبلورتها بأسلوب جديد.

فمن ذلك نظرية الهوهوية التصويرية في تفسيره للعلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى.

ومن ذلك ما طرحه من نظرية متمم الجعل التطبيقي في بحث الحقيقة الشرعية.

ومن ذلك ما أفاده في مراتب ظهور المشتق في الفعلية تبعاً لتنوع المباديء من مبدأ جلي ومبدأ خفي وتحليله لبساطة المشتق على مستوى المعقول الأولي الذي لا يتنافى مع تركيبه بحسب المعقول الثانوي.

ومما تميَّز به تحليله لحقيقة الحكم التكليفي والأمر المولوي ببنائه على عنصرين: عنصر البعث والعنصر الجزائي من وعد أو وعيدٍ، وما اختاره من نظرية الوجوب الاندماجي في باب مقدمة الواجب وقوله باختلاف مراتب القدرة من حيث الدخل في الحكم التكليفي حيث ذهب إلى أن أصل القدرة دخيلٌ في مرحلة الجعل، والقدرة التامة دخيلة في المرحلة الفعلية.

كما ذهب لعدم عقلانية الترتب بين المتزاحمين المتساويين وأن متعلق التكليف في مثل هذا المورد هو الجامع الانتزاعي المُعبَّر عنه بعنوان الأحد.

كما استفاد من نظرية “آقا على مدرس” القائلة بأن العَرَض ليس وجوداً وراء وجود الجوهر، بل هو نحوٌ ولونٌ من ألوان الوجود الجوهري في تمييز التركيب الإنضمامي عن التركيب الإتحادي في بحث اجتماع الأمر والنهي.

كما بلور في بحث المطلق والمقيّد الفرق بين الإطلاق الوارد في مقام التعليم والوارد في مقام الإفتاء فإن القدر المتيقّن في مقام التخاطب ضائر بالإطلاق الوارد في مقام الإفتاء دون الوارد في مقام التعليم مضافاً إلى أن الجمع بين المطلق والمقيّد بتمام صورهِ جمع عرفيٌ في الخطاب الوارد في مقام التعليم، بينما الإطلاق الوارد في مقام الإفتاء إذا كان ترخيصيّاً وكان المقيّد المنفصل وارداً بعد حضور وقت العمل فإن الجمع بينهما بالتقييد – كما هو المتداول في علم – مستهجن عرفاً.

ومن نظرياته ما سلكه في بحث حجية القطع من أن حجيته بمعنى المنجزية والمعذرية ليست ذاتية بل هي عقلائية فإن موضوعها القطع الناشئ عن منشئ عقلائي،

وما سلكه في بحث التجري من أن ملاك المحركية واستحقاق العقوبة لدى المخالفة هو إدراك العقل النظري استبطان الحكم المولوي لعنصر الوعيد، لا حكمُ العقل العملي بحق الطاعة وقبح التمرد على المولى والإستخفاف به.

كما اختار في بحث منجزية العلم الإجمالي أن منجّزيته للجامع عقلية بينما منجّزيّته للواقع في كل طرفٍ عقلائية.

واختار في مسألة البراءة العقلية أن موضوعها ليس مطلق الشك في التكليف وإنما الشك المجرد عن قوة الإحتمال أو إحراز أهمية المحتمل.

كما ذهب لجريان الإستصحاب في الشبهات الحكمية بملاك عدم المعارضة وان استصحاب عدم سعة الجعل أصل مثبت لأنه لا ينقّح ما هو المجعول نفياً أو إثباتاً.

وأبدع باباً جديداً في بحث التعارض وهو باب مناشئ اختلاف الحديث وهو بحثٌ مؤثر في علاج تعارض النصوص.

كما اختار في تحليل الروايات المتعرضة لعلاج التعارض بين الأدلة أنها ليست في مقام الترجيح التعبدي وإنما هي في مقام الإرشاد للمائز بين الحجة والّلاحجة.

وما ذكرناه غيض من فيض من نكاته الكثيرة التي بلورها في میدان علم الأصول.

د- استيعاب المدارس الأصولية:

إن مسيرة بحثه ترتكز على عرض المدارس الأصولية الست: مدرسة الشيخ الأعظم ومدرسة صاحب الكفاية ومدرسة المحقق الطهراني ومدرسة المحقق النائيني والعراقي والأصفهاني، والمحاكمة بينها ومقدار ما اضافته كل مدرسة من نكات جوهرية في المسألة.

ه- الرؤية العقلائية:

إن من السمات البارزة في بحثه الأصولي فصل المباني الفلسفة المبنية على البراهين العقلية المجردة عن تحقيق المسألة الأصولية، والإصرار على ربطها بالمرتكزات العقلائية القانونية.

وهذا ما استفاد منه في بحث الواجب المشروط وبحث الترتب وغيرها من الموارد.

الحقل الفقهي

إن بحوثه الفقهية تتميز بسماتٍ تُشبع نَهَمَ الباحث وتروي غليله باستيعاب نكات المسائل والوصول لأفضل الآراء دقة ومتانة وهي عديدة.

السمة الأولى: تاريخ المسألة

إن السيد الأستاذ يستعرض المسألة منذ بداية طرحها في أول كتابٍ فقهي وصل إلينا من كتب الخاصة أو العامة وقراءة سير المسألة ونموها، فإن ذلك دخيل في تحقيق الأقوال ومعرفة مدى ارتباطها أو بعدها عن لُبّ المسألة وكُنهها.

السمة الثانية: كتب القدماء:

إن التركيز في بحثه على مراجعة كتب القدماء في المسألة والتدقيق في عباراتهم عند تناول المسألة حيث أن ذلك دخيلٌ في استكشاف القرائن الإرتكازية المعاشة عندهم والتي لم تصل إلينا بلحاظ أنهم أول من تلقى النصوص وهم أقرب لزمان صدورها وأكثر إحاطة بقرائنها الحالية والإرتكازية.

كما أن ذلك دخيل في معرفة حجم الحكم وأنهه بدرجة الشهرة أو الإجماع أو التسال أو الضرورة.

السمة الثالثة: أجواء النصوص :

إن من الركائز الأساسية في بحثه قراءة الكتب الفقهية والحديثة للعامة في كل مسألة بلحاظ أن كثيراً من الروايات ما هي إلا تعليق على رأي الجمهور لتخطئةٍ أو إضافةٍ.

فقراءة كلمات العامة في المسألة كاشف عن الأجواء المعاصرة للرواية الصادرة عن المعصوم وقرينة من قرائن مفادها كما تعرض لذلك جمع من الأعلام في وجوب الخمس في الأرض المشتراة من الذمي.

السمة الرابعة: وفرة القرائن :

حيث إن مسلك السيد الأستاذ هو أن موضوع الحجية الوثوق لا خبر الثقة فإنه يدأب على جمع القرائن المختلفة الموجبة للوثوق بالرواية.

ومن تلك القرائن شهرة العمل بالرواية وموافقة مضمونها للمبادئ والملاكات العامة المستفادة من الكتاب والسنة الشريفة حيث إن مبناه على المقصود بالمرجّح المعبّر عنه وفي روايات الترجيح بموافقة الكتاب هو الموافقة الروحية وهو ما عبّرت عنه بعض النصوص بقوله عليه السلام “فقسه على كتاب الله وأخبارنا”. ومنها شهرة مضمون الرواية في كتب الحديث وكتب اللغة والأدب.

السمة الخامسة: الخبرة بكتب الحديث:

إن بحثه الفقهي يشتمل على مخزون وافر من الخبرة بالنسخ الخطية للكتب الأربعة وغيرها من كتب الحديث والدقة في التتبع والمقارنة بين موارد الإختلاف فيها والقدرة البارعة على ترجيح بعض النسخ على الأخرى وهذا ما لا تجده في كثير من البحوث الحوزوية.

السمة السادسة: الظهور الإستنباطي :

لقد تبني في بحث حجية الظهور في علم الأصول أن موضوع الحجية الظهور الموضوعي العرفي لا الظهور الذاتي.

ومن مصادیق الظهور الموضوعي الظهور الخاص، حيث إن لكل مقننٍ لغةً خاصة ومصطلحات يتميز بها فلا يصح لدى المرتكز العرفي أن يُقتنص المراد الجدّي من أي قانون بعرضه على الفهم العرفي العام مع الإلتفات إلى أن لمؤسس هذا القانون لغة خاصة في صياغة قوانينه.

ومن أمثلة ذلك الأحاديث الواردة عن اهل البيت – عليهم السلام – فإن الخبير بها يجد أن لها لغةً ولحناً خاصاً ومعاريض متداولة في ألسنة الأئمة – عليهم السلام – وهذا ما ركّزت عليه كثير من النصوص حيث صرح في بعضها “لا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف لحن كلامنا فإن لكلامنا وجوها لنا من جميعها المخرج” وورد في بعضها “إن لكلامنا ظهراً وبطناً” وهذا ما يقتضي أن يكون للفقيه خبرة طويلة الأمد بمزاولة رواياتهم – عليهم السلام – لتحقيق موضوع الحجية فيها وهو الظهور الإستنباطي أي المُقتَنص من الجمع بين مواردها المختلفة.

السمة السابعة: الحسّ اللغوي؛

إن فهم كثير من النصوص خصوصا القرآن والسنة النبوية يتوقف على الإلمام بفقه اللغة العربية ولا يمكن تحديد المراد منها بمجرد مراجعة كتاب من كتب اللغة ككتاب المنجد أو الرائد بل لا بد من الإطلاع على امهات كتب اللغة كاصحاح والقامووس ولسان العرب وتمييز ما هو سابق واللاحق منها لمعرفة الكتب القريبة من زمان صدور النص كما يقتضي ذلك التأمل في كتب فقه اللغة كمفردات الراغب وأساس البلاغة وفقه اللغة وغيرها من مراجعة كتب الأدب لتتبع النصوص الصادرة من العرب المعاصرين لزمان النص القرآني أو النبوي أو العلوي.

 

المصدر: كتاب “الإمام السيستاني شيخ المرجعية المعاصرة في النجف الأشرف”، تأليف: محمد صادق محمد باقر بحر العلوم. دار المحجة البيضاء

اسم الكتاب: الإمام السيستاني ، شيخ المرجعية المعاصرة في النجف الأشرف
المؤلف: محمد صادق محمد باقر بحر العلوم
عدد الصفحات: 360

فهرس المحتويات

تحميل الكتاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky